إسلام ويب

شرح سنن أبي داود كتاب الطهارة [6]للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ذكر الشارع الحكيم جواز الوضوء والاغتسال من ماء البحر، وبين أنه الطهور ماؤه الحل ميتته، كما بين الشارع حكم الوضوء بفضل الغير من الماء ووضوء الرجال مع النساء في إناء واحد، كما نهى عن إتيان الصلاة لمن كان يدافعه الأخبثان.

    1.   

    ما جاء في الوضوء بفضل المرأة

    شرح حديث عائشة: (كنت أغتسل أنا ورسول الله من إناء واحد ونحن جنبان)

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب الوضوء بفضل المرأة.

    حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان حدثني منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: (كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد ونحن جنبان) ].

    وهذا رواه النسائي ومسلم ، وفيه دليل على أنه لا بأس بالوضوء من فضل المرأة.

    وفيه: جواز اغتسال الرجل وزوجته جميعاً من إناء واحد، ويشمل ما إذا توضأت أو اغتسلت وبقي في الإناء شيء ثم توضأ بعدها، وهو دليل على أنه لا بأس بفضل وضوء المرأة. وأما الحديث الآخر الذي سيأتي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن فضل وضوء المرأة فهو محمول على التنزيه على الصحيح.

    شرح حديث أم صبية: (اختلفت يدي ويد رسول الله في الوضوء من إناء واحد)

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا وكيع عن أسامة بن زيد عن ابن خربوذ عن أم صبية الجهنية قالت: (اختلفت يدي ويد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوضوء من إناء واحد) ].

    أخرجه ابن ماجة.

    والذي قبله قال: أخرجه البخاري والنسائي وأحمد ومسلم .

    و أم صبية الجهنية لم يبين المؤلف رحمه الله هل بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم محرمية؟ والحديث محمول على أنه كان بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم محرمية من جهة الرضاعة ومن جهة الصهر، أو أن هذا كان قبل الحجاب؛ لأنه لا يمكن أن تتوضأ وهي كاشفة أمام النبي صلى الله عليه وسلم إلا إذا كان بينهما محرمية؛ لأن هذا يقتضي أن تبدي وجهها ويديها ورجليها.

    فإما أن يكون قبل الحجاب، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبينها محرمية من جهة الرضاع أو الصهر.

    هنا قال: وفيها -يعني: النسخة الهندية التي بين أيدينا- ورد هذا الحديث عن عائشة رضي الله عنها بدلاً من الاقتصار على أم صبية في هذا الكتاب، قال: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا وكيع بن الجراح عن أسامة بن زيد عن ابن خربوذ ، عن أم صبية الجهنية عن عائشة رضي الله عنها قالت... وسندت الرواية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوضوء من إناء واحد.

    شرح حديث: (كان الرجال والنساء يتوضئون في زمان رسول الله من الإناء الواحد جميعاً)

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك ح وحدثنا مسدد قال: حدثنا حماد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان الرجال والنساء يتوضئون في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم -قال مسدد - من الإناء الواحد جميعاً) ].

    وهذا كان قبل الحجاب، أما بعد الحجاب فكان يختص بالمحارم والزوجات.

    والمراد بالوضوء: غسل الأطراف، واستعمال الماء في الأعضاء الأربعة: الوجه، واليدين، والرأس، والرجلين، هذا الوضوء، أما الاستنجاء فمعروف أن كل واحد يستنجي على حدة.

    وقوله: (يغترفون من الإناء جميعاً) فيه دليل على أنه لا بأس بالوضوء من فضل المرأة؛ لأنه بعد اغترافها يكون فضلاً.

    شرح حديث ابن عمر: (كنا نتوضأ نحن والنساء على عهد رسول الله)

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى عن عبيد الله : حدثني نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا نتوضأ نحن والنساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد ندلي فيه أيدينا) ].

    قوله: (ندلي فيه أيدينا) يعني: إذا أدلت المرأة يدها ثم أدلى يده بعدها صار فضلاً، ففضل المرأة يشمل ما إذا كان يغترف من الإناء وتغترف هي وما إذا توضأت ثم توضأ بعدها مما بقي في الإناء.

    والحديث السابق أخرجه البخاري والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة وأحمد ، وهذا الحديث أخرجه أحمد وابن خزيمة.

    1.   

    النهي عن اغتسال الرجل بفضل المرأة والمرأة بفضل الرجل

    شرح حديث: (نهى رسول الله أن تغتسل المرأة بفضل الرجل ...)

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب النهي عن ذلك.

    حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير عن داود بن عبد الله ح وحدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن داود بن عبد الله عن حميد الحميري قال: لقيت رجلاً صحب النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين كما صحبه أبو هريرة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل المرأة بفضل الرجل أو يغتسل الرجل بفضل المرأة) زاد مسدد : (وليغترفاً جميعاً) ].

    أخرجه النسائي وأورده ابن حجر في الفتح، وقال: رجاله ثقات، ولم أقف لمن أعله على حجة قوية، ودعوى البيهقي : أنه في معنى المرسل مردودة؛ لأن إبهام الصحابي لا يضر، وقد صرح التابعي بأنه لقيه، ثم قال: وتحمل أحاديث النهي على ما تساقط من الأعضاء، والجواز على ما بقي من الماء، وبذلك جمع الخطابي ، أو يحمل النهي على التنزيه جمعاً بين الأدلة.

    والحديث فيه النهي عن الوضوء بفضل المرأة، لكنه محمول على التنزيه؛ بدليل الأحاديث السابقة، ومنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل هو وبعض أزواجه من إناء واحد يغترفان جميعاً) ؛ ولما سيأتي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بفضل طهور ميمونة) .

    فأحاديث النهي تحمل على التنزيه، والذي صرفها عن التحريم إلى التنزيه الأحاديث التي فيها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بفضل طهور ميمونة)، وحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل هو وبعض أزواجه يغترفان جميعاً) هذا هو الصواب.

    وذهب الجمهور إلى أن النهي منسوخ بأحاديث الجواز، لكن الصواب أنه لا يصار إلى النسخ إلا إذا تعذر الجمع، فإذا أمكن الجمع فإنه مقدم؛ لأن فيه عملاً بالأحاديث من الجانبين.

    أما إذا لم يمكن الجمع فإنه يصار إلى النسخ إذا عرف التاريخ، وهنا أمكن الجمع، فيحمل النهي على التنزيه، فإن وجد غير فضل طهور المرأة فإن الأولى والأفضل أن يتوضأ بغيره، وإن لم يجد غيره زالت الكراهية، والكراهة كراهة تنزيه، ولو توضأ بفضل طهور المرأة مع وجود غيره فلا حرج.

    والرسول صلى الله عليه وسلم فعله، وفعله يقتضي صرف النهي من التحريم إلى التنزيه.

    شرح حديث: (نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة)

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا ابن بشار حدثنا أبو داود -يعني: الطيالسي - حدثنا شعبة عن عاصم عن أبي حاجب عن الحكم بن عمرو -وهو الأقرع - رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة) ].

    قال أخرجه النسائي والترمذي وابن ماجة وأحمد ، وقال الكندي : قال في شرح السنة: لم يصحح محمد بن إسماعيل حديث الحكم بن عمرو ، وإن ثبت فمنسوخ.

    قال الخطابي : وجه الجمع بين الحديثين -إن ثبت حديث الأقرع

    -: أن النهي إنما وقع عن التطهر بفضل ما تستعمله المرأة من الماء، وهو ما سال وفضل عن أعضائها عند التطهر به، دون الفضل الذي تسؤره في الإناء.

    لكن إن صح الحديث فهو محمول على التنزيه.

    قال الترمذي في كتاب العلل: سألت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث -يعني: حديث أبي حاجب عن الحكم بن عمرو - فقال: ليس بصحيح.

    قال: وحديث عبد الله بن سرجس في هذا الباب الصحيح أنه موقوف، ومن رفعه فهو خطأ. تم كلامه.

    وحديث عبد الله بن سرجس رواه أبو عبيد في كتاب الطهور فقال: حدثنا علي بن معبد عن عبيد الله بن عمرو عن معمر عن عاصم بن سليمان عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه أنه قال: أترون هذا الشيخ؟

    يعني: نفسه، فإنه قد رأى نبيكم صلى الله عليه وسلم وأكل معه، قال عاصم : فسمعته يقول: لا بأس بأن يغتسل الرجل والمرأة من الجنابة من الإناء الواحد، فإن خلت به فلا تقربه، فهذا هو الذي رجحه البخاري .

    وحديث النهي عن الاغتسال بفضل وضوء الرجل والمرأة أخرجه ابن ماجة ولفظه عن عبد الله بن سرجس قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغتسل الرجل بفضل وضوء المرأة، والمرأة من فضل وضوء الرجل، ولكن يشرعان جميعاً).

    وقوله: (نهى أن يغتسل الرجل بفضل المرأة والمرأة بفضل الرجل)، كأنه رواه بالمعنى، وعلى كل حال كأن البخاري لم يصحح الحديث، لكن حديث عبد الله بن سرجس وكذا حديث ميمونة : (أن النبي توضأ بفضل ميمونة) يجعل النهي محمولاً على التنزيه، وتركه أولى إن وجد غيره.

    و الحكم بن عمرو الغفاري ويقال له: الحكم بن الأقرع صحابي نزل البصرة ومات بمرو.

    و أبو حاجب هو سوادة بن عاصم العنزي بالنون والزاي أبو حاجب البصري صدوق، يقال: إن مسلماً أخرج له.

    وهذا الحديث -وعلى كل حال- سواء صح أو لم يصح فحديث عبد الله بن سرجس يكفي في حمل النهى على التنزيه.

    1.   

    الوضوء بماء البحر

    شرح حديث: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته)

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب الوضوء بماء البحر.

    حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن صفوان بن سليم عن سعيد بن سلمة من آل ابن الأزرق قال: إن المغيرة بن أبي بردة -وهو من بني عبد الدار- أخبره: أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: (سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو الطهور ماؤه الحل ميتته) ].

    وهذا الحديث رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة ، وسأل الترمذي البخاري رحمه الله فقال: إنه صحيح، وهو دليل على طهورية ماء البحر وحل ميتته، ومياه البحار والأنهار الأصل فيها الطهارة، وكذلك مياه الأمطار والغدران والثلوج إذا ذابت كلها طاهرة، والبحر طهور ماؤه وحل ميتته.

    والنبي صلى الله عليه وسلم زاد السائل عن سؤاله وفيه دليل على أن المفتي إذا سأله سائل ورأى أنه يحتاج إلى شيء ملابس لسؤاله فإنه يفتيه به ويزيده خيراً؛ فالسائل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوضوء بماء البحر، فقال: (هو الطهور ماؤه)، ولما كان الإنسان الذي يركب البحر قد يحتاج إلى معرفة حكم أكل ميتته بين له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته)، هذا من الزيادة على السؤال؛ فإنه سأله عن طهورية ماء البحر أو حكم الوضوء بماء البحر فأفتاه بأن ماء البحر طهور، وزاده خيراً فأخبره أن ميتته حلال، وفي الحديث الآخر: (أحل لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان: فالجراد والسمك) وهو دليل على أن ما يموت في البحر هو حلال، قال تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ [المائدة:96].

    1.   

    الوضوء بالنبيذ

    شرح حديث ابن مسعود في الوضوء بالنبيذ

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب الوضوء بالنبيذ.

    حدثنا هناد وسليمان بن داود العتكي قالا: حدثنا شريك عن أبي فزارة عن أبي زيد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ليلة الجن: (ما في إداوتك؟ قال: نبيذ. قال: تمرة طيبة وماء طهور) ].

    وفي رواية الترمذي : (فتوضأ منه) ، وفي رواية أحمد : (فتوضأ منه وصلى به).

    والنبيذ يطلق على عصير العنب وغيره؛ كأن يجعل في الماء زبيباً فيكون نبيذاً، أو يجعل فيه تمراً فيكون نبيذاً، أو يجعل فيه شعيراً ونحو ذلك، وهذا الحديث فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـابن مسعود : (تمرة طيبة وماء طهور)، وفي رواية الترمذي : (فتوضأ منه)، وفي رواية أحمد : (فتوضأ منه وصلى به).

    لكن هذا الحديث ضعيف فيه علل متعددة، منها: أن شريكاً سيئ الحفظ، ساء حفظه لما تولى القضاء.

    ومنها: الاختلاف في أبي فزارة؛ اختلف في اسمه.

    ومنها: جهالة أبي زيد .

    والعلة الرابعة: أن ابن مسعود لم يحضر ليلة الجن، فلا يحتج به بما دل عليه من الوضوء بالنبيذ؛ لأن النبيذ ليس ماءً مطلقاً، فلا يقال له: ماء، والله تعالى قال: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً [النساء:43] فهو ماء مقيد وليس ماءً مطلقاً، فماء النبيذ وماء الزعفران وماء المرق لا يقال له: ماء، ولو قال إنسان لإنسان: ائتني بماء ثم جاءه بزعفران أو جاءه بمرق أو جاءه بنبيذ لم يكن منفذاً لطلبه، وعلى ذلك فلا يصح الوضوء بالنبيذ؛ لأنه ليس ماءً مطلقاً لهذه العلل فالحديث غير صحيح، وإنما يتوضأ بالماء المطلق، أما الماء الذي يعصر من الأشجار فلا يسمى ماءً، بل هو ماء مقيد: عصير برتقال أو يجعل في الماء تمر فيسمى نبيذاً، أو أن يجعل فيه زبيب فيكون نبيذاً، أو يجعل فيه زعفران أو حبر فلا يسمى ماءً، فالمرق أو عصير البرتقال أو عصير التفاح لا يتوضأ به؛ لأن هذا ليس ماء مطلق، وإنما هو ماء مقيد.

    وهذا الحديث ليس بصحيح.

    قال في تخريجه: أخرجه الترمذي وابن ماجة وأحمد .

    وقال في الزوائد: مدار الحديث على أبي زيد وهو مجهول عند أهل الحديث، كما ذكره الترمذي وغيره، وضعف إسناده أحمد شاكر والألباني رحمهما الله تعالى.

    فالحديث ليس بصحيح لعدة علل: جهالة أبي زيد ، وضعف شريك ، وكذلك الاختلاف في أبي فزارة ، وكذلك في كون ابن مسعود لم يحضر ليلة الجن، كما سيأتي في الرواية بعد هذه.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال سليمان بن داود : عن أبي زيد أو زيد، كذا قال شريك ، ولم يذكر هناد ليلة الجن.

    حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب عن داود عن عامر عن علقمة قال: قلت لـعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: من كان منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ فقال: ما كان معه منا أحد ].

    وهذا يدل على أن قوله في الحديث السابق: إن ابن مسعود كان مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ليس بصحيح؛ لأنه عليه الصلاة والسلام ما كان معه أحد، وإنما ابن مسعود وغيره لما سار الجن ذهب بهم النبي صلى الله عليه وسلم وأراهم آثارهم وآثار نيرانهم.

    شرح الآثار الواردة في تحريم الوضوء بالنبيذ

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا بشر بن منصور عن ابن جريج عن عطاء قال: إنه كره الوضوء باللبن والنبيذ، وقال: إن التيمم أعجب إلي منه ].

    اللبن والنبيذ ليسا بماء، فلا يتوضأ بهما، فإذا لم يجد إلا لبناً أو نبيذاً تيمم؛ لأنه ليس ماءً مطلقاً، ولعل الكراهة كراهة تحريم فلا يجوز الوضوء بهما.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا أبو خلدة قال: سألت أبا العالية عن رجل أصابته جنابة وليس عنده ماء وعنده نبيذ أيغتسل به؟ قال: لا ].

    يعني: لا يغتسل به؛ لأنه ليس ماءً.

    والكراهة هنا تحمل على كراهة التحريم وأنه ممنوع لا يتوضأ به.

    1.   

    صلاة الرجل وهو حاقن أو حاقل

    شرح حديث: (إذا أراد أحدكم أن يذهب الخلاء وقامت الصلاة فليبدأ بالخلاء)

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب أيصلي الرجل وهو حاقن؟

    حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الأرقم رضي الله عنه: أنه خرج حاجاً أو معتمراً ومعه الناس وهو يؤمهم، فلما كان ذات يوم أقام الصلاة صلاة الصبح، ثم قال: ليتقدم أحدكم وذهب الخلاء، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أراد أحدكم أن يذهب الخلاء وقامت الصلاة فليبدأ بالخلاء).

    قال أبو داود : روى وهيب بن خالد وشعيب بن إسحاق وأبو ضمرة هذا الحديث عن هشام بن عروة عن أبيه عن رجل حدثه عن عبد الله بن أرقم ، والأكثر الذين رووه عن هشام قالوا كما قال زهير ].

    يعني: أن هذا الحديث بعضهم زاد فيه رجلاً، وبعضهم رواه عن عبد الله بن الأرقم ، فيحتمل أنه روي عنه بواسطة وبدون واسطة.

    قال في تخريجه: قال المنذري : أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة .

    والحديث فيه دليل على تقديم الخلاء على الصلاة، والخلاء: أصله الفضاء والصحراء، والمراد: قضاء الحاجة، فإذا كان الإنسان يريد أن يقضي حاجته من بول أو غائط بأن كان حاقناً أو حاقلاً فيقدم ذلك على الصلاة، والحاقن هو: الذي يدافع البول، والحاقل هو: الذي يدافع الغائط، فإذا حضرت الصلاة وهو يدافعه الأخبثان فإن عليه أن يقدم قضاء الحاجة على الصلاة؛ زاد في حديث مسلم : (لا صلاة بحضرة الطعام ولا وهو يدافعه الأخبثان).

    والمؤلف رحمه الله ما جزم بالحكم، وإنما قال: باب: أيصلي الرجل وهو حاقن؟

    والمسألة فيها اختلاف بين أهل العلم: هل تصح صلاة من صلى وهو حاقن أو لا تصح؟

    فالجمهور على أنها تصح مع الكراهة.

    وذهب الظاهرية إلى أنها لا تصح، وقالوا: إن النهي والنفي بقول: لا صلاة، ولا يصل الرجل، هو للتحريم، والجمهور يرون أن النهي للتنزيه.

    وقال بعضهم: إذا ضاق الوقت فله أن يصلي على حاله، وقال آخرون: لا يصلي حتى ولو ضاق الوقت، بل عليه أن يقضي حاجته، وكذلك إذا كان بحضرة الطعام ونفسه تتوق إليه فيأكل ثم يصلي ويتطهر ولو بعد خروج الوقت.

    وذهب الظاهرية إلى أنها لا تصح صلاة الحاقن والحاقل، وقالوا: إنه لا صلاة بحضرة الطعام، وهذا نفي لوجود الصحة، فقوله: (لا صلاة) نفي للصحة، يعني: لا تصح الصلاة ولا وجود للصلاة الشرعية.

    والجمهور على أن النفي نفي للكمال.

    وأما المريض الذي يحتاج إلى قضاء الحاجة باستمرار فإذا كان يتشوش فالحكم واحد ينتظر؛ لأن الحكمة من النهي هي أن يتفرغ للصلاة، ولا تجوز صلاته وقلبه مشوش، لكن إذا كانت المدافعة يسيرة فأرجو ألا يكون عليه حرج في المدافعة، أما إذا كانت المدافعة شديدة فلا ينبغي، بل ينبغي أن يستفرغ ثم يصلي.

    شرح حديث: (لا يصلى بحضرة الطعام ولا وهو يدافعه الأخبثان)

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل وحدثنا مسدد ومحمد بن عيسى المعنى قالوا: حدثنا يحيى بن سعيد عن أبي حزرة حدثنا عبد الله بن محمد -قال ابن عيسى في حديثه: ابن أبي بكر ثم اتفقوا- أخو القاسم بن محمد قال: كنا عند عائشة رضي الله عنها فجيء بطعامها فقام القاسم يصلي، فقالت رضي الله عنها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يصلى بحضرة الطعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان) ].

    وفي رواية مسلم : (لا صلاة بحضرة الطعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان).

    وقوله: (لا يصلى بحضرة الطعام) لا يصلى أو لا يصلي، محتمل، يعني: لا يصلي الرجل، أو لا يصلى، فرواية: (لا يصلى) نفي، مثل رواية: (لا صلاة بحضرة الطعام)، وإن كانت: (لا يصلي) -يعني: الرجل- فتكون للنهي، ويكون النهي للتحريم عند الظاهرية، فعندهم أن النفي نفي لوجود الصلاة، فقوله: (لا صلاة) أي: لا صلاة شرعية، ولا وجود للصلاة، ولا تصح الصلاة عند حضرة الطعام.

    والجمهور على أن النهي للتنزيه، والنفي نفي الكمال، يعني: لا صلاة كاملة بحضرة الطعام.

    وعلى كل حال لا شك أن الأولى هو أن يستفرغ الإنسان.

    أما صلاة من يدافعه الأخبثان أو من كان بحضرة الطعام فهي إما باطلة وإما مكروهة، لكن إذا كانت مدافعة يسيرة ليست شديدة فأرجو ألا يكون حرج، وأما إذا كانت المدافعة شديدة فلا ينبغي، وهذا عذر في ترك الجماعة، ولو فاتته الجماعة، فمن كان بحضرة طعام ونفسه تتوق إليه فيقدم الطعام فهو أحق، وهذا عذر، وقد كان ابن عمر يتعشى وهو يسمع قراءة الإمام، وهذا من فقهه رضي الله عنه.

    وكذلك إذا كان يدافعه الأخبثان هذا عذر في ترك الجماعة، فيستفرغ لو فرط في الجماعة؛ لأنه إذا صلى في هذه الحالة يكون قلبه مشوشاً، فإذا استفرغ أقبل على صلاته، فهذا من الأعذار في ترك الجماعة، فمن كان يدافعه الأخبثان ومن كان بحضرة طعام يشتهيه ونفسه تتوق إليه هذا معذور في ترك الجماعة. أما إذا كان لا تتوق نفسه إليه فالأمر في هذا واسع، وإذا قدم الطعام فإنه يأخذ نهمته ولو بعد الأذان، لكن لا ينبغي للإنسان أن يعتاد تقديم الطعام بعد الأذان، فإذا سمع النداء قال: هاتوا الطعام، فإن هذا معناه التعمد لترك الجماعة، لكن إذا قدم بدون طلب وكان بحاجة، فيأخذ نهمته.

    فإذا كان الإنسان جائعاً ونفسه تتوق وحضر الطعام فإنه في هذه الحالة يقدم الطعام ولو فاتته الجماعة، ويكون هذا عذراً له، كما أن من أكل كراثاً أو ثوماً أو بصلاً فهذا عذر له في ترك الجماعة، وليس له أن يأتي المسجد، ولا أن يصلي مع الناس وله رائحة كريهة، ويكون هذا عذر في ترك الجماعة، لكن إذا تعمد أكل الكراث والثوم والبصل لترك الجماعة صار آثماً، لكن لو أكل بدون تعمد أو أكل محتاجاً لعلاج فهذا عذر، وكذلك الطعام إذا كان نفسه تتوق إليه عذر، وكذلك إذا كان يدافعه الأخبثان.

    أما إذا كانت المدافعة ليست شديدة فأرجو ألا يكون حرج، وبكل حال فالصلاة إما مكروهة وإما باطلة، إما مكروهة مع الصحة وهو قول الجمهور، وإما باطلة كما يراه الظاهرية، والقول: ببطلانها قول قوي.

    وأما الجمعة فوقتها واسع، يستطيع الإنسان أن يتهيأ لها قبل ذلك، فيحاول بقدر الإمكان أن يتقدم.

    لكن لو اضطر إلى هذا بأن دافعه الأخبثان أو أصابه إسهال فهذا عذر له ولو فاتته الجمعة أو الجماعة، فإذا أحس في بطنه شيئاً يخرج وهذا عذر له.

    شرح حديث: (ثلاث لا يحل لأحد أن يفعلهن ... )

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن عيسى قال: حدثنا ابن عياش عن حبيب بن صالح عن يزيد بن شريح الحضرمي عن أبي حي المؤذن عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث لا يحل لأحد أن يفعلهن: لا يؤم رجل قوماً فيخص نفسه بالدعاء دونهم، فإن فعل فقد خانهم، ولا ينظر في قعر بيت قبل أن يستأذن فإن فعل فقد دخل، ولا يصلي وهو حقن حتى يتخفف) ].

    قال المنذري : أخرجه الترمذي وابن ماجة .

    وقال الألباني : أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن، قلت: في إسناده اضطراب وجهالة، وقال ابن خزيمة في الطرف الأول منه: إنه موضوع، وأما بقية الحديث فله شواهد.

    يعني: في سنده اضطراب، وأما قوله: (لا يصل وهو حاقن) فهذا له شواهد كما سبق.

    وقوله في النهي عن النظر في بيت بغير إذنهم: (لا ينظر في قعر بيت قبل أن يستأذن) يعني: ليس له أن ينظر في بيت إلا بإذنهم، وهذا جاء النهي عنه في حديث آخر، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لو اطلع أحد على بيتك فخذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح)، وهذا حديث ثابت.

    وقوله: (فقد دخل) يعني: من اطلع من غير إذن فقد دخل، يعني: حكمه حكم من دخل البيت.

    وقوله: (من أم قوماً بغير إذنهم ثم خص نفسه بالدعاء فقد خانهم) يعني: في الدعاء الذي يؤمَّن عليه، كدعاء القنوت وغيره، أما الدعاء الخاص كالدعاء بين السجدتين في التشهد فهذا يخص نفسه به كما هو معروف، لكن فيما يؤمن عليه الناس مما يجهر فيه الإمام ويؤمن عليه الناس فلا يخص نفسه به، وعلى كل حال النهي عن نظر الإنسان في بيت غيره هذا جاءت له شواهد في غيره من الأحاديث إلا قوله: (فقد دخل).

    وكذلك أيضاً النهي عن الصلاة وهو حاقن.

    وقوله: (ثلاث ...) مبتدأ نكرة، والنكرة لا يجوز الابتداء بها إلا إذا أفادت، ولهذا يقول ابن مالك :

    ولا يجوز الابتداء بالنكره ما لم تفد كعند زيد نمره

    شرح حديث (لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصلي وهو حقن)

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمود بن خالد السلمي حدثنا أحمد بن علي حدثنا ثور عن يزيد بن شريح الحضرمي عن أبي حي المؤذن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصلي وهو حقن حتى يتخفف) ثم ساق نحوه على هذا اللفظ قال: (ولا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يؤم قوماً إلا بإذنهم، ولا يختص نفسه بدعوة دونهم، فإن فعل فقد خانهم) ].

    قوله: (وهو حقن) يعني: وهو حاقن، والحاقن هو الذي يدافعه البول، فليس له أن يصلي وهو حقن كما سبق الخلاف.

    وقوله: (ولا يؤم قوماً وهم له كارهون) يعني: إذا كانوا يكرهونه بحق، أما إذا كانوا يكرهونه بغير حق فكراهتهم له بغير حق لا تؤثر، فإن كانوا فساقاً أو عصاة ويكرهونه لاستقامته فكراهتهم ليست بحق، وأما إذا كانوا يكرهونه بحق فهذا هو الذي لا ينبغي.

    وكذلك إذا خص نفسه بالدعاء، هذا إن ثبت هذا الحديث؛ فإنه كما سبق فيه اضطراب.

    يعني: إذا كان يخص نفسه بدعوة لنفسه دون المأمومين وهم يؤمنون، وأما النهي عن الصلاة وهو حقن، والنهي عن الاطلاع على بيت قوم دون إذنهم فهذا له شواهد.

    [ قال أبو داود: هذا من سنن أهل الشام لم يشركهم فيها أحد ].

    لم يشركهم يعني: الرواة الشاميون.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767136378