إسلام ويب

شرح لمعة الاعتقاد [8]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ثبت بالأدلة الصحيحة الصريحة من الكتاب والسنة أن المؤمنين يرون ربهم سبحانه وتعالى يوم القيامة بأبصارهم، ويرونه سبحانه وهم في الجنة، وهذا هو ما يعتقده أهل السنة والجماعة، ولم يقل بنفي الرؤية إلا المعتزلة، وقد استدلوا بما ليس لهم فيه دليل. أما رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في ليلة الإسراء والمعراج فهي مسألة فيها خلاف مشهور، والصواب: أنه لم يره ببصره.

    1.   

    رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة

    قال الموفق رحمه الله: [والمؤمنون يرون ربهم في الآخرة بأبصارهم، ويزورونه، ويكلمهم ويكلمونه] .

    ذِكر المصنف لمسألة رؤية الله سبحانه وتعالى داخل في تفصيل ذكره للصفات؛ لأن من صفاته سبحانه أنه يُرى يوم القيامة.

    ورؤية المؤمنين لربهم في الآخرة تكون في مقامين:

    الأول: في عرصات القيامة.

    والثاني: بعد دخولهم الجنة، وهما من مسائل الإجماع المتفق عليهما بين السلف.

    وظاهر النصوص أن رؤيتهم له سبحانه وتعالى بعد دخولهم الجنة تكون أتم من تلك التي تقع في عرصات القيامة، فالرؤية بعد دخول الجنة هي المذكورة في قول الله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، وقد فسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الزيادة في الآية كما في صحيح مسلم وغيره، قال: (هي النظر، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم)وهذا من معاقد الإجماع الذي دل عليه الكتاب والسنة.

    أدلة القرآن على رؤية الله تعالى في الآخرة

    الدليل الأول: من أخص أدلة القرآن التي استدل بها السلف على ثبوت رؤية المؤمنين لربهم وأصرحها قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23].

    الدليل الثاني: قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، وإن كان لفظ الزيادة لفظاً مجملاً إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الزيادة بالنظر إلى وجهه سبحانه وتعالى.

    الدليل الثالث: قوله تعالى عن الكفار: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، ومفهوم المخالفة من الآية: أن المؤمنين لا يحجبون عن الله يوم القيامة، كما ذكر ذلك الشافعي ومالك وجملة من السلف.

    الدليل الرابع: قوله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الأحزاب:44]، فإن اللقاء إذا قُرن بالتحية تضمن النظر والرؤية معاً، وقد روى أبو عبد الله ابن بطة عن ثعلب -وهو من أئمة اللغة- الإجماع على أن اللقاء إذا قُرن بالتحية فإنه يستلزم أو يتضمن الرؤية.

    الدليل الخامس: قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103]فإن المنفي هنا هو الإدراك، والإدراك قدر زائد عن أصل الرؤية، ولا يلزم من الرؤية للشيء الإدراك له والإحاطة به، فإنك تقول -ولله المثل الأعلى-: رأيت السماء، ومع ذلك لم تدركها، وتقول: رأيتُ القادم من بعيد. وأنت لم تدركه: أهو زيد أم عمرو؟ أرجل أو امرأة؟ فإن من رأى قادماً من بعيد لا يرى إلا شخصه، ولا يميز من هو، أو ما يكون، فإذا قال: رأيت هذا القادم، فإن قوله صحيح، ولكن لا يمكن أن يقول: أدركته. فلما قال تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) دل على أنه يُرى ولكن لا يدرك، فإنه لو كان سبحانه وتعالى لا يرى مطلقاً، ولا يراه المؤمنون؛ لما لزم نفي الإدراك، فإن الأصل إذا كان منتفياً فإن ما فوقه يكون منتفياً من باب أولى.

    فإذاً: قوله تعالى: ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) دليل على ثبوت الرؤية، ووجه ذلك: أنه لما خص القدر الزائد على أصل الرؤية في النفي، دل ذلك على أن ما دونه -أي: ما دون الإدراك وهو أصل الرؤية- يكون ثابتاً وممكناً.

    ومما يوضع في الاعتبار: أن في كتاب الله جملة من الدلائل هي محل تردد في الاستدلال بها على الرؤية بين أهل السنة؛ كقوله تعالى: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35]وهذه الآية مختلف في صحة الاستدلال بها، فمن استدل بها رأى أن لفظ "مزيد" المراد به: الزيادة المفسرة بالسنة، ومن لم يذهب إلى هذا التفسير قال: يمكن أن يكون المزيد المذكور في هذه الآية ليس هو المراد بالزيادة في قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26].

    أدلة السنة على رؤية الله تعالى في الآخرة

    وأما السنة فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث متواترة في رؤية المؤمنين لربهم، رواها ثلاثون صحابياً تقريباً وعلى رأسهم العشرة المبشرون بالجنة وغيرهم، وثمة جملة من الأحاديث متفق عليها بين البخاري ومسلم ، وجملة من أفرادهما، وجملة في السنن والمسانيد، فأحاديث الرؤية تلقتها الأمة بالقبول -كما ذكر ذلك الإمام أحمد وغيره- ومن أصرحها: حديث أبي هريرة وأبي سعيد في سياق طويل في الصحيحين أن أناساً قالوا: (يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: هل تضامون في رؤية القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا، قال: هل تضامون في رؤية الشمس صحواً ليس دونها سحاب؟ قال: فإنكم سترون ربكم كذلك لا تضامون في رؤيته).

    إلى غير ذلك من النصوص الصحيحة الصريحة في كلام الله ورسوله على أن المؤمنين يرون ربهم وهو إجماع متحقق عند السلف.

    1.   

    رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه

    هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ببصره ليلة المعرج أم لم يره؟

    هذه المسألة فيها نزاع مشهور بين متأخري أهل السنة، وهم فيها على قولين:

    الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج ببصره.

    الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه ببصره.

    والذي يميل إليه أتباع الأئمة من المتأخرين: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره، ولكن هذا المذهب وإن اشتهر عند المتأخرين -حتى قيل: إنه قول جمهورهم- إلا أنه غير معروف عند الصحابة رضوان الله عليهم، وغريب عند الأئمة المتقدمين.. بل حُكي الإجماع على خلافه، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه ببصره، وممن حكى الإجماع على ذلك: الإمام الدارمي رحمه الله. قد نقله عنه الموفق في المناظرة في مسألة الصفات، وهذا هو المشهور في مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم من السلف، وسواء قيل: إن هذا إجماع منضبط صحيح، أو قيل: إنه إجماع سكوتي، فإنه لم يصح عن واحد من الصحابة أنه قال: إنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره، وإنما جواب الصحابة على أحد وجهين:

    الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يره.

    والثاني: أنه رآه بفؤاده.

    فالأول جواب عائشة رضي الله عنها ومن معها، والثاني: جواب ابن عباس رضي الله عنهما ومن أخذ بقوله.

    وعند التحقيق يظهر أن جواب ابن عباس رضي الله عنهما ليس معارضاً لجواب عائشة رضي الله عنها ، بل يمكن أن يقال: إن جواب ابن عباس مؤيد لجواب عائشة رضي الله عنها؛ من جهة أن ابن عباس لما قصر الرؤية على الفؤاد دل على أن ما فوقه -وهي الرؤية البصرية- غير متحصلة.

    أما المتأخرون فإنهم فهموا من كلام ابن عباس الإثبات للرؤية البصرية؛ لأن أصحاب ابن عباس يروون تارة الإطلاق، وتارة التقييد بالفؤاد، فصار من المتأخرين من يقول: إن ابن عباس رضي الله عنهما وأصحابه يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره، وهذا غلط عليه؛ لأنه إنما كان يقول: رآه بفؤاده، ولم يقل: رآه ببصره.

    وتفسير المتأخرين لمذهب ابن عباس بهذا لا يغر طالب العلم، ويوضح هذا ما يقع في كتب بعض الشراح -كشراح الصحيح وغيره- من القول بإثبات رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه، وأن هذا هو مذهب ابن عباس رضي الله عنهما وطائفة، أو يقولون: هو أحد قولي ابن عباس ، بل الصواب أن ابن عباس له قول واحد فقط، ونسبة القول الثاني إليه غلط عليه، والتحقيق: أن قول ابن عباس لرؤية النبي بفؤاده يدل على نفي الرؤية البصرية وليس على إثباتها.

    ومن الحنابلة من حكى عن الإمام أحمد القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره، وهذا كما قال شيخ الإسلام وغيره: غلط على الإمام أحمد ، والصواب أنه إنما كان يجيب بجواب ابن عباس وعائشة ، مما يدل على عدم التعارض بين الجوابين عنده.

    وعلى كل تقدير يقال: الصواب ما عليه الجماهير من الأئمة المتقدمين؛ ولذا حُكي الإجماع عليه منهم، وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه عز وجل ببصره.

    وإذا قيل: رآه بفؤاده، فهذا قول ابن عباس ومذهب جملة من الصحابة رضي الله عنهم ، بل أكثر أهل السنة -كما قال شيخ الإسلام - يقولون بقول ابن عباس ، وأن رؤية الفؤاد ليست هي الرؤية البصرية.

    مسألة: هل تعتبر مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه من مسائل الأصول التي يضلل فيها المخالف؟

    الجواب: ليست من مسائل الأصول، وإن كان القول بإثبات الرؤية البصرية يعد قولاً غريباً لا ينبغي أن يصار إليه، ولاسيما أن القول الذي عليه عامة السلف والجماهير من أئمة السنة هو ظاهر القرآن وصريح السنة.

    أما أنه ظاهر القرآن فلقوله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1]، وقول الله تعالى: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:18]، فهاتان الآيتان تدلان دلالة ظاهرة -وإن لم تكن صريحة- على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه ببصره.

    ووجه ذلك: أن الله لما ذكر مسرى نبيه صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك على جهة النعمة والامتنان عليه، وكان المقام مقام ذكر لأجل ما امتن به عليه؛ لذا فهو رأى من آيات ربه الكبرى، فقال: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ [النجم:18].. وقال: لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا [الإسراء:1]؛ فذكر حاله في مقدمه، وحاله بعد منتهاه، ومع ذلك لم يقع ذكر الامتنان إلا على رؤية الآيات. قال شيخ الإسلام : "فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه سبحانه وتعالى لكان إظهار الامتنان عليه برؤيته له أولى من الإظهار لرؤية الآيات، فلما اقتصر ذكر القرآن على رؤية الآيات؛ دل على أنه لم يحصل له ما هو فوق هذا المقام وهو رؤيته لربه عز وجل".

    وأما السنة: فقد روى مسلم عن أبي ذر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (هل رأيت ربك؟ فقال: رأيت نوراً)وفي رواية أخرى لـمسلم أن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (هل رأيت ربك؟ فقال: نور أنى أراه)، وهذان الوجهان، قيل: إنهما محفوظان كلاهما، إلا أن الإمام أحمد في بعض أجوبته وكذا جملة من أئمة الحديث ينزعون إلى أن المحفوظ هو أحد هذين الوجهين، والمسألة فيها سعة.

    والمقصود بقوله: (نور أنى أراه) إشارة إلى النور الذي حال دون رؤيته لربه سبحانه وتعالى ، وهذا النور -والله أعلم- هو حجابه سبحانه وتعالى ؛ فقد ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى : أن النبي صلى الله عليه سلم قال: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الوجه الآخر: (رأيت نوراً)، أي: أنه رأى هذا الحجاب.

    1.   

    رؤية الكفار والمنافقين لربهم في عرصات القيامة

    مسألة: هل المنافقون والكفار من أهل الأوثان وأهل الكتاب يرون ربهم في موقف القيامة كما يراه المؤمنون أم لا؟

    الجواب: أولاً: يقال: هذه المسألة ليست من مسائل الأصول، وأصلها هو مسألة رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة.

    ثانياً: أي المسألتين أقوى مقاماً عند أهل السنة: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه جل وعلا أو رؤية الكفار؟

    قيل: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه أقوى؛ لأن الصحابة فمن بعدهم لهم فيها قول معروف، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، وهذا مما دل عليه ظاهر القرآن والسنة الصحيحة، وأما رؤية الكفار لربهم فإن شيخ الإسلام قال: "إن الصحابة لم يحفظ عنهم قول معروف فيها، وإنما تكلم فيها الناس بعد الصحابة".

    وعلى كل حال فلأهل السنة فيها أقوال:

    الأول: أن الكفار يرون ربهم، وإن كانت ليست رؤية نعمة وامتنان.

    الثاني: أن المنافقين يرون ربهم دون بقية الكفار.

    الثالث: أنه يراه المنافقون وغُبرات من أهل الكتاب، كما جاء في بعض الروايات في الصحيح.

    الرابع: أن الكفار جميعاً لا يرون ربهم، وهذا هو ظاهر مذهب الأئمة، وهو الذي عليه الجمهور من أصحاب أحمد ، وهو ظاهر القرآن في قول الله تعالى: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، والذي يميل إليه شيخ الإسلام ابن تيمية -وإن كانت هذه المسألة من المسائل التي خالف فيها ابن القيم ابن تيمية رحمه الله - وخالفه ابن القيم فذهب إلى أن الكفار يرون ربهم، ويجعل هذا عاماً في سائر الكفار، ويستدل على ذلك بقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6]، واستدل ابن القيم على ذلك بقوله: إن اللقاء عند العرب -كما ذكره ثعلب - يفيد الرؤية.

    وهذا الاستدلال مما فات ابن القيم ، فإن ثعلباً لما أورد هذا الكلام أراد به اللقاء المذكور في قول الله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الأحزاب:44]، واللقاء المذكور في هذه الآية ليس هو المذكور في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6]، فإن اللقاء في الآية الأولى قُرن بذكر التحية والسلام، وأما اللقاء هنا فهو مطلق، والذي حكى ثعلب الإجماع عليه من هو المقرون بالتحية والسلام، وثعلب عندما ذكر كلام أهل اللغة عند قوله تعالى: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ)، قال: إن العرب إذا ذكرت اللقاء مع التحية فإنه يفيد البصر والرؤية، وأما اللقاء المطلق فإنه لا يفيد ذلك، وهذا أمر معروف بالعقل والحس أن اللقاء المطلق لا يستلزم أو يتضمن النظر أو الإبصار، فما استدل به ابن القيم ورآه دليلاً قوياً فيه نظر؛ ولذا قال الجمهور من محققي أهل السنة كأمثال شيخ الإسلام -وهو ظاهر مذهب الشافعي وأحمد -: إن الكفار لا يرون ربهم. وهذا هو الصواب والأظهر في هذه المسألة، وإن كانت بعض روايات الحديث في السنة النبوية قد تشعر بأن الكفار يرون ربهم، ولكنها ورادة في مسألة أخرى.

    وأما رؤيته سبحانه وتعالى لغير النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج -على الخلاف السابق- فهذا مما أجمع عليه عامة المسلمين بأنها لن تقع لأحد في الدنيا، ولم يدع شيء من ذلك إلا أهل الخرافة الذين يدعون أنه يُرى قبل الموت، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واعلموا أن أحدكم لن يرى ربه حتى يموت).

    1.   

    أدلة المعتزلة على نفي الرؤية

    استدلالهم بقصة موسى والرد عليهم

    موسى عليه الصلاة والسلام لما سأل ربه عز وجل الرؤية قال له: لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143]، وهذا ليس نفياً مطلقاً للرؤية إنما هو نفي للحال، فإن موسى كان يسأل ربه أن يراه في الدنيا لا أن يراه في الآخرة أو الجنة.

    والنفي إنما وقع على طلب الدنيا، لذا كان قوله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143] لا يصح دليلاً للمعتزلة والجهمية ومن وافقهم على نفي الرؤية، فهم يقولون: إن (لن) تفيد التأبيد، وهذا ليس صحيحاً، فإن (لن) لا تستلزم التأبيد وإن كانت قد تقتضيه، بمعنى: أن إفادتها لذلك إنما هو بحسب السياق، وفي شعر العرب وأقوالهم سياق فيه ذكر (لن) من النفي الذي يتضمن التأبيد وفي كلامهم سياق آخر فيه ذكر (لن) بالنفي الذي لا يتضمن التأبيد.

    والقول الصواب إذا قيل لك: هل (لن) تقتضي تأبيد النفي؟

    الجواب: قد تستلزم التأبيد وتقتضيه وقد لا تستلزمه وإن كانت تقتضيه؛ لأن البعض إذا أراد الرد على المعتزلة قال: إن (لن) لا تفيد التأبيد مطلقاً، وهذا غير صحيح.

    ومما يدل على أنها لا تستلزم التأبيد في سائر المقامات: أنها لو كانت تستلزم التأبيد في سائر السياقات لما جاز تحديد أو تقييد الفعل بعدها بغاية، وقد جاء تحديد الفعل بعدها في كلام العرب وفي القرآن بغاية، مثل قول الله تعالى: فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي [يوسف:80]، فهذا يدل على أن (لن) في هذا السياق لا تستلزم التأبيد وإن كانت قد تقتضيه، ومثل هذا سياق قصة موسى؛ لأن السؤال من موسى عليه الصلاة والسلام إنما كان عن الحال.

    ومن الجواب في هذه الآية نفت المعتزلة والإباضية وغيرهما ممن دخلت عليهم شبه أقوال الجهمية، رؤية الله تعالى، بل ويعدون إثباتها نقصاً، ويقولون: إن هذا هو المذهب الحق الذي ذكره الله في القرآن في قوله: (لَنْ تَرَانِي).

    وهنا سؤال موجه إليهم: إذا كان إثباتها نقصاً في حق الله، وأن من كماله ألا يرى، وأن من يقول: إنه يُرى مشبه منقص لله سبحانه وتعالى عن كماله.. إذا كان الأمر كما قالوا؛ فإنه يلزم أن يكون موسى عليه الصلاة والسلام أحد رجلين: -إما أنه جاهل بما هو كمال لله- وإما أنه كان متعدياً على ربه.

    فإن قالوا: إنه متعدٍ. فهذا طعن في رسالته وفي ذكر الله له بالثناء.

    وإن قالوا: إنه كان جاهلاً، فإن جهله هنا إسقاط لرسالته ولنبوته ولاصطفائه؛ إذ كيف يكون جاهلاً بتوحيد الله؛ لأن القول هنا في الصفات قول في التوحيد، والمعتزلة يعدون قولهم بنفي الصفات توحيداً لله، وهو الأصل الأول من أصولهم الخمسة: التوحيد.

    إذاً.. يمتنع أن يكون موسى جاهلاً بما هو من أصول التوحيد.. أو توحيد العلم والمعرفة، وهو ما يليق بالله وما لا يليق به، ولهذا لا ترى أن الله عاتب موسى على سؤاله، بينما نوح عليه الصلاة والسلام لما سأل ربه مسألة ليست من الأصول المطردة في أصل معرفته سبحانه، وهو نجاة ابنه، قال الله له: فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ [هود:46]، فهل قيل لموسى مثل ذلك، مع أن مسألة موسى أكبر من مسألة نوح، فدل هذا على أن سؤال موسى ممكن أصلاً وشرعاً، ولكنه أمر يتعلق بمشيئة الرب وإرادته، وبه تكون المفاضلة بين المؤمنين وغيرهم في الجنة.

    استدلالهم بقوله تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) والرد عليهم

    أما قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103]، فإن المعتزلة استدلوا بهذه الآية أيضاً على نفي الرؤية، والصواب أنها دليل على إثبات الرؤية؛ لأن المنفي هو الإدراك، والإدراك ليس هو مطلق الرؤية، بل هو قدر زائد على أصل الرؤية، ولما سأل رجل ابن عباس : إن الله يقول: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) ، ويقول: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، وكأن الرجل وجد بين الآيتين شيء من التعارض، فالآية الأولى تنفي والثانية تثبت.

    قال ابن عباس : (يا هذا! ألست ترى السماء؟ قال: بلى، قال: أتدركها كلها؟ قال: لا، قال: فالله أعظم).

    كل أحد من بني آدم يقول: إنه يرى السماء، لكن هل أحد منهم يستطيع أن يقول: إنه يدرك السماء طولاً وعرضاً وامتداداً وماهيةً ونفوذاً... إلى آخره؟ كلا.

    إذاً: من طريق العقل والحس والنظر يتضح أن الإدراك ليس هو محض أو مطلق الرؤية.

    قال الموفق رحمه الله: [قال الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [القيامة:22]* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23]، وقال تعالى: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، فلما حجب أولئك في حال السخط، دَلَّ على أن المؤمنين يرونه في حال الرضا، وإلا لم يكن بينهما فرق] .

    هذا الاستدلال ذكره الشافعي ومالك وجملة من السلف، على أن قوله تعالى: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]دليل على إثبات الرؤية.

    قال الموفق رحمه الله: [وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته). حديث صحيح متفق عليه].

    قوله: (لا تضامون في رؤيته)أي: لا يحتاج الناس في هذا الموقف وانضمام بعضهم إلى بعض إلى الزحام، وهذا بين كما في حديث أبي رزين ، لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم رؤية ربه- قال بعض الأعراب: (يا رسول الله! كيف وهو واحد ونحن كثر؟ قال: سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله، هذا القمر كلكم يراه مخلٍّ به وهو واحد) فالناس يرون الشمس والقمر ولا يزدحمون عليه، ولا يدفع بعضهم بعضاً لرؤيته، فهذه آية يسيرة من آيات الله فكيف بالله سبحانه وتعالى ؟!

    طعون المعتزلة في أحاديث الرؤية والرد عليهم

    قال الموفق رحمه الله: [وهذا تشبيه للرؤية بالرؤية، لا للمرئي بالمرئي، فإن الله تعالى لا شبيه له ولا نظير] .

    هنا طعنت المعتزلة في هذه الأحاديث، فقالوا: إن حديث: (إنكم سترون ربكم) من أحاديث التشبيه؛ لأن فيه: (كما ترون القمر)، (كما ترون الشمس).

    وهذا غلط وجهل بمقتضى الكلام، فإن التشبيه هنا ليس تشبيهاً للمرئي بالمرئي، أي: ليس تشبيهاً لله بالقمر أو بالشمس وإنما هو تشبيه لفعل الرائين.

    فالحديث ليس فيه تشبيه للمرئي بالمرئي، أي: تشبيه الله بالشمس أو القمر، تعالى الله عن ذلك لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وإنما فيه تشبيه للرؤية بالرؤية، والرؤية الأولى التي لله والرؤية الثانية التي للقمر كلاهما من فعل بني آدم، وأفعال بني آدم يجوز التشبيه بينها.

    فإذاً.. هذا تشبيه لفعل الرائين بعضهم ببعض، وليس تشبيهاً للمرئي بالمرئي، وهذا من جهالات المعتزلة ومن وافقهم على هذه المادة في هذا الباب، ولهذا فإن أكبر قضاة المعتزلة في زمانه وهو القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني الذي كتب المغني في أصول المعتزلة إملاءً مع سعة علمه بالنظر والعقليات والجدل -وهذا ليس خاصاً به بل هو شأن المعتزلة عامة، فهم من أجهل الناس بالسنن والآثار- وهذا المعتزلي لما أراد الرد على أدلة أهل السنة من الحديث، قال: إنهم يستدلون بحديث رواه جرير بن عبد الله البجلي ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم سترون ربكم)، قال: وهذا حديث تفرد به جرير بن عبد الله ، وتفرد به عن جرير .. ثم ساق الإسناد، وقال: هو حديث آحاد، وفيه مادة من التشبيه.

    وهذا كله جهل منه؛ لأن الحديث لم يتفرد به جرير ، بل حديث الرؤية في سائر ألفاظه رواه أكثر من ثلاثين رجلاً من الصحابة، ورواية أبي سعيد وأبي هريرة أشهر عند المحدثين من رواية جرير بن عبد الله رضي الله عنهم ، فهذه مجموعة من جهالات القاضي عبد الجبار المعتزلي .

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755896429