إسلام ويب

الإغراق في الجزئياتللشيخ : سلمان العودة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الاهتمام بالجزئيات عن الكليات وبالفروع عن الأصول، ظاهرة سلبية يعيشها المسلمون اليوم جميعاً، على كافة المستويات ولا شك أن هذا يعتبر خطأ كبيراً جداً، فلابد من التوسط في ذلك، فلا يهتم بالجزئيات اهتماماً كبيراً مع التقصير في جانب الأصول والكليات، وكذلك لا تهمل هذه الجزئيات بالكلية، بل يعطى كل شيءٍ قدره، لذلك فقد تكلم الشيخ حفظه الله عن هذا الموضوع، وذكر أمثلة على الاشتغال بالجزئيات، وأنه لابد أن يُهتم بأصول الدين، وفصل في هذه المشكلة، ثم بعد ذلك خلص إلى الحلول المناسبة لهذه المشكلة.

    1.   

    الإغراق في الجزئيات ظاهرة سلبية

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    أيها الأحبة:

    لا أشبه نفسي بين أيديكم في هذه الأمسية المباركة، في ليلة الخميس السابع عشر من شهر ربيع الثاني لسنة (1412هـ) إلا كما يكون الطالب إذا وقف في صالة الامتحان, وأراد أن يكتب ما في ذهنه من الجواب, فرأى أن أمامه سؤالاً طويلاً عريضاً يستغرق الجواب عنه ساعات وساعات.

    فقد تجشمت على إعلان هذا الموضوع، أو الموافقة عليه، ألا وهو: الإغراق في الجزئيات، وكنت أحسبه موضوعاً محدوداً يمكن أن يمر به الإنسان في ساعة أو بعض ساعة، فلما فكرت في هذا الموضوع وتأملت وقلبت وجوهه، وناقشته مع جمع من الدعاة والعلماء والمفكرين، وراجعت فيه ما راجعت، تبين لي أن هذا الموضوع أكبر من أن تحيط به جلسة، أو يحده حديث عابر، إذ أن الإغراق في الجزئيات كظاهرة سلبية في حياة المسلمين اليوم، بل ومنذ عشرات السنين، ليست ظاهرة محصورة في جانب فحسب، ليست خطأ يعيشه الدعاة مثلاً فقط، وإنما هي خطأ يعيشه المسلمون في كل مجالات حياتهم بدون استثناء، فهم مغرقون في الجزئيات في أدق أمورهم وفي أعظمها، واشتغالهم بالجزئيات شغلهم عن العناية بالكليات، والاهتمام بمعالي الأمور.

    جهود مبعثرة في الدعوة إلى الله

    أيها الأحبة:

    ومن ذلك قضية الدعوة إلى الله تعالى، فإن الدعوة إلى الله والتعليم ونشر العلم لا تزال جهوداً مبعثرة، يقوم بها أفراد محتسبون لوجه الله تعالى، يتحرك كل منهم بحسب اهتماماته، وبحسب طاقته، وبحسب مستواه ومداركه العقلية، ولا يكاد يوجد إطار عام يتحرك فيه الدعاة والعلماء، أو على أقل تقدير أن يوجد خطوط عريضة تستطيع أن توجه المسلمين إلى الاهتمام بالأمور بحسب أهميتها، فيعطي كل ذي حق حقه، ولا يجار على شيء على حساب شيء آخر.

    إننا في أمس الحاجة إلى من يقول لنا: هذا أمر كبير وهذا أمر صغير، وهذا أصل وهذا فرع، وهذا مهم وهذا أهم، وهذا يبدأ به اليوم وهذا يؤخر إلى الغد.

    ولكن هذه الكلمة نستطيع أن نقول: إننا لا نكاد نسمعها الآن على أي مستوى، فكل واحد منا لديه اهتمامات، اهتمام بقضايا سواء من أمور الفقه، أو من أمور الأحكام العملية التفصيلية الأخرى، أو من أمور بعض القضايا العلمية، أو من أمور الاقتصاد، أو من أمور السياسة، أو من أمور الإدارة، وتجد أنه يدور حول هذه القضايا التي تشغله دون أن يفكر، هل اهتمامه بهذا الأمر صحيح، أم أنه يجب أن يصرف الاهتمام إلى ما هو أجدى وأهم؟

    الناس وجزئيات المسائل

    لقد بُلينا بطائفة من المسلمين، بل وأحياناً من الدعاة إلى الله تعالى الذين هم على الافتراض من خيار المسلمين، همهم تحول إلى العناية بفروع المسائل وجزئياتها، فأسهروا ليلهم وأمضوا نهارهم في قتل هذه المسائل والجدال حولها، حتى لكأنها الدين كله، أو أنها من أهم مسائل الدين، مع أنها يمكن أن تكون سنة من السنن، حتى أنَّ من تركها متعمداً لن يكون عليه في ذلك حرج ولا تثريب، وإن كان الأولى بالمسلم أن يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في دقيق الأمور وجليلها.

    وفي مقابل ذلك بُلينا بطائفة أخرى، أرادت فيما تزعم أن تعالج هذا الداء؛ فتحول الأمر عندها إلى إهمال كامل للجزئيات، واعتبار أن هذه الجزئيات عبارة عن قشور، أو كما يقول بعضهم: عبارة عن توافه لا قيمة لها ولا ينبغي الاشتغال بها، بل أصبحت موضعاً للسخرية والنقد والتندر، من طائفة -مع الأسف- من الدعاة والوعاظ والعلماء والمفكرين.

    الدين كله لب

    مع أننا نقول في حقيقة الأمر: هذا كله دين، الكبير والصغير، والأصل والفرع، والجزء والكل، فكل ما يتعلق بقضية الإسلام فهو دين، وفي الحديث المعروف حديث عمر وأبي هريرة، لما جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله عن الإحسان والإيمان والإسلام كان من ضمن ما سأله -في بعض الروايات- عن قضايا تفصيلية عديدة مثل قضايا الغسل من الجنابة وغيرها، ومع ذلك لما انتهى قال: {هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم} فكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو دين ينبغي الاهتمام والعناية به، وألاّ يكون محط سخرية أو استهزاء أو نقد من أحد، لكن ينبغي أن يعطى كل ذي حق حقه، ويوضع كل شي في نصابه.

    إثارة بعض الدعاة للجزئيات

    إن من العجيب أيها الأحبة: أن بعض هؤلاء الدعاة الذين يزعمون أو يعتقدون، أنهم يحاولون الإصلاح والتغيير، هم الذين يتسببون في كثير من الأحيان في إثارة بعض الجزئيات، وإشغال الناس بها، وصرفهم عما عداها من معالي الأمور، هم الذين يتسببون في ذلك؛ لأنهم يطرحون وجهات نظرهم بطريقة غريبة، وطريقة استفزازية، وغير موضوعية وغير صحيحة أيضاً.

    ولعل أقرب مثال: أن أحد كبار المفكرين، كتب قبل يومين في جريدة سيارة في هذه البلاد وكُتب بخط عريض: لا يوجد دليل من القرآن والسنة -أو كلمة نحو هذا- على تغطية المرأة وجهها!! فإذا أثار هذه القضية فمن الطبيعي أن يكون هناك نقد ورد وأخذ وعطاء في هذه المسألة، وليس صحيحاً أن يطرح إنسان وجهة نظره في قضية معينة ثم إذا طرحت وجهة نظر معارضة قال: يا أخي! وجزئيات، وقشور، هذه توافه.

    حسناً إذا كان الأمر كذلك فلماذا تشتغل بها أنت؟ ولماذا تتحدث عنها؟ ولماذا لا تنصرف إلى ما تعتقد أنه أهم منها وأجدى وأنفع للمسلمين في دينهم ودنياهم؟؟!

    إعطاء كل مسألة حقها في الإسلام

    إذاًً: البحث والدليل رائد الجميع، ونحن لا ننتقد أحداً أن يتكلم في قضية من قضايا الدين، لكن ينبغي أن يتكلم بتعقل وموضوعية، واتباع للدليل، من كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله عليه السلام، أو إجماع الأمة، وكذلك ينبغي أن يكون الحديث عن الموضوعات بحسب أهميتها وثقلها في ميزان الإسلام.

    وإزاء هذين الطرفين المتقابلين: طرف المهتمين بالجزئيات، وطرف الذين يهونون من شأنها؛ كان لابد من طرح هذا الموضوع؛ ولذلك أحببت طرحها، مع أنني أقول: إن هذه القضية ليست قضية الدعاة فحسب، بل هي قضية المسلمين.

    لو أتيت إلى الرجل في بيته، وجدته يهتم بالجزئيات وينسى الكليات، ولو أتيت إلى المسئول في إدارته؛ لوجدت أنه يهتم بالجزئيات وينسى الكليات، ولو أتيت إلى المدرس لوجدته كذلك، ولو أتيت إلى الداعية لوجدته كذلك، هكذا الخبير الاقتصادي أو السياسي لوجدته كذلك!

    إذاً: العناية بالجزئيات وإهمال الأصول والكليات هو داء مستحكم في حياة المسلمين، وقبل أن يكون مستحكماً في حياتهم، هو داء مستحكم في عقولهم.

    1.   

    الأصول والفروع

    لا شك أن هذا مما يُحتاج إليه في تقسيم مسائل الدين، أن يُقال: إن مسائل الدين تنقسم إلى أصول وفروع، وإن شئت فقل: إلى كليات وجزئيات، أو أي تعبير آخر، وليس المقصود بالأصول والفروع، أن نقول: الأصول -مثلاً- هي أبواب العقائد والأمور النظرية العلمية، والفروع هي الأشياء العملية، كلا. ولكننا نقول المسائل الجليلة الكبيرة سواءً كانت علمية عقائدية أو كانت عملية، فهي من الأصول، والمسائل الدقيقة سواء كانت مسائل في الأمور العملية، أو كانت في الأمور العلمية فإنها تعتبر فروعاً، كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى [6/56].

    المسائل العملية فروع وأصول

    فمثلاً: العلم بوجوب الواجبات -كأركان الإسلام الخمسة- هو من قضايا الأصول الظاهرة، مع أنه أمر عملي، الصلاة والزكاة والصوم والحج، وقبلها أيضاً الشهادتان، وبالذات الأركان الأربعة الأخرى، فإنها ظاهرٌ جداً أنها أمور عملية؛ ومع ذلك فالعلم بوجوبها هو من قضايا الأصول الظاهرة، ولذلك كان من جحدها كافر، مثله في ذلك مثل من جحد مسائل الاعتقاد الثابتة المشهورة المتواترة التي لا تخفى أدلتها، كمن جحد -مثلاً- قدرة الله تعالى أو علمه وأنه بكل شي عليم، أو أنه سميع أو بصير، أو سائر أركان الإيمان الستة، التي ذكرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

    كما أننا نجد في المسائل العملية فروعاً وجزئيات. فمثلاً قضية الصلاة: الصلاة أصل، لكن تفاصيل سنن الصلاة وما يستحب أن يقال فيها، هذا ليس أصلاً، بل هو من الأمور الدقيقة، فهو يصح أن يسمى فرعاً أو أن يسمى أمراً جزئياً.

    فهل ترى يا أخي -مثلاً- أن من العدل أن نستغرق وقتاً في الحديث عن جزئية، من هذه السنن الواردة في الصلاة -كما سيأتي الإشارة إلى شيء منها- كالحديث عن جلسة الاستراحة، أو الحديث عن التورك، أو الحديث عن صفة الهوي إلى السجود، هل يسجد على يديه أولاً، أو على ركبتيه أولاً؟

    هل ترى أن من الحكمة أن نستغرق في هذه المسألة ونقتلها بحثاً، ونؤلف فيها عدداً من الكتب، وتكون هي حديثنا في مجالسنا، وهي مجال للمنافرة والمنافسة بين الأقران وبين الطلاب، ويتلقاها صغار طلاب العلم قبل كبارهم؟

    على حين أنك لا تكاد تجد من يتكلم مع الناس في قضية الصلاة، وأهميتها ومنـزلتها من الدين، كلاماً يصل إلى قلوبهم ويخاطبهم ويخالط شغافهم، ويدعوهم إلى ارتياد المسجد في كل وقت..! ولا تجد -مثلاً- من يتكلم عن قضية الخشوع في الصلاة، الذي هو روحها ولبها، بل إنك تجد من الفقهاء من يقول: إن الخشوع في الصلاة مستحب وليس واجباً! مع أن الصلاة التي لا يكون فيها خشوع وحضور قلب وإقبال، لا تؤثر في صاحبها تقوىً لله عز وجل، ولا خوفًا منه، ولا إقبالاً على الطاعة والعبادة، وإن كانت بكل حال، هي صلاة شرعية ما لم يرتكب فيها ما يبطلها.

    المسائل العلمية الاعتقادية فروع وأصول

    إذاً: في المسائل العملية فروع وأصول وكذلك في المسائل العلمية الاعتقادية كليات وجزئيات، أو فروع وأصول، فمثلاً: أركان الإيمان الستة، التي يقرؤها صغار الطلاب في المدارس، أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، هذه أصول وكليات وقضايا عامة لا شك فيها، فإنكارها كفر، والحديث عنها من أَوْلى الأولويات وأهم الضروريات، ولكنك تجد في مقابل ذلك في مسائل الأمور العلمية والاعتقادية جزئيات، من المؤكد أن العبد لا يُسأل عنها في قبره، وليست من شروط دخول الجنة.

    فمثلاً سؤال: هل رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء أم لم يره؟ مثل آخر: قضية النـزاع في معاني بعض الآيات القرآنية، أو بعض الأحاديث النبوية، بل حتى النـزاع في ثبوت بعض الأحاديث أو عدم ثبوتها.

    كذلك قضية الكلام وما يتكلم به أهل المنطق فيما يسمونه بالجوهر والعرض، أو بقاء الأعراض، وكذلك قضية فناء النار: هل تفنى النار أو لا تفنى؟

    هذه من القضايا التي ليست من القضايا الكلية، التي جاء النبي صلى الله عليه وسلم ببيانها بياناً واضحاً لا إشكال فيه، بحيث أن يكون المخالف فيها كافراً أو فاسقاً أو مبتدعاً، بل هي من القضايا التي يمكن أن تعتبر من أمور الفروع والجزئيات في المسائل العلمية.

    وليست هذه كتلك، فالمؤكد -أيضاً- أن العبد لن يُسأل في القبر: هل تؤمن بفناء النار أم لا تؤمن به؟

    وليس هذا من شروط دخول الجنة -مثلاً- أن يقول هذا أو ذاك. ولكنه ينبغي للعبد أن يؤمن بأركان الإيمان الستة والتي منها الإيمان باليوم الآخر وما فيه، مثل الإيمان بالجنة وبالنار، وليس مجرد الإيمان اللفظي، وإنما الإيمان الذي يتحول إلى عقيدة في القلب، ويتحول إلى سلوك وعمل، ويتحول إلى تحريض للمؤمن على مواجهة متاعب الطريق، والصبر في سبيل الله والجهاد، وإيثار ما يبقى على ما يفنى، وإيثار الآخرة على الأولى.

    فهذه أمور كلية في باب الاعتقاد، وتلك أمور جزئية والأمر في ذلك -إن شاء الله تعالى- واضح لا إشكال فيه.

    الأصول والفروع في أمور الحياة الدنيا

    كلنا ندرك ببديهة عقولنا، أن هناك أموراً كلية وجزئية أو هناك أصول وفروع، وأن هناك مهم وهناك أهم، وهذا أمر ليس مخصوصاً فقط بما ذَكَرتُ، بل حتى في أمور الحياة الدنيا.

    فمثلاً لو نظرنا إلى جسم الإنسان: جسم الإنسان فيه القلب، والمخ، والأجهزة الرئيسية في الجسم، كالجهاز الهضمي والجهاز التنفسي، هذه أشياء أصلية أساسية في الجسم، لا غنى له عنها بأي حال من الأحوال.

    لكن هناك أشياء أخرى كالأطراف مثل أصابع اليدين وأصابع الرجلين، قد يُقطع من الإنسان أصبع أو أصابع ويبقى الإنسان حياً سليماً معافى, فليس الاهتمام بالقلب والمخ والجهاز الهضمي، والجهاز العصبي، والجهاز التنفسي -مثلاً- كالاهتمام بالظفر إذا انقطع أو انقلع، أو الاهتمام بالبنان وطرف الإصبع، هذا أمر يدركه الجميع.

    وكما أنه معروف من الناحية العقلية والطبية والواقعية، فكذلك هو من الناحية الشرعية، فلو أن إنساناً اعتدى على آخر بقطع إصبعه، أو أنملة من أنامله، لم يكن عقابه أو قصاصه أو جرمه في ذلك كجرم إنسان اعتدى على روح الإنسان، أو اعتدى على جهاز حسَّاس، أو تسبب في تعطيل بعض حواسه، التي يحتاج إليها في حياته.

    وهذا أيضاً لا يعني التفريط في شيء، لا يعني أن الإصبع ليس لها قيمة ولا أهمية، ولكن لا يعني أن تضع الإصبع مكان القلب، أو مكان المخ، أو مكان الجهاز العصبي، أو الجهاز الهضمي، أو الجهاز التنفسي! تعطي كل شيء بحسبه، ولا تفرط في شيء أو تهمل شيئاً، ولكن هذا كبير وهذا صغير، وهذا مهم وهذا أهم، وهذا أصل وهذا فرع، وهذا كل وهذا جزء.

    مثال آخر: لو تصورت مدينة من المدن كـالرياض -مثلاً- أو غيرها، هذه المدينة لسكانها حاجات ضرورية، فمن الحاجات الضرورية مثلاً: الماء، حاجتهم إلى أن يتوفر الماء للشرب، وإلى أن يكون ماءً نقياً صافياً صحياً، قضية الهواء الذي يتنفسونه، أن يكون هواءً نقياً بعيداً عن التلوث، قضية الطعام وتوفير السلع والمواد الاستهلاكية التي يحتاجونها في يومهم وليلتهم.

    هذه قضايا لا غنى للإنسان عنها؛ لأنه لا يمكن أن يعيش الإنسان بدون هواء أو ماء أو طعام، فهي حاجات ضرورية لا غنى عنها ولا بد للإنسان منها.

    وهناك في مقابل هذا أمور ثانوية، كالأمور الجمالية -مثلاً- والحدائق والمنتزهات وغيرها، وهذه الأشياء ليس بالضرورة أن يفرط الإنسان فيها، لكن ليس صحيحاً أن يهتم الإنسان بالقضايا التجميلية، والقضايا الشكلية والقضايا التحسينية على حساب القضايا الكلية، فإذا أمكن أن يجمع الإنسان بين هذا وذاك فيُوفر للإنسان الهواء والمناخ والماء والطعام الملائم، وقبل ذلك كله يوفر له حاجاته المعنوية، حاجات الدين والخُلق والتقوى، وحاجات الحماية، ومع ذلك إذا استطاع أن يضيف إلى هذا العناية بالقضايا التجميلية والتحسينية ونظافة الشوارع وتحسين الحدائق، هذا أمر جيد ونور على نور. لكن إذا كان لا يمكن الجمع بين هذه الأمور، فينبغي أن يبدأ بالأهم: توفير الضروريات التي لا بد للإنسان منها، وتلك الأمور الأخرى إن تيسرت فبها، وإذا لم تتيسر اليوم فقد تتيسر غداً أو بعد غد.

    وإذا كان هذا على مستوى مدينة، فتصور ذلك على مستوى دولة بأكملها، فإن المدن الكبرى في أي دولة بما في ذلك العواصم والقصبات الرئيسية، هذه هي شريان الحياة في أي دولة من الدول، ولذلك إذا أراد عدو أن يعرب عن نهاية التحدي لدولة، فإنه يحاول أن يعتدي على عاصمتها؛ لأنه يعتبر هذا ضرباً في الصميم، كأنك أصبت إنساناً أو حاولت أن تصيبه في قلبه وفي صميم فؤاده، على أن هناك في مقابل هذا قرى صغيرة في الأطراف، وبوادي وهجر ومدن صغيرة، وأشياء لا شك أن العناية بها ضرورية، وفواتها يعتبر خطراً مهدداً؛ لأنه قد يتطور إلى ما بعده، لكنه لا يمكن أن يقاس بحال من الأحوال، بضياع المدن والقصبات الرئيسية.

    ولذلك كان الفرسان والقواد على مدار التاريخ، يعتنون بتحصين المدن الكبرى والعواصم عناية خاصة، ويولونها اهتماماً من نوع خاص؛ لأنهم يدركون أنها هي القلب النابض، وإذا توقف القلب عن دفع الدم -توقف عن النبض- معنى ذلك الحكم على الجسم كله بالزوال والفناء.

    1.   

    العدل مع الأصول والفروع

    إذاًً: هذه القضية معروفة عند الإنسان في أموره الدينية والدنيوية والمدنية، وسائر أموره على حد سواء، ولا يعني تقسيم هذه الأشياء، إلى أن هناك أشياء مهمة وأشياء أهم منها، وأشياء كلية وأشياء جزئية، وأشياء أصلية وأشياء فرعية أن نقول لك: إن تفرط في الأشياء الفرعية!!

    أرجوك يا أخي لا تفهم مني هذا، وإياك إياك أن تحمل كلامي ما لم أقل، فإن الله تعالى يحب العدل، وأنت تفهم الكلام على ما قيل دون أن تشتط بالكلام إلى كلام لم يقل، دعني ولا تحكم على ما في قلبي، ولكن احكم على الذي تسمعه مني.

    نحن نقول: هناك أصول وفروع، هذه الأصول ينبغي أن تُعطى من العناية حقها وقدرها، وكذلك الفروع تعطى من العناية حقها وقدرها، لكن من المؤكد أنه ليس حق الأصول كالفروع، ولا حق الكليات كالجزئيات، ولا حق الضروريات كالمسائل التحسينية أو التكميلية أو الحاجية.

    نحن نتفق جميعاً لو أن إنساناً كان يهتم بعلاج شيء في إصبعه، أو علاج ظفر له، وهو يعاني من مرض مزمن في قلبه، أو يعاني من جلطة في المخ -مثلاً- أو أنه يهتم بعلاج زكام، على حين أن عنده مشكلة قد تؤدي به إلى الوفاة!!

    إننا نعتبر هذا نوعاً مما يخالف العقل والحكمة، فليس من العقل والحكمة أن تهتم بهذه القضية الجزئية وتهمل الأصل، ليس العقل والحكمة فقط، بل حتى يخالف الشرع، فالشرع لا يأذن للإنسان أن يشتغل بعلاج قضية جزئية في جسمه، بما يترتب عليه فوات الأصل، وإذا كان ولابد فالمحافظة على الأصل أولى، وإذا كان من الممكن أن تجمع بينهما فهذا أمر جيد.

    لو أن إنساناً اهتم بتسمية المدن أو ترقيم شوارعها، أو تنظيفها أو وضع الحدائق؛ ولكنه غفل عن توفير الحاجات الضرورية، لم يكن هذا الأمر محموداً بحال من الأحوال، فلابد من تأمين ضرورات الدين والدنيا قبل أي شيء آخر.

    إذاً هناك ضرورات وهناك كماليات وهناك تحسينات، وهي درجات بعضها فوق بعض.

    نحن لا ندعو إلى إهمال شيء منها، لكننا ندعو إلى أمرين:

    الأول: العناية بالجميع؛ لأنه من الدين، فالأصل من الدين، والفرع من الدين، والكل من الدين، والجزء من الدين، نحن ندعو إلى الاهتمام بالجميع لأنه من الدين.

    ولكننا ندعو ثانياً: إلى أن يعطى كل شيء ما يستحقه فلا يوضع الأصل مكان الفرع، ولا يوضع الفرع مكان الأصل.

    1.   

    ظاهرة الاهتمام بالفروع دون الأصول

    والغريب أيها الأحبة أن هذا الأمر ظاهر من وجوه عديدة:

    أولاً: أنت حين تقرأ القرآن الكريم، أنا أتعجب ونحن نسمع جميعاً قراءة إمامنا جزاه الله خيراً، فهذه الآيات المزلزلة التي تهز القلوب، وتجر الدموع حتى من الغلاظ القساة، هذه المعاني الكبيرة العظيمة التي تردد في آيات القرآن الكريم، لا تكاد تجد وجهاً من القرآن الكريم، إلا وفيه الحديث عن الدار الآخرة والبعث والحساب، كم أخذت من اهتمام الدعاة والعلماء والمصلحين والخطباء والمربين؟!

    أقول بدون تحفظ: إنها لم تأخذ مقدار ما أخذته قضية جزئية فرعية من أحوال كثير من الدعاة، ولا أبالغ إذا قلت: إن من الدعاة من قد يهتم بقضية التسبيح باليد اليمنى أو باليدين كلتيهما، ربما يهتم بهذه القضية، أكثر مما يهتم بتلك القضايا الكبرى، التي أبدأ القرآن فيها وأعاد، والتي هي موضوع القرآن الكريم في معظمه، قضايا الاعتقاد الكبرى التي تُسَيِّر دفة الحياة، وتحكم العقول، وتصلح القلوب، وتبني الأمة، وتحدد الاتجاه.

    أصبحت قضايا لا نحتاج إليها إلا في حالة واحدة، وانظر كيف انتكست المسألة مع الأسف الشديد؟

    إذا أردنا أن نؤكد للناس، على أهمية قضية جزئية، حاولنا أن نتحايل بربطها بالأصل حتى تصبح قضية مهمة بدليل أنها قضية ترتبط بالعقيدة، وقد يكون ربطها بالعقيدة صحيحاً فتكون مهمة فعلاً، ولكن أحياناً قد نتكلف ربطها بالعقيدة؛ لنؤكد للناس أن هذه قضية مهمة، مع أننا نسينا العقيدة نفسها في بعض الأحيان، التي نستخدمها أو نحاول أن نستفيد منها في ذكر بعض القضايا الجزئية وتضخيمها وتكبيرها.

    1.   

    الولاء والبراء في الإسلام

    أضرب لك مثالاً: قضية اليهود والنصارى، أو مسألة الولاء والبراء بشكل عام، وبغض أعداء الإسلام، واتخاذ طريق آخر مناوئ لهم، وإعلان الحرب عليهم بكل صوره وأشكاله، والبراءة منهم، والكفر بهم وبما يعبدون من دون الله، واعتقاد عداوتهم للمسلمين، وأنهم لا يريدون للأمة خيراً في حاضرها ولا مستقبلها في دينها ولا في دنياها، قال تعالى: لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118] وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51] وقال: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120] وقال: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم:9] إلى آخر حشد هائل جداً من القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة، يبدئ ويعيد في قضية البراءة من المشركين، وإعلان هذه البراءة والبعد عنهم، ومجافاة طريقهم، ومجانبة خطهم ومنهجهم، قال تعالى: كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4].

    المسلمون والولاء والبراء

    هذا المعنى الكبير ما نصيبه من عقولنا؟

    وقلوبنا؟

    ومجالسنا؟

    وصحافتنا؟

    ما نصيبه من إعلامنا؟

    ومجتمعاتنا؟

    ومؤسساتنا؟

    سواء كانت مؤسسات رسمية أو غير رسمية، ما نصيب هذا الموضوع وإبرازه وتربية الناس عليه؛ بحيث يصبح جزءاً من حياتهم لا يتجزأ، ويأخذ حجمه الطبيعي وهو حجم كبير أو قليل! لكننا في الوقت الذي نتناسى فيه خطر النصارى أو خطر اليهود، ونتناسى تحالفهم الخطير اليوم على أمة الإسلام، وتناديهم للقضاء على هذه الأمة، وصراخهم المسلمون قادمون, ونسي هذا الحلف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة الأمريكية بالذات وإسرائيل، وإصرار أمريكا على حماية إسرائيل وحفظ أمنها، وتوفير كافة الضمانات الممكنة لها، وتحقيق كل مطالبها، بل ومساهمتها أصلاً في وجود هذه الدولة، ثم في بقائها، ثم في حمايتها، ثم في توسعها، ننسى خطر اليهود، وننسى خطر النصارى؛ لكننا قد نستخدم هذه القضية حينما نريد أن نلفت نظر الناس إلى أمر مهم، تقول: كيف؟!

    أنا أوضح لك:

    يقع بيني وبينك خلاف في مسألة من المسائل الفرعية، وهو خلاف جائز؛ لأن المسألة ليس فيها نص من الكتاب والسنة، والمؤكد أنك لن تسأل عنها في القبر، وأنك لا يشترط لكي تدخل الجنة أن تقول فيها؛ لأن المسألة ما بيَّنها القرآن بياناً لا يلتبس على أحد، وقد لا تكون وردت في القرآن أصلاً، أو لا تكون وردت في السنة، لكني اختلفت وإياك في هذه المسألة، فأنت قد تجد في هذا الأمر فرصة لأن تقول: إن هذا الكلام خطير، وهذا الكلام لا يجوز، وهذا فيه وفيه وفيه، ولكي تقنع الناس بأن هذا الكلام فعلاً خطير وضار وينبغي ألا يصدق؛ فإنك تلجأ إلى أن تقول القول في هذه الفئة والطائفة أنها أخطر على الإسلام مِن اليهود والنصارى!!!

    الآن احتجنا إلى قضية الكلام عن خطورة اليهود والنصارى؛ حتى نؤكد للناس أن المسألة هذه خطيرة، وقد لا تكون كذلك، وقد تكون كذلك -الله أعلم- فالمسائل تتفاوت، لكن العناية بالقضية الأصلية ابتداءً وتربية الناس عليها، وبناء النفوس بها، وشحن القلوب، هذا غير موجود، ولماذا نضحك على أنفسنا؟

    لماذا لا نتقي الله سبحانه وتعالى، وننظر إلى واقعنا وإلى أحوالنا نظرة فاحصة، نظرة الذي يبحث عن الخطأ ليتجنبه، ويبحث عما يرضي الله سبحانه وتعالى ليفعله، فالعبد يتعامل مع ربه عز وجل، خاصة إذا كان في مجال الدعوة، وفي مجال التعليم، وفي مجال طلب العلم.

    1.   

    قضية العقيدة وأهميتها

    مَثَل آخر -ليس ببعيد عن السابق-: قضية العقيدة، كل إنسان يدرك أهمية العقيدة، وأن هذه العقيدة هي المحرك الذي يدعو الإنسان إلى فعل أي شيء، فالإنسان -أصلاً- لا يمكن أن يتحرك إلى فعل أي شيء، إلا بناءً على معتقد راسخ لديه، أنه ينبغي أن يفعل كذا أو أن يترك كذا، وهذه قضية مسلمة حتى عند الكفار، يدركون أنه لابد أن يكون لديهم فكر أو تفكير في هذه المسألة قبل أن يقدم عليها.

    إذاً يسبق الفعل دائماً فكرة، أو عقيدة مستقرة في قلب هذا الإنسان تدعوه إلى فعل هذا الشيء أو ترك ذلك الشيء، وإذا كانت العقيدة عقيدةً صحيحةً صافية، دعت الإنسان إلى فعل صحيح صافٍ، وإذا كانت العقيدة عقيدة منحرفة، فقد تدعو الإنسان إلى فعلٍ منحرف.

    فالعقيدة أولاً هي الأساس، وكلنا نتكلم عن هذا وقد نقوله في بعض مجالسنا.

    استخدام العقيدة بشكل صحيح

    لكن يأتي السؤال: هل نحن نتكلم عن العقيدة بشكل صحيح؟

    هل نحن نربي الناس عليها بشكل جيد؟

    هل نحن نربطها ونربط الأحداث بها ربطاً صحيحاً؟

    أم أننا نستخدمها أحياناً للإعراب عن خطورة أمر، كما ذكرت قبل قليل.

    فإذا أردنا أن نتكلم عن هذا الموضوع أنه لا يصلح، قلنا: إن هذا خطير وكذا وكذا، وحاولنا أن نربطه بالعقيدة، وقد يكون ربطنا به بالعقيدة أمراً صحيحاً وقد يكون أمراً خاطئاً، لكننا تكلفنا ذلك حتى نُحذِّر الناس من القول بهذا القول أو من فعل هذا الفعل؛ لأنه أمر يخل بالعقيدة، والإنسان إذا شعر أن هناك شيء يتعلق بالعقيدة يحجم عنه.

    إذاً الأصل أن يهتم الإنسان بعقيدته، بتربية الناس على العقيدة، وببنائها في النفوس، وبشحن القلوب بها، وبدعوة الناس إلى تصحيح عقائدهم، وإلى تصحيح التوحيد، وتصحيح العبادة، والإيمان الحق بالله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله، والإيمان الحق باليوم الآخر.

    العقيدة تؤخذ من الكتاب والسنة

    لكن كم هو مؤسف أن أقول أيها الأحبة: إننا في الوقت الذي نتكلم فيه عن قضية العقيدة، كثيراً ما نجور على هذه العقيدة من حيث لا نشعر، كيف ندرس العقيدة؟

    لأن الذي نعرف أن السلف الصالح رضي الله عنهم حين تقرأ كتبهم؛ فإنك تجد أن طريقتهم في تقرير العقيدة -كما في كتب الإيمان لجماعة من أهل العلم والتوحيد، وغيرها من كتب السنة- آية محكمة من كتاب الله، وحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ودور العالم ينحصر غالباً في وضع عناوين مناسبة لهذا الحشد من الآيات والأحاديث التي ساقها، فكان الناس يأخذون العقيدة واضحة سهلة قريبة من النفوس، بدون تكلف ولا تعقيد ولا أخذ ولا رد.

    العقيدة من كتاب الله تعالى ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واضحة صافية نقية كما أخذها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، بل كما كان يأخذها الأعرابي الذي يأتي من أطراف البادية، ويجلس عند الرسول صلى الله عليه وسلم ساعة أو ساعتين، فيعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أصول الإيمان، وأصول الاعتقاد، وأصول الأشياء العملية، ثم ينصرف إلى قومه مؤمناً مسلماً، بل ينصرف إلى قومه داعياً إلى الله عز وجل.

    تسهيل أمر الدين: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17] أحياناً تجد الطالب الذي يتخصص في العقيدة، وقد يقضي سنوات طويلة في دراسة العقيدة يدرس قضايا منطقية وفلسفية، وقضايا الجوهر، والعرض، وقضايا وأمور، ربما يحتاج وقتاً طويلاً لكي يفهمها، ثم يحتاج وقتاً طويلاً لكي يناقشها، ثم يحتاج وقتاً طويلاً لكي يفهم الرد، ثم يحتاج وقتاً أطول لكي يفهم أو يقتنع بأن هذا الرد صحيح، وقد يبقى في قلبه شبهة.

    ومما يروى أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، جاءه الإمام ابن القيم، فكان يسأله عن مسائل، فقال له ابن تيمية رحمه الله: لا تجعل قلبك مثل الإسفنجة يتلقى هذه الأشياء ويتشربها، فإنه حينئذٍ قد لا تخرج منه، وإن خرجت يبقى أثرها.

    بمعنى: أنه ليس الأصل أن يفترض الإنسان شبهات، وانحرافات، ويفترض مذاهب باطلة، ويبقى يرد عليها، ونُعلِّم الطالب الصغير والمسلم الجديد منذ أن يدخل في الإسلام أن هذا ضال، وهذا منحرف، وهذا خطأ وهذا باطل!! يا أخي، علِّمه الحق أولاً، علِّمه الحق نقياً صافياً من كتاب الله تعالى، ومن سنة رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا خشيت أن يواجهه مثل هذه الأشياء، بحكم واقعه العملي، تعطيه إياه بطريقة سليمة مناسبة؛ لأنه من المؤكد أن الإنسان لو عرف العقيدة الصحيحة، عرف العقيدة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، نقيةً صافيةً لا غموض فيها ولا غبش، كما تلَّقاها الجيل الأول والصدر الأول، وأشرب قلبه بها وأحبها، هذا الإنسان لو مات على ذلك، وهو لم يدرِ أن هناك طائفة من الطوائف -مثلاً- اسمها الأشاعرة، وما درى أن هناك طائفة اسمها المعتزلة، ولا علم أن هناك طائفة اسمها الجبرية، والقدرية، والجهمية، والمعطلة، كل هؤلاء ما عرفهم، ولا يدري من أي شاربة يشربون، ولا من أي واردة يردون، لكنه عرف العقيدة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى عليه وسلم، ألم تتحقق له النجاة بإذن الله تعالى؟

    بلى، ومن المؤكد أن أبا بكر وعمر وسائر الصحابة، ما عرفوا هذه المذاهب الباطلة؛ لأنها لم تكن موجودة في وقتهم.

    العقيدة ليست مربوطة بالأشخاص

    مثال آخر: العقيدة من كتاب الله وسنة رسوله ليست مربوطة بشخص وإنما الأشخاص دعاة يفتخرون بالانتساب إليها، فأنت حين تجد علماً من الأعلام خذ مثلاً:

    1- شيخ الإسلام ابن تيمية:

    شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، إنما اشتهر وذاع صيته وصار له القِدْح المُعَلَّى، وصارت له المكانة؛ لأنه لم يدعُ الناسَ إلى مذهب خاص، ولا إلى رأي شخصي، ولا إلى اجتهادات ذاتية، وإنما دعا الناس إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه كل بضاعته، فهو لا يأتي بشيء من كيسه أو من عنده، إنما يُحِيل الناس إلى الكتاب والسنة؛ ولذلك صار شيخ الإسلام.

    إذاً ليست القضية عندنا قضية شيخ الإسلام ابن تيمية، القضية عندنا قضية العقيدة الصحيحة، وشيخ الإسلام ابن تيمية كل من عرفه أحبه، وكل من قرأ كتبه عظمه، ولكن لماذا أجعل المشكلة بيني وبينك هي قضية شيخ الإسلام؟ شيخ الإسلام إمام فحل، وقد اعترف بفضله العدو قبل الصديق، لكن دعني من هذه المسالة، أنا أناقشك في أصل قضية المعتقد.

    2- الدعوة الوهابية:

    خذ مثالاً آخر: قضية الدعوة الوهابية.

    فقد أفلح الاستعمار في إعطاء صورة قاتمة عن الدعوة الوهابية في العالم الإسلامي في كل مكان، وأنها مذهب خامس وأنها وأنها... حتى أني قرأت في كتاب لأحد علماء إحدى البلاد يقول: إن محمد بن عبد الوهاب ادعى النبوة والعياذ بالله أو قال: إنه أراد أن يدعي النبوة، ولكنه لم يتجرأ على ذلك، فبدأ يوري ويلبس على الناس!!.

    لا نحتاج لأن نرد على هذا الهراء، لكننا نحتاج أن نقول لهذا الإنسان: اقرأ كتاب التوحيد، والمسألة ليست مسألة مهاترات، الحق أبلج والباطل لجلج، ما فيها دعوى نبوة أو دعوى ولاية أو دعوى اجتهاد، فيها أن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، يقول: باب (يذكر الترجمة) ثم يقول: قال الله تعالى يذكر آية، ثم يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكر حديثاً رواه البخاري، فيه مسائل، والحمد لله وعلى هذا المنوال، ما جاء بشيء من عنده، إنما أتى بشيء من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك صار مجدداً في عصره، وصار له تأثيراً في حياة المسلمين في هذه البلاد خاصة وفي بلاد أخرى تأثيراً كبيراً.

    فالمقصود أن الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ما دعا إلى نفسه، ولا دعا إلى مذهب، وإنما دعا إلى الكتاب والسنة.

    إذاً: فالقضية والخصومة بيني وبين أي إنسان في الدنيا، ليست الخصومة في قضية أنت وهابي أو لست بوهابي.

    في إحدى المرات لقينا رجلاً من الشباب المتدين في مظهره -أحسبه كذلك والله حسيبه- في بلد إسلامي، فحادثناه وسألناه، ومن ضمن ما سألناه قلنا له: هل أنت تنتسب إلى شيء من الطرق الصوفية؟ فقال: نعم، أنا أنتسب إلى الطريقة النقشبنديـة. فتحدثنا معه في قضية الطريقة وأنه ما حاجتك إلى الطريقة النقشبنديـة؟ قال: إن الشيخ يوصل إلى علم الرسول صلى الله عليه وسلم، فاقترحنا عليه أنه لماذا لا يختصر الشيخ النقشبندي، ويرجع مباشرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويكون أفضل له بدلاً من تطويل السلسلة والسند، ويذهب إلى المصدر والنبع مباشرة بدون واسطة، هل يعتقد أن هذا فيه مانع؟

    ففاجأنا بسؤال قال: أنتم من أي طريقة؟

    قلنا: نحن من الطريقة المحمدية، من طريقة محمد صلى الله عليه وسلم. قال: لا، أنتم من الطريقة الوهابية.

    إذاً ليست القضية بيني وبينك، نحن وهابية أو لسنا بوهابية، نحن لا نسمي أنفسنا بهذا الاسم، وإذا أنت عيرتنا بها فنحن نقول كما قال الشاعر:

    وعيرني الواشون أني أحبها      وتلك شكاة ظاهر عنك عارها

    لكننا نقول: حين تقوم بالدعوة إلى الله، وبالدعوة إلى الدين الصحيح في أي بلد ليس شرطاً أن ترفع راية الوهابية، ارفع راية الكتاب والسنة، وليس شرطاً أن أبدأ بتصحيح مفهوم الناس عن الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب، هذا يأتي تبعاً ويأتي بعد، إذا عرف التوحيد الصحيح افترض أنه مات وهو لا يزال سيئ الظن بالشيخ محمد بن عبد الوهاب، بحسب الكلام الباطل الذي وصل إليه، هنا إذا كان توحيده صحيحاً، وإذا كان عرف التوحيد الصحيح فهو -إن شاء الله- ناجٍ، وإن أخطأ في هذه المسألة، لكن المصيبة لو مات وهو على عقيدة منحرفة أو على ضلال بحيث يخشى عليه من الهلاك، وقد يكون على عقيدة كفرية في بعض الأحيان، فهذه هي الخطورة.

    البدء بتصحيح عقائد الناس

    إذاً: ليست البداية بأن تبدأ بمسألة أو قضية شكلية، إنما المهم أن نبدأ بقضية تصحيح عقائد الناس، من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، بهذه الطريقة يمكن أن تتحول العقيدة إلى هم كبير مؤثر في حياة الناس، وإلى روح تسيطر على قلوب الناس، وتسير حياتهم، وتضبط أمورهم صغيرها وكبيرها، بحيث ترجع إلى هذا الأصل الكبير.

    لكن ما دام الأصل فيه نقص، أو فيه ضلال، فلا غرابة أن يترتب على ذلك آلاف الآثار السلبية، فيما يتعلق بالفروع، فإذا فسدت العقائد؛ فلا تستغرب أن تجد من يطوف حول القبور مثلاً، ولا تستغرب أن تجد من يدعو الأولياء ويناديهم، ولا تستغرب أن تجد من يوالي الكفار والمشركين، ويعطيهم الطاعة ويسير في ركابهم وفي هواهم، ويسارع في ذلك، كما قال الله تعالى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ [المائدة:52] -نخشى أن تصيبنا دائرة-.

    هذا هو الكلام الذي يردده الصحفيون اليوم، عما يسمى بالنظام الدولي الجديد. عندنا الآن نظام دولي جديد! الغرب يحكم قبضته على العالم -خاصة بعد انهيار المعسكر الشيوعي- ولذلك كأنهم يريدون أن يقولوا، أو إنهم يقولون فعلاً: ليس أمام المسلمين إلا أن يسايروا هذا الركب ويسيروا في ظله ويسلموا أمرهم كما سلم غيرهم أمرهم؛ ليكونوا جزءاً من هذا النظام الدولي الجديد، هذا هو ما ذكره الله تعالى عن المنافقين: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ [المائدة:52] أي: في طاعة المنافقين وموالاتهم يَقُولُونَ هذا العذر: نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ [المائدة:52] نخشى من مصيبة، أو مشكلة، نخشى أن يلتف علينا الشرق والغرب، أو يتبرأ منا، أو يخطط ضدنا, أو يتآمر علينا، أو يحاربنا، وهذه -مع الأسف- مشاعر كثير من المسلمين، في طول العالم الإسلامي وعرضه، في مشارق البلاد ومغاربها.

    فساد العقيدة وانتشار الشرك

    لا غرابة إذا فسدت العقيدة أو ضاعت أو انحرفت أن ينتشر بين المسلمين شرك الطاعة، أو كما يسمي بعض المعاصرين: الشرك السياسي، الذي يعطي حق التشريع لغير الله سبحانه وتعالى، ويمنح بشراً من البشر أن يحلل ويحرم، ويأمر وينهى، ويحق ويبطل، إلى غير ذلك من الأشياء التي استأثر الله سبحانه وتعالى واختص نفسه بها، فهي من خصائص الألوهية، قال تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21] وقال سبحانه: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31] وقال سبحانه: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً [الكهف:27] إلى قوله سبحانه: وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً [الكهف:26] وفي قراءة: ولا تُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً [الكهف:26] وقال تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [يوسف:40].

    فالله تعالى هو الحكم، وهو الحاكم، وهو الحكيم والحكم إليه، هو الذي يحلل ويحرم، فكلمة: هذا حرام وهذا حلال، وهذا مستحب وهذا مكروه، وهذا جائز وهذا غير جائز، وهذا حق وهذا باطل، وهذا خطأ وهذا صواب هذا كله لله سبحانه وتعالى، وليس من حق أي إنسان حاكماً كان، أو قانونياً، أو سياسياً، أو أستاذاً جامعياً، أو كبيراً أو صغيراً، أو خبيراً أن يدَّعي أنه يملك أن يتصرف في مسألة واحدة من ذلك، ولو ادعى؛ لكان معنى ذلك أنه ادعى مشاركة الله سبحانه وتعالى في ألوهيته.

    قال الإمام الحافظ ابن كثير في كتابه البداية والنهاية: "فمن حكم بغير ما أنـزل الله من الشرائع الإلهية المنسوخة كـاليهودية وغيرها فقد كفر، فكيف بمن حكم بغير ذلك مما صنعه البشر؟ لا شك أن هذا كافر بإجماع المسلمين".

    1.   

    أمثلة ونماذج على الانشغال بالجزئيات عن الكليات

    سوف أضرب لكم أمثلة، وهذه الأمثلة بصراحة ليست على سبيل الاستقصاء ولا على سبيل الدقة، ولكني سوف أتحدث عما سجلته من هذه الأمثلة، مما يدل على أننا -فعلاً- نشتغل كثيراً بالجزئيات عن الكليات، ونحن بحاجة إلى مراجعة ذلك.

    الاشتغال بالوسائل

    أولاً الاشتغال بالوسائل -أحياناً- على حساب الغايات، أو الغفلة عن الغايات، اشتغالاً بالوسائل، خذ على سبيل المثال:

    1- في علم مصطلح الحديث:

    في المجال العلمي: تجد أن طالب علم الحديث، يهتم بالمصطلح وقراءة المصطلح، ودراسته وحفظ المتون فيه، ويتكلم عن دقائقه، ويتكلم عن الرجال وحفظ الرجال والكلام فيهم، هذا ثقة وهذا ضعيف، وربما يحفظ ذلك ويعتني به أشد العناية، ويسرف في ذلك؛ حتى أنك لو جئت لهذا الإنسان تسأله عن حديث، أصحيح أم ضعيف؟ قال: والله ما أدري، أراجع لك، أو أسأل أهل العلم، مع أنه قضى ليله ونهاره في معرفة أمور المصطلح، وهي أمور فيها قضايا لا بد من معرفتها بكل تأكيد، وهي ضرورية وأساسية لمن يدرس علم الحديث، لكن هذه قضايا ثانوية.

    فمثلاً: مسألة رواية الآباء عن الأبناء، أو رواية الأصاغر عن الأكابر، وقضايا المسلسلات، أو بعض تفاصيل علم الإسناد، كلها أمور ليست من القضايا التي لا بد منها، هي قضايا أقرب أحياناً إلى أن الاشتغال بها لا يكون مفيداً لطالب العلم، أو تكون فائدتها قليلة، ويكون من اشتغل بها عن غيرها مغبوناً.

    2- مسألة أخرى: الاشتغال بأصول الفقه عن الفقه:

    تجد إنساناً مشغولاً بعلم أصول الفقه، وبالمقدمات المنطقية، والأحكام الوضعية، والأحكام التكليفية، وقضايا الكلام واللغة، وما شابه ذلك، وعنده فيها جودة وبراعة، ومعرفة بالمخطوط والمطبوع، وهذا جيد ولا بأس به؛ لكن تجد كثيراً من هؤلاء لو سألته -مثلاً- عن مسألة فقهية، ما حكم الله ورسوله عليه الصلاة والسلام في مسألة كذا أو كذا، هز رأسه، وقال: الله أعلم، اسأل أهل العلم، اسأل المفتين، فما قيمة عنايتك بأصول الفقه باعتباره وسيلة إلى تحصيل الفقه واستخراج الأحكام من الأدلة وأنت لم تستخدم هذه الأصول؟!

    3- مثال آخر: قضية التجويد:

    كثير من الشباب ومن الطلاب ومن المحبين، يهتمون بالتجويد وإخراج الحروف من مخارجها الطبيعية، وربما أحياناً يتقعر في ذلك؛ حتى أني سمعت بعضهم يقول: يا أخي! إن مخرج الضاد مخرج دقيق عسير وكذا وكذا، حتى إنه لا يكاد يتقنه إلا أفراد من الناس، وبعد ذلك يبدءون يذكرون لك أنه على مدار التاريخ، كان -مثلاً- عمر بن الخطاب يخرج الضاد من مخرجها الطبيعي، أو فلان أو فلان، يذكر لك ثلاثة أو أربعة، سبحان الله!! حرف من حروف الهجاء، وموجود في سورة الفاتحة التي يقرؤها المسلم في الصلاة في كل ركعة: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] وتأتي تقول: لا يتقنه إلا عمر بن الخطاب، أو ثلاثة أو أربعة من الناس كيف يكون هذا؟!!

    دين الله يسر ليس فيه تكلف، ولا تنطع، ولا فيه داعي للتشقيق والتعميق والمبالغة، وتعسير الأمور بما يحول بين الناس وبين الإقبال على قراءة القرآن الكريم.

    أحياناً تجد المبالغة في بعض صفات الحروف حتى تخرج عن حدها المعتاد، وتصل إلى درجة قد تكون على حساب فهم معاني القرآن، وعلى حساب التفسير، أو العمل بالقرآن، أو الدعوة إلى القرآن، أو على حساب الصبر على ما يلقاه الإنسان في سبيل القرآن؛ حتى أنك تجد -أحياناً- بعض الأخوات من النساء، وهي تهتم بالتجويد حسناً أنتِ لن تكوني إماماً في المسجد، فالمساجد والحمد لله ملأى، والحرم مكتفٍ، فلماذا أنت تقرئين هذه الأشياء، وتبالغين في مخارج الحروف في أمور لا تحتاجين إليها؟!

    لن تقرئي أمام الناس، لن تسجلي قراءتك في شريط، لا بأس أن تقرئي ما يجود قراءتك، ويضبط إخراج الحرف من مخرجه، بحيث لا يتحول إلى حرف آخر، تتحول الصاد إلى سين مثلاً أو العكس، أو يكون فيه تغيير لكلام الله عز وجل. هذا كله صحيح، والقدر المعقول من ذلك مطلوب، وقد تستطيع أن تأخذه من خلال كتاب في عشرين ورقة؛ لكن المبالغة والتطويل والتهويل هذا تعقيد في الواقع. ما بالك في المسلم الجديد الذي أسلم أمس! ليس عنده وقت لكي يقرأ التجويد، ثم القرآن، ثم الأصول، ثم الفروع، ثم المصطلح، إلى غير ذلك، بل حتى إغراق الشباب في مثل هذه المسائل هو على حساب مسائل أهم منها في الأعم الأغلب.

    الاشتغال بتطبيق حرفية نظام من الأنظمة

    من الاشتغال بالوسائل عن الغايات: الاشتغال بتطبيق حرفية نظام من الأنظمة عن هدف النظام وفحواه ومقصده الأساسي، فمثلاً -على مستوى الأنظمة البشرية- المقصود مصلحة الناس. فالنظام وضع حتى يحقق مصلحة الناس، ومصلحة المواطن في كل مكان، ومصلحة المسلم في بلده، وهذا هو الهدف الذي من أجله وضعت الأمور، ورتبت وسيرت بشكل جيد.

    إذاً القضية الأساسية هي قضية المصلحة، لكنك قد تجد إنساناً حرفياً، أو رديء الفهم، أو مشغولاً بالجزئيات والفرعيات عن الكليات، يأتيك ويقوم بهدم أصل هذا النظام -الذي وضع في الأصل لمصلحة المسلم- اعتماداً على تعميم معين، أو على ورقة خاصة، أو على أمر عنده، ويتمسك بحرفيته، ويضعه نصب عينيه، وكأنه ليس عنده نظام إلا هذا الشيء، ويهمل الأصل المقصود، وهو فحوى النظام وسره وهدفه الذي هو تحقيق المصلحة للإنسان.

    المقصود: أن هذه الورقة جزء من النظام الكلي الذي يستهدف مصلحة المسلم في دينه ودنياه، فلماذا تهتم بفرع أوبجزئية وتنسى وتغفل عن الأصل الكلي والهدف الأساسي الذي هو تحقيق المصلحة؟!

    أضرب لك مثالاً: يأتيك إنسان له مستحق في مكان ما، ربما يصل إلى عشرات الملايين أحياناً، أو أكثر من ذلك، وتجد أنه أصبح يستحق هذا الشيء ولكنه لم يأتِ بكل الأوراق المعتمدة والمستندات التي لابد منها، بقي عليه ما يقارب عشرة آلاف ريال، يجب أن يقوم بتكميلها نقص أو قصر -مثلاً- فتجده قد يعوق عن هذا الأمر الذي هو حق له ويمنع منه، اعتماداً على هذا الشيء. فهذا عناية بفرع هو في حقيقته إبطال للأصل؛ لأنه إذا كثرت هذه الاستثناءات، صارت القضية كأنها لعبة في يد فلان وفلان.

    إنسان عنده غرض أو عنده هوى، أو بينك وبينه عداوة أو خصومة أو مشكلة معينة، فهو يستخدم هذه الأشياء؛ للإضرار بك ومواجهتك إلى غير ذلك.

    مثال آخر: الاشتغال بوسائل الدعوة إلى الله تعالى، والكلام حولها، وعن حقيقة الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى: فمثلاً كم من الخصومة ثارت حول مسألة التمثيل!! وقع في يدي سبعة كتب تقريباً حول التمثيل، وربما أن هناك أشياء كثيرة لم أطلع عليها، وخصومة حامية الوطيس بين حكم التمثيل، أحلال هو أم حرام؟

    ومثل ذلك أيضاً خصومة حامية الوطيس حول الأناشيد، وتجد أننا اشتغلنا ببعض الرسوم الدعوية عن حقيقة الدعوة، نجد أن المسألة عندنا ليست إخراج ممثلين أو منشدين، المسألة عندنا مسألة الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، والاشتغال بهذه الرسوم والقضايا، تأييداً أو سلباً أو إيجاباً أو شجباً، والمبالغة والإغراق فيها هو غالباً ما يعود على الأصل بالضرر.

    فالمقصود هو الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وأي أسلوب تتحقق فيه الدعوة إلى الله، وليس فيه معارضة صريحة واضحة لكتاب الله، أو لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فالأصل جوازه، وعلى هذا الأصل يمشي الإنسان، إلا إذا تبين له أن هناك ما يعكر على هذا الأصل أو يشكل عليه، فالمهم أني لا أشتغل بالفرع أو بالوسيلة عن الهدف والغاية التي أعمل من أجلها.

    الاشتغال بالماضي عن الحاضر

    مثال آخر يدل على اشتغال البعض بالجزئيات: قضية الاشتغال بالماضي عن الحاضر.

    ربما كثر الجدل حول ثبوت واقعة تاريخية، أي واقعة أو قصة أو معركة أو حادثة معينة، خذ على سبيل المثال:

    حادثة التحكيم بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وما جرى فيها، ربما يكثر الجدل حول هذه القضية، وتؤلف فيها الكتب، وتكون فيها محاورات ومناورات ومناظرات وأخذ ورد، مع أنها قضية تاريخية انتهت، وأطراف هذه القضية قدموا إلى ما عملوا، وأفضوا إلى رب يعلم السر وأخفى، ولا يُظلم عنده أحد، فانتهت هذه المسألة؛ ولكنك تجد أننا لا زلنا نتشبث بها، ونبعثها يوماً بعد يوم، ليست القضية قضية مجرد التحقيق العلمي في حدود معقولة؟

    لا. بل قد تتحول إلى قضية مهمة، ويدور حولها صراع ربما لا يكاد يهدأ، وهناك مبالغة في التحقيق العلمي في بعض المسائل، وفي مقابل ذلك قد تجد عندنا جهلاً بواقعنا القريب الذي نعيشه، وجهلاً بما يعانيه المسلمون اليوم في مشارق الأرض ومغاربها، من ألوان البطش والتنكيل، والتجهيل والتضليل، والتكفير والتفسيق، والتبديع، وتحويلهم عن دينهم الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم، إلى أديان أخرى ما أنـزل الله بها من سلطان، فتجد جهلاً مطبقاً بهذا الواقع.

    ربما إنسان قد يبدي عناية فائقة بأحد الأحداث التاريخية، والتحقيق حولها، ومعرفة ما إذا كانت واقعة أم ليست واقعة، بل ربما ننقل بعض الخصومات التاريخية إلى واقعنا الذي نعيشه، وتصبح تؤثر فينا، وتحدد مواقفنا، وتسيرنا وتبسط رواقها علينا، مع أنها قضايا ليست قضايا اعتقادية، كقضايا الاعتقاد لا يمكن أن نقول عنها: إنها قضايا تاريخية، والخلاف حول قضايا الاعتقاد ليس خلافاً تاريخياً، بل هو خلاف أصولي اعتقادي، لكن هناك قضايا تاريخية ليس لها أي امتداد عقائدي، ومع ذلك تظل تعيش معنا، وربما سببت فيما بيننا من الخصومات الشيء الكثير.

    الاشتغال بقضايا لا وجود لها

    من الاشتغال بالجزئيات، الاشتغال بقضايا لا وجود لها، فكم من إنسان يأتي يتكلم عن قضية الرق، وأحكام الرق والرقيق، وما يتعلق به، ومسائل الأَمة، وعورة الأَمة -مثلاً- ويطول ويعرض الكلام فيها! أين الأمة يا أخي؟

    وأين الرق، وأين الرقيق؟!

    هذه قضايا أصبحت في حكم المعدوم، وإن وجدت فعلى نطاق ضيق جداً لا يكاد أن يكون له اعتبار حقيقي، فلا معنى للاشتغال بذلك.

    الاشتغال بقضيايا خيالية

    الاشتغال بقضايا فرضية، قضايا خيالية، مرة اطلعت على كتاب ضخم لأحد الكتاب، فكان يتكلم عن مسائل فقهية، ومن ضمن المسائل التي تكلم فيها وأطال النفس فيها: مسألة احتمال وجود إنسان على كواكب أخرى غير كوكب الأرض، وقال: احتمال وجود إنسان، وبدأ يبحث عن مسائل أحكام هذا الإنسان، حكمه من حيث التيمم، حكمه من حيث الصلاة، حكمه من حيث استقبال القبلة، كيف يصلي؟

    حكمه مثلاً من حيث الحمل، إذا افترضنا أن الحمل على ذلك الكوكب في يوم، فحملت المرأة وأنجبت؛ لأن الوقت يمكن أن يكون عندهم طويلاً، فماذا يكون حكمها؟

    وقضية النفاس، وقضية الحيض!! وصارت مضحكة يا أحباب.

    هل نريد أن نظل مضحكة للأمم والشعوب إلى يوم يبعثون؟!

    نشغل أنفسنا بهذه الجزئيات، وبهذه الأمور، وبهذه القضايا الخيالية كأننا عجزنا عن مواجهة الواقع!! وعجزنا عن معالجة الواقع، وعجزنا عن صياغة الواقع، وعجزنا عن النـزول إلى الواقع؛ فرضينا من الغنيمة بالإياب، وصار همنا أن ندندن حول القضايا التي نتشاطر فيها على الآخرين، ونستعرض فيها عضلاتنا الفكرية، ولكننا كمن يطحن في الهواء، أو كمن يحرث في البحر..!!

    الاشتغال بقضية مع وجود ما هو خير منها أو مثلها

    الاشتغال بقضية مع وجود ما هو خير منها أو مثلها، فمثلاً إذا كان عندك خمس قضايا متماثلة، فلا بد أن تعطي كل قضيه قدراً مماثلاً من الاهتمام أو مقارباً للأخرى، وإذا كان شيء أهم تعطيه أكثر مثلما ذكرنا.

    أحياناً تجد الإنسان قد يشتغل بقضية، ويغفل عن قضايا أخرى لا تقل عنها أهمية، قد تكون مثلها أو قد تكون أهم منها:

    1- أخذ الأجرة على تعليم القرآن:

    فمثلاً: تجد جزئيات أخذ الأجرة على تعليم القرآن الكريم، هل يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن الكريم أو لا يجوز؟

    ونجلس في جدل طويل كبير عريض: هل يجوز أخذ الأجرة أو لا يجوز أخذ الأجرة؟

    كان بدلاً من هذا الجدل من الممكن -مثلاً- أن يكون هناك مؤسسات ودور وجمعيات، وجهود كبيرة لإيجاد حلقات تحفيظ القرآن الكريم، وإيجاد دورات لطلاب القرآن، وإيجاد دورات للدعاة إلى الله سبحانه وتعالى ولو مقابل رسوم مادية، وهذا على قول من يقول بالجواز، والذي يرى أن هذا العمل لا يجوز؛ يسعه ألاَّ يشارك فيه، فلماذا نظل ندور في هذه القضية الجزئية، ونترك القضايا الأخرى التي هي أمور عملية ونتائج إيجابية أهم منها؟!

    2- قضية قبول إعانة المشرك:

    مثل ذلك أو قريباً منه: قضية قبول إعانة المشرك، قد تجد المسلمين في بعض البلاد يكادون أن يموتوا جوعاً، وربما لا يجدون مسجداً يصلون فيه، أو لا يجدون مدرسة يُعلِّمون فيها أولادهم، فتأتي إعانة أو هبة من جهة معينة من الجهات الرسمية عندهم -وهي جهة كافرة- فتجد أن هناك جدل: هل يجوز قبول الإعانة والهدية من مشرك، أو لا يجوز؟

    وبالتالي نرد هذا ولا نقبله؛ باعتبار الأخذ بالأحوط أو تغليب جانب الحضر، وبالتالي نفوت على المسلمين مصالح عظيمة في مثل ذلك.

    3- مصارف الزكاة:

    أيضاً من الاشتغال بقضية مع وجود ما هو أهم منها: مصارف الزكاة.

    الله عز وجل ذكر الزكاة لثمانية أصناف من الناس، فقد تجد كثيراً من المسلمين في وقت من الأوقات، انصرف همهم إلى صنف واحد مثلاً وهو: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:60] وصار كأن الزكاة تصرف لهذا النوع فقط، وتجد المسلم قد عطل كثيراً من مصارف الزكاة الأخرى، وحجب الزكاة عن مستحقيها، وربما أعطى أحداً وغيره أولى بالعطاء منه، وربما حرم أحداً من أمر يستحقه وهو أحق به من غيره؛ بسبب أنه سيطر ذهنه وهمه على جانب من الجوانب، أو أمر من الأمور ونسي غيره.

    الاشتغال ببعض القضايا الممنوعة

    إن قضية الاشتغال ببعض القضايا الممنوعة، أو التي هي غير سائغة أصلاً.

    فمثلاً: في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحفظ الأمة، وحفظ أخلاقياتها، وأمنها ودينها واستقرارها، هذا مطلب جاء الدين بتحقيقه بالوسائل المشروعة.

    1- التجسس على الآخرين:

    فلماذا تلجأ يا أخي إلى استخدام التنصت الهاتفي، أو موجات الراديو -أحياناً- للتنصت على فلان وعلان من الناس؟

    وتطلع على أسرارهم وخصوصياتهم ودخائل بيوتهم وعلاقاتهم؟

    افترض أن عنده خطأ، لم يأمرك الله سبحانه وتعالى أن تطلع عليه، البيوت مغلقة على ما فيها، ولا يوجد في الإسلام مثل هذه الأشياء، بل هذه نوع من إهدار كرامة الإنسان وحقه، وإهدار منـزلته وإنسانيته، ما أذن لك الشرع بهذا، وما على هذا ولاك المسلمون القيام بأمورهم، من أمرٍ بالمعروف ونهي عن المنكر، وإصلاح وحماية أعراضهم وأموالهم وأبدانهم، فإذا أردت أمراً بالمعروف أو نهياً عن المنكر، وظهر لك أمر فخذ به، فإذا وجدت خطأً مثلاً عالجه، أما ما استتر ولم يتبين لك وتحتاج فيه إلى تنصت، وتحتاج فيه إلى بحث، أو إلى اطلاع أو إلى تسجيل، أو تحتاج أسرار وخصوصيات، فلست بملزم بذلك؛ بل ليس بمأذون لك شرعاً بمثل هذا.

    2- الحرص على نقد الناس:

    من القضايا الممنوعة التي لا ينبغي الاشتغال بها وكثيراً ما نشتغل بها: قضية الحرص على نقد الناس، وهذا داء خطير في الإنسان؛ لأن الواحد حين ينتقد الناس ويكون هذا هو دأبه وديدنه، هو يريد أن يحتجز لنفسه الكمال، فهو إذا قال: إن هذا فيه كذا، وهذا فيه كذا وهذا فيه كذا، فمعنى هذا ضمناً: أن الكمال الذي تفرد به هو محدثكم!! هذا هو المقصود من حيث لا يقول هذا الكلام، لكن هذا المضمون.

    تجد من الناس من إذا قيل له: فلان -ما شاء الله- رجل طيب، وإنسان صالح وطالب علم! قال: نعم، لكن المهم العمل، يحاول أن يلفت نظرك إلى ما يعتقد هو أنه عيب موجود فيه، المهم العمل، يعني لا تهتم بأن يكون هو طالب علم، المهم العمل هل هو موجود أم لا؟

    مثل أبي سفيان، لما سأله هرقل: هل يغدر محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها، يعني بالإيحاءة، فإذا قلت له: فلان رجل تقي عابد عامل صالح زاهد ورع داعية، قال: نعم، لكن المهم الإخلاص. حسناً، ما اطلعنا على قلوب الناس! ولو قلت: والله يا أخي ظاهره الإخلاص، وهو كأنه لا يريد إلا وجه الله تعالى، ونحسبه كذلك والله حسيبه ولا نـزكي على الله أحداً. قال: نعم، ولكن ينقصه العلم الصحيح، ولا شك أن العمل بلا علم يضر أكثر مما ينفع!.

    فالمهم أن هذا الإنسان من حيث تريد أن تحجره يريد أن ينفلت، لا يريد أن يعترف لأحد بفضل، ولا يعترف بالفضل لأهله إلا ذو الفضل.

    أما من فيه نقص في ذاته، فهو يكون مبتلى بعيب الآخرين وثلبهم ونقصهم، ويجد في ذلك من السرور والأنس واللذة الشيء العظيم مثلما يجد المنصفون إذا مدحوا وأثنوا على من يستحق المدح والثناء، ممن مدحه الله تعالى وأثنى عليه، فإن المدح والثناء وكذلك الذم والعيب، لا يكون بمزاجي ومزاجك وهواي وهواك، لا يكون إلا بالألفاظ الشرعية التي مدح الله بها من مدح، مثل لفظ: الإيمان، والإحسان، والإسلام، والتقوى، والبر، والطاعة، والجهاد، والنصرة، أهل هذه الأوصاف يمدحون، والذم يكون بألفاظ الفسق، والنفاق، والكفر، والضلال، والظلم، والبغي، والعدوان، والفحش، أهل هذه الألفاظ يذمون. فليس المدح والذم مسألة أمزجة أو مواقف شخصية، المدح والذم قضية شرعية من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

    تضخيم بعض القضايا بصورة غير مقبولة

    هذه قضية أساسية قد تكون من أواخر القضايا، وهي: قضية تضخيم بعض القضايا بصورة غير مقبولة. وأضرب لك أمثلة عابرة:

    1- قضية التحليل السياسي:

    بعض الناس يشتغل بتحليل الأحداث السياسية، ليس فقط تحليل الأحداث السياسية! فتحليل الأحداث السياسية مطلب شرعي، ولا أحد يستطيع أن ينكر هذا أبداً؛ فهذا جزء من فهم المسلم لواقعه الذي يتحرك فيه، بل إنني أقول: إنه جزء من فهم المسلم لهذا الواقع الذي يريد أن يحكم عليه.

    نحن نعرف أن من كلام علماء الأصول ما يسمونه بالأحكام الوضعية التي هي: الحكم على أفعال الناس بأنها صحيحة أو فاسدة، خطأ أو صواب، حق أو باطل، كيف تحكم أن هذا الشيء صحيح أو خطأ، حق أو باطل، وأنت لا تدري ما هو هذا الشيء؟

    فلكي تكون مصيباً شرعاً يجب أن تكون عالماً بالواقعة التي تتحدث عنها، سواءً أكانت واقعة فردية أو جماعية، على مستوى فرد أو مستوى دولة أو مستوى أمة، قريب أم بعيد، هذا أمر بديهي لا يحتاج إلى كلام، وبالتالي معرفة الأحوال والأحداث السياسية والتقلبات، وربط بعضها ببعض بصورة صحيحة هذا لا غبار عليه.

    لكن أحياناً يتطور هذا الأمر إلى نوع من المرض عند بعض الناس، فيصبح عنده لو عثرت بغلة في أقصى بلاد الدنيا، لابد أن يربط هذه بالقضية الكبرى، ويأتي لها بالأدلة والتحليلات وضروب الأشياء، حتى أصبح مرض، وأصبح -مثلاً- يتعاطى هذا الشيء أناس ليس لديهم بعد فكري عميق، وليس لديهم قدرة القضية صارت تخوف قلبي يجعل الإنسان يربط أي شيء بأي شيء، وعنده فكرة أن أي حدث لازم تحلله وتربطه بغيره دون أن تكون عنده الوسيلة أو الإمكانية لذلك؛ فيبالغ في قضية التحليل السياسي مبالغة مذمومة، ربما تعوقه أحياناً عن كثير من الأعمال الصالحة.

    2- قضية المكر الصهيوني:

    أصبح الكثيرون يعتقدون أن اليهودية العالمية تهيمن على الكون، وهي التي توزع على الناس الهواء الذي يتنفسون، والماء الذي يشربون، والطعام الذي يقتاتون، وهي التي تطبع لهم الكتب، وهي التي تفعل لهم كل شيء. صارت شبحاً! وهذا في الواقع من الأشياء التي نجح فيها اليهود، أنهم نجحوا في جعل أنفسهم شبحاً وخوفاً وخطراً في عقول الشعوب؛ فصارت الشعوب مهزومة معنوياً، وصار المسلم يحس بأن اليهود يلاحقونه في كل مكان، وأن اليهود دولة لا تقهر، وأنهم خطر جاثم لا فكاك له ولا مرد له من الله، ليس فقط في دولتهم إسرائيل بل في كل مكان، حتى ولو وجدت أي قضية، تذرع بأن يربط هذا الأمر بأنه من كيد اليهود ومن مكرهم.

    يا أحبابي! صراحة أقولها: حتى المشاكل الحقيقية بين المسلمين، لا أعتقد أن أعداءنا بحاجة إلى أن يتدخلوا بيننا فيها، أعداؤنا قد كُفوا بنا، بعيوبنا، وبسلبياتنا، وأصبحنا نحن نخرب بيوتنا بأيدينا، ونحقق أهداف عدونا بسلبياتنا وبغبائنا وبجهلنا، وبعدم تصحيح نياتنا، وبعدم إخلاصنا لله عز وجل فيما نأخذ وما ندع، وباشتغالنا ببعض الأمور وإهمالنا أموراً أعظم منها، وبتناحرنا، وتفرقنا وتشتتنا، وباشتغال بعضنا ببعض، أصبحنا نخدم عدونا دون أن يحتاج هو إلى التدخل، ليس بحاجة أن يحرض بعضنا على بعض، ولا أن ينصر بعضنا على بعض، ولا أن يعين بعضنا على بعض، بلاؤنا فينا وكما يقول المثل الشامي الشعبي: (سوس الخل منه وفيه) فالداء منا وفينا، الداء جاثم في أعماق قلوبنا بل وفي عقولنا أيضاً.

    3- قضية الحركات الباطنية:

    قضية الحركات الباطنية -أيضاً- وكثرة الكلام عنها، وأنها خطر، وهي لا شك خطر جاثم وخاصة في الظروف الحاضرة، فإننا نجد -مثلاً- دولة كـإيران، أصبحت تستغل صمتنا -صمت القبور، بل ما هو أكثر من الصمت! خطوات العرب والمسلمين إلى الصلح عبر مؤامرة السلام أو ما يسمى مؤتمر السلام- أصبحت تستغله لتحقيق مزيد من المكاسب، فتستقطب المعارضين للسلام من كافة الطوائف والأحزاب والجهات والبلاد، وتعقد لهم المؤتمرات، وتذيع التوصيات، وتحرض، وتبدو كما لو كانت عدواً للسلام، وكأنها هي المعارض الوحيد الذي يقف في وجه أمريكا والغرب، وفي وجه إسرائيل وفي وجه النظام الدولي الجديد.

    وهذا ينذر فعلاً بوجود خطر للباطنية، مع نشاطهم القوي في الدعوة له، لكن ينبغي مع ذلك -أيضاً- أن نضع خطر الباطنية في حجمه الطبيعي، ولا نبالغ في ذلك؛ لأن المبالغة في تقدير حجم العدو أحياناً تقعد الإنسان عن العمل، وأحياناً تنجح -من حيث لا تشعر- في إعطاء العدو شيئاً لا يستحقه، وتحقيق بعض المكاسب له مثل إنسان ظن أن العدو سيهجم على البلد فانسحب؛ فجاء العدو، فوجد الأرض حرة باردة لا يحتاج فيها إلى نـزال ولا إلى قتال!

    4- قضية الأسماء:

    من القضايا التي نكبرها أيضاً: قضية الأسماء. وأنا أتعجب أننا نعتني بالأسماء عناية فاخرة..! حتى أنك تجد اسم محل البنشر "بنشر الإخلاص" وتجد "ملحمة التقوى"، أو مغسلة ابن تيمية!! يولد لواحد منا ولد فتجده في الأسبوع الأول -بل قبل الولادة بأسبوع أو أسبوعين- معني جداً بمسألة البحث عن اسم، يدور على المكتبات ويشتري الكتب التي فيها الأسماء، ويستشير، ويعقد جلسات ومؤتمرات ومشاكل وأخذ ورد، وأحياناً تصير مشاكل بين الزوجة والزوج وتنتهي بالطلاق، ربما يحدث هذا!!

    بعض الناس كل همه قضية الاسم؛ فيبحث لولده عن اسم، وبالتالي هذا الاسم قد يكون جميلاً عنده لكن الناس يستسمجونه ويستهجنونه، وبالتالي الولد حين يكبر يكون مضطراً لتغيير هذا الاسم بعد الإعلان عنه في الجريدة. فهذه العناية الشديدة بالاسم، هل يقابلها عناية بتربية الولد؟

    عناية بإعداده وتنشئته؟

    هل نعده كما لو كنا نعده لخوض معركة الإسلام الكبرى، المعركة الفاصلة مع بني إسرائيل، أو مع النصارى أو مع غيرهم؟

    هل يقابله اهتمام في المدرسة التي سوف يُدَّرس فيها الولد؟

    واهتمام بالبيئة التي سوف يتربى فيها؟

    واهتمام بالمواد الإعلامية التي يتلقاها؟

    أم أنك بعد ما اخترت له هذا الاسم الجميل أصبح كل همك منحصراً -أيضاً- في الشكليات، وفي الثياب وفي اللعب الجميلة، لكنك بعد ذلك تدعه لأفلام الكرتون، أو بعض الأشياء الإعلامية الفاسدة الكاسدة التي تقوم بإكمال مهمة التربية وتولي الجانب الخطير، جانب العقل من هذا الطفل، وجانب النفس والروح! وأحياناً إلى مدرسة، قد تكون مدرسة نصرانية، وفي بعض البلاد تكون مدارس علمانية، وفي بلاد أخرى مدارس منحرفة، وفي بعض الأماكن مدارس تربي الأطفال والصغار والكبار على الموسيقى، وعلى الغناء، والرقص والتبرج والسفور والاختلاط وعلى المعاني المنحرفة.

    تأتي -أيضاً- قضية الأسماء: تجد عندنا -كما أسلفت- عناية بأسماء المدن والشوارع والجامعات وبأسماء المدارس، هذا نحن لا نعترض عليه إذا كان الاسم حسناً ومناسباً ومعبراً، ويحكي ارتباط هذه الأمة، بتاريخها، وانتمائها.

    لكن المصيبة إذا تحولت القضية إلى اهتمام مجرد بالشكل، ولكن إذا أتيت إلى منهج المدرسة أو الجامعة؛ لا تجد أي اهتمام، الأستاذ المربي الموجه لا تجد عنده اهتمام، الطالب لا تجد عنده اهتمام، كذلك السكن لا تجد الاهتمام الكافي بالنواحي الأخلاقية والتربوية والعلمية له، هنا تقع المشكلة.

    نحن لا نعترض على أن يكون الاهتمام بهذا وذاك، تهتم بالاسم الجميل، وتهتم أيضاً بالمضمون الجميل، وبالمنهج الحسن، وبالتربية الجيدة، وبالأستاذ الناجح، وبإعداد الإنسان والطالب إعداداً صحيحاً يضمن له النجاح في دنياه وفي آخرته. أما أن تحصر همك في القضية الشكلية، فهذا يعبر عن خواء ويعبر عن فراغ.

    الاشتغال الدائم بالفرعيات

    الاشتغال الدائم بالفرعيات؛ قد يكون عندنا عشرون مسألة وإن شئت فقل: ثلاثون، هي كل ما نتحدث عنه -خاصة نحن طلبة العلم- في مجالسنا الخاصة، لا يكاد يخلو مجلس من مجالسنا -طلبة العلم مثلاً- عن الكلام عن جلسة الاستراحة، هل هي مستحبة، أم مكروهة، أم جائزة، وفي بعض الأقوال بأنها واجبة، وتحريك الإصبع في التشهد، ربما أكثر من عشرين كتاب ألف في هذه المسألة، وتفنن الناس في تحريك الإصبع في التشهد بشكل لم يسبق له نظير.

    قضية وضع اليد في الصلاة، أين يضعها؟

    على صدره، أم تحت السرة، أم فوق السرة، قضية الهوي إلى السجود، هل يسجد على ركبتيه، أم على يديه أولاً؟ كما أسلفنا.

    مع أن ابن تيمية لما تكلم عن هذه المسألة -مسألة الهوي على اليدين أو على الركبتين- قال: هذه من المسائل العويصة المشكلة المختلفة التي الأدلة فيها غير واضحة، وتجد طالب العلم الصغير، أول ما يبدأ يبدأ بهذه المسألة، وليت المسألة تقف عند هذا الحد! قد يؤلف فيها مصنفات أحياناً! وليت الأمر يقف عند هذا الحد، بل قد تجد أن هذا الإنسان أصبح يعتبر هذه المسألة ميزاناً وفيصلاً بين الذي يتبع السنة والذي لا يتبع السنة، فالذي يقدم يديه هذا يتبع السنة، والذي لا يقدم يديه هذا لا يتبع السنة.

    الصلاة بالنعال مثلاً، قضية النقاب بالنسبة للمرأة، التسبيح باليمين أم بكلتا اليدين، صلاة التراويح خمس أو عشر أم أكثر أم أقل، هل يجهر بالذكر بعد الصلاة أم لا يجهر؟

    قضية دخول الأطفال إلى المساجد... وما أشبه ذلك، من المسائل المحدودة التي أصبحت جل همنا وحديثنا وكلامنا، وكل طالب علم أراد أن يجرب خبرته وإمكانيته؛ فإنه يختار بعض هذه المسائل، ويرجع إلى بعض الكتب، ويجمع بعض ما قيل فيها، ويكتب في ذلك مصنفاً أو جزءاً حديثياً أو فقهياً..!!

    وأنا أشير -حتى يكون الكلام واضحاً- إلى أن الاهتمام بهذه المسائل لا حرج فيه، وإعطاءها حقها مطلوب، وأستغفر الله وأتوب إليه أن أقول: إني كغيري من طلبة العلم، إذا مرت هذه المسائل علينا في الدرس، درسناها وبحثناها ونظرنا في الأدلة، ورجعنا إلى كلام أهل العلم، وهناك كتب ألفت في بعض ما ذكرت من المسائل، كتبها طلبة علم كبار ومجتهدون وأخيار وفضلاء، ويشكرون، والعبد الفقير ممن استفاد مما كتبوه، فجزاهم الله خيراً.

    نحن لا نعترض على هذه الكتب، الشيء الذي نعترض عليه هو أن تصبح هذه القضايا جل همنا، بل كل همنا، ومدار حديثنا، وملء مجالسنا، بل ملء قلوبنا وعقولنا، إلى متى نظل ندور ثم ندور ثم ندور في مثل هذه القضايا، ونترك القضايا الكبرى، وقضايا الاعتقاد، وقضايا الواقع، وقضايا التخلف العلمي، والتخلف التقني، والتخلف الاقتصادي، قضايا البحث عن موطئ قدم لهذه الأمة الإسلامية؟

    إلى متى تظل هذه القضايا مهدرة ونحن نشتغل بغيرها من هذه القضايا الجزئية الفرعية؟!

    1- غفلة عن فقه المعاملات:

    إن هناك غفلة مطلقة في مقابل ذلك عن فقه المعاملات، فتجد عموم بحث الطلاب عن فقه العبادات، والعبادات أمرها واضح؛ لأن فيها نصوص صريحة ولا مجال فيها للاجتهاد، وأمرها واضح وسهل، ولذلك يهتم الإنسان بها لأنها كالجدار القصير، كل إنسان يستطيع أن يقفزه. لكن فقه المعاملات ليس كذلك، إذا دخل الإنسان إلى فقه البيوع -مثلاً- فلا يستطيع أن يتكلم عن هذه الأمور في قليل ولا كثير.

    1.   

    تهويل بعض الأمور

    إذاً: هناك تهويل في طرح بعض الأمور ومبالغة، وهناك إسراف في تضخيم بعض القضايا، حتى أنني أذكر أن هناك بعض أهل العلم إذا أراد أن يحذر من قضية -وهذه القضية ليست محرمة- لا يستطيع أن يقول إنها حرام، ولذلك قد يلجأ إلى حشد السلبيات المترتبة عليها، أو حشد المحاذير المترتبة عليها، وربما أوصلها إلى عشرين أو ثلاثين محذوراً؛ حتى يقول للناس: دعوها! العالم مصيب؛ لأنه يعتبر أن هذا أسلوب تربوي، فبدل من أن يقول للناس: حرام. وهو ليس عنده دليل صريح على التحريم، يلجأ إلى نهي الناس عنها دون أن يقطع بتحريمها.

    لكن المشكلة تقع حينئذٍ عند طالب العلم، فإنه إذا سمع هذا الكلام؛ أورث في نفسه أن هذه قضية خطيرة وكبيرة، ويترتب عليها مفاسد، وأنها تحدث في المجتمع آثاراً، وتؤثر في عمل الإنسان وحياته وعبادته، فتصبح قضية خطيرة كبيرة؛ لأنه حُشِدَتَ عنده محاذير أكثر من اللازم لهذه القضية، وكان من المفروض أن يقال: الأولى تركها أو الأولى فعلها أو فيها نظر أو أي أسلوب آخر يكون فيه نهي للناس عنها دون أن يتعدى الأمر إلى أكثر من هذا.

    ولذلك يقول بعض الأصوليين -وهو الشيرازي-: إني رأيت كثيراً من العوام أكثر حماساً للمسائل الفقهية من العلماء، فالعالم المجتهد -مثلاً- عنده مسألة فيها أقوال، ويعرف كل قول بدليله، وأنه قال به من الصحابة فلان وفلان ومن التابعين ومن الأئمة؛ ولذلك هو رجح أحد الأقوال ترجيحاً يسيراً، وهو يقول: أستغفر الله قد أكون مخطئاً؛ فلا يجزم ولا يتحمس ولا يتعصب ولا ينفعل.

    لكن الطالب أو العامي الذي أُفتي له بهذه المسألة، دون أن تذكر له الأدلة، ودون أن تذكر له الأقوال الأخرى، ودون أن توضع في إطار مقبول وموضوعي، تجد أنها ملأت قلبه وصار الدين عنده هو هذا الأمر، والدين عنده هو هذه الفتوى التي أفتاه به فلان؛ لأن فلاناً ليس عنده الوقت لكي يعطيه الأقوال والأدلة، والراجح والمرجوح، فأعطاه خلاصة ما توصل إليه أنه: لا يجوز مثلاً، فصار هذا الإنسان يعتقد أن هذا لا يجوز، وصارت قضية دين يبدئ بها ويعيد، ويهتم بها، ومن رآه يخالفها أجلب عليه، وربما عاداه وأبغضه، وقد يكون مجتهداً في هذه المسألة، وقد يكون الحق معه في أن هذا الأمر ليس بمحرم أيضاً.

    كما أن هذا الأمر يورث عند جمهور من الناس، أن هؤلاء الدعاة وطلبة العلم أناس سطحيون، أصحاب قُصر نظر، محصورون في مثل هذه القضايا التي لا هم لهم إلا الحديث عنها.

    الاهتمام بالأصول أولاً

    أيها الأحبة: إن من السهل أن نصحح كثيراً من القضايا الجزئية، والقضايا الفرعية بجرة قلم -كما يقال- لكن من الصعب جداً أن نغير القضايا الأصولية والقضايا الكلية، والمفترض أن يكون اهتمامنا بتغيير وتصحيح القضايا الكلية والقضايا الأصلية هو الأهم؛ لأنه إذا صلحت الأصول، وصلحت الكليات، وصلحت القواعد، صلحت تبعاً لذلك الفروع، وهذا لا يعارض أبداً العناية بإصلاح الفروع، فالأنبياء كان أحدهم يبعث لقوم ويأمرهم بالتوحيد، قال تعالى: أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ [هود:85] يأمرهم بهذا وذلك في نفس الوقت، لكن العناية بالأصل كانت الأعظم بلا شك، وهي المنطلق، ومن هذا المنطلق دعا إلى تصحيح الفرع، فهو ما جاءهم ليقول لهم -مثلاً-: أريد أن أحدث عندكم إصلاحاً اقتصادياً، لا إنما جاء يدعوهم إلى التوحيد، وبناءً على دعوة التوحيد، يبين لهم أن ما هم فيه يخالف هذه العقيدة ويخالف المبدأ الذي جاءهم به.

    ومن ذلك قضية الأمور الاقتصادية، أي بناء الاقتصاد على غير الإسلام، أو بناء الأمور الاجتماعية على غير الإسلام، أو بناء الأمور السياسية، أو الإدارية على غير الإسلام، أو بناء الأمور العلمية على غير الإسلام، أو بناء الأمور الفنية أو الإعلامية على غير الإسلام، فالأصل هو الدعوة إلى القضايا الكلية الأصولية، والقواعد التي بصلاحها تصلح الفروع، وهذا أيضاً لا يمنع من بذل الوسع والاجتهاد في إصلاح الفروع بقدر المستطاع، على أن لا يلهينا ذلك ولا ينسينا العناية بإصلاح الأصول.

    1.   

    بعض الحلول لمشكلة الاشتغال بالجزئيات

    هناك بعض الحلول أختم بها، من الحلول:

    اهتمام العلماء والدعاة بالتأصيل

    أولاً: ضرورة اهتمام العلماء والدعاة بالتأصيل، فلا يجوز أن ينطلق كل عالم وكل داعية على وجهه دون أن يكون هناك عناية بوضع أصول وضوابط ومنطلقات ومنهج واضح للدعوة إلى الله تعالى وطلب العلم والتعليم؛ لأن هؤلاء الشباب أمانة في أعناقنا وفي أيدينا، يجب أن نرتاد لهم الطريق الصحيح، والرائد لا يكذب أهله.

    نشر الوعي الصحيح للدين بين المسلمين

    ثانياً: ضرورة نشر الوعي الصحيح لهذا الدين بين المسلمين، وأن الدين جاء ليهيمن على كل شئون الحياة، ما جاء الدين ليكون عقيدة مستترة في قلبك بينك وبين الله فقط، ولا جاء الدين ليكون عبادة تؤديها في المسجد، ثم بعد ذلك تدع ما لقيصر لقصير وما لله لله، ولا جاء الدين ليهيمن على جزء ويترك أجزاء للطاغوت أو للشيطان، لا، بل جاء الدين مهيمناً على كل شئون الحياة، وجاء الدين ليحكم الدقيق والجليل، ويستلم الإنسان من يوم أن يولد فيسميه الإسلام -فيبين له أسماء تجوز وأسماء لا تجوز، وأسماء مستحبة، وأسماء مكروهة، وأحكام ما يتعلق بالمولود- فيستلمه من ذلك الوقت إلى أن يودعه في قبره، فيذكر كيفية الدفن، وأحكامه وآدابه، وما يتعلق بذلك.. هذا على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمة بأكملها.

    فهذا الشعور يجب أن يصفو لدى الناس؛ ليعرفوا أن الدين يجب أن يهيمن على الدقيق والجليل من الأمور، والكبير والصغير، ولا يشذ عن هذه القاعدة شيء؛ لأن الله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208] ويقول سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58].

    طرح الأسئلة على العلماء والدعاة

    ثالثاً: طرح الأسئلة على العلماء والدعاة، وإقامة اللقاءات والاجتماعات والبرامج التي تجعل الناس يطرحون ما لديهم من الأمور والإشكالات، وتجعل العلماء والدعاة يتولون الإجابة عليها.

    وهنا أثير قضية مهمة: أن جماهير المسلمين في كل مكان، ربما أن (90%) من أسئلتهم التي نقرؤها أو نسمعها تتعلق بقضية أحكام فقهية فرعية تفصيلية. لا بأس بذلك ومن حق الإنسان، بل من واجب الإنسان أن يسأل عن أسئلة تهمه في أمر دينه، لكن أين الأسئلة -مثلاً- عن البراءة من الأحزاب الكافرة العلمانية التي حكمت المسلمين في كل مكان زماناً طويلاً؟!

    أين تلك الأسئلة؟!

    أين الأسئلة التي تتكلم عن تصحيح العقيدة؟!

    أين الأسئلة التي تتكلم عن أحوال المسلمين، وكيفية الخلاص من المآسي التي يعانونها؟!

    أين الأسئلة التي تستهدف تنوير المسلمين بما يعانيه إخوانهم في كل مكان؟!

    أين الأسئلة التي تبحث عن مخرج لهذه الأزمات المتكاثرة التي يعيشها المسلمون؟

    أين الأسئلة التي تستهدف إحياء منهج إسلامي في الاقتصاد، والإعلام، والسياسة، والإدارة، والصحافة، والأدب، وفي كل مجال؟!

    هذه الأسئلة غائبة، من المسئول عن غيابها؟!

    المسئول أطراف الذي هو أنا وأنت، قد لا نسأل، لماذا؟

    لأننا مستغرقون في الجزئيات -كما دل عليه عنوان المحاضرة إن وافقتم عليه- تجدنا نسأل عن هذه الجزئيات التي تشغلنا، لا حرج أن نسأل عما يهمنا حتى في أحلك الظروف، ينبغي أن تسأل عما يهمك من أمر دينك ولو كان جزئياً أو تفصيلياً، ولكن ينبغي أن تسأل عما هو أهم منه وأخطر، وألاّ تكون كمن يعالج الجرح والرأس مقطوع، كما يقال! فأنت مسئول وأنا مسئول.

    ولكن أيضاً، المعلم، أو المفتي، أو الموجه، أو الداعية، أو العالم مسئول أيضاً؛ لأنه إذا لم ترد هذه الأسئلة لسبب أو لآخر، إما لأنك أنت لم تطرحها، أو لأنه حيل بينها وبين الوصول إليه، فينبغي أن يتولى هو بنفسه الإجابة على هذه الأسئلة التي من المفترض أن تطرح، ويُسأل عنها، ويعرف الناس حكمها وجوابها في شريعة الله تعالى، لأن الله تعالى يقول: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38] وقال: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89].

    وضع سياسة عامة للطبع والنشر والتأليف

    رابعاً: ضرورة وضع سياسة عامة للطباعة والنشر والتأليف، سواء في مجال الكتاب أو الشريط الإسلامي، الآن المكتبات الإسلامية ودور النشر، حدث ولا حرج، محلات الأشرطة الإسلامية حدث ولا حرج، لكن ما هو نوع الكتاب الذي يطبع؟

    وما نوع الكتاب الذي ينشر؟

    وما نوع الشريط الذي يطبع وينشر ويوزع؟

    هذه مأساة!!

    قد تجد عشرات الأشرطة في قضايا جزئية، والله بعض الأشرطة التي أسمعها وأحلف بالله أني أستحي وأتمنى ألا يسمعها من خصومنا أحد؛ لأنهم سوف يجدون فيها ورقة رابحة يشهرونها ضدنا، فهي تتدخل في جزئيات الناس، وتتدخل في تفاصيلهم، وفي أمور ليس فيها نص من كتاب الله ولا من سنة رسول الله ولا من كلام أهل العلم، ولا فيها دليل!!

    تأتي تقول: يا أخي! افعل كذا وكذا واترك كذا، أنت تتحكم في أمور ليس لك مستند شرعي فيها! يا أخي نحن نعبد الله وحده، وليس من حقك أن تعطينا أنت رأيك الخاص، أو قناعتك الخاصة، بل تعطينا حكم الله ورسوله.

    كونك تقول: يجب أن يكون حذاء المرأة أسوداً أو أشهباً، وينبغي ألاّ يكون برتقالياً ولا أصفراً، هل تعرفون فيها نصاً من كتاب الله أو حديثاً عن رسول الله روي بالإسناد الصحيح؟

    لا يوجد. كم سنتيمتراً يجب أن يكون طول كعب حذاء المرأة، واحد سنتيمتر، أو اثنين سنتيمتر، أو ثلاثة سنتيمتر؟!

    هذه ليس فيها نص من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    صحيح أننا نقول كما قال علماؤنا، فيما يتعلق بالكعوب الطويلة العالية التي هي خارجة عن المعتاد والمألوف، وفيها مفاسد وفيها مضار.. إلخ، لكن نقول: إن بعض الناس يدخل في تفاصيل دقيقة لا حاجة إلى الدخول فيها، فيحدد بالسنتيمتر والشرع لم يحدد بالسنتيمتر.

    فنقول إذاً: مسألة الكتاب والشريط، وكثرة المطبوعات وكثرة الأشرطة، ينبغي أن تكون مضبوطة بضوابط معينة، لا مانع من نشر أي شريط نافع ما دام أنه تتوفر فيه شروط مضبوطة واضحة وصحيحة، ويسر الدعاة أن ينتشر. لكن أيضاً يجب أن يكون هناك عناية بترويج كتب معينة، وترويج مواد إعلامية يعتقد أنها تخدم المصلحة العامة، وأنها تحقق هدفاً ودوراً في ظرف من الظروف الآن أو غداً أو بعد غد.

    وجود عمل إعلامي إسلامي ناضج

    خامساً: ضرورة وجود عمل إعلامي إسلامي ناضج، يضع عقول الناس في وضعها الصحيح، ويصنع العقليات الناضجة التي نبحث عنها، ويزيل ما عند الناس من غبش أو سوء في التصور مما صنعه عندهم الإعلام المزيف، مثل: حصر الدين في بعض جوانب الحياة دون بعض، مثل: تشويه صورة المتدينين، وتشويه صورة الدعاة، وأشياء كثيرة جداً.

    فمن الضروري أن يكون هناك عمل إعلامي متكامل ناضج، أليس من المؤسف -أيها الأحبة- أن تقوم مجموعة كبيرة من الصحف الكويتية في هذه الأيام، بحملة شرسة شعواء على الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، وتصفهم بأقذع ما في قاموسها من ألفاظ السب والشتم، كلمات لم نسمعها حتى من أبي جهل حين كان يتحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه!! كلام جارح بلا نهاية، ولا نجد صوتاً واحداً يستطيع -على الأقل- أن ينصف هؤلاء المظلومين أو يرد اعتبارهم.

    {لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع}. {وإذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منها} هل تستطيع أن تقول الأمة الآن: لا للحاكم أو للصحفي: يا ظالم؟

    الواقع يقول: لا، ممكن نقول أنا وإياكم في هذا المجلس، لكن لا نستطيع أن نملك الوسيلة التي يملكها هو، بحيث نصل إلى العقول التي وصل إليها، ونصلح العقول التي خربها. هذا لا زال المسلمون دونه بمراحل، ولا يملكون وسيلة إعلامية ٍواحدة حرة، تستطيع أن تعبر عن الرأي الإسلامي الصحيح، دون ضغط أو مجاملة.

    1.   

    التفاؤل بأن الله تعالى سوف يغير حال هذه الأمة

    أختم هذا الموضوع بأن أقول: مع كل هذا ومع أنني -يعلم الله- أشعر في كثير من الأحيان بالأسف والأسى والحزن يعصر قلبي وأنا أقلب طرفي حول رحلي، فلا أرى إلا إغراقاً في الاشتغال بالجزئيات على حساب الأصول والكليات، مني ومن غيري، إلا أنني مع ذلك على ثقة كبرى، بأن الله يصنع لهذه الأمة ما عجزت وسائلنا عن صناعته، يصنع هذه الأمة بالأحداث التي سوف تنضج على أَتُّونها هذه الأمة، وتصفو عقولها، وتصح قلوبها، وتتعدل اهتماماتها؛ وذلك أن الإنسان عندما يكون مستغرقاً في قضية جزئية غارقاً فيها، لا يستطيع أن يتصور العالم إلا من خلال هذه القضية الجزئية، ولو قال له أحد: يا أخي! أنت بالغت في المسألة قليلاً؛ رأى أن هذا الإنسان على ضلال، وأنه مخطئ، وأنه يجب أن يعود إلى رشده وإلى صوابه، لماذا؟

    لأن هذا همه، تربى وتكون ونبت لحمه وعظمه وعصبه وكله على هذه القضية، فصار من الصعب أن تنتزعه منها للهواء الطلق، للاهتمامات الأكبر والأوسع.

    هناك شيء ممكن ينتزع، وهى الأحداث التي تضطر الإنسان إضراراً إلى أنه يفكر فيها، ويتأمل ويدرك وينظر، ومن هذه الأحداث: الأحداث التي تواجه المسلمين من عدوهم، تحديات تاريخية وقعت في الماضي وتقع الآن وفي المستقبل، في تثير مشاعر الناس، وتستفزهم، وتحركهم، هذا الإحساس لا بد أن يتجاوب مع هذه الأحداث، فترفعه هذه الأحداث عن واقعه الذي كان يعيشه،

    وهذا يذكرني بقصة أختم بها.

    يحكى أن رجلاً كان عنده زوجة عاقة وسيئة الخلق، فكانت تطعمه شتماً وسباً له ولوالديه ولأولاده ولأسرته ولأقاربه، وربما اعتدت عليه بالضرب أحياناً، والرجل صابر محتسب؛ لأنه يظن أن الناس كلهم هكذا، وأن هذا أمر طبيعي في البيوت، أن كل امرأة لا بد أن تضرب زوجها وتوبخه في الصباح والمساء، فلذلك فهو صابر؛ لأنه لا يتصور الحياة إلا هكذا، وبعد فترة توفيت هذه المرأة، وفرَّج الله تعالى عن هذا المسكين، فتزوج من امرأة أخرى فذاق طعم الحياة، ووجد البسمة الحلوة، ووجد الكلمة الطيبة، ووجد الحديث العذب، ووجد حسن الاستقبال، مع أنه ربما في أول مرة دخل وقد جهز نفسه لتحمل ما قد يلقى من اللكمات أو الضربات، لكنه فوجئ بأن الأمر قد تغير، فما ملك هذا الرجل وقد اكتشف أن الوضع الذي كان فيه في السابق وضع خطأ، ووفاء لزوجته السابقة، إلا أن ذهب وأحرق قبرها؛ تعبيراً عن سخطه لحياته السابقة التي قضاها، وهذا المثل وإن كان أسطورة، ولكنه واقع يمكن أن يعيشه فئة كثيرة من الناس.

    نسأل الله تعالى أن يبصرنا بمواطن الضعف في نفوسنا، وأن يهدينا للرشد من أمرنا، وأن يجعلنا مخلصين له.

    سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755893923