إسلام ويب

شرح لمعة الاعتقاد [10]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يعتقد أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهذا أصل من أصول الدين عند أهل السنة، وقد خالفهم في ذلك بعض الفرق الضالة، كالخوارج والمعتزلة ومن وافقهم من طوائف الشيعة، وهؤلاء هم الوعيدية، وخالفهم كذلك المرجئة الذين أخرجوا العمل عن مسمى الإيمان، وهم في ذلك طوائف ودرجات.

    1.   

    عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان

    أركان الإيمان

    قال الموفق رحمه الله: [والإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، وعقد بالجنان] .

    القول في مسمى الإيمان هو أول أصل حصل فيه نزاع بين أهل القبلة، والمراد بأهل القبلة؛ هم السواد من المسلمين من أهل السنة أو غيرهم.

    وهذا الخلاف ظهر في خلافة علي بن أبي طالب ، لما أظهر الخوارج القول بأن مرتكب الكبيرة كافر، وأنه مخلد في النار، وهذا مبني على قولهم الباطل في مسمى الإيمان.

    وأئمة السلف رحمهم الله أجمعوا على أن الإيمان قول وعمل، وإنما اختلفت ألفاظهم وحروفهم، فالجمهور من أئمة السلف قالوا: الإيمان قول وعمل، وبعضهم قال: الإيمان قول وفعل، كما عبر بذلك البخاري في الرواية المشهورة عنه في صحيحه..

    ومنهم من عبر بأن الإيمان: قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، كما هو التعبير الذي ذكره المصنف، وهو قول الشافعي وجماعة من السلف، وهذا التعبير الثالث هو المشهور في كلام المتأخرين من أهل السنة.

    ومن التعابير السلفية أيضاً ما ذكره بعض عباد السلف ونساكهم؛ كـسهل بن عبد الله التستري أنه قال: "الإيمان قول وعمل ونية واتباع للسنة".

    وهذه التعابير السلفية وغيرها هل الخلاف بينها لفظي، أم خلاف تنوع، أم خلاف تضاد؟

    نقول: الاختلاف بينها لفظي والخلاف اللفظي تكون فيه المعاني من جهة مراد أصحاب الألفاظ معانٍ واحدة لا فرق بينها، ولا اختصاص لواحد منها عن الآخر، أما خلاف التنوع فلا تكون المعاني يصدِّق بعضها بعضاً، ولكن بينها اختصاص، كأسماء الله سبحانه وتعالى ، فهي متعددة: السميع، البصير، العزيز، الحكيم...

    فتجد أن كل اسم يختص بمعنى لم يذكر في الآخر بنفس الدرجة، وإن كان قد يكون لازماً في الاسم الآخر.. وهلم جراً.

    إذاً.. تعابير السلف في مسمى الإيمان الاختلاف بينها لفظي محض.

    فإذا قيل: أي هذه التعابير أجمع وأحكم من جهة التعبير؟

    قيل: أحكمها ما عبر به جمهورهم، وهو قولهم: الإيمان قول وعمل؛ وهذه الجملة أحكم من التعبير الذي ذكره الموفق رحمه الله.

    لأن فيها إبانة لتضمن العمل للظاهر والباطن، والقول الظاهر والباطن، كما أن فيها إشارةً إلى التلازم بين الظاهر والباطن، فإن العبارة التي ذكرها المصنف هي الصحيحة، لكن حين يقال: الإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، واعتقاد بالجنان. فإن هذا يُفهم منه أن الجنان -الذي هو القلب- ليس فيه إلا الاعتقاد، وأن الأعمال هي أعمال الجوارح، مع أنك تعلم أن الأعمال القلبية في الجملة أجل وأعظم من أعمال الجوارح الظاهرة التي أعمال الأركان.

    والمتكلمون من السلف يقصدون دخول أعمال القلب في الإيمان، لكن هذا التعبير فيه اختصار، ولذلك نقول: إن التعبير الذي يقول: الإيمان قول وعمل أتم وأحسن، وهو الذي عبر به جمهور السلف.

    لكن قد يقول قائل: إن هذا التعبير ليس فيه ذكر للاعتقاد.

    نقول: لما قال السلف: الإيمان قول وعمل. أرادوا بالقول: قول القلب وقول اللسان، وأرادوا بالعمل: عمل القلب وعمل الجوارح.

    أما قول القلب: فهو كل تصديق شرعي أخبر الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم به.

    وقول اللسان: النطق بالشهادتين وغيرها مما يكون باللسان.

    وعمل القلب: هو حركته بهذا التصديق بأعماله المناسبة له، مثل: المحبة، والخوف، والرجاء، والإنابة، والتوكل... وغير ذلك.

    وعمل الجوارح: كالصلاة والطواف بالبيت، والحج... إلى غير ذلك من الأعمال الظاهرة.

    والأعمال القلبية ثبوتها في النفس من جنس ثبوت الأعمال الظاهرة، فإن كل عاقل يدرك ما في قلبه من المحبة أو الخوف أو الرجاء أو التعظيم أو الإنابة أو الاستعانة أو غير ذلك من أعمال القلوب، بل إن ثبوت أعمال القلوب أخص من ثبوت أعمال الجوارح؛ ولذلك ليس هناك في الشريعة عمل واحد من أعمال الجوارح إلا وهو مبني على عمل القلب، فإذا تجرد أي عمل ما من أعمال الجوارح الشرعي عن القلب تصديقاً وعملاً لا يصير عملاً شرعياً، فقد يكون نفاقاً كالمنافق إذا أظهر الصلاة وليس في قلبه التصديق، وقد تكون صورته صورة العمل الشرعي وهو ليس شرعياً، كشخص اغتسل من الجنابة أو لغسل الجمعة أو نحو ذلك مما شرع الغسل له كدخول مكة، فإذا اغتسل على قصد التقرب، قيل: غسله عبادة مشروعة، وإذا اغتسل تبرداً أو تنظفاً فهذا ليس من العبادات المقصودة لذاتها.

    إذاً: عمل القلب أثبت من أعمال الجوارح، وذلك لأنه لا يمكن أن يوجد عمل من أعمال الجوارح إلا وهو مبني على عمل القلب وتصديقه، فهذا التعبير الذي عليه الجمهور من السلف هو الصواب من جهة إحكام الألفاظ، وإلا فمعاني السلف كلها متفقة.

    زيادة الإيمان ونقصانه

    قال الموفق رحمه الله: [يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان] .

    هذا التعبير (يزيد وينقص) اختلف كلام السلف فيه اختلافاً لفظياً.

    منهم من يقول: يزيد وينقص. وهذا هو الذي عبر به جمهورهم.

    ومنهم من يقول: إن الإيمان يتفاضل، وهذا تعبير عبد الله بن المبارك وجماعة من السلف.

    ومنهم من يقول: إنه يزيد، ويسكت عن لفظ النقصان، وهو أحد أجوبة مالك ، وإلا فعن مالك جواب بالتصريح بلفظ الزيادة والنقصان، ولذلك نرى طائفة من المالكية وبعض من تكلم عن مذهب مالك في الإيمان من المرجئة وبعض أهل السنة المتأخرين ولا سيما الشراح قالوا: إن مالكاً في إحدى الروايتين عنه يذهب إلى زيادة الإيمان، ولكنه لا يقول بنقصانه، ثم منهم من يقول: إنه ينفي نقص الإيمان، ومنهم من يقول: إنه يتوقف في نقص الإيمان، وكلا الفهمين لقول مالك غلط، فإن مالكاً رحمه الله إنما توقف في لفظ النقصان؛ لأن لفظ النقصان لم ينطق به القرآن، إنما في القرآن ذكر زيادة الإيمان وليس فيه ذكر نقصه، والتوقف في اللفظ لا يستلزم التوقف في المعنى؛ فضلاً عن نفي معناه.

    فمن هنا قال مالك رحمه الله في بعض جواباته قطعاً لشبهة المرجئة وغيرهم الإيمان: يزيد. ومن أقر بالزيادة لزمه أن يقر بالنقصان، ولهذا إذا قلت: ما دليل السلف على نقص الإيمان؟ قيل: الأدلة على زيادته؛ ولهذا سئل الإمام أحمد : الإيمان يزيد وينقص؟ قال: نعم. قيل: أين هو في كتاب الله؟ فذكر الآيات التي فيها ذكر زيادته، قيل: ونقصه؟ قال: كما يزيد ينقص، أي: إذا سلم بزيادته لزم ضرورةً عقلية أنه ينقص، فهذا من فقه الإمام مالك رحمه الله.

    ومن التعبيرات الشائعة عند المتأخرين أنهم يقولون: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهو في الغالب يرتبط بالتعبير الذي يقول: الإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان... إلخ.

    وأتم هذه التعبيرات من يقول: يزيد وينقص؛ وذلك لأنك أعدت الزيادة والنقصان على جميع موارد الإيمان، بخلاف ما إذا عبرت بكلمة (يتفاضل) فإنها أقل في التحصيل والتفصيل من عبارة (يزيد وينقص)، وإن كانت صحيحة لكنْ فيها إجمال، وعبارة: (يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية) صحيحة، لكن قد يتبادر منها أن زيادة الإيمان ونقصانه متعلق بأعمال الجوارح، وهذا ليس صحيحاً، بل الإيمان يزيد وينقص في سائر موارده، وإن كان يُقصد بالطاعة: الظاهرة والباطنة، لكن الناس غالباً يتبادر إلى ذهنهم الطاعات الظاهرة والمعاصي الظاهرة، ولذلك يُقال: يزيد وينقص؛ ليبين أن هذا شمول وعموم؛ وإلا فلا شك أن التعبير بأن الإيمان يزيد بالطاعة تعبير صحيح.

    ودليل القول بزيادة الإيمان ونقصانه: الكتاب والسنة والإجماع، وما من أصل من أصول السلف إلا ودليله الكتاب والسنة والإجماع.

    أما المخالفون لقول السلف في هذه المسألة فهم على قسمين:

    القسم الأول: الوعيدية من الخوارج والمعتزلة ومن يشاركهم من بعض طوائف الشيعة الذين تأثروا بقول المعتزلة وذهبوا إلى طريقتهم من الزيدية، هؤلاء يقولون: إن الإيمان قول وعمل، وهو عندهم لا يزيد ولا ينقص، فمن ترك واجباً من واجبات الإيمان فقد عدم الإيمان، وإذا عدم الإيمان يسمونه إما كافراً كما تقول الخوارج، وإما فاسقاً قد عدم الإيمان، وأخذ منزلة الفسق المطلق كما هي طريقة المعتزلة.

    وقول الوعيدية لا شك أنه قول غلاة المسلمين، وهم الخوارج الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بشأنهم، وقولهم بدعة وضلالة وخروج عن السنة والهدى.

    القسم الثاني: المرجئة، والإرجاء هو مسلك في الإيمان؛ وكل من سلك مادة هذا المسلك سمي من المرجئة، وقد قال أبو الحسن الأشعري في مقالات الإسلاميين: "إن المرجئة ثنتا عشرة فرقة، منهم الغلاة، ومنهم دون ذلك".

    فغلاة المرجئة هم الجهمية الذين يقولون: الإيمان هو العلم والمعرفة، وأخف المرجئة إرجاءً هم من يسمون بمرجئة الفقهاء.

    إذاً: بقية الأقوال في الإيمان كلها بدع وضلال، وأصحابها ليسوا من العارفين بالسنة ولا من أهلها، وإنما هم من أئمة البدعة والضلالة، باستثناء القول الذي يوصف بأنه قول مرجئة الفقهاء، هذا هو القول الذي نحتاج أن نقف معه.

    مرجئة الفقهاء: هم قوم من علماء السنة والجماعة من أهل الكوفة، كانوا على عناية بالفقه أكثر من عنايتهم بالحديث والأثر وذلك لما صاحب حال الكوفة في ذلك الزمان من اشتهار الفقه وعدم اشتهار الرواية، فكانت الرواية في بعض الأمصار العراقية والشامية والحجازية أكثر مما وقع لأهل الكوفة؛ ولهذا غلب على أئمة الكوفة القياس والفقه والرأي.

    والمقصود: أن طائفة من علماء أهل السنة والجماعة غلطوا في هذه المسألة، وقالوا: الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وأعمال الجوارح لا تسمى إيماناً، فهم لا يدخلون أعمال الجوارح في مسمى الإيمان، ولهم نتائج أخرى في قولهم، لكن هذا هو أخص ما ذهبوا إليه.

    والذي ابتدع هذا القول هو حماد بن أبي سليمان ، وقد كان من كبار فقهاء الكوفة، ومن علماء أهل السنة والجماعة، ولكنه أخطأ في هذه المسألة وخالف غيره من السلف، بل وخالف شيوخ الكوفة من قبله، وخالف شيخه إبراهيم النخعي ، الذي كان شديداً على الإرجاء والمرجئة، وأشهر من تقلد هذا المذهب بعد حماد هو الإمام أبو حنيفة النعمان صاحب المذهب المعروف، فبتقلد أبي حنيفة لقول حماد اشتهر هذا القول؛ لكثرة أصحاب أبي حنيفة وشيوعهم فيما بعد.

    إذاً: قول مرجئة الفقهاء هو إخراج الأعمال الظاهرة عن مسمى الإيمان، لكنهم يجعلونها براً وتقوىً وطاعة... إلى غير ذلك، فهم يسمونها إسلاماً، لكنهم لا يجعلونها داخلة في مسمى الإيمان، ويحتجون ببعض الدلائل التي يأتي التنبيه إليها، كقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة:277]فقالوا: إن الله فرق بين الإيمان والعمل... إلى نحو ذلك من استدلالاتهم.

    ومرجئة الفقهاء لم يطعنوا في أحاديث الصحابة كما تطعن الخوارج، ولم يستدلوا بعلم الكلام كما يستدل به المرجئة الغالية كـالجهم بن صفوان وأمثاله، بل كان استدلالهم من جنس استدلال السلف، كما أنهم لم يعرفوا ببدعة أخرى.

    وقولهم هذا لا يسمى اجتهاداً مما يسوغ فيه الاجتهاد بل هو بدعة مخالف للإجماع؛ وشيخ الإسلام ابن تيمية له سياقان في هذه المسألة: فتارة يقول: والجمهور من السلف يقولون: الإيمان قول وعمل، وخالف في ذلك حماد بن أبي سليمان ومن وافقه من فقهاء الكوفة، وبهذا السياق عند ابن تيمية قد يفهم البعض أنه قول الجمهور.

    وهناك سياق آخر يقول فيه: وقد أجمع السلف على أن الإيمان قول وعمل، وحكى هذا الإجماع غير واحد كـوكيع وعبد الرحمن بن مهدي والإمام أحمد والشافعي ... إلخ.

    وليس بين سياقي كلام شيخ الإسلام شيء من التعارض؛ لأننا إذا أردنا تقرير دليل السلف على قولهم: الإيمان قول وعمل، وأن أعمال الجوارح داخلة في مسمى الإيمان، قيل: دليلهم الكتاب والسنة والإجماع.

    أما حماد بن أبي سليمان ومن وافقه فهم مخصومون بالإجماع قبلهم؛ من الصحابة ثم التابعين... إلخ، وقبل حماد ليس هناك اختلاف بين أهل السنة، وحكاية إجماع السلف لا تستلزم أن حماداً ليس من أهل السنة؟

    فـشيخ الإسلام رحمه الله إذا أراد تقرير الدليل على قول السلف قال: وهو إجماع عند السلف، وإذا أراد بيان حقيقة حماد ومن معه ومقامهم عند أهل السنة قال: إنه قول الجمهور؛ فليس بين كلام شيخ الإسلام رحمه الله شيء من التعارض.

    وبدعة حماد ليست من بدع العقائد المغلظة، وإنما هي من بدع الأقوال والأفعال، كما نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ، فالسلف عدوا قوله بدعة وذموه ذماً شديداً على قوله، وذموا مقالته، لكنهم لم يخرجوا حماداً ومن وافقه من دائرة السنة والجماعة بهذا القول.

    وهذا من فقه السلف، وبه تعرف أن من زل في بدعة ما قد لا يخرج من دائرة أهل السنة، وأحياناً قد تكون بدعةً يسيرة، وأحياناً قد تكون بدعة فعلية وبدعة قولية؛ بمعنى أن لا تقارن أبداً ببدعة من أخرج العمل عن مسمى الإيمان، ومع ذلك تجد من يتعجل ويصف من خالف في هذه البدعة المعينة -التي ليست بقدر بدعة حماد - مباشرة بخروجه من دائرة أهل السنة، ويصفه بأنه من أرباب البدعة، ومن دعاة الضلال، ويشنع عليه، والسلف رحمهم الله ذموا حماداً ومقالته، لكن بقي لهم بقية أنهم يجعلونه من أئمة السنة والجماعة وإن كان قوله بدعة.

    مسميات الإيمان في الكتاب والسنة

    قال الموفق رحمه الله: [قال الله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]فجعل عبادة الله تعالى، وإخلاص القلب، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة كله من الدين] .

    قد يقول قائل: إن هذه الآية ليس فيها ذكر لاسم الإيمان، وإنما فيها ذكر لاسم الدين.

    قيل: هذه الآية كثر استدلال السلف بها على مسمى الإيمان؛ وذلك من جهة أن الدين إذا أطلق يراد به الإيمان، ومن الممتنع أن يكون الدين تمامه ليس بتمام الإيمان.

    وهذه الآية إنما ذكروها؛ لأن فيها ذكراً لإخلاص القلب، وذكراً للأعمال الظاهرة والباطنة، ومن هنا يقال: إن استدلال السلف رحمهم الله -في سائر مسائل أصول الدين عامة، وفي هذا الأصل بوجه خاص -هو من باب التنوع في الاستدلال؛ ولهذا فإن ذكر اسم الإيمان في الكتاب والسنة هو ذكر متعدد من جهة السياقات ومرادات المعاني.

    قال شيخ الإسلام رحمه الله: "الاسم الواحد يثبت وينفى بحسب السياق المقارن له، قال: والإيمان استعمل مطلقاً واستعمل مقيداً".

    مثلاً: قال الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1]وبعدها أوصاف ظاهرة وباطنة، كما وصف الله المؤمنين في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]وهذا عمل القلب، وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً [الأنفال:2]أي: زادتهم تصديقاً في القلب، وزادتهم إيماناً في أعمالهم أيضاً، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]وهذا في القلب.. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ [الأنفال:3]وهذه هي أعمال الجوارح.

    إذاً: قد يذكر الله الإيمان ويدخل فيه الأعمال الظاهرة والباطنة، والأقوال الظاهرة والباطنة، وهذا الإيمان المطلق في كتاب الله هو الإيمان الواجب.

    وأحياناً يذكر اسم الإيمان على التصديق اللازم للدخول في الدين، وإن كان صاحبه مقصراً في الزكاة أو الصلاة أو في كثير من الواجبات، ومع ذلك يذكر هذا الاسم؛ كقوله تعالى في كفارة القتل: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92]ولا يراد بالرقبة المؤمنة هنا الذي ذكره الله في أول سورة (المؤمنون)، أنه لا بد أن يكون خاشعاً، معرضاً عن الجهل... إلخ.

    ولو كان المعتَق فاسقاً فإنه يصح عتقه بالإجماع، مع أن الله يقول: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) أي: محققة لأصل الإيمان، وإن كانت قد تكون مقصرةً في واجباته التي لا تخالف أو لا تسقط أصلاً.

    وهذه قاعدة مهمة في معرفة الأسماء؛ لأن غلط الغالطين حتى من أهل السنة المتأخرين والمعاصرين في مسائل التكفير وغيرها، تراهم يجدون استعمالاً في كتاب الله فيجعلونه مطرداً عاماً، مع أن ثمة استعمالات في القرآن قد تعارض هذا الاستعمال في الظاهر، والصواب: أنه ليس بين القرآن تعارض أبداً، ولا يمكن أن يكون ذلك؛ لأن الله يقول: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82]فيمتنع أن يكون فيه اختلاف وهو كلامه سبحانه وتعالى.

    كما أنك تجد ذلك في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ، ففي الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص قال: (قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسماً -أي: مالاً- فقلت: يا رسول الله! أعط فلاناً فإنه مؤمن قال: أو مسلم. أقولها ثلاثاً ويردها علي ثلاثاً: أو مسلم، ثم قال: إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه مخافة أن يكبه الله في النار)فالنبي صلى الله عليه وسلم منع سعداً أن يسمي هذا الرجل مؤمناً، مع أن الرجل عنده أصل الإيمان، وإلا لما زكاه سعد .

    وفي قصة الجارية حين قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة) فالنبي صلى الله عليه وسلم سمى الجارية مؤمنة، مع أن الجارية إنما أجابت جوابين: أن الله في السماء، وأن محمداً رسول الله، والرجل الذي زكاه سعد يؤمن بأن الله في السماء، وأن محمداً رسول الله، ولو كان لا يؤمن برسول الله ولا يؤمن بأن الله في السماء، فلا يجوز أن يسمى مسلماً.

    إذاً: الذي جعل الرسول عليه الصلاة والسلام يمنع سعداً من إطلاق اسم الإيمان على هذا الرجل، وقد أعطاه الجارية، يقال: إن إيمانها أقل من إيمان الرجل الذي ذكره سعد ، فإن ظاهر الحال أن هذا الرجل كان من القاصدين إلى الخير والمعروفين به حتى زكاه سعد ولم يزك غيره، ولأن المقام في قصة سعد مقام ثناء ومدح، وإذا ذكر الثناء والمدح فلا يُثنى ولا يمدح إلا من بان استمامه لواجبات الإيمان، وإذا ذكر مقام الأحكام الدنيوية كالعتق والميراث والولاية ونحو ذلك فإن ذلك الشخص يسمى مؤمناً.

    ولهذا فإن كل من كان مسلماً حقاً فإنه لا بد أن يكون مؤمناً، فإن الناس أحد ثلاثة: إما مؤمن ظاهراً وباطناً، وإما كافر ظاهراً وباطناً، وإما المنافق المسلم في الظاهر والكافر في الباطن، والله يقول: قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14]فهم إذا أسلموا حقاً لا بد أن يكون معهم أصل الإيمان؛ لأنهم إن عدموا الإيمان كفروا.

    إذاً: لماذا قال الله تعالى: وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14] وقال: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا [الحجرات:14]؟ لأن الأعراب قالوا هذا من باب التزكية، والثناء، والإيمان كتحقيق ليس سهلاً، ليس كل من قال الإسلام وصدق به يكون محققاً للإيمان، فإن الدين طبقات ودرجات؛ ولذلك فإن كل شخص من المسلمين مهما كثرت جرائره وكبائره وعظائمه مادام أن معه أصل التوحيد والإسلام يسمى مسلماً، ويسمى فاسقاً لما معه من الفسق، وهل يسمى مؤمناً أو لا يسمى؟

    قيل: فيه تفصيل ففي مقام الدعوة والمخاطبة بالحق يسمى مسلماً، وفي مقام أحكام الدنيا كالزواج والمواريث والعتاق ونحوها يسمى مؤمناً، ولا غضاضة في ذلك؛ لأن معه أصل الإيمان، أما ما يقرره بعض متأخري أهل السنة حين يقولون: الفاسق صاحب الكبيرة لا يسمى مؤمناً بحال.. فهذا غلط، بل يجوز تسميته مؤمناً في مقامات، ألا ترون أن الله يقول في القرآن: (يأيها الذين آمنوا) كثيراً، يخاطب به سائر المسلمين من بر وفاجر، ولما ذكر الله الاصطفاء العام قال: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر:32]المصطفون من هم؟ قال: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [فاطر:32].

    وعليه: إذا قيل: أصحاب الكبائر أيُّ الأسماء هي الأصل فيهم؟

    نقول: العصاة من أهل الكبائر الأصل فيهم أنهم يسمون مسلمين، وهذا هو الغالب على المسلمين، وإلا يلزم على هذا أن يفسق جماهير المسلمين؛ لأنه لا يسلم أحد من ارتكاب كبيرة، ولذلك فإنما الله سمى عباده والذين يتبعون أنبياءه سماهم مسلمين كما قال تعالى: هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ [الحج:78]فالإسلام هو اسم أتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، سواءً كانوا أهل كبائر أو غير أهل كبائر، ولكن إذا أريد ذكر كبيرته أو إسقاط ما أوجبت الشريعة إسقاطه كإسقاط ولاية بعض العصاة، قيل: هذا سقطت ولايته لكونه فاسقاً، وهو لا يتناسب أن تقول: سقطت ولايته لكونه مسلماً؛ لأنه تضاد في الترتيب.

    فإذاً: إذا أريد بيان ما عند الرجل من المعصية بأن اقتضت المصلحة والسياق ذلك سمي فاسقاً، وإذا اقتضت المصلحة والسياق في مقامٍ آخر سمي مؤمناً؛ وإذا أريد الأصل العام في التسمية قيل: الأصل العام هو الإسلام، ولذلك ما يتداوله البعض كثيراً: الفساق.. والفساق، فهذا ليس عدلاً، ولا انضباطاً على السنن والآثار المذكورة في كتاب الله، وأنت لا ترى في كتاب الله ذكر الفسق في الغالب إلا ويراد به الكفر، وإن كان أحياناً يستعمل في ما دون ذلك، كقوله: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ [الحجرات:6]فسمي فاسقاً لأن المقام يستدعيه؛ ولهذا لو أن شخصاً كذب على شخص وأراد الآخر تنزيه نفسه أو تنزيه غيره عن هذا الكذب يقول لمن حدث بهذا الكلام: الذي جاءك بهذا الكلام رجل فاسق، وهذا المقام مناسب، أما أنه لا يُعرف إلا بهذا الاسم فهذا ليس بصحيح، بل العدل والسنة أنه يسمى مسلماً؛ لأن هذا هو الأصل فيه؛ ولأن ما عنده من الحسنات أعظم مما عنده من السيئات قطعاً، ولأن حسنة التوحيد أجل من سائر ما عنده من السيئات والمعاصي.

    فعليه: يكون اسم الإيمان يستعمل في مقام، والفسق في مقام، والإسلام في مقام هو الأصل فيه.

    شعب الإيمان

    قال الموفق رحمه الله: [وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) فجعل القول والعمل من الإيمان] .

    هذا الحديث يعتبر من أشرف الدلائل عند السلف على مسألة الإيمان، وأصله في الصحيحين،وهو بهذا السياق رواه مسلم في صحيحه، وقد رواه البخاري مجملاً: (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة)، وفسره مسلم في هذه الرواية، قال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من شعب الإيمان).

    من خصائص هذا الحديث مسائل:

    المسألة الأولى: أن الحديث فيه بيان لكون الإيمان متعلقاً بالقلب واللسان والجوارح، فإنه قال: (فأعلاها قول لا إله إلا الله)وهذا دليل على أن الإيمان يكون باللسان خلافاً لغلاة المرجئة، وفي قوله: (وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)فيه بيان لكون الإيمان يتعلق بأعمال الجوارح، (والحياء شعبة من شعب الإيمان)فيه دليل على أن أعمال القلوب تدخل في مسمى الإيمان.

    المسألة الثانية: فيه أن سائر الأعمال المشروعة تدخل في مسمى الإيمان، سواء كانت واجبة أو ركناً أو مستحبة، فإن إماطة الأذى عن الطريق ليست من الواجبات في سائر المقامات، ومع ذلك جعلها الشارع من شعب الإيمان.

    المسألة الثالثة: أن هذا الحديث يمنع التأويل فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة) فدل على أن كل ما سماه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا فهو إيمان على الحقيقة ليس من باب المجاز، لأنه قال: (والإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستون) على اختلاف الرواية، فدل على أن هذه الشعب كل واحد منها يسمى إيماناً ولا بد، وإذا دخلت الأعمال المستحبة باسم الإيمان فمن باب أولى دخول الواجبات والفرائض الكبرى.

    أصل الإيمان وكماله

    قال الموفق رحمه الله: [وقال تعالى: فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً [التوبة:124]، وقال: لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً [الفتح:4]] .

    هذه أدلة على زيادة الإيمان، وأن الله سبحانه وتعالى ذكر زيادة الإيمان في كتابه ذكراً محكماً، والإيمان يزيد من جهة التصديق، ويزيد من جهة أعمال القلوب، ويزيد من جهة أقوال اللسان، ويزيد من جهة أعمال الجوارح، فالإيمان في سائر هذه الموارد يزيد وينقص، وهذا يدلك على أن الإيمان له أصل وكمال وأصله: ما يقع به الدخول في الدين.

    فإذا قيل: ما معنى نفي الشارع للإيمان؟

    قيل: نفي الإيمان عن شخص مسلم يكون سببه أنه ليس محققاً لواجبات الإيمان المطلق، فإن من لم يحقق واجبات الإيمان المطلق المذكورة في قول الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1].. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2] إلى آخر الآيات، فإن اسم الإيمان ينفى عنه حال فعله للكبيرة أو حال ذكر التزكية له.

    والله سبحانه وتعالى في كتابه قد نفى اسم الإيمان لمن معه أصل الإيمان وهو من المسلمين في أحد مقامين: إما أن يكون المقام نفياً للتزكية؛ كقوله الله تعالى: قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14]فهم أرادوا أن يسووا بالمهاجرين والأنصار، والقوم في الغالب على أقل من هذا، فقال الله: (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) أي: لم تؤمنوا الإيمان المطلق الواجب، وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14]أي: لم يتحقق؛ لأن الإيمان إذا تحقق بالقلب تحقق في أعمال الجوارح الظاهرة.

    إذاً: ينفي الله أو رسوله عليه الصلاة والسلام اسم الإيمان عن قوم ذكروا التزكية وهم ليسوا من أهل تحقيقها، أو ينفي الإيمان عن صاحب كبيرة أثناء إصراره على كبيرته وقبل توبته منها، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين عن أبي هريرة : (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه بها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن).

    وهنا لم النبي يرد عليه الصلاة والسلام أنه تجرد من الإيمان كله، حتى من قال من بعض المتأخرين على هذا الحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) أنه عند الزنا يعدم الإيمان، ثم إذا انتهى من الزنا أو من كبيرته أو من سرقته رجع إليه الإيمان، هذا قول فهمه غلط من كلام أبي هريرة وابن عباس ، وهما لم يردا أنه حال الزنا يعدم الإيمان، ثم يرجع الإيمان إليه، هذا كجدل عقلي -أيضاً- ممتنع، ويلزم عليه أنه لو مات حال شرب الخمر أو حال السرقة يكون كافراً، ويلزمه أن يكون خرج من الإسلام إلى الكفر ثم رجع إليه، وهذا لم يرد عن أحد من الصحابة.

    والشاهد من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد نفي أصل الإيمان، والدليل على ذلك من السنة حديث أبي ذر في الصحيحين، قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم عليه ثوب أبيض، ثم أتيته فإذا هو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ، فقال: ما من عبد يشهد أن لا إله إلا هو وأني رسول الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة -وفي رواية: -إلا حرم الله عليه النار- قال أبو ذر: يا رسول الله! وإن زنا وإن سرق؟ قال: وإن زنا وإن سرق. قال: وإن زنا وإن سرق. قال: وإن زنا وإن سرق. قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر).

    إن فقه الأسماء الشرعية في القرآن من أجل الفقه، فهو لا يؤخذ مقاماً واحداً، ومن يأخذ مقاماً واحداً فتلك طريقة أهل البدع، فتجد من يقول: الجهل ليس عذراً في التكفير، ويستدل بقول الله تعالى: خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]ونقول له: إن الله وصف كل من خالف الرسول بأنه من الجاهلين.

    وقال في موضع آخر: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146]مع أنهم جاهلون، ودخلوا في اسم الجاهلين في الآية الأخرى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [النمل:14]... إلخ.

    إذاً.. لا بد من جمع مقامات القرآن وسياقاته؛ حتى لا يقع تعارض في الفهم بين كلام الله، أو يؤخذ بعضه ويترك بعضه كما صنعت الخوارج والمرجئة، هؤلاء أخذوا أحاديث آيات وأحاديث الوعيد، وهؤلاء على العكس.

    أهل الكبائر لا يخلدون في النار

    قال الموفق رحمه الله: [وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال ذُرة أو خردلة أو ذَرة من الإيمان)فجعله متفاضلاً] .

    هذا الحديث متواتر الرواية عن جماعة من الصحابة أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وهذا دليل على أن الإيمان له كمال وله أصل، وأنه يزيد وينقص، وهو دليل على أن سائر أهل الكبائر لا يخلدون في النار وأن معهم أصل الإيمان ولا بد.

    مسألة الاستثناء في الإيمان

    الاستثناء في الإيمان، وهو قول الرجل: هو مؤمن إن شاء الله، وهذه المسألة ليست من مسائل الأصول عند السلف، ولكن بعض أهل البدع تكلم فيها على مبنى أقوالهم البدعية، فهنا يقال: إن قولهم بدعة.

    إذاً.. هل السنة الاستثناء في الإيمان، أم عدم الاستثناء؟

    قيل: هذا بحسب المراد والمقام، فمن قصد أنه مؤمن -أي: محقق للإيمان- فلا بد أن يقول: إن شاء الله؛ لأن تحقيق الإيمان لا يجوز لأحد الجزم به، ولا يجوز لأحد أن يزكي نفسه أنه حقق الإيمان تحقيقاً كاملاً.

    وكذلك إذا أريد الخاتمة، فإنه يُستثنى في الإيمان؛ لأن الإنسان لا يدري بماذا يختم له.

    فإذا أريدت هذه المرادات فيكون السنة ذكر الاستثناء، وأما إذا أريد أصل الإيمان فإن ذكر الاستثناء لا يلزم؛ ولهذا إذا قال شخص عن فلان: هذا الرجل مؤمن. لا يلزمك أن تقول: قل: إن شاء الله؛ لأنك إنما تتكلم عن أصل الإيمان، وأصل الإيمان يجزم به.

    والصواب أنه يجوز تقييده بالمشيئة، ومشيئة الله تعالى لا تعني التردد، قال الله تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح:27]مع أن دخولهم كان متحققاً.

    إذاً: تعليق الأمر بمشيئة الله لا يلزم منه التردد، ومسألة الاستثناء في الإيمان تكون بحسب المقام والمراد، فتجوز في مقام، وتجب في مقام، وتمنع في مقام، فهي مسألة واسعة على هذه المرادات، ومن هنا تنوع جواب السلف فيها رحمهم الله.

    1.   

    الفرق بين الإسلام والإيمان

    لا شك أن اسم الإيمان أشرف وأعظم وأجل من اسم الإسلام، والدليل عليه قوله تعالى: وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم (... أو مسلم...) إلى غير ذلك، فدل على أن الإيمان أعلى وأتم.

    ومع ذلك فإن كل مؤمن يكون مسلماً، ولكن هل كل مسلم يكون مؤمناً؟

    نقول: هذا فيه تفصيل؛ فإن أريد أصل الإيمان فنعم، وإن أريد تمامه فلا يلزم؛ فالإسلام المطلق هو الإيمان المطلق، قال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19].. هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ [الحج:78]وفي قول الله تعالى عن إبراهيم: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [البقرة:128].

    أما من قال: اسم الإسلام أشرف أو مساوٍ لاسم الإيمان لقول الله عن إبراهيم: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) ولم يقل: مؤمنين، فهذا غلط في الفهم؛ فإن قوله: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) الإسلام هنا هو الإسلام المطلق، وإذا ذكر الاسم المطلق فليس هو الإسلام المذكور في قول الله تعالى: وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14]الإسلام المطلق هو الإيمان.

    إذاً.. اسم الإيمان يكون مطلقاً ويكون مختصاً أو مقيداً؛ وكذلك اسم الإسلام، يكون مطلقاً كقوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]ويكون مختصاً أو مقيداً كقول تعالى: (وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا).

    وهذان الاسمان هما من أسماء الديانة، ولكن اسم الإيمان أتم، قال بعض المتأخرين: إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، وهذا ليس بمطرد ولا لازم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755974771