إسلام ويب

تفسير سورة العنكبوت [28-33]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ذكر الله تعالى قصة لوط وما كان عليه قومه من الفحشاء وفعل السوء الذي لم يسبقهم إليه أحد من العالمين، وما عاقبهم الله به من عذاب، وكأن الله يحذر من يصنع صنعهم ممن مسخ الله فطرتهم ونكست قلوبهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولوطاً إذ قال لقومه ...)

    قال تعالى: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ [العنكبوت:28].

    قصة لوط مضت قريباً، لكن كررها لأن الشيء إذا تكرر تقرر، وذلك لتنفير الناس من مثل فواحش وبلايا قومه.

    فالقرآن الكريم وحي الله وكلامه، فالله أنذر من سيأتي بعد هؤلاء أن يفعلوا فعلهم، وقد فعلوا فعل جميع قوم لوط بتفاصيل ذلك وكلياته فأنذروا بذلك، لكنهم أبوا إلا الكفران، وأبوا إلا اتباع أهل الفواحش والمنكرات، عاصين ربهم، خارجين عن دينه، يفعل ذلك من لا يزال كافراً، وفعل ذلك من يزعم أنه مؤمن في دعواه.

    وقوله: (ولوطاً) أي: وأرسلنا لوطاً، فهو منصوب على المفعولية.

    ويمكن أن يكون التقدير: اذكر يا محمد! لوطاً، وخذ العبرة والحكمة منه لقومك، عندما تدعوهم إلى محاسن الأخلاق وتنفرهم من مساوئها وفواحشها وقبائحها.

    وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ [العنكبوت:28].

    يؤكد ذلك بلام التوكيد، يقسم على أنها فاحشة، ويؤكدها بإن المؤكدة أول الكلام.

    قوله: مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ [العنكبوت:28].

    أتيتم بفاحشة لم تكن قبلكم قط، لم تعرف في الأنبياء السابقين في أقوامهم، لم تعرف في عهود آدم إلى نوح إلى إدريس إلى شعيب إلى إبراهيم إلى أن قام قوم لوط في سدوم.

    هذا وليست الفاحشة فقط هي الجريمة، بل هي علاوة وزيادة على الشرك بالله والكفر وأنواع المناكر، انفردوا بفاحشة من دون العوالم، وهي الاستغناء بالرجال عن النساء بلية وشذوذاً وبعداً عن طبيعة الأشياء، في الأرض العقيم التي لا يصدر عنها ولد ولا إنتاج ولا زراعة، في المكان الذي لا يكون إلا للقذر والوسخ، فتركوا نساءهم التي ينتجون منهن ذرية وأولاداً تعبد الله يوماً، وتخدم المسلمين يوماً، وتنشر الدعوة إلى الله يوماً، وذهبوا إلى أرض جدباء مع القذر والوسخ وعلقوا بذلك وعشقوا وعاشوا فيه مضافاً إلى الكفر والشرك، وإلى الفواحش بأنواعها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل ...)

    ثم قال لوط لقومه: أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [العنكبوت:29].

    كانوا كقوم نمرود، فعندما هاجر لوط إلى سدوم نبهه الله وأرسله إلى قبائل سدوم وإقليمها ومدنها وكان ذلك في حياة إبراهيم، وكان هذا في أيام بني إسرائيل كثيراً.

    وهنا كان إبراهيم نبياً ورسولاً، وكان لوطاً بعد ذلك نبياً ورسولاً، وقد آمن قبل رسالته بعمه إبراهيم ورسالته، فكان شكر الله له وجزاؤه بأن أرسله هو كذلك نبياً ورسولاً إلى سدوم.

    (أئنكم): استفهام استنكاري تقريعي توبيخي يقرر عليهم ويؤكد، أي: هذه الفواحش التي تأتونها من إتيان الرجال دون النساء ومن قطع الطريق العامة متلصصين منتهكين للأعراض قائمين بالفواحش، قائمين بالظلم، قائمين بالاعتداء مضافاً إلى بليتهم ومصائبهم.

    أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ [العنكبوت:29]. ناديهم: أي مجلسهم ومجتمعاتهم يأتون فيها بالمنكرات يباري بعضهم بعضاً يقلد بعضهم بعضاً، وتجري بينهم بعض هذه المنكرات التي ينكرها العقل والطبع والدين والأخلاق الفاضلة، وأما قطع السبيل: فهو اللصوصية والسرقة والقيام في وجه الناس في الأمن العام الذي يستفيد منه سكان البلد.

    فكان من خرج على بلده أو في ضواحيها قطعوا عليه طريقه وسبيله، فسرقوا عرضه إن كان رجلاً، وسرقوا ماله إن كان ذا مال، وشتموه وأذلوه وقد يقتلونه.

    وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ [العنكبوت:29] ما هو هذا المنكر الذي كانوا يأتونه في مجالسهم؟

    كانوا يتسافدون ويركب بعضهم على بعض، وينزل بعضهم على بعض، كانوا شباباً أو كهولاً أو شيوخاً وهم يتضاحكون وكأنهم يأتون بشيء يسير، وكانوا يفتحون أزرار قمصانهم كما يفعل السفهاء في هذا العصر مرة أخرى، وكان يتشبه الرجال بالنساء، والنساء بالرجال، يطيل الرجال شعورهم كهيئة النساء، وتقص النساء شعورهن كهيئة الرجال، كانوا يلبسون الأصفر والأحمر والأخضر وما إلى ذلك كما يفعل اليوم هؤلاء المخنثون.

    فالله جل جلاله عندما يعيد علينا قصة لوط، وقصة غيره من أنبياء الله فإنما ذلك ليقرع الأسماع ليزدادوا بعداً عن الفواحش إن وفقوا لذلك، ولتلزمهم حجة الله ودين الله والرسالات التي أتى بها نبينا عليه الصلاة والسلام، حتى إذا دخل قبره يوم يهلك ويأتيه الملكان يسألانه: من ربك؟ من نبيك؟ لا يقول: لم أعرف نبياً، لم يأتني نبي، لم أسمع بكتاب، بل سيضطر للجواب، وهكذا اللعنة تبتدئ من تلك اللحظة فيبقى في العذاب المستمر إلى أن يبعث فيبقى في عذاب النار خالداً فيها إلى الأبد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله ...)

    قال: أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ [العنكبوت:29]؟ فما كان جواب هؤلاء؟ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا [العنكبوت:29]، لم يناقشوه، لم يحاسبوه، لم يجيبوه، وبماذا يجيبونه؟ لا منطق ولا عقل معهم، ولا بشرية معهم، إن هم إلا حيوانات، بل الحيوانات أكرم وأشرف، الحيوانات يكتفي الذكر بالأنثى، ولا يتصل الذكر بالذكر، ولا الأنثى بالأنثى، ولا يفعلون هذا.

    فالحيوان الحقيقي: هو الإنسان عندما يكون مرتكباً هذه العظائم وهذه المناكر، ويبقى الحيوان أشرف منه وأكرم منه، كما قال تعالى: أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف:179].

    قوله: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [العنكبوت:29]:

    طلبوا العذاب تكذيباً له وإصراراً، وثقة بأنفسهم أنه ليس رسولاً، وأن لا رب ولا آخرة، ولا حساب ولا عقاب، هكذا خرجوا للوجود عبثاً وسبهللاً، هكذا تحدثهم عقولهم الفاسدة، والفواحش هي التي طبعت قلوبهم فصعد عليها الران، فما عادوا يميزون بين صدق وكذب، بين ظلمة ونور.

    وعندما تحدوا لوطاً أجابهم لوط: قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ [العنكبوت:30]:

    طلب لوط من ربه أن ينصره على هؤلاء المفسدين في الأرض بالفحشاء، بقطع السبيل، بأنواع المنكرات، فما عادوا يعرفون رباً ولا نبياً ولا خلقاً ولا أدباً.

    فأخذ الله يقص علينا كيف نصره، قال تعالى: وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ [العنكبوت:31].

    بينما إبراهيم في داره إذا بشباب طرقوا بابه فرحب بهم ودخلوا، فذهب سريعاً وجاء بعجل سمين محنوذ ووضعه بين أيديهم، وإذا بهم لم يأكلوا فخاف منهم؛ لأن الملائكة لا تأكل، ولا تشرب.

    وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى [العنكبوت:31]، وما هي البشرى؟

    كانت امرأته واقفة عند دخولهم فبشروا إبراهيم بنصر لوط على قومه المفسدين، وبشروا امرأته سارة بأنها ستلد فصكت وجهها كما تفعل النساء الآن: أيكون هذا وأنا امرأة عقيم كبيرة؟ وكانت قد تجاوزت المائة عام، قال زوجها: الله أكبر، فأكدوا لها أن هذه بشرى الله، وأن أمر الله لا بد منه.

    ووضع إبراهيم الطعام فما أكلوا، فأنكر عملهم فكشفوا عن حقيقتهم، قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ [العنكبوت:31]، وإبراهيم كان رحمة، وكان حريصاً على أن يهتدي قومه وقوم ابن أخيه لوط، فأراد أن ينذرهم قليلاً لعلهم يؤمنون، فما قبلوا ذلك، بل جاءوا بوعد الله، وبعقوبة الله، وبنقمة الله، فهي واقعة لا محالة، فعندما لم يقبلوا ذلك منه قال: إِنَّ فِيهَا لُوطًا [العنكبوت:32] أي: كيف ستأتون بالقرية وتهلكونها وفيها نبي الله ورسول الله لوط؟

    قال: وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ [العنكبوت:31]، سيأتون لقرية سدوم يهلكونها ويدمرونها، ويفعلون ما أمرهم ربهم فيها من سحق ومحق وزلازل من الأرض وصواعق من السماء، وجعل عاليها سافلها؛ لأنهم كانوا ظالمين، كانوا مشركين، كانوا فاسقين، كانوا مرتكبين للفواحش بكل أنواعها، فعندما حاول إبراهيم أن يثنيهم أو يدعهم وقتاً ما لعلهم يعودون إلى الله لم يقبلوا، عند ذلك قال إبراهيم لرسل الله: إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا [العنكبوت:32]، أي: نحن نعلم بأن فيها لوطاً، لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [العنكبوت:32]، فقر عيناً، فلن يصل لوطاً العذاب، ولن يمس أهله كذلك باستثناء زوجته من بين أهله: كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [العنكبوت:32]، التي غبرت وسبقت أن كانت كافرة مشركة.

    وكانت تساعد قومها على الفواحش، وتتجسس على لوط ومن جاء عنده من الشباب، ومن جاء عنده من الرجال، وقد تجسست عندما أتى هؤلاء لوطاً، وبلغت قومها، وكان بينها وبينهم إشارة.

    فقوله: إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [العنكبوت:32]، أي: إلا امرأته لن ننجيها فيصيبها ما أصاب قومها لكفرها، ولخيانتها في دينها، ولتواطئها مع قومها في الفحشاء والمنكر.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولما أن جاءت رسلنا لوطاً ...)

    قال تعالى: وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ [العنكبوت:33].

    المحاورة السابقة كانت مع إبراهيم، والكلام كان مع إبراهيم نبي الله وخليله، والآن سيذهبون إلى لوط ليبلغوه الرسالة: وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا [العنكبوت:33].

    معنى ذلك: أن هؤلاء جاءوا في صورة شباب حسان كاملين، فلما جاءوا استاء من مجيئهم واغتم وتألم وتوجع وضاق بهم ذرعاً، فماذا سيصنع؟ إن هو أدخلهم للدار وأضافهم وأكرمهم خاف من أن يأتي قومه إليهم فيؤذونه فيهم، ويفعلون ما يفعلونه عادة بالرجال، وإن هو رفض ضيافتهم ودخولهم للبيت خاف إن وجدوهم أن يأخذوهم بالقوة وبالعنف وبالإيذاء.

    فهو على العموم استاء منهم، واغتم من مجيئهم، وحمل هماً كبيراً، وضاق بهم ذرعاً، وتبرم وتحير، وإذا بهم يشعرون بذلك فيجيبونه قائلين له: وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [العنكبوت:33].

    أشعروه بأنهم ملائكة، ولم يشعر بهم لأول مرة، كما لم يشعر بهم عمه إبراهيم، فعندما أشعروه بأنهم ملائكة علم أنهم ناجون وأن قومه أحقر وأقل وأذل من أن يصلوا إليهم بسوء، وقد قالت القصة: جاء القوم وبلغت امرأته القوم بإشارة بينه وبينها، فعندما جاءوا وزاد لوط تبرماً، وزاد ضيقاً وإساءة، خرج أحدهم وإذا به يظهر جناحه، فضرب هؤلاء فطمست أعينهم وذهبت، أي: أصبحت لا شيء ولم تبق سوى الجبهة فقط، فأخذوا يصيحون فجاء من ينقذهم فأصيبوا بمثل تلك الإصابة.

    قوله: وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ [العنكبوت:33].

    أي: لا تخف يا لوط! فلن يمسوك بسوء، ولا تحزن على نفسك، ولا تحزن عليهم، ولا تحزن على أهلك، إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ [العنكبوت:33]، أنت ستنجو وستنقذ منهم، وسنمهلك إلى الصباح للخروج عنهم وعن حدود أرضهم: وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [العنكبوت:33]، سننقذك وأهلك من هذا البلاء، من هذا الذي أمرنا بأن نصنعه بهذه المذنبة وقومها.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755931807