إسلام ويب

تفسير سورة المجادلة [5-13]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الذين يحادون الله ورسوله...)

    قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ [المجادلة:5]. ((إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ))، أي: في مخالفة حدوده وفرائضه، وأصله من المحادة بمعنى المعاداة؛ لأن كلاً من المتعاديين في حد غير حد الآخر، فالمحادة تعني المعاداة؛ لأن المعاداة تجعلهما ينفصلان، ويكون كل منهما في حد غير حد الآخر. (( كُبِتُوا ))، أي: أخذوا، (( كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ))، يعني: من كفار الأمم الماضية، (( وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ))، أي: دلالات مفصلات وعلامات محكمات تدل على حقائق حدود الله عز وجل، (( وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ))، يعني: للكافرين منكري تلك الآيات وجاحديها عذاب مهين. وفسر بعض العلماء قوله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ))، بمعنى: يختارون حدوداً غير حدودهما، وينشئون شرائع وقوانين من عند أنفسهم ومن تلقائها مخالفة لما شرعه الله تبارك وتعالى. ففيه وعيد عظيم للملوك والحكام وأمراء السوء الذين وضعوا أموراً خلاف ما حده الشرع وسموا ذلك قانوناً. يقول الإمام القاسمي رحمه الله تعالى: وقد صنف العارف بالله تعالى الشيخ بهاء الدين قدس الله روحه رسالة في كفر من يقول: يعمل بالقانون والشرع إذا قابل بينهما. أي: في سياق المساواة بين القانون والشرع، وبيَّن أدلة تكفير من يسوي بين شرع الله عز وجل وشرع من عداه من المخلوقين، فقد قال الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]، وقد وصل الدين إلى مرتبة من الكمال لا تقبل التكميل، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. وقوله: لأن الدين وفقاً لهذه الآية وصل إلى مرتبة من الكمال لا تقبل التكميل. يعني: لا يمكن أبداً الزيادة عليه، ولا يمكن أن يوجد فيه نقصان بحيث يجبر باختراع أو ابتداع قوانين ما أنزل الله سبحانه وتعالى بها من سلطان. ومما يجري على ألسنة الناس اليوم للأسف الشديد الحديث عن المساواة بين القانون والشرع، أو بين القانونيين وغير المنقادين لشرع الله وبين الشرع، فيقال: الشرع والقانون يحكمان بكذا وكذا، على سبيل المقابلة بينهما والاحتجاج بهما على حد سواء. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ولا يخفى أن إطلاق الكفر لمجرد ذلك من غير تفصيل فيه نظر. وهنا يعقب على ما نقله عن الشيخ بهاء الدين في قوله: بكفر من يقول يعمل بالقانون والشرع، يعني: إذا قابل بينهما، فيشير القاسمي رحمه الله تعالى إلى وجوب الاحتياط في مثل هذه العبارة، فيقول: ولا يخفى أن إطلاق الكفر لمجرد ذلك من غير تفصيل فيه نظر. أي: لابد أن يستفصل عن حال قائل هذه الكلمة ماذا يقصد بها؟ وما السياق الذي وردت فيه؟ يقول: لأنه من تنطع الغالين من الفقهاء الذين زيف أقوالهم في التكفير كثير من العلماء النحارير، فإن التكفير ليس بالأمر اليسير. والحق في ذلك أن القانون الذي يهدم نصوص الشرع التي لا تحتمل التأويل ويفسدها وينسخها كفر وضلال. مثلاً من يصدر قانوناً بمساواة الرجل بالمرأة في ميراثها، هذا لا يحتمل التأويل؛ لقول الله تبارك وتعالى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، مع العلم بأن هناك حالات تتساوى فيها المرأة مع الرجل، وهناك حالات يفوق فيها نصيب المرأة نصيب الرجل، لكن القاعدة والأساس: أن للذكر مثل حظ الأنثيين. فمن أبطل هذه الشريعة كما حصل في الصومال من سياد بري الملحد المارق فهذا بلا شك كفر وردة وخروج عن دين الإسلام؛ لأنه محادة لشرع لله عز وجل الواضح البين الذي لا يحتمل التأويل، والله تعالى أعلم. ولعلكم تذكرون أنه لما حصل ذلك فإن العلماء جزاهم الله خيراً قاموا ضد هذا الملحد المارق وأنكروا عليه هذا الخروج من الدين، فجمع العلماء وأحرقهم في الميادين العامة وهم أحياء، ولعل ما وقع في الصومال من العبر التي هي ممتدة إلى اليوم من الانشقاق والحروب والدمار والمجاعات؛ لعله من شؤم هذا الموقف، ومن شؤم هذه السياسة الظالمة الضالة! ولا يبعد أن يكون ذلك من شؤم هذه المحادة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. ومثله أيضاً: القانون الذي صدر في تونس يحرم تعدد الزوجات، في حين أنه يبيح تعدد الخليلات، فهذا القانون حرم تعدد الزوجات مع أن هذا حلال في كتاب الله تبارك وتعالى. فوقعت قضية لرجل تزوج امرأتين فدافع عنه محاميه بأن هذه الثانية خليلة ومعشوقة له وليست زوجة، فحينئذٍ لم يعاقب؛ لكن لو كانت زوجة فإنه يعاقب طبقاً لهذه القوانين، فكذلك أمثال هذه القوانين الصارخة في مصادمتها لشرع الله تبارك وتعالى، والتي تهدم نصوص الشرع التي لا تحتمل التأويل وتفسدها وتمسحها، فهذا بلا شك كفر وضلال لا يقول به ولا يعول عليه إلا المارقون الجاحدون؛ فمن زعم أن القوانين أفضل من الشرع فهذا كافر كفراً أكبر لا خلاف فيه، ومن زعم أن القوانين الوضعية تحقق العدل بين الناس أكثر من الشرع فهذا لا شك في كفره، ومن ساوى بين الشرع الإسلامي وبين ما خالفه من القوانين الوضعية، فهذا أيضاً لا شك في كفره. أما من حكم بغير شرع الله تبارك وتعالى في بعض المسائل، كمن اتبع الهوى، بمعنى أنه يرفع راية الشريعة؛ لكنه خالف شرع الله بسبب رشوة أو لمحسوبية أو لغير ذلك من المعاني، فهذا يطلق عليه كفر, ولكنه كفر دون كفر؛ لأن هذا كفر عملي وليس كفراً اعتقادياً، يعني: هو يعتقد وجوب تحكيم شرع الله, ويرفع راية الشريعة, وتحكيم شرع الله، ثم هو في بعض المسائل يحكم بما يخالف شرع الله لهوى أو لرشوة أو لمحسوبية أو نحو ذلك، فهذه معصية، وهذا هو الذي روي فيه عن بعض السلف أنه كفر دون كفر، وليس الكفر الذي يذهبون إليه، على تفصيل في المسألة. يقول: والحق في ذلك أن القانون الذي يهدم نصوص الشرع التي لا تحتمل التأويل ويفسدها وينسخها؛ فإنه كفر وضلال لا يقول به ولا يعول عليه إلا المارقون الجاحدون. أما غير المنصوص عليه، أعني: ما لم يأتِ فيه آيات محكمة أو خبر متواتر أو إجماع، والمسائل الاجتهادية المدونة؛ فمخالفتها إلى قانون عادل لا يعد ضلالاً ولا كفراً. فهو يبين هنا الأشياء التي قد تنسب إلى الشرع وهي ليست من الشرع، كاجتهادات بعض الفقهاء، وهي اجتهادات قد تكون مرجوحة. فالعدول عن الاجتهاد المرجوح الذي لا يؤيده الدليل إلى قاعدة عدلية تتواءم مع قواعد الشرع في مراعاة العدل والإنصاف بين الناس ليس فيه مخالفة للشرع؛ لأن الشرع الذي نتكلم عنه هو الشرع الذي شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فأحكم الأمر فيه، وبين بياناً رفع كل لبس، وليس الشرع ما تخالف فيه الفقهاء، وكان مأخذه من الاجتهاد والرأي؛ فإن ذلك لا عصمة فيه من الخطأ بلغ رائيه من المكانة ما بلغ. وكثيراً ما تتشابه فروع الفقهاء مع مواد القانون، ولذا ألف بعض المتأخرين كتاباً في مطابقة المواد النظامية للفروع الفقهية؛ لأن مورد الجميع واحد وهو الرأي والاجتهاد، ورعاية المصلحة. فأيضاً لابد أن ننتبه إلى أن هناك قوانين لا بأس بالعمل بها، وهي القوانين التي تصطبغ بالصبغة الإدارية، أي القوانين واللوائح التي تنظم أحوال الناس من الناحية الإدارية، فهذه ليست داخلة في القانون الذي يذم العمل به، فإن هناك فرقاً بين الأحكام والحدود الشرعية وبين القوانين الإدارية، فإن القوانين الإدارية غالباً ما تدور مع مقاصد الشريعة في رعاية المصالح ودفع المفاسد، وتنظيم أمور العمل ونحو ذلك، فهذه لا تدخل فيما نحن بصدده. ولـشيخ الإسلام رحمه الله تعالى رسالة في هذا المعنى وهي: السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية. ولتلميذه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى كتاباً في نفس الموضوع، لكنه أوسع وأجمع وهو: الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، أو يسمى أيضاً: الفراسة المرضية في السياسة الشرعية.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يوم يبعثهم الله جميعاً...)

    يقول الله تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المجادلة:6]. قوله تعالى: (( أَحْصَاهُ اللَّهُ ))، أي: أحاط به علماً ولم يذهب عنه شيء، (( وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ))، أي: رقيب يعلمه ولا يغيب عنه. وهذه الآية مما ينبغي أن يتدبرها كل مؤمن؛ لأن الإنسان يأتي الذنوب والمعاصي، ثم مع تطاول الأمل ينسى، ولكن الله سبحانه وتعالى لا ينسى: لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى [طه:52]، فإن الذنوب ينساها الإنسان وهي قد دونت في صحيفته، وسوف يذكر بها يوم القيامة حينما يقول الله سبحانه وتعالى له: أتذكر يوم كذا؟ أتذكر يوم كذا؟ ويقرره بذنوبه، وهذا يقع حتى مع المؤمن، إلا أن من نوقش الحساب عذب، فأما العبد المؤمن فإن الله سبحانه وتعالى يقرره بذنوبه كلها، ويذكره بما نسي منها، حتى إذا أُسقط في يده، وظن أنه هالك لا محالة، يقول الله سبحانه وتعالى: (فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أسترها عليك اليوم)، لكن متى ما نوقش الإنسان في الحساب فهذه أمارة على أنه سوف يعذب. ولذلك قال الله تبارك وتعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [الانشقاق:7-8]، والحساب اليسير هو عرض الأعمال عليه فقط. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا [الانشقاق:10-11]، يعني: يقول: وا ثبوراه! وا هلاكاه! وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ [الانشقاق:12-14]. وقوله تعالى هنا: (( أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ))، هذه تقدمة للإخبار بسعة علم الله تبارك وتعالى؛ لأن هذه الآية تمهيد لما يأتي بعدها من النهي عن النجوى بالإثم تحذيراً وتنفيراً، وقد أكد ذلك بتفصيل علمه عناية بالمنهي عنه والمحذر منه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات...)

    قال الله تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:7] . ((مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى))، النجوى هنا مصدر معناه: التحدث سراً، مأخوذة من النجوة، وهي ما ارتفع من الأرض؛ لأن السر يصان عن الغير، فكأنه رفع من حضيض الظهور إلى أوج الخفاء. وقيل: بل سميت النجوى بهذا؛ لأن المتسارين يخلوان بنجوة من الأرض، أو هو من النجاة. وتخصيص العددين: (( مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ )) إلى آخره، إما لخصوص الواقعة، فكان قوم من المنافقين على هذا العدد اجتمعوا مغايظة للمؤمنين، أو لأن التناجي للمشاورة وأقله ثلاثة، يعني: أن أقل ما تقع به مشورة ثلاثة؛ لأن التشاور لابد له من اثنين يكونان كالمتنازعين، وثالث يرجح إحدى الكفتين. ومناسبة ضم الخمسة للثلاثة كون الخمسة أول مراتب ما فوقها في اليسرية، فذكرا ليشار بهما للأقل والأكثر، على أنه عمم الحكم بعد ذلك فقال: (( وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ ))، كالاثنين، (( وَلا أَكْثَرَ ))، كالستة وما فوقها، (( إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ))، أي: يعلم ما يكون بينهم في أي مكان حلُّوا؛ لأن علمه بالأشياء ليس لقرب مكاني حتى يتفاوت باختلاف الأمكنة. يعني: أن الله سبحانه وتعالى يعلم ما يكون بينهم من المناجاة في أي مكان؛ لأن علم الله سبحانه وتعالى بالأشياء ليس نتيجة قرب مكاني، فالمخلوق إذا علم شيئاً عن مخلوق، أو علم ما يتكلم به مخلوق آخر، فيكون بسبب قربه منه في المكان، لكنه يغيب عن الأماكن الأخرى، أما الله سبحانه وتعالى فعلمه ليس ناشئاً عن قرب مكاني حتى يتفاوت هذا العلم باختلاف الأمكنة وتفاوتها، وإنما الله سبحانه وتعالى معهم بعلمه في كل مكان وحيث ما حلو. روى ابن جرير ، عن الضحاك في هذه الآية قال: هو فوق العرش وعلمه معهم أينما كانوا. وقال ابن كثير : حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه الآية معية علمه تعالى، ولا شك في إرادة ذلك. ولا شك أن هذا هو التفسير الصحيح للآية، ولا يمكن أبداً أن يقال: إن الله سبحانه وتعالى بذاته موجود مع المخلوقين، ولذا أجمع السلف على أن الله سبحانه وتعالى عالٍ على عرشه، بائن من خلقه، منفصل عن هذا العالم، ولا يحل فيه كما قال الضالون في ذلك. وقال الإمام أحمد : افتتح الآية بالعلم واختتمها بالعلم. افتتح الآية بالعلم: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ، ثم ختمها بالعلم: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ، ليلفت نظرنا إلى أن المعية المذكورة هنا إنما هي بالعلم: إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى...)

    يقول الله تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ [المجادلة:8]. قوله تعالى: (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ))، قال مجاهد : هم اليهود لعنهم الله، (( ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ ))، أي: يتناجون فيما بينهم ويتسارون بما هو إثم وتعد على المؤمنين، وتواص بمخالفة النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو السعود : وذكره صلى الله عليه وآله وسلم بعنوان الرسالة بين الخطابين المتوجهين إليه لزيادة تشنيعهم واستعظام معصيتهم. ثم قال تعالى: (( وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ ))؛ لأنهم كانوا يلحنون حينما يحيون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإما أنهم كانوا يحيونه بمثل قولهم: السام عليك، يريدون به الموت السام عليك، وكأنهم يدعون على النبي عليه الصلاة والسلام بأن يموت، ولذلك غضبت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها حينما قال رجل يهودي ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام، فقالت: وعليك السام واللعنة، في حين أن الرسول عليه الصلاة والسلام رد عليه وقال: (وعليك)، فبين النبي عليه الصلاة والسلام لـعائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أنه رد عليه مثل ما قال، لكن أرشدها إلى الترفق في الخطاب، وفي تأويل ذلك كما قلنا: وعليك مثلما قلت، أو: والسام عليك، يعني: الموت مكتوب علينا جميعاً، وكل مخلوق سوف يموت. ومن ذلك تحيته صلى الله عليه وسلم بما نسخه الإسلام من تحايا الجاهلية، فالله سبحانه وتعالى حيَّا نبيه عليه الصلاة والسلام بالسلام في قوله تعالى: وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [الصافات:181]، فهذا هو الذي يليق أن يحيا به نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم. أما هم فإنهم كانوا يحيونه بهذه اللفظة، وإما أنهم كانوا يحيونه بشيء من تحايا الجاهلية التي نسخها الإسلام. يذكر بعض العلماء أن تحية أهل الكتاب إذا ألقوا السلام أن يقال لهم: وعليكم. وللأسف الشديد أن من المسلمين الآن من يقول: السام عليكم؛ فيسقط اللام بغير قصد، ولا يلتفت إلى خطورة هذه اللفظة، وأنه تشبه باليهود فيها، لكن حقيقة السلام: السلام عليكم، حتى قال بعض العلماء: إن العلة في الرد المقتضب على أهل الكتاب إذا حيونا بأن نقول لهم: وعليكم؛ خشية أن يكونوا يلحنون في السلام. قال بعض العلماء: أما إذا تحققت وتثبت من أن الكتابي لم يلحن وقالها صحيحة صريحة فلا بأس أن ترد عليه السلام بنفس اللفظ الذي قاله، أخذاً بعموم قول الله تبارك وتعالى: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86]. (( وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ ))، يعني: كأنهم يقولون في أنفسهم: ها نحن نسخر من النبي صلى الله عليه وسلم، وها نحن نؤذيه بقولنا: السام عليك، أو بالتحريف في التحية استهزاءً وسخرية، وأيضاً بالتناجي المذموم فيما بيننا مكيدةً للنبي عليه الصلاة والسلام، فلو كان محمد هو عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهلا عجل الله عقوبتنا بذلك. فرد الله سبحانه وتعالى عليهم قائلاً: حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ، يعني: يكفي قائلي ذلك تعذيبهم في جهنم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم...)

    نهى الله تبارك وتعالى المؤمنين وحذرهم أن يجترموا في النجوى ما اجترمه أولئك، فقال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى * إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [المجادلة:9-10]. ((وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ))، أي: بطاعة الله وما يقربكم منه عز وجل، (( وَالتَّقْوَى ))، أي: في اجتناب ما يأثم، (( وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ))، يعني: سيجزيكم بما اكتسبتم مما أحصاه عليكم. ثم شجع الله سبحانه وتعالى المؤمنين على قلة المبالاة بمناجاة أعدائهم، وأرشدهم إلى ألا يبالوا بمناجاة أعدائهم، وبين لهم أنها لا تضرهم ما داموا على وصاياه، متكلين عليه تبارك وتعالى، فقال عز وجل: إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ ، أي: النجوى التي ذمها الله سبحانه وتعالى؛ و(أل) هنا للعهد، لأن هناك من النجوى ما هو خير، كما قال عز وجل: وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى . إذاً: النجوى يمكن أن يتناجى أناس بكلام فيه بر وتقوى وخير، لكن قوله تبارك وتعالى هنا: إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ ، هذه (أل) العهدية، والمراد بها النجوى التي سبق ذمها، وليست كل نجوى. وهي كقول الله تبارك وتعالى: فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا [المزمل:16] الرسول (أل) في (الرسول) للعهد؛ لأن الرسول المقصود به هنا موسى عليه السلام. ومثل قوله: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]، فالرسول هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الذي أنزل عليه القرآن، كذلك هنا: إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ أي: التي ذمها الله، والمزين لهذه النجوى بالسر والحامل عليها هو الشيطان. وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا المقصود هنا: إما الشيطان وإما التناجي المذكور، يعني: وليس الشيطان بضارهم شيئاً، أو: وليس التناجي الذي يحصل بأمر من الشيطان بضارهم شيئاً، ((إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ))، أي: بمشيئته عز وجل. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ، يعني: بالمضي في سبيله، والاستقامة على أمره، وانتظار النصر على إثره. قال القاشاني : إنما نهوا عن النجوى لأن التناجي اتصال واتحاد بين اثنين في أمر يختص بهما لا يشاركهما فيه ثالث، وللنفوس عند الاجتماع والاتصال تعاضد وتظاهر يتقوى ويتأيد بعضها ببعض فيما هو سبب الاجتماع، لخاصية الهيئة الاجتماعية التي لا توجد في الأفراد، فإذا كانت شريرة -مجموعة من الناس غلب عليها الشر أو هي من الأشرار- فإنهم يتناجون في السر، ثم اجتماعهم يزيد ملكة الشر عندهم. ويقوى فيهم المعنى الذي يتناجون به بالاتصال والاجتماع، ولهذا ورد هذا النهي بعد قوله: وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ، بالإثم الذي هو رذيلة القوى البهيمية، والعدوان الذي هو رذيلة القوى الغضبية، وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ ، التي هي القوة النطقية بالجهل وغلبة الشيطانة. ألا ترى كيف نهى المؤمنين بعد هذه الآية عن التناجي بهذه الرذائل المذكورة وأمرهم بالتناجي بالخيرات؛ لأن هذا يقوي المؤمنين ويؤزهم أزاًً على المزيد من المناجاة بالبر والتقوى، فقال: (( وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى )). قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وقد ورد في السنة النهي عن التناجي حيث يكون في ذلك إيذاء لمؤمن، فقد روى الإمام أحمد بسنده، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما؛ فإن ذلك يحزنه)، وهذا الحديث متفق عليه. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون الثالث إلا بإذنه؛ فإن ذلك يحزنه)، وهذا انفرد بإخراجه مسلم . وجمهور العلماء على مراعاة الأخذ بهذا الشرط الذي أشار إليه ابن كثير ؛ حيث ورد في السنة النهي عن التناجي حيث يكون في ذلك تأذ على المؤمن. قالوا: إذا كانوا ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث فإن ذلك يحزن هذا الثالث، فجمهور العلماء على تأويل الحديث بأنه: إذا تأكدتم أن ذلك لا يحزنه فلكما أن تتناجيا دونه. وأخذ بعض العلماء بظاهره: أن تناجي الاثنين دون الثالث يحزنه، فبالتالي يحمل الحديث على ظاهره ولا داعي لهذا الشرط؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن ذلك يحزنه، إذاً هو يحزنه حتى لو ظن ظان أنه لا يحزنه. فالأحوط والله تعالى أعلم الأخذ بظاهر الحديث، فلا يتناجى الإنسان مع أخيه إلا إذا كان العدد أكثر من ثلاثة؛ ففي هذه الحالة يخرج من مخالفة الحديث، فلو كانوا أربعة مثلاً لم ينه من أن يتناجى اثنان دون الاثنين الآخرين. ومما في معنى هذا الحديث: أن يتكلم الاثنان بصوت عال لكن بلغة لا يفهمها الثالث، فهذا أيضاً في معنى المناجاة؛ نعم هي ليست منجاة لأنها ليست في السر؛ لكنها تؤدي إلى نفس الشيء، لأنه ربما يظن أنهما يدبران له سوءاً، أو يذكرانه بسوء في كلام لا يفهمه، وتوجد حالات مستثناة يمكن استنباطها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا ... )

    يقول الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة:11]. هذا تعليم منه تعالى للمؤمنين بالإحسان في أدب المجالس، وأدب المجالس باب مستقل من أبواب الأدب، صنف العلماء فيه كتباً مستقلة، وهو موضوع طويل لكن نمر عليه مروراً سريعاً ضمن تفسير الآية. فهنا يعلم الله سبحانه وتعالى المؤمنين ويؤدبهم على الإحسان في أدب المجالس. ومن هذه الآداب: أن يفسح المرء لأخيه ويتنحى توسعة له. وارتباط هذه الآية الكريمة بما قبلها ظاهر؛ لأنه في الآية الماضية نهى عن التناجي والسرار ، فلما نهى عن التناجي والسرار علم معه الجلوس مع الملأ، فذكر آدابه. يعني: أن التناجي لا يكون إلا في مجلس، فذكر آداب هذا المجلس، ورتب على امتثالهم فسحه لهم فيما يريدون من التفسح في المكان والرزق والصدر، فتأمل الفعل وتأمل المكافأة! أما الإفساح فهذا شيء نشعر به من بركات مجالس المسلمين واجتماعهم وتزاحمهم في مجالس الرحمة والذكر، ونلاحظ أن الناس إذا ضيقت على أنفسها وبخلت تضيق عليها الأمور، وربما يريد شخص أن يدخل في الصف فإذا أخذ الناس الأمر بسهولة تجد أن الفسحة تحصل في الصف وذلك من بركة الإسلام وبركة الصلاة وبركة امتثال هذا الأمر، وإذا أتى رجل وحاول أن يدخل في الصف فقد يأتي ثان وثالث مع أن الناس كانوا يتصورون أن أول واحد هذا لن يكفيه المكان، فتجد أن البركة تحصل. قال ابن كثير : وذلك أن الجزاء من جنس العمل، كما جاء في الحديث الصحيح: (من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)، ولهذا أشباه كثيرة، وقد جمع أحد إخواننا الأفاضل الدكتور سيد حسين وأحفاده قاعدة: الجزاء من جنس العمل في كتاب كبير حافل بهذه الأشباه التي يشير إليها الإمام ابن كثير هنا. قال قتادة : نزلت هذه الآية في مجالس الذكر، وذلك أنهم إذا رأوا أحدهم مقبلاً ضنوا بمجالسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا )). ((وإِذَا قِيلَ انشُزُوا)) أي: انهضوا، يعني أن التوسعة لن تتم إلا إذا قام البعض أو ارتفعوا في المجالس. أو: انهضوا عن مجلس الرسول عليه الصلاة والسلام إذا أمرتم بالنهوض عنه، ولا تملوه بالارتكاز فيه. يعني: إذا أمركم الرسول صلى الله عليه وسلم أن تنهضوا عنه وتنصرفوا فانصرفوا، ولا تملوه بالارتكاز في المكان وعدم الحركة. ((يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ))، أي: يرفع الله المؤمنين بامتثال أوامره وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، والعالمين بها الجارين على موجبها بمقتضى علمهم، درجات دنيوية وأخروية. قال الناصر : لما علم أن أهل العلم بحيث يستوجبون عند أنفسهم وعند الناس ارتفاع مجالسهم خصهم بالذكر عند الجزاء؛ ليدخل عليهم ترك ما لهم من الرفعة في المجلس تواضعاً لله تبارك وتعالى. نلاحظ هنا أن الأمر والتكليف شمل المؤمنين جميعاً: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا))، ولكنه عند ذكر الجزاء فصّل فقال: ((يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ))؛ لأن أهل العلم في الغالب يصدرون في المجالس وترفع مجالسهم؛ فخصهم بالذكر عند الجزاء ليسهل عليهم ترك ما خصوا به من الرفعة في المجالس؛ تواضعاً لله تبارك وتعالى. وهذا كما قال الشهاب : من مغيبات القرآن، لما ظهر من هؤلاء في سائر الأعصار من التنافس في رفعة المجالس ومحبة التصدير، يعني: كأن هناك بعض من ينتسب إلى العلم ينشغل كثيراً بموضوع الرفعة في المجالس، وأن يكون له الصدارة فيها، ويحب الظهور على مقعد أو في مكان مميز، وهذا لم يكن معروفاً في زمن الصحابة رضي الله تعالى عنهم. وفي كلام الزمخشري ما يشير إلى أنه من عطف الخاص على العام تعظيماً له بعدّه كأنه جنس آخر. يعني أن قوله: (( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ))، يعني: ما عدا أهل العلم، أما أهل العلم فهم فئة مستقلة. قول الزمخشري : إن هذا من باب عطف الخاص على العام، بمعنى أن قوله تعالى: (( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ))، هذا عام فيشمل في ضمن ما يشمل أهل العلم، ثم خص من هذا العموم أهل العلم بقوله: (( وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ))، فهذا كقوله تعالى: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:98]، فهذا تخصيص بعد تعميم؛ لأن جبريل وميكال من الملائكة، ولذا أعاد الموصول في النظم فقال: ((يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ))، ولم يقل: (يرفع الله الذين آمنوا منكم وأوتوا العلم) وإنما كرر (الذين)، فقال: ((يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)). والمراد بالعلم: علم ما لابد منه من العقائد الحقة والأعمال الصالحة. وفي الآية استحباب التفسح في مجالس العلم والذكر وكل مجلس طاعة. ومن آداب المساجد أن يفسح الإنسان لأخيه، خاصة عند الزحام في بعض التجمعات مثل صلاة العيد والجمعة ودروس العلم، فينبغي أن يحرص المسلمون على التفسح في المجالس والتسامح في هذا الأمر. ويفهم من الأمر بالتفسح النهي عن إقامة شخص ليجلس أحد مكانه، فقد جاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه فيجلس فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا)، رواه الإمام أحمد والشيخان. وهذا التعبير من القاسمي رحمه الله تعالى دقيق: إذ إنه يفهم من الأمر بالتفسح النهي عن ضد ذلك، فمن جلس في مجلس فيه زحام وقال للناس: تفسحوا، فليس معنى تفسحوا قوموا، بل: كونوا جالسين ولكن كل واحد يفسح لكي يجد الآتي مكاناً فيجلس فيه، وإلا لو كان يجوز للشخص القادم أن يقيم واحداً ويجلس مكانه لما أمروا بالتفسح. فإذاً يفهم من الأمر بالتفسح النهي عن إقامة شخص ليجلس أحد مكانه، فهذا ممنوع شرعاً، خاصة في المكان العامر لجميع المسلمين، كالمساجد أو غيرها من الأماكن العامة. لكن لو كان في بيته وسلطانه، وله مكان خاص فلا يجوز لأحد أن يجلس فيه؛ لأن هذا خاص وفي ملكه، وقال النبي عليه السلام: (لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه)، فالإنسان إذا دخل عند شخص ضيفاً لا يتحرى مكان الصدارة أو المكان الخاص بصاحب البيت، مثل كرسي المكتب الخاص به، أو مقعد معين له صدارة معينة، بل يترك هذا لصاحب البيت، فإن أذن له فلا بأس. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن افسحوا يفسح الله لكم)، رواه الإمام أحمد . وفي رواية بلفظ: (لا يقوم الرجل للرجل من مجلسه، لكن افسحوا يفسح الله لكم)؛ وهذا الكلام يقودنا إلى موضوع آخر من الموضوعات المتعلقة بآداب المجالس، وهو: حكم القيام للشخص القادم.

    حكم القيام للقادم

    يقول ابن كثير : وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال: فمنهم من رخص بذلك محتجاً بحديث: (قوموا إلى سيدكم)، رواه البخاري . ومنهم من منع ذلك محتجاً بحديث: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً، فليتبوأ مقعده من النار). ومنهم من فصل فقال: يجوز عند القدوم من سفر، وللحاكم في محل ولايته، كما دل له قصة سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه، فإنه لما استقدمه النبي صلى الله عليه وسلم حاكماً في بني قريظة، فلما رآه مقبلاً قال للمسلمين: (قوموا إلى سيدكم)، وما ذاك إلا ليكون أنفذ لحكمه، والله تعالى أعلم، فأما اتخاذه ديدناً فإنه من شعار العجم، وقد جاء في السنن: (أنه لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا جاء لا يقومون له، لما يعلمون من كراهته صلى الله عليه وسلم لذلك). أما القول بمنع القيام للقادم فهو مستنبط من حديث: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، والحكم الذي نستنبطه من هذا الحديث: تحريم محبة الوارد -القادم- أن يقوم الناس له. وفي هذا دلالة واضحة وصريحة على تحريم حب القادم أن يتمثل له الرجال قياماً، وهذا الأمر في غاية الخطورة. أما قيام الناس للقادم فهذه فيها الخلاف الذي سنذكره، وبالتالي هذا فيه إنذار خطير جداً للرؤساء والوجهاء والمدراء والنظار والمدرسون.. إلى آخره إذا وقع في قلبه محبة أن يقوم الناس له، بل ربما شعر أنهم هدموا حقه، وأنهم أساءوا إليه، وأنهم لا يحترمونه؛ لأنهم لم يهبوا قياماً إذ رأوه قادماً. هذا أولاً. ثانياً: الاستدلال بها في حق الجالسين. وفيه التفصيل الآتي: نأخذ بمفهوم الحديث، أو بتعبير أدق: استدلالاً بقاعدة سد الذرائع، نستنبط منها أنه يكره للجالسين القيام للوارد إذا أقبل عليهم إلا في حالات مستثناة، لماذا قلنا: يكره؟ لأن الدليل هنا لا يتعرض لذلك مباشرة، وإنما يكره؛ لأنه قد يكون في تعويده القيام له كلما دخل زرع لمحبة ذلك في قلبه، فإذا توقفوا عن بذل ذلك مرة من المرات سوف يبغض ذلك ويكرهه، ويرى أنهم لم يحترموه، فبالتالي يقع في الوعيد المذكور في هذا الحديث. أما من أجاز ذلك؛ فقد استدل بقول النبي عليه الصلاة والسلام في سعد بن معاذ : (قوموا إلى سيدكم). في الحقيقة هذا الحديث كثير من الناس يستدلون به؛ لأن لفظه يدل على التعظيم، لكن يرد عليهم بقوله: (قوموا إلى سيدكم فأنزلوه)، وذلك لأن سعد بن معاذ رضي الله عنه كان مجروحاً، وقد استشهد رحمه الله تعالى من أثر تلك الجراح، وكان قد أتى على دابة، فلما رآه النبي عليه السلام مقبلاً وهو مجروح قال: (قوموا إلى سيدكم فأنزلوه)، فهذا القيام كان لأجل إنزاله؛ لأنه كان جريحاً، فأيضاً هذا مما يرد به على من جوز القيام للقادم. وجاء أيضاً في السنن: لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا جاء لا يقومون له؛ لما يعلمون من كراهته صلى الله عليه وسلم لذلك، فهذه أقوى حجة بعيداً عن الأحكام الفقهية الدقيقة، لكن يكفي أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يكره ذلك، وأن الصحابة مع أنهم أشد الناس تعظيماً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومع ذلك كانوا يتحاشون هذا.

    حكم المجازفة في المديح

    بمناسبة الكلام على هذا الأمر يحصل أحياناً نوع من الترخص أو التجافي من الإخوة في مخالفة بعض الآداب الشرعية في عامة المناسبات الاجتماعية، وخاصة في حفلات الزواج وما شابهها، نجد الإخوة يسنون سنة سيئة جداً وسنة قبيحة، وهي سنة المجازفة في المدح؛ لأننا بهذا المدح نعود إخواننا على هذه الأساليب التي لا تليق بالمسلمين، وإنما هي نفخ في الأشخاص ومجازفة، فلماذا نكذب؟ والرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن مثل هذا المدح حيث قال: (إياكم والتمادح فإنه الذبح)، وقال النبي عليه الصلاة السلام: (إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب)، فهذا هو اللائق مع من يجادلون في المدح، ولو أن الناس الذين يجادلون في المدح التفتوا لهذا الحديث لكان خيراً لهم. ولو أن أحد المادحين حثي بالتراب لكانت موعظة عملية تجعلهم يكفون عن هذا الأمر، وأحياناً الواحد كلما حضر مناسبة لبعض الإخوة يجدهم يتكلمون مع بعض الشيوخ بكلام غريب جداً، هل كل من يتكلم يبدأ بالمديح في كل مناسبة، ينبغي أن نتنزه عن مثل هذا السلوك، وليس هذا من سلوك السلف، وعلينا أن نتذكر قول الله تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ [النساء:49]. فمن كان من عباد الله باراً وتقياً وصالحاً لم ينقصه الله حقه، بل يضمن من عمل أعمالاً صالحة أنها عند الله سبحانه وتعالى، فعلينا أن نعد السيئات ولا ننشغل بالمجازفة في المديح حتى يشيع الدجل والنفاق كما يشيع في الأوساط السياسية، فعلينا أن ننزجر وأن نكف عن المجازفة في المديح؛ لأن ذلك يكون فتنة، فنرجو من الإخوة أن يلتفتوا لهذا الأمر. فمن لقي عالماً أو رجلاً صالحاً أو شيخاً مسناً فقبل رأسه أو يده خاصة الوالدين، فلا بأس، لكن لا تستبدل هذه التحية بتحية وأدب الإسلام في المصافحة وإلقاء السلام؛ نعم هي رخصة لكننا نبالغ في الرخص ونضاعفها؛ فهذا أيضاً مما يخالف هدي السلف الصالح رحمهم الله تعالى.

    حكم المعانقة عند اللقاء

    يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال: فمنهم من رخص بذلك محتجاً بحديث: (قوموا إلى سيدكم). ومنهم من منع ذلك محتجاً بحديث: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار). ومنهم من فصل فقال: يجوز عند القدوم من سفر. وهذا عليه دليل صحيح، وهو قول بعض الصحابة للنبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! أرأيت إذا لقي أحدنا صاحبه أيلتزمه ويعانقه؟ قال: لا. قال: أينحني له؟ قال: لا. قال: يصافحه؟ قال: نعم)، فهذا هو الأدب. وفي الأثر: أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا إذا تلاقوا صافح بعضهم بعضاً، وإذا قدموا من سفر تعانقوا، فالمعانقة تكون عند القدوم من السفر، أما عند الملاقاة العادية فالأصل هو المصافحة. فموضوع المعانقة عند كل لقاء مخالف لأدب السلف ولهدي النبي عليه الصلاة والسلام في تأديبه أصحابه، فإذا كنا نحن ننكرها على النساء مع أنها من العادات المتأصلة في مجتمعات النساء؛ لكن الواقع أن المصافحة أدب لكل المسلمين رجالاً ونساء. أما المعانقة والالتزام فيمكن عند القدوم من سفر، أو كما قال العلماء: إذا غاب عنه مدة طويلة واشتاق إلى أخيه، لكن أن تكون ديدناً وعادةً وشيئاً يستبدل عن الأدب الشرعي الذي هو مجرد المصافحة، فهذا مخالف لآداب السلف رحمهم الله تعالى.

    تفصيل ابن كثير في حكم القيام للقادم

    وبعضهم قال: يجوز للحاكم في محل ولايته، كما دلت عليه قصة سعد بن معاذ ، وسبق الجواب عن الاستدلال بها، والعلماء الذين أجازوا ذلك قالوا: القيام له مما يجعل له هيبة وسطوة؛ بحيث يستجيب الناس لحكمه وينقادون له. يقول: فأما اتخاذه ديدناً فإنه من شعار الأعاجم. ولذلك فإن المجتمعات الإسلامية يتشبهون دائماً بالكفار ويعظمون هذا الأدب، فإذا دخل شخص فالكل يقوم ويصفق. وعلى قول بعض العلماء: يمكن أن يكون تقبيل اليدين والرأس مثلاً للوالدين كنوع من البر والإكرام، وأنا أعرف رجل أعمال كان ناجحاً جداً رحمه الله تعالى، فكان يحكي لي أن أباه كان يحب أن يقبل يده، فيمد له يده ليقبلها، فعندما ينتهي يقول له: قم وستفلح، وبالفعل قد أفلح هذا الرجل جداً، فالشاهد أن هذا يجوز إذا كان مما يرضي الوالدين، فيدخل تحت قوله: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24] . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: لم يكن من عادة السلف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أن يعتادوا القيام كما يفعله كثير من الناس. بل قد قال أنس بن مالك رضي الله عنه: لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له لما يعلمون من كراهته لذلك، ولكن ربما قاموا للقادم من مغيبه تلقياً له، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام لـعكرمة ، وقال للأنصار لما أتى سعد بن معاذ : (قوموا إلى سيدكم)، وكان سعد متمرضاً بالمدينة، وكان قد قدم إلى بني قريظة شرقي المدينة. والذي ينبغي للناس أن يعتادوا اتباع السلف على ما كانوا عليه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم خير القرون، ولا يعقل أن يكون هناك خير حجبه الله عن خير القرون ثم نستأثر نحن بهذا الخير؛ لأن شعارنا الذي نرفعه ونتشدق به ونفخر به: أن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وأن أي أمر يرد علينا فنحن نقول: لو كان خيراً لسبقونا إليه، ولا نقول كما قال الكفار: لو كان خيراً ما سبقونا إليه، وحينها فلا يعقل أن يختصنا الله بخير يحجبه ويحرم منه أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام وخير القرون. يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: والذي ينبغي للناس أن يعتادوا اتباع السلف على ما كانوا عليه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم خير القرون، وخير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يعدل أحد عن هدي خير الخلق وهدي خير القرون إلى ما هو دونه. وينبغي للمطاع أن يقرر ذلك مع أصحابه؛ فهي في الحقيقة مسئولية الرئيس أو الزعيم أو المدير أو المدرس؛ إذ هو الذي ينبغي أن يعلن هذا الأمر عند الناس ويؤدبهم عليه، فيقول لهم: إذا دخلت فلا تقوموا؛ لأني أكره ذلك، ويقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه كان أحب إنسان إلى الصحابة ومع ذلك كانوا يطيعونه في عدم القيام؛ لأنهم يعرفون أنه يكره ذلك، ويبين لهم أن لنا في ذلك أسوة حسنة.. إلى آخره. نعم قد توجد الآن حالات من الاضطراب يحتاج معها بعض المدرسين والمدراء وفي بعض المرافق إلى استخدام القيام، وهذا موضوع آخر يدخل في باب الفتوى، وكل سؤال له جواب خاص به، لكننا نتكلم عن القاعدة العامة. يقول: وينبغي للمطاع أن يقرر ذلك مع أصحابه؛ بحيث إذا رأوه لم يقوموا له، ولا يقوم لهم إلا في اللقاء المعتاد. الكلام هنا في موطن يكون والناس فيه جلوس، ثم يدخل عليهم واحد فيقومون له، فهذا هو محور كلامنا الآن، لكن في اللقاء المعتاد هذا أمر آخر. فأما القيام لمن يقدم من سفر ونحو ذلك تلقياً له فحسن. وإذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام، ولو ترك ذلك لاعتقد أن ذلك بخس في حقه، ولم يعلم العادة الموافقة للسنة؛ فالأصلح أن يقام له؛ لأن ذلك إصلاح لذات البين، وإزالة للتباغض والشحناء. الكلام هنا مقيد بشروط: وذلك بأن تكون هذه عادة عند الناس، وهي إكرام الجائي بالقيام، ولو ترك ذلك لاعتقد أن ذلك بخس في حقه، أو أنهم يقصدون إهانته، وأنهم لا يحترمونه، وهذا الجائي لم يعلم العادة الموافقة للسنة، فيمكن أن يقوم له لإصلاح ذات البين، ولإزالة البغضاء والتشاحن، لكن نقول: فيقام له ثم يبين له بعد ذلك أن الامتناع سنة.. إلى آخره. يقول: وأما من عرف عادة القوم الموافقة للسنة، فليس في ترك ذلك إيذاء له. أي: أما في المجتمعات الملتزمة بالسنة، المعظمين لهدي الرسول عليه الصلاة والسلام وهدي السلف؛ ففي هذه الحالة إذا ترك القيام للقادم لا يحتمل أن يكون ذلك إيذاء أو احتقاراً له أو عدم احترام. وليس هذا القيام هو القيام المذكور في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، فإن ذلك أن يقوم وهو قاعد، وليس أن يقوم لمجيئه إذا جاء. هذا أيضاً مما يوضحه الإمام ابن كثير ، فهو يرى أن القيام في هذه الحالة ليس هو القيام المذكور في الحديث، يقول: لأن القيام المذكور في الحديث ليس القيام للجائي تلقياً له، وإنما هو القيام لمن يدخل المجلس فيقوم الناس له ثم لا يجلسون حتى يجلس، وهذا يظهر جلياً في دواوين الملوك. هذا رأي ابن كثير ، وإن كان قد يكون فيه شيء من النظر، وللعلماء وجهات نظر مخالفة لبعض، لكن هو يرى أن الحديث يشمل من هو قاعد وهم قيام، لهذا فرقوا بين أن يقال: قمت إليه وقمت له، والقائم للقادم ساواه في القيام بخلاف القيام للقاعد، والقاعد إذا قام للتلقي فهو قائم مساو له، لكن في الصورة التي يذكرها ابن كثير يكون هذا الشخص قاعداً وهم قيام على رأسه. قال: وقد ثبت في صحيح مسلم : (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم قاعداً في مرضه، وصلوا قياما، فأمرهم بالقعود، وقال: لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضهم بعضاً)، فقد نهاهم عن القيام في الصلاة وهو قاعد؛ لئلا يشبه الأعاجم الذين يقومون لعظمائهم وهم قعود. وجماع ذلك أن الذي يصلح اتباع عادة السلف وأخلاقهم، والاجتهاد بحسب الإمكان، فمن لم يعقل ذلك أو لم يعرف أنه العادة، وكان في ترك معاملته بما اعتاده الناس من الاحترام مصلحة راجحة، فإنه يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، كما يجب فعل أعظم الصلاحين بتفويت أدناهما. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية كما ذكرنا في هذه المسألة: فمن لم يعتد ذلك. يعني: عادات السلف، أو لم يعرف أنه العادة، وكان في ترك معاملته بما اعتاده الناس من الاحترام مصلحة راجحة.. فإنه يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما؛ خاصة بالذات لو كان هذا الشخص معظماً عند أتباعه، وخلفه أناس وأتباع كثيرون. يقول ابن كثير : روي عن ابن عباس والحسن البصري وغيرهما: أنهم قالوا في قوله تعالى: (( إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا )): يعني: في مجالس الحرب، قالوا: ومعنى قوله: (( وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا ))، أي: انهضوا للقتال. وقال قتادة : (( وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا ))، أي: إذا دعيتم إلى خير فأجيبوا. وقال أبو القاسم : إذا دعيتم إلى الصلاة فارتفعوا بها. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كانوا إذا كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم في بيته فأرادوا الانصراف أحب كل منهم أن يكون هو آخرهم خروجاً من عنده، فربما يشق ذلك عليه صلى الله عليه وسلم، وقد تكون له الحاجة، فأمروا أنهم إذا أمروا بالانصراف أن ينصرفوا، كقوله تعالى: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا [النور:28]. ولا تنافي بين هذه الأقوال؛ لأن كلاً منها تفسير للفظ العام ببعض أفراده وما يصدق عليه إشارة إلى تناوله لذلك؛ لا أن أحدها هو المراد دون غيره، فذلك ما لا يتوهم، فقد كثر مثل ذلك في تفاسير السلف في كثير من الآي، وكله مما لا اختلاف فيه كما بيناه مراراً. حاصل الكلام: أن الآية إذا وردت فيها أقوال عدة لا تتصادم ويحتملها معنى الآية، فالأصل هو الحمل على هذا العموم؛ إذا قيل لكم: تفسحوا في المجالس، سواء قلنا: في مجالس العلم، أو صلاة الجمعة، أو صلاة العيد، أو الاجتماعات عموماً، أو الحرب (( وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا )) يعني: انهضوا للقتال (( فَانشُزُوا ))، أو (( وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا ))، بمعنى: أن صاحب الدار أمر الحاضرين بالانصراف (( فَانشُزُوا )) أي: انصرفوا، فتضاف إلى آداب الاستئذان، مثل قول الله تبارك وتعالى: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [النور:28]، فتضاف أيضاً على هذا القول إلى المعنى العام.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول...)

    قال الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المجادلة:12]. (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ ))، يعني: إذا ساررتم الرسول صلى الله عليه وسلم، (( فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ))، أي: قبل مسارته في بعض شئونكم قدموا صدقة لله تبارك وتعالى. وفي ذلك تعظيم لمقام النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه إحسان إلى الفقراء والمساكين ببذل الصدقة قبل مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه تمييز بين المؤمن والمنافق. ((ذَلِكَ))، أي: ذلك التقديم ((خَيْرٌ لَكُمْ))، أي: لأنفسكم؛ لما فيه من مضاعفة الأجر والثواب، والقيام بحق الإخاء بالعون لذوي المسكنة بالمواساة والمؤنة. ((وَأَطْهَرُ))، أي: أطهر لأنفسكم من رذيلة البخل والشح، ومن حب المال وإيثاره الذي قد يكون من شعار المنافقين. وكأن الأمر بالتصدق المذكور نزل ليتميز المؤمن من المنافق؛ فإن المؤمن تسخو نفسه بالإنفاق كيفما كان، والثاني يغص به ولو في أضر الأوقات، ومعظم أوامر السورة هو التصدق. ((فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا))، ما تتصدقون به أمام مناجاتكم الرسول صلوات الله عليه. ((فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ))، لمن لم يجده، إذ لم يحرجه ولم يضيق عليه رحمة منه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات ...)

    قال تعالى: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المجادلة:13]. هذا الاستفهام معناه التقريع، يعني: أخفتم من تقديم الصدقات الفاقة والفقر؟ وهذا توبيخ بأن مثله لا ينبغي أن يشفق منه، فمثل هذا التقديم، وهو تقديم الصدقة والإحسان إلى الفقراء، ليس مما يشفق الإنسان منه، للزوم الخلف للإنفاق لزوم الظل للساقط بوعد الله الصدق. وهذه هي سنة الله الجارية: أن كل من أنفق يخلف الله عليه، وهذه الدعوة التي يدعوها الملكان في كل صباح: (اللهم أعط منفقاً خلفاً، اللهم أعط ممسكاً تلفاً). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث أحرص عليهن: منها: ما نقص مال من صدقة). بما أن الإخلاف يلازم الإنفاق لزوم الظل للساقط فالنفقة في سبيل الله والصدقة لا ينبغي أن يشفق منها الإنسان، فالإنسان قد يشفق ويخشى الفاقة والفقر إذا أنفق؛ ولكن الله سبحانه وتعالى ضمن للمنفق أن يخلف عليه، وضمن له الثواب الجزيل، والفضائل الكثيرة المعروفة في ثواب الصدقة، فهل مثل هذا يشفق الإنسان منه؟ (( فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا ))، يعني: إذ لم تفعلوا ما ندبتم إليه من تقديم الصدقة، وشق ذلك عليكم، (( وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ))، بأن رخص لكم ألا تفعلوا ذلك رفعاً للحرج عنكم (( فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ))، يعني: فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات؛ فإن ذلك يكسبكم ملكة الخير والفضيلة. ((وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ))، فيجزيكم بحسبه. وقوله تعالى: ((إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ)) إلى آخر الآية، منسوخة بالتي بعدها، وفيه دليل على جواز النسخ بلا بدل خلافاً لمن أبى ذلك، وقد كانت تكاد تتفق كلمة المفسرين على أن هذه الآية نسخت بالتي بعدها، ولا يشترط أن يكون المقصود بالنسخ نسخ الحكم ورفعه بالكلية، فهذا أحد معاني النسخ.

    نقل عبارات السلف في معنى الآية

    أما عبارات السلف فهم يطلقون النسخ ويريدون به عدة معان، من ضمنها الإفهام بعد الإيهام، وهو أن يأتي نص فيه نوع من الإيهام غير واضح في دلالته، فيأتي نص آخر يوضحه ويبينه، فيقول بعض السلف في مثل هذا: هذه الآية نسختها آية كذا، يعني: وضحتها وبينت المقصود منها. أما المعنى الأصولي للنسخ، وهو أن يرد دليل شرعي متراخياً عن دليل شرعي آخر مقتضياً خلاف حكمه، فهذا المعنى أحياناً يكون هو المراد وأحياناً لا يكون هو المراد من النسخ، كما سبق أن بينا ذلك مراراً. فاشتهر القول بالنسخ في كتب التفسير كلها تقريباً. فقد روى ابن جرير عن مجاهد قال: قال علي رضي الله عنه: إن في كتاب الله عز وجل لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً [المجادلة:12]، قال علي رضي الله تعالى عنه: كان لي دينار فاشتريت به عشرة دراهم، فكلما ناجيت الرسول صلى الله عليه وسلم قدمت بين يدي نجواي درهماً، ثم نسخت فلم يعمل بها أحد. وروي عن ابن عمر أنه قال: ثلاث فضل بهن علي رضي الله تعالى عنه: ما يسرني أن لي بها الدنيا، وذكر منها آية النجوى هذه، وذكر منها: إعطاءه الراية في خيبر، وذكر منها: تزويج النبي صلى الله عليه وسلم إياه من فاطمة رضي الله تعالى عنها. يقول القرطبي : ما روي عن علي رضي الله عنه في هذه الآية ضعيف؛ لأن الله تعالى قال: (( فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا ))، وهذا يدل على أن أحداً لم يتصدق بشيء، والله تعالى أعلم. فهنا يرد القرطبي الخبر المروي عن علي بنفس هذه الآية؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: (( فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا ))، فظاهرها أن أحداً لم يتصدق بشيء. وقد اختلفوا في مقدار تأخر الناسخ عن المنسوخ: فقيل: بقي التكليف عشرة أيام ثم نسخ، وقيل: ما بقي إلا ساعة من النهار ثم نسخ. وعن مجاهد قال: نهاهم عن مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتصدقوا. فلم يناجه إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه قدم ديناراً فتصدق به، ثم أنزلت الرخصة في ذلك. وعن قتادة : أنها منسوخة ما كانت إلا ساعة من نهار. وعنه أيضاً قال: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة، أي: أحرجوه وشقوا عليه، فوعظهم الله بهذه الآية، وكان الرجل تكون له الحاجة إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فلا يستطيع أن يقضيها حتى يقدم بين يديه صدقة، فاشتد ذلك عليهم، فأنزل الله الرخصة بعد ذلك: (( فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ))[المجادلة:12]. وعن الحسن وعكرمة قالا: ((إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ))، نسختها التي بعدها: ((أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)) إلى آخر الآية.

    الكلام على نسخ الصدقة بين يدي المناجاة

    هذه الآثار وأمثالها هي مستند مدعي النسخ وقوفاً مع ظاهرها، وقد أسلفنا في مقدمة التفسير ومواضع أخرى أن النسخ في كلام السلف أعم منه في اصطلاح الخلف، كما أن المراد من سبب النزول مما يتبادر إليه الفهم، فحينما يقال: نزلت هذه الآية في كذا، ليس المقصود في كل الأحوال أنها بالفعل كذا، وتكون قد نزلت الآية، وإنما المقصود: أن هذه الآية يشمل حكمها الواقعة المذكورة، وسبق التنبيه إلى ذلك مراراً. كذلك كلمة النسخ أعم من المعنى الضيق الذي هو: رفع الحكم وإزالته بالكلية حتى لا يجوز امتثاله. فقول قتادة هنا: (فأنزل الله الرخصة بعد ذلك)، ليس مراده إبانة أن الأمر ليس بعزيمة في الآية الثانية، لا أن نزولها كان متراخياً عن الأولى، فإن ذلك مستحيل على رونق نظمها الكريم. يعني القاسمي رحمه الله تعالى يستبعد القول بالنسخ بمعنى الإزالة ورفع الحكم الذي هو النسخ الأصولي المعروف؛ لأن هذا مستحيل على رونق الآية، ولو تأملنا سياق الآيات، على القول أنها نزلت الأولى أولاً، ثم بعد عشرة أيام أو حتى بعد ساعات يأتي ما يتنافى معها، فهذا لا يتناسب مع رونق هذه الآية، فقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المجادلة:12]، ثم قال تعالى: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المجادلة:13]. فإن القول بتراخي النزول مستحيل على رونق نظمها الكريم، والأصل في الآي المقررة لحكم النسخ هو اتصال جملها وانتظام عقدها، إذ به يكمل سحر بلاغتها، وبديع بيانها، وتمام فقهها. والذين ذهبوا إلى عدم وقوع النسخ في التنزيل لهم في الآية وجوه: الوجه الأول: منها قول أبي مسلم إن المنافقين كانوا يمتنعون من بذل الصدقات، وإن قوماً من المنافقين تركوا النفاق وآمنوا ظاهراً وباطناً إيماناً حقيقياً، فأراد الله تعالى أن يميزهم عن المنافقين، فأمر بتقديم الصدقة على النجوى؛ ليتميز هؤلاء الذين آمنوا إيماناً حقيقياً عمن بقي على نفاقه الأصلي، وإذا كان هذا التكليف لأجل هذه المصلحة المقدرة بذلك الوقت، فلا جرم أن يقدر هذا التكليف بذلك الوقت. يقول الرازي: وحاصل قول أبي مسلم: أن ذلك تكليف كان مقدراً بغاية مخصوصة، -يعني: التكليف بالصدقة قبل مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم كان له أمد محدود وغاية مخصوصة- فوجب انتهاؤه عند الانتهاء إلى الغاية المخصوصة، فلا يكون هذا نسخاً. وهذا الكلام حسن ما به بأس. انتهى كلام الرازي . الوجه الثاني: أن شبهة مدعي النسخ ذهابهم إلى أن الأمر بتقديم الصدقة للوجوب، يعني: أن الذين قالوا إن النسخ هنا هو النسخ الأصولي، استندوا إلى أن الأمر بالصدقة على سبيل الوجوب، ودفعهم إلى أن يقولوا بالوجوب قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المجادلة:12]، ففهموا منه أن من وجد ولم يقدم صدقة يكون آثماً، أما من لم يجد (( فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )). وقال تعالى: (( فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ))، فإن ذلك لا يقال إلا فيما بفقده يزول وجوبه. والجواب: أن لا قاطع في كون الأمر للوجوب، بل الظاهر أنه للندب، والدليل أن الله تعالى قال: ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ [المجادلة:12]، وهذا إنما يستعمل في التطوع لا في الفرض. والثاني: أنه لو كان واجباً لما أزيل وجوبه بكلام متصل به؛ لأن الله قال: (( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ )) إلى آخر الآية. فهذا يزيل ما في الأمر الأول من احتمال الوجوب، ويبقى الأمر للندب، فإذا قلنا: إنه على الندب فحينئذ لا نحتاج إلى الكلام في قضية النسخ بالمعنى الأصولي، وإنما النسخ بمعنى التبيين والتوضيح ونحو ذلك. الثالث: الذي يدل على أنه للندب أن قول الله تبارك وتعالى: (( فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ))، معناه: إن لم تفعلوا ما ندبتم إليه من تقديم الصدقات قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، والحال أن الله قد رجع إليكم بالتخفيف والتسهيل فيما شرعه لكم، فلم يعاملكم كما كان يعامل الأمم السابقة، ولم يعنتكم بشيء مما أوجبه عليكم؛ فإذا ندبكم إلى هذا الأمر ولم يجعله عليكم فرضاً كما هي سنته في معاملتكم بالرأفة والرحمة؛ فأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله. فقوله: (( وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ )) معناه هنا: الرجوع إلى التخفيف والتسهيل على هذه الأمة، والعدول عن معاملتها كسابقيها. وقوله: (( وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ )) ليس معناه التجاوز عن السيئات وغفران الذنوب، وإنما معناه الرجوع إلى التخفيف والتسهيل، ورفع الحرج عن هذه الأمة، والعدول عن معاملتها كسابقيها من الأمم، كما قال الله تعالى في سورة المزمل: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ [المزمل:20]، يعني: رجع إليكم بالتخفيف، ورفع عنكم ما يشق عليكم، وليس معناه في هاتين الآيتين: العفو عن الذنب؛ إذ لم يصدر منهم هنا ذنب أصلاً حتى يقال إن الله تاب عليهم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756322027