إسلام ويب

سلسلة المدائح النبوية [أبيات من همزية شوقي] [1]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • هذه هي القصيدة البائية لأمير الشعراء أحمد شوقي، وقد نظمها يمدح فيها سيد الأولين والآخرين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد تعرض فيها لذكر الإرهاصات والمقدمات التي كانت قبل البعثة؛ تمهيداً لهذا الحدث العظيم الذي غير مجرى التاريخ.

    1.   

    الإرهاصات التي كانت قبل البعثة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    أيها الإخوة المباركون والأخوات المباركات! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    هذا لقاء متجدد من لقاءات عنوانها: المدائح النبوية، وهي قصائد قيلت في مدح خير الخلق صلى الله عليه وسلم، فننتقي من بعضها أبياتاً وأفانين، ثم نعلق عليها تعليقاً نحاول من خلاله أن نقرب أيام نبينا صلى الله عليه وسلم؛ لنقتدي وننهل من معين سيرته، ونقتبس من ثناء نبوته.

    كنا قد تكلمنا عن شوقي رحمه الله وذكرنا أن له ثلاث قصائد في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم: البائية والنونية والهمزية.

    وقد مضى القول عن بائيته، ومطلعها: سلوا قلبي، وعن نونيته ومطعلها: ريم على القاع.

    واليوم نقف مع همزيته، وكما جرت العادة نقرأ الأبيات ثم نعرج ونعلق عليها بما يفتحه الله علينا.

    قال شوقي رحمه الله:

    ولد الهدى فالكائنات ضياء وفم الزمان تبسم وثناءُ

    الروح والملأ الملائك حوله للدين والدنيا به بشراء

    يا خير من جاء الوجود تحية من مرسلين إلى الهدى بك جاءوا

    بيت النبيين الذي لا يلتقي إلا الحنائف فيه والحنفاء

    خير الأبوة حازهم لك آدم دون الأنام وأحرزت حواء

    هم أدركوا عز النبوة وانتهت فيها إليك العزة القعساءُ

    خلقت لبيتك وهو مخلوق لها إن العظائم كفؤها العظماء

    بك بشر الله السماء فزينت وتضوعت مسكاً بك الغبراء

    وبدا محياك الذي قسماته حق وغرته هدىً وحياء

    ليل يتيه على الزمان صباحه ومساؤه بمحمد وضاء

    ذعرت عروش الظالمين فزلزلت وعلت على تيجانهم أصداء

    والنار خاوية الجوانب حولهم خمدت ذوائبها وغاب الماء

    والآي تترى والخوارق جمة جبريل رواح بها غداء

    نعم اليتيم بدت مخايل فضله واليتم رزق بعضه وذكاء

    في المهد استسقى الحمام برجائه وبقصده تستدفع البأساء

    يا من له الأخلاق ما تهوى العلا منها وما يتعشق الكبراء

    لو لم تقم ديناً لقامت وحدها ديناً تضيء بنوره الآناء

    زانتك في الخلق العظيم شمائل يغرى بهن ويولع الكرماء

    أما الجمال فأنت شمس سمائه ما لاح في الصديق منك إياء

    والحسن من كرم الوجوه وخيره ما أوتي القواد والزعماء

    فإذا سخوت بلغت بالجود المدى وفعلت ما لا تفعل الأنواء

    وإذا عفوت فقادراً ومقدراً لا يستهين بعفوك الجهلاء

    وإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هما الرحماء

    وإذا غضبت فإنما هي غضبة في الحق لا ضغن ولا بغضاء

    وإذا رضيت فذاك في مرضاته ورضى الكثير تحلم ورياءُ

    وإذا خطبت فللمنابر هزة تعرو الندي وللقلوب بكاء

    وإذا قضيت فلا ارتياب كأنما جاء الخصوم من السماء قضاء

    وإذا حميت الماء لم يورد ولو أن القياصر والملوك ظماء

    وإذا أجرت فأنت بيت الله لم يدخل عليه المستجير عداء

    وإذا ملكت النفس قمت ببرها ولو أن ما ملكت يداك الشاء

    وإذا بنيت فخير زوج عشرةً وإذا ابتنيت فدونك الآباء

    وإذا صحبت رأى الوفاء مجسماً في بردك الأصحاب والخلطاء

    وإذا أخذت العهد أو أعطيته فجميع عهدك ذمة ووفاء

    وإذا مشيت إلى العدا فغضنفر وإذا جريت فإنك النكباء

    في كل نفس من سطاك مهابة ولكل نفس في نداك رجاء

    والرأي لم ينض المهند دونه كالسيف لم تضرب به الآراء

    يا أيها الأمي حسبك رتبة في العلم أن دانت بك العلماء

    الذكر آية ربك الكبرى التي فيها لباقي المعجزات غناء

    صدرُ البيان له إذا التقت اللغى يتقدم البلغاء والفصحاء

    يا أيها المسرى به شرفاً إلى ما لا تنال الشمس والجوزاء

    يتساءلون وأنت أطهر هيكل بالروح أم بالهيكل الإسراء

    بهما سموت مطهرين كلاهما روح وريحانية وبهاء

    تغشى الغيوب من العوالم كلما طويت سماء قلدتك سماء

    أنت الذي نظم البرية دينه ماذا يقول وينظم الشعراء

    والمصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء

    صلى عليك الله ما صحب الدجى حاد وحنت بالفلا وجناء

    واستقبل الرضوان في غرفاتهم بجنات عدن آلك السمحاء

    هذا بعض ما قاله شوقي في همزيته في مدح رسولنا صلوات الله وسلامه عليه، وقد عرج شوقي في قصيدته على معانٍ عديدة، وأظهر فيها قدرة شعرية بالغة الذروة زانها أنها قيلت في سيد الخلق وأشرفهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وسنقف هنا مع بعض ما ذكره شوقي في قصيدته.

    ذكر شوقي قضية إرهاصات النبوة، وعبر عنها بعد أن ذكر أن عروش الظالمين زلزلت فقال:

    والآي تترى والخوارق جمة جبريل رواح بها غداء

    الضابط في تقديم الجن على الإنس في القرآن والعكس

    وشوقي أغفل هنا مسألة منع الله جل وعلا للجن أن يسترقوا السمع قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حماية للقرآن، فالجن ما علاقتهم بنبينا صلى الله عليه وسلم؟ نحاول في هذا اللقاء أن نتكلم عن السيرة من هذا الوجه.

    إن الجن أحد عقلاء ثلاثة خلقهم الله: الملائكة، والجن، والإنس.

    وقد ذكرهم الله جل وعلا في القرآن، فتارة يقدم الإنس وتارة يقدم الجن، والتقديم بحسب السياق، فعندما يذكر الله القوة فإنه يقدم الجن، قال الله جل وعلا: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ [الرحمن:33]، وذكر جل وعلا جند نبي الله سليمان فقال تباركت أسماؤه وجل ثناؤه: وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [النمل:17]، لكن لما تكلم الله جل وعلا عن البلاغة والفصاحة وهي في الإنس أكثر قدم الإنس، قال الله جل وعلا: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الإسراء:88]، ولما أراد الله أن يتكلم عن بداية الخلق قدم الجن، فقال: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، أو أن التقديم والتأخير له ضوابطه في القرآن، الجن بالنسبة لنا بني آدم عالم غيبي؛ ولهذا اشتق من الجن، من الفعل جن الذي يعني الاستتار، ولهذا تسمى الجنة جنة؛ لأنها لم تر، ويسمى الحمل في بطن أمه جنيناً لأنه لا يرى، والله يقول عن خليله إبراهيم: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ [الأنعام:76]أي: أظلم وأصبح لا يُرى.

    وهؤلاء الجن كتب الله قدراً أنهم يروننا ولا نراهم، إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27].

    وهم أسبق منا خلقاً، قال الله: وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ [الحجر:27]، فهذا كله إلى الآن كلام عام لا علاقة له بالسيرة.

    استراق الجن للسمع قبل البعثة ومنعهم من ذلك بعد البعثة

    وأما السيرة فإن الجن كانوا يسترقون السمع، قال الله جل وعلا عنهم: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا [الجن:9]، وكانت الجن لا يحول بينها وبين خبر السماء شيء، فلما أراد الله بعثة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وقد علم الله أزلاً وأراد ذلك قدراً أن ينزل خير كتبه على خير خلقه، حمى الله جل وعلا وحيه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم من استراق الجن له، فالذي وقع أن الله جل وعلا منع الجن من استراق السمع، وهذا كان كبيراً جداً على الجن، فخرجوا يبحثون عن السبب، فطائفة منهم جاءت إلى وادي النخلة، فمروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن في منقلبه من الطائف إلى مكة قائماً به في الليل، فجاءوا وسمعوا أعظم كلام وهو كلام الله، من أعذب وأعظم من تكلم به وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذوه رطباً من شفتيه، الجن وقلوبهم مخلوقة من نار لما رأت القرآن يتلي من لدن محمد صلى الله عليه وسلم ركب بعضها بعضاً، وقد صور الله هذا الموقف فقال: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن:19] وعبد الله هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كَادُوا أي: الجن، يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن:19] تقول: تلبد الشيء يعني: ركب بعضه بعضاً، فركب بعضهم بعضاً يستمعون القرآن رغم أنهم كانوا تقريباً تسعة، فهؤلاء بعثهم إبليس لينظروا في سبب عدم قدرتهم على استراق السمع، فأضحوا مؤمنين، فرقت قلوبهم ولانت طباعهم، وأسلموا أمرهم لله وقبلوا الدين، قال الله: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف:29-31]، فانقلبوا من كفرة مردة أعوان لإبليس إلى مؤمنين صالحين يدعون إلى الله جل وعلا، فظاهر الأمر أنهم كانوا يهوداً؛ لأنهم قالوا: (أنزل من بعد موسى) ولم يذكروا عيسى بشيء.

    والمقصود: أن الله جل وعلا خيرته لعبده خير من خيرة العبد لنفسه، وهؤلاء خرجوا لأمر وعادوا بشيء آخر عادوا مؤمنين، وكما أخبر الله جل وعلا أنهم عادوا ليسوا فقط مؤمنين، بل مؤمنين يدعون إلى دين ربهم، (يا قومنا أجيبوا داعي الله)، وهكذا المؤمن إذا تلقى العلم بلغه غيره؛ حتى يكون ممن يدعو إلى دين الله جل وعلا.

    لا يعلم الغيب إلا الله تعالى

    وهذا الأمر يؤكد ما كنا قد حررناه سابقاً من أن الغيب لا يعلمه إلا الله، فإن أولئك النفر من الجن استمعوا إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، وأخذوا عنه القرآن، وخرجوا يبلغون الدين، وكل ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم، قال الله عنهم: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا [الجن:1]، فتأمل وتدبر قول الله: (أوحي إلي)، أي: أنا لا أعلم ولا أدري؛ لأني لا أراهم، لكن الله أبلغني أنه استمع نفر من الجن فقالوا: (إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد)، فهذا موقف حصل للجن مع نبينا صلى الله عليه وسلم.

    أدب الجن مع ربهم

    لقد ذكر الله جل وعلا الجن في آيتين وأثنى عليهم بهما ضمناً، الآية الأولى: أنهم تأدبوا مع ربهم لما قال الله جل وعلا عنهم أنهم يقولون: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ [الجن:10]، فنسبوا الشر إلى ما لم يسم فاعله، -يعني: كما يقول النحاة: مبني للمجهول-، فهؤلاء الجن -تأدباً مع ربهم- نسبوا الرشد إلى ربهم ولم ينسبوا إليه الشر مع أن الله خالق كل الشيء.

    الموقف الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم سورة الرحمن، وقد ورد فيها كثيراً قول الله جل وعلا: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13]، فكانوا كلما تليت عليهم هذه الآية يجيبون رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم: لا نكذب بأي من آيات ربنا، لا نكذب بأي من آيات ربنا، فهذا من أدب الجن مع رسولنا صلى الله عليه وسلم، ومع ربهم جل وعلا.

    سكنى بعض مؤمني الجن في المدينة

    وفي غزوة الخندق حصل أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه شاب من الأنصار يستأذنه في أنه لا يستطيع أن يرابط مع الجيش؛ لأنه حديث عهد بعرس، فأذن له، وقبل أن أذكر حكاية هذا الشاب نذكر أصل الحديث: كان أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه ذات يوم يصلي، فجاءه أحد أصحابه من التابعين يستأذن عليه فوجده يصلي، فهذا الرجل مكث في البيت ينتظر أبا سعيد أن يفرغ من صلاته، فإذا بحية في عراجين البيت في الشجر في السقف، فقام الشاب ليقتلها، فإذا بـأبي سعيد وهو في صلاته يشير إليه أن امكث مكانك، فمكث الرجل، فلما فرغ أبو سعيد من صلاته أخذ بيد الشاب وأخرجه من البيت وأشار إلى بيت غير بعيد من بيت أبي سعيد ، وقال: انظر أترى ذلك البيت؟ قال: نعم، قال: إن ذلك البيت كان لفتىً منا معشر الأنصار، هذا الفتى هو الشاب الذي تكلمنا عنه آنفاً، فقد كان حديث عهد بعرس، فكان في يوم الخندق يحفر معهم، ثم إذا حل المساء يستأذن، فذات مرة قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (خذ سيفك معك فإني أخشى عليك بنو قريظة) أي: اليهود من بني قريظة، فأخذ السيف وعاد إلى بيته ومعه سلاحه وسيفه ورمحه، فوجد زوجته وهو حديث عرس بها خارج الدار، فأخذته الغيرة فسل سيفه غاضباً، فأشارت إليه زوجته وعروسه إلى داخل الدار، فدخل الدار فوجد حية ملتوية على سريره، فضربها، قال أبو سعيد : فلا يدرى أيهما أسبق موتاً الفتى الأنصاري أم الحية، أي: ماتا سوياً، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال: (إن في المدينة إخواناً لكم من الجن، فإذا رأيتم مثل هذا فحرجوا عليه ثلاثاً) أي: لا تقتلوه مباشرة.

    فهذا خبر عن الجن وعلى أنه كان بعضهم يسكنون المدينة، وأنهم مؤمنين برسالة نبينا صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    هل يدخل مؤمنو الجن الجنة أولاً؟

    ومن باب الاستطراد في الحديث فقد العلماء في مسألة: هل يدخل مؤمنو الجن الجنة أم لا؟

    فبعض العلماء يقول: إنهم يدخلونها لكن لا يسكنون في بحبوحتها، وإنما على أطرافها، وبعضهم يقول: إنهم لا يدخلون الجنة، وإنما جزاؤهم: أنهم لا يعذبون في النار.

    وبعضهم يقول: إنهم يدخلونها، لكن يعاقبون بأن يراهم بنو آدم وهم لا يرون بني آدم، أي: عكس ما حاصل في الدنيا، وهذه كلها اجتهادات علماء، لكن الذي عليه أكثر المفسرين وهو الحق إن شاء الله أنهم يعاملون مثل غيرهم من المؤمنين؛ لأن الله جل وعلا قال: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:46-47]، فهذا وعد من الله، والله جل وعلا أجل من أن يخلف وعده، والخطاب للجن والإنس، وهذا القول حرره ابن كثير رحمة الله تعالى عليه ودافع عنه وهو الحق إن شاء الله: أنهم يعاملون يوم القيامة معاملة غيرهم من الناس، وهذا ظاهر القرآن والسنة، والعلم عند الله.

    وهؤلاء الجن كما قلنا منهم مؤمنين ومنهم كفار، منهم من آمن بنبينا صلى الله عليه وسلم ولهم ذراري وأتباع، ومنهم -وهذا الكثير- من هو كافر مكذب برسول الله صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    الإرهاصات قبل مولد النبي

    والذي يعنينا في الخطاب هنا قضية أن الله جل وعلا جعل إرهاصات عظيمة قبل مولده صلى الله عليه وسلم.

    خلقت لبيتك وهو مخلوق لها إن العظائم كفؤها العظماء

    ونبينا صلى الله عليه وسلم لم يولد في التاريخ أحد أجل ولا أعظم منه عليه الصلاة والسلام، وكان بدهياً أن يسبق ولادته أمور عظيمة، كما حدث أن الله جل وعلا منع الفيل من أن يصل إلى بيته الحرام، وكان ذلك في عام مولده، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ [الفيل:1-2] الآيات الشهيرة.

    وحدثت خوارق يذكرها أهل السير والتاريخ بعضها يمكن إثباته وبعضها لا يمكن إثباته، لكن الذي يعنينا جملة أن ولادة النبي صلى الله عليه وسلم شيء عظيم، وقد حف التاريخ قبل ولادته بعظائم تمهد لظهوره، وقبل ذلك كان عيسى يبشر به، وإبراهيم يدعو بأن يكون محمداً صلى الله عليه وسلم من ولده، وكان عليه الصلاة والسلام مفتخراً يقول: (أن دعوة أبي إبراهيم، وبشارة أخي عيسى، ورؤيا أمي حين رأت أن نوراً يخرج منها تضيء له بصرى من أرض الشام).

    ومن الغريب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أمي رأت حين وضعتني نوراً يخرج منها أضاءت له بصرى من أرض الشام)، فأول ديار الشام التي فتحت على أيدي المسلمين كانت بصرى، وهي البلدة التي رأت آمنة بنت وهب أن نوراً يخرج منها تضيء له بصرى من أرض الشام.

    وإذا عدنا إلى مسألة ما يكون بين يدي ولادته صلى الله عليه وسلم فهذا قد يسوقنا بعد ذلك إلى أن الله جل وعلا أكرمه، فببركته تعددت مرضعاته عليه الصلاة والسلام، فقد أرضعته حليمة ، وقبل ذلك أرضعته أم أيمن ، وأرضعته ثويبة مولاة أبي لهب ، ومولاة أبي لهب هذه قدر لها أنها لما أنجبت آمنة طفلها المبارك محمد بن عبد الله ذهبت إلى سيدها أبي لهب ولم يكن يوم ذاك هناك بعثة أو دين، ولم يكن هناك كافر، فأتت إليه تخبره وتبشره أن زوجة أخيك عبد الله -وكان عبد الله قد مات- قد أنجبت غلاماً فأعتقها، ثم إنه بعد أن مات أبو لهب رآه أخوه العباس في المنام، فسأله عن حاله، فقال: أنا بشرِّ حال، إلا أنني في يوم الإثنين أسقى من نقرة في إبهامي؛ لأنه أعتق ثويبة عندما بشرته بمحمد صلى الله عليه وسلم، فإذا كان هذا حال رجل كافر بالله وبرسوله ويصنع به هكذا لأنه أعتق ثويبة ، فكيف بمن يموت على التوحيد، ويموت محباً لله، ويموت وهو محباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لا ريب أن فضل الله واسع، وأجر الرب تبارك وتعالى كبير، وفيها دلالة على أن الله جل وعلا لا يبخس أحداً حقه، وأبو لهب ينقر له في إبهامه ويسقى في قبره حتى لا يكون له عند الله شيء يوم القيامة، وهذا الصنيع الذي صنعه والمعروف الذي قام به نال ثوابه وهو في القبر، فليس له عند الله يوم القيامة مطلب، وأما من أراد الله بهم الحسنى ورفيع المقامات وعالي الدرجات فإن الله يدخر لهم الثواب والعطايا في الآخرة يوم يلقونه؛ لأن الأصل أن الثواب في الآخرة، لكن قد يعجل أو يعطى إنسان من ثواب الدنيا شيئاً كثيراً، ولا يمنع ذلك من أن يكون له مقام عظيم وأجر كريم في الآخرة.

    قال الله عن خليله إبراهيم : وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنِ الصَّالِحِينَ [العنكبوت:27]، وسليمان عليه الصلاة والسلام أعطاه الله ملكاً عظيماً، وله أجره يوم القيامة كما أخبر الله جل وعلا في سورة (ص).

    والذي يعنينا أن هذا وقع لـأبي لهب من جراء عتقه لـثويبة مولاته عندما بشرته بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    فصاحة القرآن وبلاغته

    وذكر شوقي كذلك في همزيته التي بين يدينا قضايا أخر من أشهرها أنه قال:

    الذكر آية ربك الكبرى التي فيها لباقي المعجزات غناء

    وكنا قد أفردنا حديثاً خاصاً عن القرآن العظيم، لكن تبقى قضية وهي: أن القرآن من أعظم الطرائق لأن ينال الإنسان بها مرتبة عليا في الفصاحة، وكثير ممن يتصدر للعلم قد تخونه بعض الألفاظ البلاغية والقدرة البيانية، وهذا كله لقلة تدبره وقراءته للقرآن، فالقرآن تحدى الله به فصاحة البلاغاء، وبلاغة الفصحاء، وهو المعجزة الكبرى التي أوتيها نبينا صلى الله عليه وسلم.

    وكان النقاد قديماً يبحثون في قضية: لماذا عجزت العرب عن الإتيان بمثل القرآن؟ وبعضهم يرده إلى مسألة الصرفة، وهو قول إبراهيم النظام من المعتزلة، وهو أن الله صرفهم وإلا فالعرب قادرون، وهذا قول باطل، فبلاغة القرآن لا يمكن أن يرتقي إليها بلاغة أحد من الخلق، قال الله: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88].

    يكون في هذا اللقاء قد تحدثنا عن بيتين لـشوقي ، وهما قوله:

    والآي تترى والخوارق جمة جبريل رواح بها غداء

    وقوله:

    الذكر آية ربك الكبرى التي فيها لباقي المعجزات غناء

    وفي اللقاء القادم إن شاء الله تعالى سنتحدث عن خصائص النبي صلى الله عليه وسلم الشاملة التي ذكرها شوقي في أبيات متتابعة والتي أولها:

    زانتك في الخلق العظيم شمائل يغرى بهن ويولع الكرماء

    نسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وأن يلبسنا وإياكم لباس العافية والتقوى.

    هذا ما تهيأ إيراده وأعان الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756012660