إسلام ويب

وقفات مع قصة طالوت وجالوتللشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد أعطى الله سبحانه طالوت الملك على بني إسرائيل مع فقره وعدم انتسابه إلى من يستحق الملك في عرفهم، فالله تعالى يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم، وقد أعطى سبحانه بعد ذلك الملك والحكمة لداود عليه السلام. وفي قصة طالوت وجالوت من العبر أن العاقبة للمتقين الصادقين الصابرين، المنقادين لأوامره سبحانه، المجتنبين لنواهيه، وفيها العظة والعبرة لأبناء الصحوة الإسلامية أن يثبتوا على الدين الصحيح والعقيدة السليمة، والله ناصرهم ومهلك عدوهم، وممكن لهم في الأرض ما استقاموا على دينه.

    1.   

    بين يدي قصة طالوت وجالوت

    إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.

    جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كان بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي).. إلى آخر الحديث.

    وهذا يدل على أن أعظم أمة من الأمم إرسالاً للنبوة هم بنو إسرائيل، والله عز وجل خصهم بأنبياء لم يخص قوماً غيرهم، ومع هذا فهم يؤثرون الضلال، ويؤثرون الحيرة والتيه، بل هم الذين فعلوا بأنبيائهم الأفاعيل، أقاموا عليهم فقتلوهم وضربوهم وآذوهم، بل وحملوهم على الهجرة من بلاد إلى بلاد أخرى، فعلوا ما لم تفعل أمة بنبيها، وهذا منتهى الفساد في الأرض، فمحاربة الأنبياء والمرسلين إنما هي فرع عن محاربة الله تبارك وتعالى.

    وقد ذكر الله عز وجل قصصاً لبني إسرائيل في القرآن الكريم، وما أكثرها، نجتزئ منها قصة في هذا اليوم؛ لنأخذ منها العبرة والعظة.

    قال الله عز وجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:246-249].. إلى آخر الآيات.

    هذه القصة فيها عبرة عظيمة جداً، فهي تحكي واقع المسلمين اليوم.

    فقوله: (كان بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء) أي: يرسل الله تبارك وتعالى في بني إسرائيل نبياً تلو نبي، بل ربما أرسل عدة أنبياء في وقت واحد، وفي مكان واحد، كما أرسل إلى بني إسرائيل موسى وهارون، وكما أرسل إلى بني إسرائيل داود وسليمان.. وغير ذلك من الأنبياء.

    فالله عز وجل كان يرسل العدد من الأنبياء في بني إسرائيل في الوقت الواحد؛ للقيام بأعمال بني إسرائيل، وهدايتهم إلى الطريق المستقيم، والدلالة على الله عز وجل، ولكنهم أعرضوا وجحدوا في كل مرة، ومع كل نبي.

    1.   

    تعنت بني إسرائيل مع أنبيائهم وسبب عدم قبولهم مبدئياً تملك طالوت عليهم

    قال وهب بن منبه عليه رحمة الله: كانت بنو إسرائيل فترة من الزمان على الطريق المستقيم، وعلى تعاليم موسى عليه السلام، حتى فعلوا فعلتهم المنكرة -ولم يذكر أي فعلة منكرة، وفعالهم المنكرة لا تكاد تقع تحت حصر، ولكنهم لعلهم ارتكبوا فعلة عظيمة أعظم من كل ما يمكن أن نتصوره-، فضرب الله عز وجل عليهم الذلة والهوان، وكانوا من قبل لا يحاربون جيشاً إلا غلبوهم وانتصروا عليهم، ولكنهم لما فعلوا فعلتهم، ما قام عليهم أحد إلا قتلهم، حتى شردهم ملك ظالم من ملوك المشركين في الأرض شرقاً وغرباً، ثم اجتمعوا في أرض فلسطين.

    قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ [البقرة:246] من هو هذا النبي؟ قيل: هو يوشع بن نون، وليس كذلك، فإن يوشع كان بعد موسى عليه السلام وهارون مباشرة، وإنما كانت القصة في زمن داود عليه السلام، ولم يكن يوحى إليه بعد، والمعروف عند أهل السير والتاريخ أن بين داود وموسى عليه السلام أكثر من ألف عام، فداود إنما أرسل بعد موسى بأكثر من ألف عام، فالقصة متأخرة جداً في بني إسرائيل، ولذلك قال وهب بن منبه : لما كانت النبوة في سبط لاوي بن يعقوب ، والملك في سبط يهودا، نظر اليهود -وهم أتباع موسى- في سبط لاوي بن يعقوب فلم يجدوا منهم أحداً إلا امرأة حاملاً، فأخذوها وحبسوها في بيت حتى تلد رجاء أن ترزق بولد أو غلام يبايعه بنو إسرائيل على النبوة كأنها بيعة، وكانت تدعو الله عز وجل أن يرزقها بغلام، وأن ينبته نباتاً حسناً، فاستجاب الله عز وجل دعاءها وولدت غلاماً وسمته شمعون، وفي رواية: سمته شمويل، فلما بلغ شمعون أو شمويل سن النبوة، وهو في الغالب سن الأربعين، أوحى الله عز وجل إليه، فاجتمعت عنده بنو إسرائيل، وقالوا: يا نبي الله، ألا ترى ما نحن فيه من ذل وهوان، فعين لنا ملكاً نقاتل معه في سبيل الله، فنظر هذا النبي بعين البصير ببني إسرائيل على جهة الخصوص، وبالناس عامة، فرأى أن الحماس وحده لا يكفي، ولكن هذا الشعب الطويل المترامي الأطراف أصر على أن يعين لهم شمويل ملكاً يقاتلون معه أهل الظلم والطغيان، وكانوا هم أتباع موسى عليه السلام، فعين لهم هذا النبي طالوت ملكاً، ولكنه قبل أن يعينه قال لهم: هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا [البقرة:246] هل أنتم على يقين لو كتب وفرض عليكم القتال أنكم ستقاتلون حقاً؟ والمعلوم أنهم قوم بهت وظلم وطغيان وردة، وأنهم لا يفون بوعد ولا عهد، فهو قال لهم: هل أنتم على يقين مما توعدون به الآن؟ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا [البقرة:246] فهم حددوا الهدف الذي لأجله يقاتلون بقولهم: وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246] يعني: هذا القتال إنما هو لإعلاء راية الله عز وجل.

    وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا [البقرة:247]، وهذا هو الفصل الثاني، وإن شئت فقل: هو المطلب الثاني.

    قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا [البقرة:247] يعني: كيف يكون لهذا الصعلوك الملك علينا، وإنما الملك فينا يعرف في سبط يهودا ، وليس طالوت من سبط يهودا ، وهم أصحاب الملك في بني إسرائيل، ولا هو من سبط لاوي بن يعقوب وهم أهل نبوة، كما أنه كذلك لم يؤت سعة من المال فهو فقير، والملك يحتاج لغني ينفق من ماله على المملكة؟! فكيف أيها النبي تعين علينا رجلاً بغير مؤهلات؟ كيف تملك علينا رجلاً لم يتخرج من مملكة يهودا ، ولا من سبط لاوي بن يعقوب ؟!

    وهذا شبه ما يحصل الآن عندنا: كيف يتعين الدعاة ولم يتخرجوا من جامعة الأزهر، وليس معهم إجازة بحمل العلم الشرعي من الأزهر؟ كأن هذا تخصص لم يأذن الله عز وجل إلا به، وأما من تعلم العلم في غير الأزهر ولو كان من الأنبياء مشافهة، فإنه لا يصلح في هذا الزمان للدعوة إلى الله عز وجل، ما لم يكن خريجاً من الأزهر!

    ما أشبه اليوم بالبارحة، وصرنا نقول الآن كلاماً قالته بنو إسرائيل من قبل: قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ [البقرة:247].

    يعني: هذا رجل فقير، ثم إنه يعمل سقاء بعد الفجر ودباغ بعد الظهر، أو بعد العصر، يعمل في مهن حقيرة، فكيف يكون ملكاً علينا؟ فرد عليهم نبيهم: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ [البقرة:247]، إذا كنتم حقاً وتؤمنون بالله عز وجل وتصدقون نبوتي، فأنا ما عينته من عندي، ولكن الله تعالى هو الذي اصطفاه عليكم، ثم إنه أعطاه المؤهلات الحقيقية للملك، وهي: أنه جعله عالماً، وجعله قوياً شديداً حسن المنظر، وهذه مؤهلات الملك، كيف يكون ملكاً لا علم له، وكيف يكون ملكاً ضعيفاً هزيلاً يخر أمام تهديدات الأعداء؟

    قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:247].

    فالله تبارك وتعالى يفعل في خلقه ما يشاء، لا راد لحكمه، ولا معقب لأمره، هو الذي اختاره فكيف لا تختارونه أنتم لأنفسكم؟ والله عز وجل واسع الفضل، يهب لمن يشاء العلم ويحرم من يشاء، ويهب لمن يشاء الفضل ويحرم من يشاء، فالله عز وجل عالم وعليم بمن يستحق الملك ممن لم يستحقه؛ ولذلك اصطفاه عليكم لعلمه الأزلي السابق أنه أولى منكم بالملك، فكيف تعترضون على الله عز وجل، وعلى شمويل النبي الذي أخبركم باصطفاء الله عز وجل لهذا الرجل عليكم؟

    فلما رأى النبي إعراضهم أراد أن يبين لهم آية من آيات الله عز وجل، كما أخبر الله عز وجل عنه بقوله: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ [البقرة:248]، أي: أن العلامة القوية على أن الله هو الذي اصطفاه وجعله عليكم ملكاً: أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:248]، أي: علامة من العلامات وأمارة من الأمارات؛ أن يأتيكم التابوت الذي كان معكم من قبل موسى عليه السلام، وموسى عليه السلام أخذ هذا التابوت ممن كان قبله، وسلمه إلى آبائكم، ووضع فيه آثاره وآثار أخيه هارون، كما أنه وضع فيه رضاض الألواح التي ألقاها.

    لما قامت المقتلة العظيمة بين بني إسرائيل وبين ملوك الشرك في زمان طالوت وفي زمان شمويل أُخِذَ منهم ذلك التابوت؛ فحزنوا عليه حزناً شديداً؛ لأنهم كانوا إذا نظروا في هذا التابوت أصابتهم السكينة والوقار والحلم.. وغير ذلك من مظاهر نور الله عز وجل.

    فلما أُخِذَ منهم التابوت حزنوا عليه حزناً شديداً، فقال لهم نبيهم: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ [البقرة:248] أي: على يديه، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كانت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض، فلما تولى طالوت الملك نزلت بهذا التابوت بين يدي طالوت والناس ينظرون إليه، فحينئذ آمنوا وصدقوا بأن طالوت هو الملك الذي اصطفاه الله عز وجل، وأن شمويل صادق فيما زعم وفيما أخبر عن ربه، قال: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ [البقرة:248].

    يعني: كانت الملائكة تحمل هذا التابوت، والتابوت في قرية من قرى الشام، قيل: هي قرية من قرى فلسطين على جهة بيت المقدس؛ ولذلك يتمسك اليهود إلى الآن بأن فلسطين أرض يهودية، وهيهات لهم أن تكون كذلك، فإن أرضاً فتحها المسلمون قديماً أو حديثاً إنما هي أرض المسلمين؛ لأن الإسلام هو دين الله عز وجل الأوحد، والله تبارك وتعالى لا يقبل من أحد ديناً إلا دين الإسلام.

    1.   

    ابتلاء الله تعالى لجنود طالوت بالنهر ومدى صبرهم وثباتهم أمام هذا الابتلاء

    لما آمن بنو إسرائيل بـطالوت وكذلك بشمويل لم يبق أمام طالوت إلا أن يقاتل بمن معه هؤلاء المشركين، قال: فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ [البقرة:249] أي: لما ميز طالوت الجنود الذين معه، وأراد أن ينطلق بهم إلى القتال قال لهم قبل أن ينطلقوا: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ [البقرة:249] أي: إن الله سيختبركم بنهر، وأنتم عطشى في غاية العطش تكادون أن تهلكوا منه، لكنكم لابد أن تصبروا وألا تشربوا منه، فإن شربتم منه فإنكم لستم جنوداً لي، والجهاد يحتاج إلى صبر في المأكل والمشرب وعند لقاء العدو، وعند النظر إلى بارقة السيوف في ضوء القمر، أو في حر الشمس.

    ثم قال: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي [البقرة:249] أي: من شرب من هذا النهر وهو نهر الشريعة المعروف الآن بنهر الأردن، فمن شرب منه منكم أيها الجنود فليس من جنودي وأتباعي.

    قال السدي وقتادة: كان الجند مع طالوت قبل أن ينطلق ثمانين ألفاً، فلما قال طالوت لجنوده: (فمن شرب منه فليس مني) أي: لا يتبعني من شرب منه، يعني: أنتم لا تصلحون للجهاد إذا خالفتم الأمر وارتكبتم النهي، فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ [البقرة:249] قال السدي : شرب منه ستة وسبعون ألفاً.

    وجاء عن البراء بن عازب رضي الله عنه فيما رواه البخاري في صحيحه في كتاب المغازي تحت باب رفع الأمانة.

    قال البراء بن عازب : (كنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نقول: إن عدة أصحاب محمد في بدر هم عدة أصحاب طالوت لما قاتل جالوت ، قيل: كم؟ قال: ثلاثمائة وبضعة عشر).

    فيكون قول السدي وقتادة.. وغيرهما موافقاً لرواية البراء ، بل أكثر من ستة وسبعين ألفاً الذين شربوا من هذا النهر.

    وقوله: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [البقرة:249] أي: إلا من أخذ شيئاً يسيراً من هذا النهر بيده فشرب فلا حرج عليه حينئذ، والله تعالى يعفو عنه.

    يقول ابن عباس رضي الله عنهما: كان الذي شرب منه لم يرو، والذي اغترف روي تماماً.

    بركة طاعة الأمراء في طاعة الله عز وجل، جعلها سبحانه محكاً واختباراً وابتلاء وامتحاناً، فإذا نجحوا فيه، فإنهم لما بعده أنجح، وإذا رسبوا فيه، فإنهم لما بعده أرسب وأفشل، فكيف لا يصبر المرء على العطش، ويصبر بعد ذلك على لقاء العدو؟!

    فجعل لهم هذا النهر ليختبر قوة إيمانهم، فرسبوا رسوباً سحيقاً، ولذلك قال: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي [البقرة:249] أي: لا يتبعني في هذا الجيش.

    1.   

    موقف القلة القليلة الذين مع طالوت من جالوت وجنوده

    بعد أن عبر طالوت النهر بهذه القلة القليلة التي معه، إذا بـجالوت أعظم الطغاة في زمانه يلقاهم في جيش كثير جداً أفزع القوم، ولذلك اعتذر أصحاب طالوت فقالوا: لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ [البقرة:249] يعني: يا طالوت، نحن نرجو أن تعبر بنا النهر مرة أخرى، ونحن قد كنا عبرنا معك النهر، فهذا دليل على صدقنا، ولكن هذا العدد لا قبل لنا به، فنحن نعتذر الآن، ونرجو ألا تخوض بنا المعركة.

    قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:249] والظن هنا بمعنى: اليقين، ولا يكون اليقين إلا عند أهل العلم بكتاب الله، وبسنن الأنبياء، قال الذين يوقنون أنهم ملاقوا ربهم: أيها الجهال الأغبياء كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والنصر هو من عند الله عز وجل، نعم، العدة والعتاد والقوة والشجاعة هي من عدد الحرب، ولكن إذا أراد الله عز وجل أن ينصر فئة على فئة فلا راد لهذا النصر: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249].

    في مثل هذا الموطن ينتصر المؤمنون على عدوهم؛ لأنهم آمنوا وتوكلوا على الله، فبسبب طاعتهم وإيمانهم بهذا النبي، واتباعهم لأوامر ملكهم وأميرهم في الجهاد لابد وأن النصر حليفهم أو الشهادة، ولذلك المؤمن يدور بين أمرين كلاهما حسن في ملاقاته للعدو: أن ينصره الله، فهذا مغنم عام، أو أن يقتل، فالشهادة.

    وهذا هارون الرشيد رحمه الله تعالى الذي صوره المصورون أنه عربيد سكير قاتلهم الله أنى يؤفكون، صوروه بتصاوير شتى، ولكنه كان رجلاً صالحاً يحج عاماً ويغزو آخر، كان إذا أرسل سرية أرسل معها كتاباً إلى زعيم الشرك والكفر، يقول فيها: إني أرسلت إليك جيشاً هو أحرص على الموت حرصك أنت وجيشك على الحياة. فما موقف هذا الملك من هذه الرسالة؟ هذه رسالة كفيلة بتدميره نفسياً قبل لقائه، ومن ذلك رسالته إلى ملك الروم قال فيها: من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم إني أرسلت إليك جيشاً أوله عندك وآخره عندي، فالجواب ما ترى لا ما تسمع.

    الله أكبر! كلمات جبارة قوية تزلزل قلوب الأعداء بغير لقاء.

    وأما بلاد المسلمين اليوم فلا حول ولا قوة إلا بالله، لا عقائد، ولا أحكام، ولا طاعة، ولا إيمان، ولا عز ولا نصر ولا تمكين ولا سؤدد، ولا شيء من مظاهر العز والنصر والتمكين، إنما كله ذل في ذل، وهوان في هوان، وخور وضعف ومهانة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

    وقوله: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249].

    أي: معية الله عز وجل أعظم من كل معية، فثبات هذه الفئة المؤمنة أمام هذا الجيش العرمرم دليل على أنه عز وجل معها، ينزل الملائكة يقاتلون معهم ويثبتونهم، يثبتون الأقدام عند اللقاء، ويربطون الجأش.

    كان عدد المسلمين في بدر يربو على الثلاثمائة شيئاً يسيراً في مقابلة ألف من صناديد أهل مكة، أتوه إلى بدر لمقاتلته، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن ينوي قتالاً مع استعدادهم ومع ما معهم من العدة والعتاد للقاء محمد عليه الصلاة والسلام وجيشه بغتة.

    والنبي عليه الصلاة والسلام يعلم عين اليقين أن النصر من عند الله عز وجل، ولذلك رفع يديه إلى السماء، وظل يدعو حتى سقط رداؤه الشريف من على كتفه عليه الصلاة والسلام، وكان يقول: (يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً).

    فتناول أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه الرداء فوضعه على كتفيه وهو يبكي، ويبشر النبي عليه الصلاة والسلام بأن الله سيفي له ما وعده من النصر والتمكين، وكان الوعد قد نزل من قبل.

    وانتصر المسلمون نصراً مؤزراً، فليست غزوة من الغزوات في تاريخ البشرية لها من الفوائد والأعاجيب كغزوة بدر، مع قلة الناس، ولكن الإيمان يزلزل الجبال، كان الواحد بأمة؛ ولذلك لما أخطأ أحدهم بعد ذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)؛ بسبب ثباتهم في غزوة بدر، فقد ثبتوا وألحقوا الهزيمة المنكرة بأعداء الله ورسله.

    أما حنين فكان عدد المسلمين كثيراً جداً، واغتروا بكثرتهم: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة:25].

    وإليكم قصة هذا الذئب الذي دخل في سباق مع السلحفاة، فقال: أنام شيئاً، ثم أقوم فألحق السلحفاة وأسبقها، فكان كلما استيقظ من نومه قال: الوقت مبكر، أنام وقتاً آخر، ثم أدرك السلحفاة وأسبقها، فبقي الذئب نائماً حتى بلغت السلحفاة النهاية والهدف.

    كذلك لا يحل لقائد أن يستهين بعدوه مهما كان قليلاً، أو كان غير مسلح، فإن معظم الداء أتي من هذا، ويأتي من هنا، ولذلك أرى الله عز وجل المؤمنين في هذا الزمان آية من الآيات، لما استهانوا بهذه الفئة الكافرة القليلة من اليهود، أذاق اليهود كأس الهوان والذل للمسلمين وهم فوق المليار، ولكن هذا المليار كم منهم لا يثبت عند اللقاء؟! فمثلاً: أنتم أيها المصلون الذين رفعتم راية التوحيد، هل تثبتون حقاً عند اللقاء؟ إن غالب من أتى إلى هذا المسجد إنما أتى ليصلي الجمعة، فمن الناس من يأتي إلى هذا المسجد في هذا التوقيت، وهو لا يصلي إلا الجمعة فقط، ظناً منه أن صلاة الجمعة تجب ما كان من تفريط في الصلاة طوال الأسبوع.

    ومن الناس من لفظته أقاربه وأهله وأولاده، فأراد أن يستريح شيئاً، ولا مكان للراحة إلا في بيت الله عز وجل؛ لأنه لا يحاسبه على الجلوس فيه أحد، فأراد أن يستريح من قبل الجمعة بساعتين إلى وقت صلاة العصر، ثم يهيم على وجهه بعد ذلك بغير صلاة ولا صيام ولا عبادة.

    ذكر ابن الجوزي في بعض كتبه أنه قال لولده: قف على باب المسجد، فمن صلى الجمعة فادعه للغداء عندي، قال: يا أبتِ كيف يسع بيتنا لهذا العدد ولم نستعد؟ قال: يا بني، لست أعني بهؤلاء، وإنما من خرج من المسجد فقل له: بأي آيات قرأ الإمام في الصلاة؟ ففعل الولد فما أجابه إلا سبعة، فأخذهم وانطلق بهم إلى بيت أبيه، فقال: يا بني أصدقت أنه لم يصل الجمعة إلا هؤلاء؟ فإنا لله وإنا إليه راجعون.

    وشواهد الفساد والباطل في الأمة كثير جداً، ثم نأمل أن تدركنا رحمة الله عز وجل!!

    أسأل الله تعالى أن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال والأقوال، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    1.   

    وقفات مع قصة طالوت وجالوت

    الحمد لله وكفى، وصلاة وسلام على عباده الذين اصطفى.

    وبعد:

    فهذه وقفات نقفها مع قصة طالوت وجالوت فيها إنارة الطريق لأهل الصحوة الإسلامية في هذه البلاد.. وفي غيرها.

    تأصيل الإيمان وغرسه في قلوب أبناء الصحوة وعدم الالتفات إلى الحماس الزائف

    الوقفة الأولى في هذه القصة: أنه يجب على الدعاة إلى الله عز وجل في هذا الزمان في هذا البلد وغيره ألا يتحمسوا، وألا يغتروا بهذا الحماس الزائف، بل لابد من تأصيل الإيمان، وزرع وبذر أصول العقيدة في قلوب أبناء الصحوة؛ لأن العقيدة إذا صلحت ونبتت نباتاً حسناً في قلب صاحبها، كان بعد ذلك خيره مرجواً وإلا فلا.

    فليحذر الدعاة إلى الله أن يغتروا بهذا الحماس، بل لابد من وضعه على محك التجربة قبل خوض المعركة.

    الثقة بالله عز وجل من أعظم أسباب النصر والتمكين

    الثانية: الثقة بالله عز وجل من أعظم أسباب النصر والتمكين، ولذلك: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ [البقرة:249] لما التقوا بجيش جالوت : قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:250].

    فقوله: أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا أي: صب الصبر علينا صباً؛ حتى نثبت أمام العدو، وننتصر على القوم الكافرين.

    التسلح بالصبر في زمن الاستضعاف

    الثالثة: أن الصبر عبادة في وقت، وأن الجهاد بالسيف عبادة في وقت آخر، ولكل حكمه، فإذا كان المسلمون في فترة ضعف فالصبر واجب في حقهم.

    وأما طلب لقاء العدو والحالة هذه فليس من مصلحة الإسلام وأهله، بل يجب عليهم أن يتسلحوا بالصبر، وهو أعظم سلاح في هذه الفترة.

    كما أن أعظم سلاح في فترة القوة والسيادة هو رد كيد الأعداء في نحورهم.

    وضوح الطريق لدى أبناء الأمة

    الرابعة: وضوح الطريق لدى أبناء الأمة، والطريق الوحيد هو طريق الله عز وجل، فلابد من بيانه للجنود الذين يحاربون أعداء الإسلام؛ لأن الواحد منا قد يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل ليقال: جريء، أو شجاع ما أظرفه، ما أعقله، ما أجلده، ليس هذا هو الطريق، وإنما الطريق من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله.

    فبنو إسرائيل قالوا: ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246]، فحددوا الطريق أمامهم، وأعلنوا أن القتال إنما هدفه إعلاء راية الله عز وجل، ونصر الإسلام على الشرك والكفر، ولذلك المسلم يكون بين أمرين: إما النصر، وإما الشهادة، ولكن مع عدم وضوح الهدف عند الأعداء، فإن الله ألقى في قلوبهم الرعب، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ونصرت بالرعب مسيرة شهر)، إذا سمع العدو بمقدم جيش محمد، هزم في عقر داره قبل أن يبلغه الجيش، بل يقول الله عز وجل: لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ [الحشر:14]؛ لأن جيش العدو لا يقوى على اللقاء، ولا يصبر عليه، وينهزم في أول وهلة.

    أقسم بالله العظيم غير حانث لو أن دولة من دول الإسلام المحيطة بفلسطين رفعت راية الجهاد، ولو في نشرة بثتها من خلال الإعلام أو الصحافة لاعتذر اليهود في نفس اللحظة.

    أما التخدير وخداع الشعوب بالسلام العادل والشامل، فلا سلام قط، فضلاً أن يكون عادلاً وشاملاً، والله عز وجل قد بين أن اليهود أهل غدر وظلم، وليسوا أهل سلام، فإما أن نصدق هؤلاء ونكذب الله، وهو واقع الأمة الآن، وإما أن نكذب هؤلاء ونصدق الله إخلاصاً، ونطيعه فيما أمر، ونرفع راية الجهاد، وننهي هذه التمثيلية التي يضحكون بها على المسلمين شرقاً وغرباً.

    إذاً: لابد من وضوح الهدف أمام الجنود؛ حتى يقاتلوا على نور وبصيرة.

    اهتمام القائد بصحة عقيدة الجنود وصحة الهدف

    الخامسة: لابد لكل قائد وذي رأي ومشورة أن يتأكد من صحة العقيدة، ومن صحة الهدف لدى جنوده كما قال طالوت لجنوده: هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا [البقرة:246]، فردوا عليه: وَمَا لَنَا [البقرة:246] أي: كيف بنا لا نقاتل وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا [البقرة:246] حتى قامت المعركة الحازمة بين جند طالوت وجند جالوت ، وكتب الله تعالى النصر لـطالوت وجنوده، وكان طالوت قد أعلن عن هدية في جنده، وقال: من قتل جالوت فسأزوجه ابنتي وأشركه في ملكي، فقام داود عليه السلام قبل أن يوحى إليه، وكان جندياً من جنود طالوت ، قام إلى جالوت فتسلل حتى وصل إليه وقتله، وأنتم تعلمون إذا قتل الأمير وقائد الجيش فكأنما قتل الجيش بأسره، فضربت الهزيمة على الجيش بأكمله، وجاء داود برأس جالوت إلى طالوت ، فزوجه ابنته وأشركه في ملكه، ومات طالوت بعد هذه الغزوة، ثم انتقل الملك بأكمله إلى داود عليه السلام، وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء، حتى تعلموا أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، وإن كانوا قلة، لكن الفيصل هو الإيمان بالله عز وجل، والانقياد لأمره.

    كم من الناس يحضر مسجدنا هذا إذا تعارض الشرع مع مصلحته قدم المصلحة على الشرع، مع أنه يدعي أنه محب لله ورسوله.

    ذكر ابن عبد البر في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) عن الأعمش أنه قيل له: جزاك الله خيراً من إمام، لقد علّمت الناس العلم -وهم ينظرون إلى الناس بالآلاف بين يديه- فتبسم الأعمش وقال: لا تعجبون.

    أما هؤلاء، وأشار إلى مجموعة من طلاب العلم فثلثهم يموت قبل أن يدرك. يعني: يموت قبل أن يتصدر، والثلث الثاني: يذهبون إلى السلطان، ثم قال: وهم شر الناس، وأما الثلث الثالث: فقليل منهم من يفلح.

    لما سمع ابن المبارك هذا الكلام قال: هذا الكلام جدير بأن يكتب ويحفظ. وينبغي لكل قائد وزعيم أن يجعل هذا الكلام نصب عينيه، فالناس قليل منهم من يفلح، وقليل منهم من يثبت، أما أن يغتر الأمير بهذه الجموع الغفيرة؛ فإنه لا يستحق أن يكون أميراً.

    كان الصحابة رضي الله عنهم مراتب ودرجات، قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه الشيخان من حديث عبد الله بن عمر : (الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة).

    وقال البخاري : باب رفع الأمانة. كأنه يشير إلى أن الناس كثر، والمرضي منهم قليل.

    أيها المؤمنون! هذه وقفات لابد أن نقف عندها؛ لترشيد هذه الصحوة، والاستفادة منها في الأيام المقبلة، لعل الله عز وجل يرزق هذه الأمة رأياً راشداً وإيماناً يعز به الدين وأهله، ويذل به الشرك وأهله.

    التوجه إلى الله عز وجل بإنزال النصر من السماء وعدم الاغترار بالكثرة

    السادسة: لابد أن تعلم أن العبرة بالتأييد الإلهي لا بالعدد والعدة، وإن كان ذلك مطلوباً، لكنه ليس بيت القصيد، أما بيت القصيد فهو التوجه إلى الله عز وجل بإنزال النصر من السماء: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:249]، وقال الله تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ [الحج:40]، ونصر الله عز وجل باتباع أوامره، واجتناب نواهيه، ومحبة أنبيائه، والعمل بتعاليم النبي عليه الصلاة والسلام.

    قال أبو الدرداء فيما أخرجه البخاري : إنما تقاتلون بأعمالكم. أي: أعمالكم هي سبب نصركم أو سبب هزيمتكم.

    وقال الحسن البصري : عمالكم أعمالكم. أي: ولاتكم ورؤساؤكم وحكامكم على قدر أعمالكم، فلستم أنتم بأخير منهم، ولا هم بأفسد منكم، أنتم منهم وهم منكم، وهم جزء من مجتمعكم، وأنتم جزء من مجتمعهم، فحسنوا العمل مع الله عز وجل، وصلوا ما بينكم وبين الله يولي الله تبارك وتعالى عليكم خيار عباده، وإلا فلا، وهذه سنن كونية.

    وكان من دعاء النبي عليه الصلاة والسلام إذا لقي عدواً كان يقول: (اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم، ونجعلك اللهم في نحورهم)، وكان يقول: (اللهم بك أصول وبك أجول)، وإن كان في سند هذا الحديث ضعف.

    إذاً: فلا نصر إلا من عند الله عز وجل، أما الاغترار بالكثرة فليس ينفع عند اللقاء.

    أخذ العظة والعبرة في احتمال الشدائد في الجهاد وغيره

    السابعة: في هذه القصص عبرة لهذه الأمة في احتمال الشدائد، خاصة عند الجهاد وقتال العدو.

    لعلك تتصور أن دانة من دانات العدو تلقى في جيش المسلمين تصيبهم بآلام لا قبل لهم بها، لكن أخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام أن سيف العدو لا يصيب ولا يمس بدن المؤمن إلا كشكة إبرة، وإن كثيراً من أبناء الصحوة الآن يتنازلون عن أشياء من دينهم مخافة أن يضربوا بالسوط، أو يحبسوا في الظلام، ونسوا أن المس والألم لا ينالهم إلا مع أول سوط، ولو ضرب بعد ذلك مائة سوط فإنه لا يشعر بذلك؛ رحمة من الله وفضلاً، وسلوا الله عز وجل العافية، لا تسألوه لقاء العدو، ولكن إذا لقيتموهم فاثبتوا، وهذا دين الله عز وجل.

    إذاً: فيجب عليكم أن تقوموا بالواجب الذي كلفتم من أجله، وتوكلوا على الله عز وجل.

    عدم الموازنة بين العلم والجهل وبين العلماء والجهلاء

    الثامنة: أنه لا موازنة بين العلم والجهل، ولا بين العلماء والجهلاء؛ فإن أهل العلم يرون الفتنة وهي مقبلة، وأهل الجهل لا يرون الفتنة إلا وهي مدبرة، بعد أن تستأصل شأفتهم يرونها بعد ذلك، ثم يقولون: يا ليتنا كنا ويا ليتنا كنا.

    فأهل الجهل اغتروا بما كان عليه قارون أعظم طاغية في زمانه، لما خرج عليهم في زينته قالوا: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [القصص:79]، وفتنوا به أيما فتنة، خاصة بعدما أن رأوا تلك الميديلات التي تحمل المفاتيح التي تنوء بحملها العصبة من الرجال، فما بالك بخزائن قارون ، ولذلك نظر الجهلاء نظرة عمياء لزهرة الدنيا ومتاعها، فتمنوا أن يكون لهم ما لـقارون ، ولكن أهل العلم قالوا: وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [القصص:80].

    فثواب الله خير، فلو أنك قلت لرجل الآن: صل جماعة في المسجد، لربما قال: والله أنا عندي خشونة في رجلي، وعندي مغص في بطني، وعندي فقرات في ظهري، ولو قيل له: إن في المسجد لجنةً توزع على كل مصل سبعاً وعشرين جنيهاً بعد أداء الصلاة، لأتي به محمولاً على الأعناق؛ حتى يحصل على سبع وعشرين جنيهاً، فما بالكم بسبع وعشرين درجة في الجنة، ما بين الدرجة والدرجة مسيرة خمسمائة عام من منكم يصدق النبي عليه الصلاة والسلام؟! أينا يؤمن بالله حق الإيمان؟

    تستغني عن سبع وعشرين درجة وتأتي محمولاً على الأعناق لأجل سبع وعشرين جنيهاً، حتى تعلم أنك لا زلت متخلقاً بأخلاق بني إسرائيل لا بأخلاق أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي عبيدة .. وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم.

    لو أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج فينا الآن هل يعرفنا؟ هل يقر الناس على ما هم عليه الآن؟ الغالب على الظن أنه سيتبرأ منا، وسيعتذر إلى ربه أن هؤلاء ليسوا أتباعي، وإنما بدلوا فسحقاً سحقاً، وأنتم تعلمون أن هذه الرواية إنما جاءت في غير أصحابه عليه الصلاة والسلام، ويمكن أن تكون هذه الرواية قد وردت في شأننا نحن، فـ(بينما النبي عليه الصلاة والسلام على الحوض يدعو أمته إلى أن يشربوا من الحوض، إذا به يسمع صوتاً من قريب أو من بعيد: يا محمد، إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، لقد بدلوا وغيروا، فيقول عليه الصلاة والسلام: سحقاً سحقاً). أي: بعداً بعداً.

    أتحب أن تكون من هؤلاء؟! أتحب أن تكون ممن يبعد عن حوضه عليه الصلاة والسلام، الذي إذا شربت منه شربة لا تظمأ بعدها أبداً؟

    قال أهل العلم في هذه الآية: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:249]، وفي قوله: وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ [البقرة:247]: آمنوا وسلموا أن هذا من عند الله عز وجل.

    وراثة الأرض لمن شاء الله عز وجل من عباده

    التاسعة: أن الأرض لله يورثها من عباده من يشاء، لكن لابد أن تحقق العبودية في قلب العبد، وقد خير النبي عليه الصلاة والسلام أن يكون ملكاً رسولاً، أو عبداً رسولاً، فقال جبريل عليه السلام: يا محمد، تواضع، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (بل عبداً رسولاً)، وقال: (إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأشرب كما يشرب العبد)، وقال لما قام الليل كله حتى تفطرت قدماه، وأشفقت عليه نساؤه، قال: (أفلا أكون عبداً شكوراً).

    والعبودية والعبادة: هي فعل الأوامر واجتناب النواهي، إذا امتثلت الأمر واجتنبت النهي فقد حققت العبودية، والعبادة: هي كل أمر يحبه الله عز وجل من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله.

    ثم قال الله عز وجل: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ [الرعد:17].

    كم من طاغية هلك لا ذكر له، وكم من عالم مات يحيا الناس بذكره الآن، تصوروا كم ملايين يأتون يوم القيامة في صحيفة حسنات ابن حجر ، أو النووي ، أو الذهبي ، أو ابن معين ، أو الشافعي ، أو ابن حنبل ، أو مالك .. أو غيرهم من أئمة الإسلام، فنحن عند ذكر هؤلاء نذكر النبي صلى الله عليه وسلم، الواحد منهم بأمة وزيادة؛ لأنه يتكلم عن الله عز وجل، وكلامه كله علم ونور وبصيرة، ولذلك لا يقارن أهل الجهل جميعاً بواحد فقط من أهل العلم، لا يستوي أهل العلم وأهل الجهل، فلا مقارنة بينهما: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ [الرعد:17]، كالكلمة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

    قصة طالوت وجالوت عزاء للصحوة الإسلامية

    الوقفة العاشرة والأخيرة: والثمرة أن هذه القصة فيها عزاء للصحوة الإسلامية مع ضعفها ومع سوء أدبها مع الله عز وجل حكاماً ومحكومين.

    بل قد وصلنا إلى زمان يتبنى فيه الكفر والإلحاد، ويحارب فيه أهل الإيمان والعلم، فتحقق فينا قوله عليه الصلاة والسلام: (ستكون سنوات خداعات -أي: في آخر الزمان- يكذب فيها الصادق، ويصدق فيها الكاذب، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، ويتكلم فيها الرويبضة، قيل: وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال: الرجل التافه السفيه يتكلم في أمر العامة).

    الرجل التافه الصعلوك الحقير الغبي السوري حيدر حيدر يتكلم في أمر العامة، ويسب الله ويسب الرسول ويسب القرآن، ومع ذلك فإن جهات كثيرة تتبناه، بل صحف وجرائد ومجلات تنشر كتابه الآن كل يوم أحد، فصلاً فصلاً، وإلى الآن نشروا منه بابين، رغماً عن كل مسلم، فمن لم يعجبه فليضرب برأسه على الجدار!

    أسأل الله تعالى أن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال والأقوال، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755927488