إسلام ويب

شرح أخصر المختصرات [44]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الوديعة: هي الأمانة التي تودع عند إنسان ليحفظها، ويسن قبولها لمن علم من نفسه الأمانة، ولها مسائل وأحكام خاصة ينبغي معرفتها، وهي مذكورة في كتب الفقه.

    1.   

    باب الوديعة

    قال المصنف رحمه الله تعالى:

    [فصل:

    ويسن قبول وديعة لمن يعلم من نفسه الأمانة، ويلزم حفظها في حرز مثلها، وإن عينه ربها فأحرز بدونه أو تعدى أو فرط أو قطع علف دابة عنها بغير قول ضمن، ويقبل قول مودع في ردها إلى ربها أو غيره بإذنه لا وارثه، وفي تلفها وعدم تفريط وتعد وفي الإذن، وإن أودع اثنان مكيلاً أو موزوناً يقسم، فطلب أحدهما نصيبه لغيبة شريك أو امتناعه سلم إليه، ولمودع ومضارب ومرتهن ومستأجر إن غصبت العين المطالبة بها .

    فصل:

    ومن أحيا أرضاً منفكة عن الاختصاصات، وملك معصوم ملكها، ويحصل بحوزها بحائط منيع، أو إجراء ماء لا تزرع إلا به إن قطع ماء لا تزرع معه، أو حفر بئر أو غرس شجر فيها، ومن سبق إلى طريق واسع فهو أحق بالجلوس فيه ما بقي متاعه ما لم يضر.

    فصل:

    ويجوز جعل شيء معلوم لمن يعمل عملاً ولو مجهولاً، كرد عبد، ولقطة، وبناء حائط، فمن فعله بعد علمه استحقه، ولكل فسخها، فمن عامل لا شيء له، ومن جاعل لعامل أجرة عمله، وإن عمل غير معدٍ لأخذ أجرة لغيره عملاً بلا جَعْلٍ أو معدٍ بلا إذن فلا شيء له إلا في تحصيل متاع في بحر أو فلاة، فله أجر مثله، وفي رقيق دينار أو اثنا عشر درهماً.

    فصل:

    واللقطة ثلاثة أقسام:

    ما لا تتبعه همة أوساط الناس كرغيف وشسع، فيملك بلا تعريف.

    الثاني: الضوال التي تمتنع من صغار السباع، كخيل، وإبل، وبقر، فيحرم التقاطها، ولا تملك بتعريفها.

    الثالث: باقي الأموال، كثمن، ومتاع، وغنم، وفصلان، وعجاجيل، فلمن أَمِنَ من نفسه عليها أخذها، ويجب حفظها وتعريفها في مجامع الناس غير المساجد حولاً كاملاً، وتملك بعده حكماً، ويحرم تصرفه فيها قبل معرفة وعائها ووكائها وعفاصها، وقدرها وجنسها وصفتها، ومتى جاء ربها فوصفها لزم دفعها إليه، ومن أخذ نعله ونحوه ووجد غيره مكانه فلقطة.

    واللقيط: طفل لا يعرف نسبه ولا رقه، نبذ أو ضل إلى التمييز، والتقاطه فرض كفاية، فإن لم يكن معه شيء وتعذر بيت المال أنفق عليه عالم به بلا رجوع، وهو مسلم إن وجد في بلد يكثر فيه المسلمون، وإن ادعى أجنبي رقه وهو بيده صدق، وإن أقر به من يمكن كونه منه ألحق به].

    الوديعة هي: الأمانة التي تودع عند إنسان ليحفظها، وهي مشتقة من ودع الشيء إذا تركه؛ لأنها متروكة عند المودع، (ودعه) أي: تركه، وقرأ بعض القراء قوله تعالى: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:3] أي: ما تركك.

    ثم يسن أن يقبلها، إذا جاء إنسان يودع عندك وديعة دراهم أو أكياساً أو أقمشة يريد أن تحفظها حتى يحتاجها، أو أطعمة أو مواشي وأنت تعلم من نفسك الأمانة فإنك تحفظها، سواءً بأجرة أو تبرعاً، والمتبرع له أجر؛ لأنه داخل في قوله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2]، فمن وثق من نفسه بالأمانة، فإنه يحفظها في حرز مثلها.

    قوله: (يلزم حفظها في حرز مثلها)، أي: ما تحرز فيه، ومعلوم أنها إذا كانت جواهر أو حلياً أو نقوداً أنها تحفظ في الصناديق التي يقفل عليها، ما يسمى الآن بالتجوري أو ما أشبه. يعني: أنه يقفل عليها ويحفظها؛ لأنها تتبعها الهمم، وربما تناولها الجهلة والسفهاء ونحوهم وعبثوا بها.

    وقوله: (وإن عينه ربها فأحرز بدونه) فإنه يضمن، فإذا قال: احفظها في جيبك، فحفظها في كمه أو في يده، فإن اليد أقل حفظاً وحرزاً من الجيب، فيضمن والحال هذه؛ لأنه تساهل، وإذا قال: احفظها في الصندوق، فحفظها مثلاً في رف أو روزنة، فإنه يضمن؛ وذلك لأن هذا أقل حفظاً لها.

    وإذا كانت غنماً وقال: احفظها في الزريبة، فتركها في الطريق فافتلتت ضمنها؛ لتساهله في حفظها، وكذلك إذا قال: احفظ هذه الأكياس في المستودع، فتركها خارج المستودع في داخل السور أو نحوه فإنه يضمن، ويلزمه أن يحرزها في حفظ مثلها.

    وكذلك يضمن إذا تعدى أو فرط، فالتعدي: الاستعمال، فإذا لبس الثوب أو فتق الختم أو الحزام، أو حل حزام السمن فاهراق، أو حزام الكيس فعبثت به دابة أو طفل، فيعتبر متعدياً.

    وكذلك: إذا فرط، فأهملها كأن ترك الباب مفتوحاً فدخل الأطفال فعبثوا بها أو أخرجوها، أو أهمل الدابة في الطريق فظلت، وكذا لو قطع العلف إذا كانت دابة فإنها لا تعيش إلا بالعلف، فإذا قطع العلف عن الشاة مثلاً، أو عن البقرة، أو البعير ضمن؛ لأنها لا بد لها من طعام، وينفق عليها مما أعطاه صاحبها، وصاحبها عادة قد يعطيه نفقة، وقد يقول له: خذ هذه النفقة، هذه مائة ريال أنفق عليها منها، وقد يقول له: انفق عليها واحبسها وأنا أعطيك ما خسرته.

    أما لو رخص له صاحبها فقال: لا تنفق عليها بل اتركها تأكل بنفسها، تأكل من الحشيش ونحوه، فتركها فهزلت أو ماتت فإنه لا يضمن.

    وكذا إذا قال له صاحبها: لا تطعم الدابة ولا تسقها، ولكن لا شك أنه يأثم إذا رآها تموت جوعاً أو ظمأً، فإن من رآها، ولو كان أجنبياً عليه أن يعلفها ويزيل عنها الظمأ ونحوه، ولو لم تكن مملوكة له، بل لو لم تكن مملوكة أصلاً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بينما كلب يطيف بركية كاد يقتله العطش، رأته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها -يعني: خفها- فنزلت في البئر وسقته، فغفر الله لها، قالوا: وإن لنا في البهائم أجراً؟ قال: في كل كبد رطبة أجر).

    قوله: (ويقبل قول مودع في ردها إلى ربها أو غيره بإذنه لا وارثه)

    .

    المودع: الموكل على حفظها. فإذا قال: رددتها إليك، أو وكلتني أن أردها إلى فلان، فرددتها بأمرك، وأنكر صاحبها، فالقول قول المودع؛ لأنه أمين فلا يضمن.

    قوله: (لا وارثه): أي: وارث المودع؛ وذلك لأنه إذا مات المودع، وجاء وارثه، وقال: إن أبي قد ردها عليك، فلا يقبل إلا ببينة؛ لأنك ما ائتمنته إنما ائتمنت أباه أو مورثه.

    قوله: (وفي تلفها وعدم تفريط وتعد وفي الإذن): أي: يقبل قوله في تلفها وعدم تفريط وتعدٍ وفي الأذن، فإذا قال: ماتت الشاة حتف أنفها، أو احترق الثوب، أو سرق المتاع، أو تآكل الجلد أو الثوب.

    أي: أكله العث، أو نحو ذلك؛ فإنه يقبل قوله؛ لأنه مأمون موثوق.

    ويقبل قوله في عدم التفريط، فإذا قال صاحبها: إنك فرطت وأهملت الشاة حتى افترست، فادعى أنه ما أهمل، فالقول قوله.

    وكذلك: لو ادعى أنك تعديت، فلبست الثوب أو فككت حزام الدراهم، أو حزام الطعام، أو الدهن حتى اهراق، أو أخرجته حتى تسلط عليه الأطفال، أو الطير، أو الدواب؛ فأنكر المودع فإن القول قوله، أنه ما تعدى ولا فرط.

    وكذلك في الإذن، إذا قال: أذنت لي أن أستعمله، أذنت لي أن أقترض من الدراهم، أذنت لي أن أتصدق منها، أو أذنت لي أن أعطيها لفلان فإنه يقبل قوله فيه.

    قوله: (وإن أودع اثنان مكيلاً أو موزوناً يقسم فطلب أحدهما نصيبه لغيبة شريك أو امتناعه سلم إليه):

    صورة ذلك: إذا أودعك اثنان كيس بر، أو أرز، أو سمن، أو تمر، وقالا: هذا بيننا نصفين أي: كل منهما له نصف، فجاء أحدهما وقال: أنا محتاج، وشريكي في هذا الظرف غائب، فأعطني نصيبي، فلك أن تعطيه؛ لأنه طلب حقه.

    وكذلك لو كان شريكه حاضراً ولكن امتنع، وقال: لا حاجة لي الآن في هذا الكيس، لست بحاجة إلى هذا الأرز ولا إلى هذا السمن، فإنه يعطى صاحبه وشريكه نصيبه، ويقسم نصفين بالمكيال أو بالميزان، ثم يعطى نصيبه.

    المكيل: مثل الأدهان والألبان، وكذلك الحبوب والثمار، فهذه تقدم أنها مكيلة، والموزون: إذا كان بينهما مثلاً: قطن أو صوف -يعني شيء يوزن- فيقسم بينهما ويعطى هذا نصيبه، ويبقى نصيب الآخر حتى يأتي.

    قوله: (ولمودع ومضارب ومرتهن ومستأجر إن غصبت العين المطالبة بها)

    أي: إذا غصبت العين المودعة، كما لو أودع عندك إنسان كتاباً وغصبه واحد، فإن لك حقاً أن تطالب به، فإذا قال: الكتاب ليس لك، أو الكيس ليس لك، أو البعير ليس لك، فقل: إنه أمانة عندي، صاحبه أودعه عندي فأنا وكيل على أن أحفظه، فلك أن تطالب الغاصب حتى تسترجعه.

    وكذلك: المضارب: إذا أعطاك إنسان عشرين ألفاً وقال: اتجر فيها والربح بيننا، فتسمى هذه مضاربة وتسمى قراضاً، فأنت منك العمل وهو منه المال، فلو غصبت هذه العشرون الألف فإنك تطالب الغاصب؛ لأنها أمانة عندك، فتطالب الغاصب حتى يعيد إليك ما أخذه من هذا المال الذي هو وديعة عندك، ولك فيه حق وهو بعض الربح، ولصاحبه حق، فأنت الموكل.

    كذلك المرتهن: إذا رهن عندك إنسان شاة أو كيساً أو سيفاً، ثم غصبه غاصب، فإنك تطالبه أنت أيها المرتهن، ولو كان غير ملكك، ولو كان ذلك الغاصب قريباً للمالك، ولو قال: هذا البعير بعير أخي فإنا أحق به، أو بعير ابن عمي، أو كيس جاري وقريبي فغصبه منك بغير حق، فإنك تطالبه؛ لأنه وديعة عندك.

    وثانياً: أنه وثيقة قبضته وأمسكته حتى يحل دينك وتبيعه إذا لم يوفك الراهن.

    وكذلك المستأجر: له أيضاً: مطالبة الغاصب، أياً كانت العين المؤجرة، فلو أنك استأجرت بيتاً، فجاء إنسان فغصبك وأخرجك، فإنك تطالبه.

    أو استأجرت كتاباً فغصب منك، فلك المطالبة، ولو لم يكن الكتاب لك.

    أو مثلاً: استأجرت سيارة تركبها فغصبت منك، أو بعيراً تركبه، أو بقرة تحلبها، فالغاصب يطالبه المغصوب منه إذا كانت مستأجرة عنده؛ لأنها أمانة عنده، والمال المضارب، والعين المرهونة، والعين المستأجرة كلها وديعة وكلها أمانة عند من هي في يده، فإذا غصبها غاصب فله مطالبة ذلك الغاصب.

    1.   

    باب إحياء الموات

    هذا الباب يتعلق بإحياء الموات، وهي الأرض المنفكة عن الاختصاصات وملك المعصوم، وتسمى مواتاً؛ لأنها أرض ميتة ليست لأحد، فمن أحياها ملكها.

    واختلف هل يشترط فيها إذن الإمام أو لا يشترط؟

    فالمشهور عن الإمام أبي حنيفة اشتراط إذن الإمام، وكذلك رواية عن أحمد ، وفي هذه الأزمنة يترجح عدم الإحياء إلا بإذن الإمام، نظراً إلى كثرة من يغلب عليهم الهلع، وكذلك الاستكثار، فيأخذون ما ليسوا بحاجة إليه وأيضاً: قد يحصل فيها شقاق ونزاع إذا لم تكن بإذن الإمام؛ فلذلك العمل في هذه البلاد: على أن الإحياء يشترط فيه إذن الإمام.

    قوله: (ومن أحيا أرضاً منفكة عن الاختصاصات): هناك ما يسمى بالأرض المختصة، فإن البلاد بحاجة إلى مراعي وبحاجة إلى مرتفقات، فتسمى هذه خصائص البلد، فليس لأحد أن يحييها؛ لأنه يضر بأهل البلد، وكذلك أيضاً: الإنسان إذا بنى داراً كان بحاجة إلى الأرض التي أمام بيته، موقف مناخة، وملقى كناسته، أو موقف سيارة، فليس لأحد أن يضايقه، فتسمى هذه اختصاصات.

    قوله: (ملك معصوم ملكها): وكذلك: إذا لم يكن فيها ملك لمعصوم، والمعصوم: هو المسلم والذمي، فإذا كان فيها ملك لذمي ولو كان كافراً لم تملك بالإحياء؛ لأنه قد ملكها ذلك المعصوم وبالطريق الأولى إذا كان مسلماً، فلا يحل لأحد أن يحييها.

    ثم اختلف أيضاً: في الإحياء في دار الحرب، فإذا كانت الأرض في دار حرب وليست في دار إسلام -يعني: أهل تلك البلد محاربون للمسلمين- فسبق إنسان وأحياها، إن قيل: إنه لا يملكها؛ وذلك لأنها لا تملك إلا بالاغتنام، أي: لا تملك إلا بأخذها غنيمة، فإذا لم تكن غنيمة فلا يحصل الإحياء.

    والقول الثاني: أنه يملكها ولو كانت في أرض حرب، والعمل على أنه يملكها إذا أحياها إحياء شرعياً، ويكون ذلك من جملة ما يحوزه المسلم كغنيمة يأخذها من بلاد المحاربين.

    وإذا قيل: بأي شيء يحصل الإحياء؟

    يقال: في هذه البلاد يحصل ما يسمى بالمنح -أن يمنح الإنسان أرضاً- وقديماً كان يسمى (إقطاعاً) أن يقطع الإمام أرضاً لمن يحييها، كما في حديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع وائل بن حجر أرضاً). يعني: قال له: هذه الأرض لك اغرس فيها واستغلها، فيكون هذا المقطع أحق بها، فإما أن يحييها، وإما أن يتحجرها، وإما أن يعجز عنها، والدولة في هذه الأزمنة إذا منحت، تشترط أنك تحييها في ثلاث سنين مثلاً، أو خمس، أو ست وتحدد له مدة، فإذا لم يحيها فإنه يستحق أن تنزع منه وتعطى لمن يحييها، حتى تستغل، فإن فيها منفعة فتستغل منفعتها، فمن أمسكها وتركها مواتاً عشرات السنين فقد أضاع منفعتها.

    وقوله: (ويحصل بحوزها بحائط منيع) أي: بأن يعني يبني عليها جداراً من جميع الجهات، وهذا الجدار لا بد أن يكون منيعاً، بحيث لا تدخلها الغنم، ولا البقر، ولا الكلاب، بل يردها هذا الجدار، فمن أحاط عليها حائطاً فقد أحياها، واستحق أنها تبقى في ملكه، واعتبر قد عمرها.

    الثاني: قوله: (أو إجراء ماء لا تزرع إلا به) أي: إذا أجري عليها ماء فإنها تملك بهذا، والعادة أن الزراع يبذرون ثم يجرون الماء، وعادة أنه يجري بسواقي.

    وفي هذه الأزمنة يقوم مقامها ما يسمى بالرشاش، ويعتبر سبباً في التملك، فإذا بذر فيها ثم رشها بهذا الرشاش الذي يسقى به الزرع ملكها، وصار أحق بها هو وأهله من بعده.

    ولو أجرى الماء -مثلاً- من مسافة ثلاثة كيلو مع سواقي إلى أن وصل إليها وزرعها ملكها، وأما أن يأتي بماء في قراب أو في سيارة ثم يصبه عليها فلا يملكها والحال هذه؛ وذلك لأنه يؤدي إلى أن كل أحد يأتي بقربة ويصبها في مكان ويقول: ملكت هذه البقعة!

    فلا بد أن يجري الماء، إما مع سواقي أو ما أشبه ذلك من أنابيب الري.

    وما زرعه على الطّل، أو على المطر، لا يملكها؛ وذلك لأنه ما أجرى إليها ماء، بل الماء الذي سقاه بها ماء السماء، فلا يملكها والحال هذه، ولكن يكون أحق بها ما دام زرعه باقياً.

    قوله: (أو قطع ماء لا تزرع معه)، كما لو جاء إلى أرض قريبة من الأنهار، أو من البحر، ثم حبس الماء الذي فيها ومنعه، وكانت مستنقعاً، فإنه يملكها والحال هذه؛ لأنها قبله لا تصلح أن تزرع، فقد كانت مستنقعاً -قطعة بحر أو قطعة نهر- فدفن ذلك المستنقع، أو حجز الماء الذي يمد إليها من البحر أو من النهر، فيملكها بذلك.

    وكذلك: إذا حفر بئراً فإنه يملك حريمها، وورد في حريم البئر خلاف:

    فمنهم من يقول: حريم البئر مد رشائها، ومنهم من يقول: حريمها خمسة وعشرون ذراعاً من كل جانب إذا كانت بئراً جديدة، وإذا كانت قديمة فحريمها خمسون ذراعاً من كل جانب، وورد في ذلك حديث: (للبئر البدي خمسة وعشرون ذراعاً، والعادي خمسون ذراعاً)، العادية: البئر القديمة، وإذا وجدت بئراً قديمةً قد اندفنت، وليست لأحد ولا يعرفها أحد، ثم إنك أحييتها، وحفرتها من أعلاها حتى أخرجت ماءها، وحتى وصلت إلى قعرها، فإن لها حريماً -يعني: حمى- من كل جانب: خمسون ذراعاً، وأما البئر الزراعية التي تزرع عادةً، فذهب بعضهم إلى أن حريمها ثلاثمائة ذراع من كل جانب إذا كانت للزرع، بخلاف ما إذا كانت لسقي الدواب، أو الامتياح -يعني: الارتواء منها- فإنه يكفيه خمسة وعشرون أو خمسون، وإذا كانت لا تكفي لعمقها، بأن كان عمقها -وهي بدية- ستين ذراعاً، أو عمقها خمسين ذراعاً، وقد رأينا آباراً في شمال المملكة عمقها أكثر من ستين باعاًًً -ليس ذراعاً- وذكروا لنا أن هناك بئراً عمقها قريب من تسعين باعاً، ففي هذه الحالة هم بحاجة إلى أن يكون حماها مد رشاها، وعادتهم أنهم يجتذبون الماء بالدلاء، والدلو معلق في رشا -حبل- ، ثم يربطون طرف الحبل ويضعونه على البكرة، ثم يربطونه على دابة -بعير مثلاً- وفي هذه الأزمنة على سيارة يجتذبوا الدلو من البئر إلى أن يخرج، فربما يكون طول الرشا نحو ثلاثمائة ذراع أو قريباً منها؛ فلذلك هي بحاجة إلى مد رشاها.

    فالحاصل: أن من حفر بئراً إلى أن وصل إلى الماء فإنه يملكها ويملك حريمها.

    وكذلك إذا غرس شجراً فيها مما لا يعيش إلا بالغرس، يعني: أخرج الماء من البئر ثم غرسه حولها ملك ما غرسه كما يملك ما زرعه، وإذا أخرج الماء وزرع به زرعاً ولو مائة باع ملك، وكذلك إذا غرس غرساً وسقاه من هذه البئر أو جذب ماء من بئر بعيدة وسقى ذلك الغرس: نخلاً أو تيناً، أو أترجاً، أو من الشجر الذي لا يقوم على ساق كبطيخ وقرع ونحوه، ملك الأرض التي غرس فيها.

    يقول بعد ذلك: (ومن سبق إلى طريق واسع فهو أحق بالجلوس فيه ما بقي متاعه ما لم يضر)، أي: من الناس من يكون معه بضاعة قليلة ويحتاج إلى أن يبسط بساطاً وينشر عليه بضاعته، ويعرضها للمشترين فإذا كان الشارع واسعاً وجاء إنسان وبسط بساطه في جانب من هذا الطريق، وترك فيه متاعه في صندوق ثقيل، أو نحو ذلك، وكلما أصبح نشر بضاعته فهو أحق بذلك المكان؛ لأنه سبق إليه، ولو طالت مدة بقائه فيه، وكذلك إذا منح من قبل البلدية، وإذا أعطته البلدية قطعة، وقالت: أنت تستحق هذه القطعة، ابسط فيها بساطك وانشر فيها بضاعتك، حتى تستغني عنها، أو تجد ما تستأجر به دكاناً، فإنه أحق بهذا المكان ولو طالت المدة.

    1.   

    باب الجعالة

    الجعالة: عرفها الشارح بقوله: أن يجعل شيئاً معلوماً لمن يعمل له عملاًمعلوماً أو مجهولاً بعوض معلوم.

    قوله: (كرد عبد) وفي المتن المحقق: ( لا كرد عبد) فـ"لا" هنا زائدة، وهو تكرار لها في: (مجهولاً) والصواب (مجهولاً كرد عبد) يعني: بدون "لا".

    صورة عقد الجعالة

    من أمثلة العمل الذي تجعل عليه الجعالة: رد عبد آبق، ورد لقطة، وبناء حائط؛ فهذه أمثلة للجعالة، معناه: أنه لا يتفق مع إنسان، ولو اتفق معه لكانت إجارة، ولكن يقول: من بنى لي هذا الجدار فله مائة، أو من رد شاتي التي هربت، أو التي ضاعت فله عشرة، أو من رد اللقطة التي فقدتها -دراهم مثلاً أو ثوباً أو كيساً أو سيفاً- من أتى بهذه اللقطة فله مائة أو فله عشرة فنسمي هذا جعالة. أي: جعلاً، لا أنه أجرة، فمن عمل هذا العمل استحقه، ومن فعله بعد علمه استحقه، وأما من فعله قبل علمه فإنه يعتبر متبرعاً.

    فلو مثلاً: وجدت شاة فلان -ضالة- وعرفتها، وأتيت بها، وأنت ما علمت، فلما أتيته ذكر لك أنه قد جعل لمن جاء بها عشرة، فلا تطالب بهذه العشرة؛ وذلك لأنك متبرع ومحسن في إتيانك بها، وكذلك لو سقط منه كيس، وعرفت أنه كيس فلان، ثم أتيته به، اعتبرت متبرعاً، فليس لك المطالبة، ولا تطالب بقولك: إنه أعطى لمن جاء بالكيس عشرة أو خمسة لاعتبارك متبرعاً قبل أن يأتيك أو قبل أن تعلم، وهكذا لو قال: من حفر هذه البئر إلى الماء فله ألف، ومن بنى هذا الجدار وأقامه على صفة كذا وكذا، فله مائة أو خمسمائة، فعلم بذلك إنسان أو جماعة وعمروا وبنوا، فإنهم يستحقونه، وإذا كانوا جماعة اقتسموا الجعل بينهم على حسب أعمالهم، وإذا كان بعضهم أشد أو أكثر عملاً استحق زيادة. هذه هي الجعالة.

    حكم الجعالة

    الجعالة عقد جائز وليست عقداً لازماً، فله أن يفسخه، وله أن يقول: قد رجعت عن قولي، ولن أعطي من رد ضالتي أو لقطتي شيئاً، وأنا الذي سوف أطلبها، ولا أعطي شيئاً على بناء الجدار، وأنا الذي سأبنيه، ففي هذه الحال إذا فسخ فإنه لا شيء لمن فعلها بعد الفسخ، لكن لو عمل العمل قبل أن يصل إليه خبر الفسخ، أي: علمت أنه جعل لمن رد بعيره عشرة، ووجدت البعير وأقبلت به، ولما أقبلت جاءك أناس وقالوا: إنه قد رجع وقال: لا يرده أحد، اتركوا البعير يرعى بنفسه، ولكنك قد أتيت به؛ فتستحق أجرة بقدر عملك، كما لو أتيت به إلى البلد قبل أن تعلم أنه أبطل الجعالة.

    وكذلك لو أن إنساناً قال: من بنى لي جداراً طوله كذا فله مائة، ثم إن إنساناً بنى ربع الجدار أو ثلثه، ثم ترك البقية، فلا يستحق شيئاً؛ لأنه لم يأت بما جعلت الجعالة عليه، أما لو بنى نصفه أو ثلثه، ثم جاء صاحب الجدار، وقال: رجعت لا أبذل له شيئاً، ففي هذه الحال يلزمه أن يعطي العامل أجرة عمله، فإن بنى نصف الجدار فله نصف الجعالة، وإن بنى ثلثه فله ثلثها، وهكذا إذا فسخ الجاعل فللعامل أجرة ما عمله.

    من أحكام الجعالة

    قوله: (إن عمل غير معدٍ لأخذ أجرة لغيره عملاً بلا جُعْل، أو معدٍ بلا إذن فلا شيء له)، لماذا؟

    لأنه عمله متبرعاً، فلو رأيت جداراً متصدعاً فهدمته وأقمته، ولم يجعل صاحبه عليه شيئاً، أو رأيت بعيراً هارباً شارداً فوجدته، ولم يجعل صاحبه عليه شيئاً، فهل تستحق شيئاً؟ ليس لك جعالة، ولا تستحق؛ لأنك متبرع بهذا العمل، أو رأيت ثوباً متسخاً فغسلته أو كويته، وهو لم يجعل أجرةً أو جعالة، فلا تستحق شيئاً؛ لأنك متبرع.

    وكذا: لو سقيت إبله، فرأيت إبله وردت على ماء وهي ظمأى وسقيتها، وهو لم يجعل أجرة ولا جعالة لمن سقاها، فلا شيء لمن سقاها؛ لأنه متبرع.

    هذا معنى قوله: (وإن عمل غير معدٍ لأخذ أجرة لغيره عملاً بلا جعل، فلا شيء له)؛ وذلك لاعتباره متبرعاً، فمن خاط ثوباً بلا جُعْل أو غسله بلا جُعْل، أو طحن دقيقاً بلا جُعْل -يعني: ما أمر به- ، أو رد بعيراً بلا جُعْل، أو نسخ كتاباً بلا جُعْل، فكل من فعل ذلك اعتبر متبرعاً ولا شيء له.

    وكذلك قوله: (معدٍ بلا إذن) إذا كان معداً للجعالة، ولكن فعلته بدون إذنه، فلا شيء لك. يعني: ما أذن لك أن تحفر بئره، ولو قلت: أخشى أن يموت حرثه أو شجره، فحفرتها حتى يكون فيها ماء، أو أحصد زرعه بدون أن يأذن لي ولو لم يجعل جعالة، أحصده حتى لا تأكله الطير أو الوحوش والدواب فليس لك جعل؛ وذلك لأنه ما أذن لك.

    قوله: (إلا في تحصيل متاع من بحر أو فلاة فله أجر مثله).

    وهذا مستثنى، فمثلاً: إذا سقط متاعه في بحر، سقط منه كيس في بحر فأنقذته، أو متاع أوان فأنقذتها، ففي هذه الحال لك أجرة المثل، وكذلك لو وجدت له كيساً في صحراء وعرفت أنك إذا لم تأخذه فإنه سيلتقط -سيأخذه اللصوص ونحوهم- أو وجدت شاة ضالة وعرفت أنك إذا لم تنقذها ماتت، أو تلفت، فتستحق تشجيعاً لك على هذا أجرة المثل.

    يقول: (وفي رقيق دينار أو اثنا عشر درهماً).

    يعني: العبد إذا هرب، وقد ورد عن بعض الصحابة أنهم قدروا أجرة رده ديناراً أو اثنا عشر درهماً، فإذا أبق العبد وجاء به إنسان إلى صاحبه، فإنه يستحق ذلك، والدينار: يقدر بأربعة أسباع الجنيه السعودي، والدراهم: اثنا عشر درهماً في ذلك الوقت، وهي مقابل الدينار.

    1.   

    باب اللقطة

    اللقطة هي: مال أو مختص ضل عن ربه، وتتبعه همة أوساط الناس، يعني: مال وجدته ساقطاً في أرض تتبعه همة أوساط الناس؛ وذلك لأن الفقهاء قسموا الناس إلى ثلاثة أقسام:

    القسم الأول: نفوسهم ضعيفة: لو سقط منه ريال لاهتم به، ورجع يطلبه، ولو سقط منه رغيف خبز لذهب يطلبه، ولحزن له، وجعل ينادي من وجده.

    القسم الثاني: رفيعة أنفسهم، لو ضاع من أحدهم مائة أو مئات ما همه ذلك، ولا اهتم بطلبها؛ وذلك لكثرة ماله، وعزة نفسه.

    القسم الثالث: أوساط الناس، يعني: عوامهم، وهؤلاء إذا سقط من أحدهم خبزة، لم يهتم بها ولم يسأل عنها، أو قضيب عصا لم يهتم بذلك، أو تمرة أو نحوها لم يهتم بها.

    وإذا سقط من أحدهم عشرة ريالات أو عشرون ريالاً رجع يتتبع أثرها، ويسأل: من وجدها؟ أو ضاع منه ثوب قيمته عشرة أو نحو ذلك، وغالباً أنه لا يهتم لما هو دون ذلك، فلا يهتم للريال أو الريالين أو ما أشبهها، ولا يهتم بالخبزة أو بالحبل أو نحو ذلك.

    فالحاصل: أن الأشياء التي لا تتبعها همة أوساط الناس لا يحتاج ملتقطها إلى أن يعرفها، بل من وجدها ملكها، قد ورد أن بعض الصحابة قالوا: (رخص لنا في التقاط الحبل والثوب بدون تعريف) .

    وثبت في الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد تمرة في الطريق فرفعها، وقال: لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها)، فهو دليل على أنها لا تحتاج إلى تعريف، فمثل تمرة، أو كسرة خبز، أو ما أشبه ذلك، مثل هذه لا تعرف.

    أنواع اللقطة

    ولذلك قسموا اللقطة إلى ثلاثة أقسام:

    القسم الأول: ما لا تتبعه همة أوساط الناس: كرغيف، أو سوط، أو عصا، أو شسع -يعني: سير النعل- أو ما أشبه ذلك، فهذه لا تعرف.

    القسم الثاني: الضوال التي تمتنع من صغار السباع: كخيل، وإبل، وبقر، وحمر.. ونحوها، فهذه لا تلتقط ولا تملك بتعريفها، وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن اللقطة؟ فقال: (اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا فهي لك أو استنفقها، ومتى جاء صاحبها يوماً من الدهر فوصفها فأعطها له، فقيل: فضالة الإبل؟ فغضب وقال: مالك ولها، معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر، حتى يأتيها ربها، فقال: فضالة الغنم؟ فقال: خذها، فهي لك، أو لأخيك، أو للذئب) ، فيقاس على الإبل الخيل؛ لأنها تهرب فلا يدركها السبع -الذئب ونحوه- وكذلك البقر، فإنها تمتنع من الذئاب العادية، ولا تقدر على افتراسها غالباً، ولكن قد تفترس إذا اجتمع عليها اثنان أو ثلاثة، وكذلك الإبل قد يجتمع عليها ثلاثة من الذئاب أو أربعة.

    القسم الثالث: بقية الأموال.

    فالحاصل: أن الضوال ثلاثة أقسام:

    الأول: لا تتبعه همة أوساط الناس، فهذا لا يلتقط، ولا يعرف.

    الثاني: ما يمتنع بنفسه من صغار السباع، كالخيل والإبل والبقر، فيحرم التقاطها، ولا تملك بالتعريف، ولو عرفها عشر سنين.

    الثالث: بقية الأموال، كالأثمان -الدراهم والدنانير- والمصاغ: حلي الذهب أو الفضة، والأمتعة، كالأقمشة والفرش، والأدفئة والقدور والأواني، والدواب والغنم ضأناً أو معزاً، والفصلان، وهي: أولاد الإبل الصغار، والعجاجيل: أولاد البقر، وهي جمع عجل، فهذه لمن أمن نفسه عليها أخذها، وأما إذا لم يأمن نفسه عليها فلا يأخذها.

    وعليه يحمل حديث: (لا يؤوي الضالة إلا ضال)، ويتأكد إذا خاف عليها، كأن يخاف على الشاة أن تفترس، أو خاف على الدراهم أن تلتقط، فيلتقطها من يخفيها، وكذلك إذا خاف على بقية المتاع كحقيبة مثلاً: ويعرف أن صاحبها سوف يأتي قريباً، وأنه إذا لم يأخذها اختطفت ففي هذه الحال يحفظها.

    يقول: (فلمن أمن نفسه عليها أخذها) يعني: التقاطها، وأما إذا لم يأمن نفسه وخشي أن نفسه تطمع فيها ويخفيها وهو يعرف أهلها أو لا يعرفهم، فإنه -والحال هذه- يعتبر ظالماً بأخذها، بل عليه أن يتركها؛ ليأخذها من يحفظها، ثم إذا أخذها فعليه حفظها، ولا يجوز له إهمالها؛ وذلك لأنها دخلت في عهدته، وإذا أهملها فإنه يضمن، فلو أنه أتى بالشاة وأدخلها مع غنمه ثم بعد ذلك أخرجها، فافترست، فإنه يضمنها؛ وذلك لأنها دخلت في ضمانه، فعليه أن يحفظها.

    وكذلك لو أخذ الحقيبة مثلاً، أو الجراب أو الكيس، ثم جاء به إلى بيته، ثم رده إلى مكانه، فإنه يضمن، وما ذاك إلا أنه أزال مكانها التي كانت فيها، وأزالها من موضعها، وربما أن صاحبها جاء بعد شهر فلم يجدها، وأيس منها، فإذا ردها فإنه يضمن، ويجب بعد ذلك تعريفها.

    تعريف اللقطة

    التعريف: هو النداء عليها في مجامع الناس غير المساجد حولاً كاملاً، كما في حديث زيد بن خالد يقول: (ثم عرفها سنة)، أي: حولاً كاملاً. أي: سنة هلالية، ينادي عليها في الأسواق وأبواب المساجد ولا يذكر صفتها كلها، فإذا كانت دراهم، قال: من فقد نقوداً؟ ولا يقول: من فئة مائة، أو من فئة خمسمائة، فإذا جاء صاحبها، فإنه لا بد أن يصفها أنها من فئة ريال أو من فئة خمسة -مثلاً- أو أنها في خرقة مثلاً، أو في بوك، أو ما أشبه ذلك.. ويصف عفاصها. أي: خرقتها التي هي فيها، وكذلك: إذا كانت حلياً، يقول: من فقد الحلي؟ والحلي إذا جاء صاحبه قال: صفه لنا؟ فإن قال مثلاً: قلائد أو أسورةً أو خواتيم، أو أقراطاً، فإذا وصفها ووصف عددها كم هي؟ وزنتها، وهكذا أيضاً: يذكر جنسها إذا كانت -مثلاً- أطعمة، أي نوع من الطعام؟ من الأرز، من أي نوع من التمر؟ من أي نوع من الثياب؟ طولها وعددها، فلا بد أن يذكر ذلك، الذي يأتي ويصفها.

    ثم بعدما يمضي الحول، يملكها حكماً، أي: يحكم بأنها للملتقط؛ لأنه جاء في الحديث: (إن جاء صاحبها وإلا فهي لك)، ويدخلها في ماله، ولكن بعد أن يكتب أوصافها، وكذلك إن كانت من الدواب، من الغنم أو من أولاد البقر أو أولاد الإبل، فإنه يذكر أوصافها ولونها وسنها عندما وجدها، وإن كانت من الدراهم كتب أوصافها في دفتر مثلاً، وكذلك: بقية أوصافها ونحوه.

    ويحرم تصرفه فيها، قبل معرفة ذلك، لقوله عليه الصلاة والسلام: (اعرف عفاصها، ووكاءها، ثم عرفها)، وعاءها: الخرقة التي هي بها إن كانت دراهم، وكذلك إن كانت حلياً، وكذلك نوع الكيس.

    (وكاءها) يعني: الخيط الذي تربط به.

    (وعفاصها) يعني: الإناء التي هي فيه، والعفاص: هو الوعاء أو الخرقة، (وقدرها). يعني: عددها، مائة أو ألف أو نحو ذلك.

    (وجنسها): أنها من فئة مائة أو من فئة خمسين أو من فئة مائتين، ولا يلزم أن يعرف أرقامها. يعني: نفس العملات الآن فكل ورقة لها رقم، والإنسان لا يستحضر أرقامها، ومتى جاء صاحبها فوصفها لزم دفعها إليه ولو بعد عشر سنين أو عشرات السنين.

    ثم يقول: (ومن أخذ نعله ووجد غيره مكانه فلقطة)، وكذلك: من أخذ ثوبه في حمام أو نحوه فوجد ثوباً غيره فإنه لقطة، ولكن في هذه الحال، إذا تحقق أن صاحب هذه النعل هو الذي أخذ نعله، فإنه يأخذ قدر نعله من هذه النعال، وإذا كانت متقاربة أو متساوية فإنه يلبسها إلى أن يجيء صاحبها.

    وكثير من الناس يلتقط اللقطة، ثم يكتمها لمدة شهر أو شهرين أو أشهر، ثم بعد ذلك يسأل، ويقول: وجدت لقطة، كيف أعرفها؟ فنقول له: قد أخطأت؛ وذلك لأنك كتمتها في هذه المدة، وصاحبها يهتم بها في الأسبوع الأول، وفي الشهر الأول، ويتسمع الأخبار، فإذا لم يسمع من ينشدها ولا من يعرفها أيس منها، وظن أنها سرقت، وأن الذي أخذها يخفيها ولا يبديها.

    فالواجب أن يبدأ في التعريف من اليوم الأول الذي وجدها فيه، ففي الأسبوع الأول يعرفها في كل يوم مرتين أو ثلاث مرات، ويكون التعريف في الأسواق وفي المجتمعات، وعند أبواب المساجد وإذا لم يقدر فإنه يؤجر من يعرفها، وأجرتها تكون منها. يقول مثلاً: يا فلان! عرف لقطة من ذهب أو من نقود أو ما أشبه ذلك، ففي الأسبوع الأول يعرفها كل يوم مرتين، ثم في الأسبوع الثاني يعرفها كل يوم مرة، وفي الثالث كل يومين مرة، وفي الرابع كل أسبوع مرتين، ثم بعد ذلك، يعرفها بقية السنة، في كل أسبوع مرة، كيوم الجمعة مثلاً، وفي هذه الأزمنة يمكن أن يكتفى بالإعلانات ويعلن عنها في الصحف، ويعلن عنها في الإذاعة وغيرها، ويكون ذلك مما يلفت انتباه صاحبها في تتبع الإعلانات.

    وكذلك أيضاً: يكون التعريف في الأماكن القريبة من مكانها الذي سقطت فيه، فإذا وجدها في السوق، فإنه يعرفها في هذا المكان وما قرب منه، وإذا وجدها في طريق عرفها قريباً منها، وكثيراً ما يسقط من السيارات -السيارات الناقلة- يسقط منها بعض الأمتعة فتحتاج إلى تعريف، ففي هذه الحال يعرفها في الأماكن التي يظن أن صاحبها يهتم بها ويأتي إلى ذلك المكان، فهذا الذي كتمها شهراً أو أشهراً، ثم بدأ يعرفها.. هل يملكها بعد السنة؟

    نقول: لا يملكها، بل تكون عنده كأمانة أو يدفعها إلى بيت المال أو إلى القضاة أو ما أشبه ذلك، ويستثنى من ذلك أيضاً: لقطة الحرم، فقد ورد فيها ما يدل على آكدية تركها، فلا تلتقط لقطتها، وإذا التقطت فإنها لا تملك، بل تبقى، حتى يجد صاحبها، فإن لم يجده فإنها توضع في رتاج الكعبة، يعني: في مصلحة البيت الحرام، لئلا يتهاون بها.

    1.   

    باب اللقيط

    قوله: (اللقيط: طفل لا يعرف نسبه ولا رقه، نبذ أو ضل، إلى التمييز)، والغالب أنه إذا نبذ لا يعرف نسبه، والغالب أنه ابن زنا، فكثيراً ما تزني المرأة وإذا وضعت نبذت طفلها في طريق أو في مسجد، ثم هناك من يأخذه ويربيه، ويتولى حضانته، فاللقيط قد يكون ابن عهر، وقد يكون طفلاً ضجر منه أهله، ولا يريدونه، ويريدون أن يضمه من يلقاه، وكذلك قد يضل من أهله ولا يعرف أهله، فإما أنه نبذ -يعني: طرحه أهله عمداً- وإما أنه تاه وضل، والعادة أنه إذا ضل فإنهم يهتمون ويسألون عنه كثيراً، أما إذا كان مميزاً فإنه يعرب عن نفسه، فإذا بلغ السابعة فالأصل أنه يتكلم ويعرب عن نفسه، ويسمي نفسه، ويعرف أباه ويعرف أهله، فلا يكون والحال هذه لقيطاً، بل يحفظ إلى أن يجده أهله، أو يصف مكان أهله.

    حكم الالتقاط

    قوله: (والتقاطه فرض كفاية)؛ لأن أخذه من مصلحته مخافة أن يهلك؛ لأنه إذا لم يؤخذ تعرض للهلاك؛ لعدم معرفته لمصلحة نفسه، فمن وجده فإنه يأخذه.

    وورد أن رجلاً جاء بطفل وجده ضالاً في برية إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال عمر (عسى الغوير أبوسا) وهذا مثَل يضرب لمن جاء بخبر عجيب، فأخبره بأنه وجده تائهاً أو ضالاً، فقال عمر : (لك ولاءه وعلينا نفقته)، معنى ذلك: أننا ننفق عليه من بيت المال، ولاؤه: يعني: حضانته، وتربيته وحفظه عليك فأنت محتسب، وإذا لم يحتسب أو كان عاجزاً فإنه يوكل به بأجرة من يحضنه وينفق عليه ويربيه، كما في هذه البلاد؛ فإن هناك حضانة لمثل هؤلاء.

    وكذلك أيضاً: هناك من يتولى تربيتهم وتنشئتهم وتدريسهم، وتعليم من ليس له والد أو لا يعرف والده، فهذا اللقيط لا يعرف نسبه وأنه ابن فلان، ولا يعرف هل هو رقيق أم حر، فالتقاطه فرض كفاية.

    قوله: (فإن لم يكن معه شيء وتعذر بيت المال، أنفق عليه عالم بلا رجوع) فتارةً أهله يجعلون معه مالاً، يربطون معه مثلاً: شاةً ليرتضع منها أو يجعلوا معه صرةً فيها دراهم، ويجعلون معه أكسيةً أو نحوها، حتى ينفق عليه من تلك النفقة، فما وجد قريباً منه أو معه فإنه له، وينفق عليه منه، فإن لم يوجد معه شيء، أنفق عليه من بيت المال؛ لأن بيت المال لمصالح المسلمين، فإن لم يتيسر فعلى من علم حاله أن ينفق عليه، ويلزم من علم حاله من المسلمين الذين يقدرون أن ينفق عليه بقدر ما يحتاجه، وليس له أن يرجع على أحد، بل يجعل ذلك من باب الاحتساب، ويعتبر أخذه فرض كفاية، وتعتبر النفقة عليه فرض كفاية.

    أحكام اللقيط

    يقول: (وهو مسلم إن وجد في بلد يكثر فيها المسلمون) فيحكم بإسلامه، وذلك لأن الأصل في الأولاد أنهم ولدوا على الفطرة، فإن كانت البلاد كلها أهل ذمة، فإنه يلحق بهم، وإن كان الأكثرون هم المسلمون أو فيها مسلمون كثير حكمنا بأنه مسلم، ثم يحكم بأنه حر ولا يجوز أن يحكم برقه؛ لأن الأصل في المسلم الحرية.

    قوله: (وإن أقر به من يمكن كونه منه ألحق به) إذا جاء إنسان وقال: هذا ولدي، فإن كان ذلك ممكناً فإنه يحلق به حرصاً على اتصال نسبه، وحرصاً على ألا يكون مجهول النسب، وإن ادعى أنه مملوكه، وأنه ولد من أمته، وكانت هناك دلائل، فإنه يعتبر مملوكاً له، ولو كان ابن زنا.

    وإذا كانت أمة مملوكة لإنسان وزنت، فولدها يكون رقيقاً لسيدها؛ لأن الولد يلحق أمه بالحرية والرق، وإذا تداعى فيه أكثر من واحد، وكل واحد يقول: هذا ابني، قدم لمن معه بينة، فالذي معه شهود يشهدون أنه ابنه فإنه يقدم، وإذا لم يكن مع أحدهما بينة، عرض على القافة، فمن ألحقته القافة به لحق به.

    والقافة: هم الذين يعرفون الشبه، وهناك أناس عندهم قوة نظر وقوة فكر، إذا رأوا الأثر علموا أن هذا أثر فلان، أو أنه قريب منه أو أنه قريب من فلان.

    وكذلك أيضاً: إذا رأوا إنساناً قالوا: قريب أو أخ لفلان بن فلان، فهؤلاء القافة، لا شك أنه يعتبر قولهم إذا جربت إصابتهم، وقد دل على ذلك، قصة مجزز المدلجي ؛ فإنه مر على أسامة بن زيد وزيد بن حارثة وقد غطيا رءوسهما وقد بدت أرجلهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، وسمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فسر بذلك! وكان بنو مدلج فيهم قبيلة يعرفون الشبه والأثر، وكان أسامة بن زيد أسود البشرة وأبوه زيد بن حارثة أبيض مشرب بحمرة، فطعن بعض الناس في نسبه، وقالوا: ليس ابناً له، فعند ذلك لما رآهما مجزز وقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، سر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أسامة حبه وابن حبه؛ ليرد بذلك طعن الذين يطعنون في نسبه.

    إذا عرض هذا اللقيط على القافة، وعرض الرجلان اللذان يدعيان أنه ولدهما، فمن ألحقته القافة به لحق به، فإن اختلف القافة عرض على واحد، فألحق بأحدهما، ثم عرض على الثاني فألحقه بالآخر، ففي هذه الحال، قيل: إنه يخير بينهما، وقيل: يقرع بينهما.

    وعلى كل حال، فهذا دليل على عناية الشرع بمصالح المسلمين، ثم هذا اللقيط الذي التقط وأحسن إليه يحكم بأنه مسلم ولا يجوز أن يلحق بالكفار إذا كان في بلاده مسلمون، ولو كان المسلمون قليلاً، وكذلك أيضاً: يعتنى به فيربى تربية صالحة حسنة، بمعنى: أنه يربى على الإسلام، وعلى معرفة دين الإسلام، ولو كانت البلاد فيها نصارى أو يهود أو أهل شرك أو نحو ذلك، حتى ينشأ على الفطرة التي فطر الله الناس عليها؛ لأن الله تعالى فطر الناس على الإسلام؛ ولأن: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه).

    فالأصل أنه مولود على الفطرة، وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم)، ومعنى: حنفاء. يعني: على الفطرة الحنيفية.

    فهكذا يربى الأولاد على الفطرة التي فطروا عليها -أي: على الإسلام- وكذلك أيضاً: في هذه الأزمنة يتساءل كثير من الذين يربونهم؛ وذلك لأنه إذا نشأ هذا الطفل الذي هو لقيط، فلابد أن يلحق نسبه بإنسان؛ لأنه إذا لم يعرف من أبوه ولا من أسرته وقبيلته، فقد يستضيق نفسه، وقد يتعقد في حياته، ولا يدري ما هو؛ فلذلك يخترعون اسماً، يعني: اسماً مناسباً ينطبق عليه ابن فلان بن فلان، إذا كان مثلاً: يصلح أن ينسب إليه، كأن يقال: ابن إبراهيم ولو كان إبراهيم بعيداً، وابن نوح ولو كان بعيداً أو ما أشبه ذلك.

    ويمكن أن ينسب إلى أبٍ قريب، فإذا كان أهل البلد محصورون، ويمكن أن يكون من قبيلة كذا: من قبيلة يربوع أو من قبيلة حنظلة، أو من الرباب من تيم، وهكذا حتى لا يتعقد، بل يجعل له أب وأسرة ونحو ذلك، وعلى المربي تربيته بالتعليم، ويعلم تعاليم الإسلام، ويعلم ما يفقه به، وما يعرف به كيف يعبد ربه، ويربى على أركان الإسلام، وعلى تعاليم تلك الأركان، ويعلم الثلاثة الأصول وما يتصل بها.

    فهذا ونحوه، دليل على عناية الشرع وما يتميز به عن سائر الأديان إذ لا يعتنون بهؤلاء اللقطاء بل يلقونهم، ولا يهتمون بهم، وتميز الإسلام بحرصه على ألا يكون هناك من يضيع نسبه، أو من يهمل فيتضرر به، إذا كان الإسلام يأمر بالإحسان إلى البهائم، وذكرنا قبل قليل: أنه لا يجوز إهمال البهائم حتى تموت مع القدرة على إنقاذها، فكيف ببني الإنسان؟!

    1.   

    الأسئلة

    اختلاف السعر في البيع

    السؤال: أنا أشتغل في محل تجاري ويأتيني الزبون فيسأل عن سعر السلعة فأقول له مثلاً: بخمسين ريالاً، وبعض الناس يشتريها بدون نقاش، وبعضهم يناقش في السعر فيأخذها مني مثلاً: بأربعين ريالاً، فما حكم هذا؟ وهل يلزمني أن أبيع للناس كلهم بسعر واحد؟

    الجواب: المختار أنك تبيعهم بسعر واحد، وهو السعر المتوسط؛ لأنك إذا قلت: إن الثوب بخمسة عشر، وقد جاء إلى من قبلك، ووجده بعشرين فإنه سوف يشتريه منك، وإذا جاءك إنسان وماكسك وراجعك إلى أن اشتراه بخمسة عشر، وجاء إنسان آخر ولم يراجع واشتراه بالعشرين، فقد زدت على ذلك الجاهل، وكان الأولى أن تجعل سعرك واحداً.

    وكثير من الباعة يزيد ويقول: الثوب بخمسة وعشرين، ويقول: إني إذا قلت: بخمسة عشر، لم يقبل الزبون لأول مرة، بل لا بد أن يماكس، وهذا غير صحيح، فالعادة أن الواحد إذا أراد الشراء، فإنه يسأل عدة دكاكين فيشتري من أرخصهم سعراً.

    حكم لقطة الحرم إذا كانت لا تتبعها أوساط الناس

    السؤال: ما حكم لقطة الحرم التي لا تتبعها همة أوساط الناس؟ وهل الحرم هو المسجد أو منطقة الحرم كلها، وجزاكم الله خيراً؟

    الجواب: إذا كانت لا تتبعها همة أوساط الناس كرغيف، أو حبل صغير مثلاً، أو عصا فلا مانع من التقاطها، والحديث الذي قال فيه: (ولا تلتقط لقطتها) يريد بذلك: اللقطة التي تتبعها همة أوساط الناس.

    والحرم: عبارة عن حدوده المحددة الآن، وهي التي لا يجوز قطع الشجر فيها، ولا يجوز تنفير الصيد فيها، وهي محددة بأعلام مبينة، فما كان وراءها فإنه ليس من حدود الحرم.

    حكم لقطة الشاة

    السؤال: رجل ذهب ليصطاد في الجنوب -وهو من سكان الرياض- فوجد في أحد الأمكنة شاة في الطريق العام، وليس عندها أحد، فأخذها معه إلى الرياض ورباها، ولها عنده الآن مدة طويلة، فهل يجوز له بيعها وأكلها؟

    الجواب: عرفنا أن الشاة عرضة للضياع وللسباع والهلاك؛ فلذلك لا تترك، إلا إذا ظن أن صاحبها يأتي قريباً، فإذا ظن أنه قريب، وأمن عليها الخطر؛ فليتركها.

    ففي هذه الحال يفضل أنه يتصدق بقيمتها، أو يتصدق بها، حيث إنه فرط في التعريف.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756376237