إسلام ويب

شرح الحموية [17]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • دلائل الكتاب والسنة في إثبات الصفات دلائل محكمة، ليس بينها تناقض ولا اضطراب، وهي كذلك لا تناقض الدلائل العقلية، فإن النصوص التي تثبت أن الله تعالى فوق عرشه لا تناقض بينها وبين النصوص التي تثبت أن الله تعالى معنا.. ونحو ذلك من الآيات والأحاديث التي تثبت الصفات لله تعالى.

    1.   

    كمال الهدى والعلم في الكتاب والسنة

    قال المصنف رحمه الله: [ولا يحسب الحاسب أن شيئاً من ذلك يناقض بعضه بعضاً البتة].

    دعوى التناقض بين دلائل الكتاب والسنة وبين دلائل العقل دعوى كاذبة

    يقرر المصنف هنا أن في الكتاب والسنة كمال العلم والهدى، في هذا الباب وغيره، في دلائله ومسائله، فقوله: ولا يحسب الحاسب أن شيئاً من ذلك أي: من دلائل الكتاب والسنة، يناقض بعضه بعضاً ألبتة أي: يخالف شيئاً آخر من الدلائل نفسها، بل ولا يحسب الحاسب أن شيئاً من دلائل الكتاب والسنة يخالف دلائل العقل؛ إلا إذا قصد بالدلائل العقلية الدلائل الفاسدة التي سماها أصحابها عقليات، فهذا لا يتناهى، فإن الخطأ في العقل مشهور في بني آدم.

    أما إذا قصد الدلائل العقلية الصحيحة فإنه لا يقع في شيء من هذه الدلائل معارضة لدلائل الكتاب والسنة؛ لأنه من المتحقق أن دلائل الكتاب والسنة دلائل صحيحة، ومن المعلوم أن الحق لا يعارض الحق، فعلم بهذا: أن القرآن والسنة ليس بينهما شيء من التعارض في أدلتهما، فليس هناك دليل قرآني يعارض دليلاً آخر، ولا دليل من السنة يعارض دليلاً آخر، ولا دليل من القرآن يعارض دليلاً من السنة.. وهلم جرا.

    بيان وجه بطلان تقسيم الحديث إلى متواتر وآحاد

    فيما يتعلق بأدلة القرآن فإن المنازعين في الجملة ينتهون فيها إلى التأويل، وأما دلائل السنة فإن من الطرق التي شاعت عند المتكلمين هو عدم قبول الخبر من أصله باعتبار أنه آحاد.

    وهذه بدعة حدثت في المسلمين بكلام المتكلمين وأمثالهم ومن وافقهم من متأخري الفقهاء وبعض من تكلم في المصطلح فضلاً عن أهل أصول الفقه، بل إن هذا التقسيم بهذا الحد هو تقسيم مبتدع، أما تقسيم الأحاديث النبوية إلى متواتر وآحاد من جهته فليس فيه إشكال.

    إذاً: الإشكال هو في الحد، فإنه إذا قيل في حد المتواتر: هو ما رواه جماعة عن جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب، وأسندوه إلى شيء محسوس، والآحاد ما دون ذلك.. فهذا حد مبتدع؛ لأنه تكلف في ثبوت سنة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ولهذا ليس لهذا الحد مثال في جمهور السنة، بل كما قال بعض متأخري أهل الحديث: أنه لم يقع له حديث يصل إلى هذا الحد، الذي هو حد المتواتر!

    ثم نقول: ما هي ثمرة هذا التقسيم؟

    إن كان يُقصد به ضبط مسائل الإسناد فإننا نرى أن أئمة السنة وأئمة الحديث الأوائل لم يستعملوه، ولكن ترى أنه يذكر لمقصد واحد، وهي مسألة الدلالة، وليس لمسألة ثبوت الحديث، ولهذا اتفق أهل الحديث على ثبوت بعض الأحاديث التي هي آحاد، بل على ثبوت بعض الأحاديث التي هي غريبة، فإنه لم ينقل عن إمام من أئمة السنة أنه طعن في حديث عمر : (إنما الأعمال بالنيات)مع أنه غريب.

    إذاً هذا الحد ليس له ثمرة من جهة الثبوت، يعني ليس المقصود من وضعه مسألة الثبوت؛ فإن من أكثر الكلام فيه وهم أئمة الكلام أصلاً ليس لهم اختصاص بمعرفة الثابت وغير الثابت من النصوص. حيث إن أئمة المتكلمين ليسوا من أهل العلم بمسائل الإسناد والرواية والرجال والاتصال والانقطاع والتواتر وعدمه، وإنما قرروا هذا الحد في مسألة الدلالة، وعنه رتبوا مسألة الدلالة القطعية والدلالة الظنية، وعنه قالوا: إن ما يتعلق بالاعتقاد لا يقبل فيه إلا المتواتر.

    وبهذه الطريقة منعوا قبول جمهور ما جاء في السنة النبوية في مسائل الاعتقاد، فهذا حد متكلف مبتدع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث الواحد من أصحابه بأصول الدين إلى قوم من أصناف المشركين، كما بعث دحية بن خليفة الكلبي بكتاب إلى هرقل ، فترى أن الذي قابل هرقل الكتاب، والكتاب نقله واحد، وهو الذي حمله دحية بن خليفة الكلبي .

    إذاً: الحجة كانت تقوم شرعاً في هدي النبي صلى الله عليه وسلم بواحد ثقة؛ مما يدل على أن هذا الحد متكلف ومبتدع، فإنه لو كان لا يقبل في الاعتقاد إلا المتواتر لما كانت الحجة قامت على أهل اليمن ببعث معاذ إليهم.. وهلم جرا في الأقوام الذين بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم واحداً من أصحابه.

    ثم إنه ليس في دلائل الشرع ولا دلائل العقل أن الآحاد لا يقبل في الاعتقاد بحسب الحد الذي حدوه في الآحاد، وهو: أنه كل ما قابل المتواتر، بل على هذا الحد: جمهور السنة لا يقبل في العقيدة، بل على طريقة بعض أهل العلم الذي يقول: إنه لم يصلنا شيء من المتواتر اللفظي بحسب الحد الذي شاع عند المتأخرين.

    إذاً: كأنه يقال: إن السنة لا تقبل في العقيدة!

    ولهذا كان الاعتبار في القبول عند الأئمة رحمهم الله: بمسألة الصحة ومسألة تلقي الأمة له بالقبول، ولهذا كان حديث: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا) مجمع على ثبوته باتصال سنده وصحته، ومن جهة أخرى بتلقي أئمة السلف له بالقبول وإنكارهم على من تأوله أو طعن فيه.

    وكما أسلفت أنه ليس في دلائل الشرع ولا دلائل العقل دليل على هذا الحد، وحتى اللغة لا تفيده، فإن المتواتر هو ما شاع وتتابع، والتتابع هنا قد يكون تتابعاً في الرواية أو تتابعاً في القبول والعمل.. إلخ.

    وأما الاستدلال بمثل ما جاء في الصحيحين في حديث أبي هريرة : (لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي -كما يذكره بعض المتكلمين، وهذا جهل بحقيقة حدهم هم- فانحرف من ركعتين، فقال له ذو اليدين : يا رسول الله! قصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال: لم أنس ولم تقصر، ثم التفت إلى الناس فقال: ما يقول ذو اليدين ؟ فقالوا: صدق يا رسول الله... إلخ) وفي رواية: (قالوا: صدق يا رسول الله! لم تصل إلا ركعتين)فمن يقول: إن خبر الواحد لا يحتج به مستدلاً أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعمل بخبر ذي اليدين لأنه واحد.. يقال له: هذا ليس صحيحاً؛ لأنه على حدهم حتى مع خبر أبي بكر وعمر يبقى الأمر داخل دائرة الآحاد، لأنه بعد ما روى جماعة عن جماعة..

    وإنما هذا يفيد ما قرره كثير من الفقهاء من الحنابلة وغيرهم: أن الإمام إذا كان عنده يقين في نفسه فإنه لا يرجع إلى قول واحد في الصلاة ولو كان ثقةً.. وهذا قول قوي، واستدلالهم بحديث أبي هريرة استدلال مناسب.

    [مثل أن يقول القائل: ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه الظاهر من قوله: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4].

    هذه المسألة أخص المسائل التي استدل بها المتأخرون على أن السلف يستعملون التأويل، فقالوا: لأنهم أثبتوا مسألة العلو والاستواء على العرش مع إثباتهم لمسألة المعية، وقالوا في المعية: إن الله معنا بعلمه في المعية العامة، أو مع أوليائه بنصره وتأييده في المعية الخاصة. قالوا: فهذا من باب التأويل في المعية.

    1.   

    الكلام على لفظ: (حقيقة)

    [وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه) ونحو ذلك، فإن هذا غلط؛ وذلك أن الله معنا حقيقةً، وهو فوق العرش حقيقةً كما جمع الله بينهما في قوله سبحانه وتعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [الحديد:4].

    لفظة حقيقة هذه لم ترد في الكتاب ولا في السنة ولا في كلام الصحابة، وإنما وقعت في كلام أهل السنة والجماعة كثيراً لما شاع من يطلق ظواهر الألفاظ ويقول: إنها من باب المجاز. فقوله: معنا حقيقة، وهو فوق العرش حقيقة نفي لمجاز المعية ونفي لمجاز العلو، أي: أن المعية والعلو كليهما مقول بالحقيقة، وهما صفتان تليقان بذات الله على معناهما اللائق به؛ ولهذا فرق بين قولك: إن الله معنا حقيقة، وبين ما قد يُطلق فيقول: إن الله معنا بذاته؛ فالمعية الذاتية لم يطلقها أحد من السلف ولا من أهل السنة الكبار كـشيخ الإسلام وأمثاله، إنما الذي وقع في كلام شيخ الإسلام وبعض علماء السنة أن الله معنا حقيقة، وكلمة حقيقة نفي لطريقة كثير من أهل الكلام أن المعية معية مجازية، فمن هذا الوجه كان هذا الحرف مناسباً.

    1.   

    إثبات صفة المعية لا يستلزم الحلول والمقارنة الذاتية

    [يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد:4] فأخبره أنه فوق العرش يعلم كل شيء، فهو معنا أينما كنا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال: (والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه).

    محل الإشكال بين صفة العلو وصفة المعية: أن طائفةً ظنوا أن المعية تستلزم الحلول والمقارنة الذاتية، ومن هنا ظن من ظن من المتكلمين وأتباعهم أنه وقع في كلام السلف شيء من التأويل في صفة المعية، ومن هنا انغلق الجواب عن هذا المقام في كلام كثير، حتى قال من قال منهم: إن المعية مقولة بالمجاز وليست مقولة بالحقيقة. والصحيح أن مذهب السلف رحمهم الله. وهو الذي عليه الكبار من أهل السنة والجماعة -أن هذه الصفة مقولة بالحقيقة، وأنها لا تستلزم الحلول والمقارنة الذاتية.

    وننبه هنا إلى ضرورة التفريق بين مقامين لمعرفة معنى أي كلمة:

    الأول: مقام الإفراد.

    الثاني: مقام السياق.

    أي: بين اللفظ المفرد وبين اللفظ المركب في سياق معين -أي:مركب مع ألفاظ أخرى-.

    فأنت إذا أخذت كلمة مع فهي لفظ مثبت، ومدلول المعية هو المصاحبة والمقارنة، لكن هذه المصاحبة والمقارنة لم تضف ولم تخصص؛ لأن التفسير الآن للفظ المجرد عن الإضافة والتخصيص والتركيب اللفظي.

    إما إذا وقعت في سياق فقيل: زيد مع عمر، فهذا السياق يكون بحسبه، قد تكون المعية مصاحبةً ذاتية، وقد تكون مصاحبةً علمية، وقد تكون مصاحبة بالنصر والتأييد، وقد تكون مصاحبة بالنسب.. وهلم جرا.

    فهي مصاحبة لكن المصاحبة متعددة؛ ولهذا إذا قيل: قال السلطان: أنا مع الرعية. فهذا سياق عربي صحيح، ولا يفهم من ذلك ولا يقع في خلد أحد من عقلاء بني آدم أنه معهم بذاته، ولا أنه معهم حتى بعلمه، وإنما أنه معهم بعنايته ونصره ودفاعه عنهم.. إلخ.

    إذاً: المصاحبة ليست هي المصاحبة الذاتية فقط.

    فمن تحقق له هذا المعنى زال عنه الإشكال في مسألة المعية زوالاً تاماً: أنه فرق بين اللفظ المجرداً واللفظ المركب في السياق.

    فهل هذه المصاحبة مصاحبة ذاتية أو علمية أو مصاحبة نصر وتأييد.. إلخ؟

    يقال: هذا بحسب السياق، فلما جاءت المعية مضافةً إلى الله امتنع أن تكون معيةً ذاتية حلولية؛ لأن الله بائن عن خلقه؛ ولأن هذا المعنى نقص محض.

    إذاً فسر السياق القرآني الذي جاء في ذكر المعية بحسب المعنى المناسب له في سياق العرب وكلامهم، ومن قال: إن هذا من باب التأويل أو أن السلف تأولوا المعية.. فهذا مبني على أن المعية تستلزم الحلول والذاتية، وهذا إثباته دونه خرط القتاد لغة وشرعاً وعقلاً، فإنه لا يوجد في لسان العرب ولا في الشرع ولا في العقل أن المعية إذا أطلقت لزم منها الحلول والمصاحبة الذاتية.

    فإذا كان هذا ليس لازماً بين المخلوقات أنفسها فبين الخالق والمخلوق من باب أولى؛ ولهذا يمتنع أن يقال: ظاهر نصوص المعية أن الله معنا بذاته ولكنا نأولها إلى المعنى اللائق به، بل يقال: ظاهرها أن الله معنا بعلمه أو معنا بنصره وتأييده؛ وليس في ظاهر القرآن ما هو من الباطل الذي يصار إلى نفيه؛ فإن القرآن ظاهره الحق ولا شك، وليس له باطن يخالف الظاهر.

    وهذا التقسيم -الظاهر والباطن- في نصوص الصفات تقسيم شائع عند طائفة من المتكلمين، لكنهم لا يقابلون الظاهر بالباطن، وإنما يقابلون الظاهر بالمجاز أو نحوه، فلما جاء الباطنية أطلقوا الظاهر والباطن، وجعلوا ما يقابل الظاهر وهو الباطن؛ ولهذا هو ليس من الاصطلاحات الفاضلة.

    معنى كلمة (مع) في اللغة

    [وذلك أن كلمة مع في اللغة إذا أطلقت].

    إذا أطلقت : أي جردت عن الإضافة والتخصيص فقيل: مع أو: المعية.. فمعنى هذه الكلمة مطلق المصاحبة والمقارنة.

    [فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال].

    من غير وجوب يعني: من غير لزوم، وإن كانت المعية تارة يقصد بها: المقارنة الذاتية، كما إذا قيل: عقلي معي. فهو مقارن لك مقارنة ذاتية حلولية، فقول المصنف هنا: من غير وجوب. أي: هو نفي للوجوب، ولا يعني نفي الوجوب نفي الإمكان.

    [فإذا قيدت بمعنىً من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى].

    أي: أنه إذا كانت مجردة ثم أدخلت في سياق، فإن السياق هو الذي يدل على معنى المصاحبة والمقارنة التي تدل عليها المعية، سواء كانت مصاحبة علمية، أو مصاحبة ذاتية، أو مصاحبة نصر وتأييد... أو نحو ذلك؛ ففي المعية العلمية لا بأس أن يقال: معنا بعلمه. أي أنها مصاحبة علم من حيث التفسير، وإن كان الملتزم هو اللفظ القرآني؛ لأن عندنا قاعدة: أنه لا ينتقل إلى لفظ مرادف ليس فيه غرض إلا المرادفة، ويترك اللفظ الذي عبر به في النص، فخير من قولك: مصاحبة علمية، أن تقول: معية علمية؛ لأن لفظ المعية هو اللفظ الشرعي.

    [فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا أو النجم معنا، ويقال: هذا المتاع معي].

    ما زلنا نسير والقمر معنا هذه معية ومصاحبة إبصار، فالعرب تقول: ما زلنا نسير والقمر معنا.. فهل لزم من تلك المعية الحلول والذاتية بينهم وبين القمر؟ الجواب: لا، فهل القضية قضية مصاحبة علمية فهم يعلمون القمر والقمر يعلمهم؟ الجواب: لا، إنما المقصود معية الإبصار، فإذا وقع ذلك بين المخلوقات أنفسها ولم يلزم من ذلك الحلول والذاتية ولم يحتج الكلام إلى التأويل فمن باب أولى إذا كان في كلام الله المضاف إلى نفسه.

    أي: أننا في قول العرب: ما زلنا نسير والقمر معنا لم نحتج فيه إلى التأويل، فإنه لا أحد يقول: إن ظاهره أن القمر مع العرب، أي: بين يديهم ومعهم حال فيهم، وأن هذا هو المعنى الظاهر، وهو الحقيقة، وأن المجاز أنهم يبصرونه.

    وهذا يدل على أن لفظ المعية ليس له علاقة بمسألة المجاز بوجه من الوجوه.

    [ويقال: هذا المتاع معي لمجامعته لك؛ وإن كان فوق رأسك، فالله مع خلقه حقيقة، وهو فوق عرشه حقيقة].

    أي: أنه لا تعارض بين المعنيين، ولو قيل: إن المعية هي الحلول والذاتية؛ قيل: هذا التحصيل حكم لا بد له من موجب، وهذا الموجب إما أن يكون اللغة أو العقل أو الشرع، والعقل والشرع لا يدلان عليه، واللغة كذلك عند التحقيق، فإن العرب تقول: ما زلنا نسير والقمر معنا. وهذا بدهي لا يحتاج إلى تأويل.

    اختلاف المعية بحسب مواردها

    [ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد، فلما قال: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا [الحديد:4]. إلى قوله: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4] دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية ومقتضاها أنه مطلع عليكم، شهيد عليكم، ومهيمن عالم بكم، وهذا معنى قول السلف: إنه معهم بعلمه، وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته].

    وهذا معنى قول السلف أنه معهم بعلمه؛ لأن هذا هو المناسب للسياق؛ ولهذا ابتدئت الآية بالعلم وختمت بالعلم، فهو معهم بعلمه. وترى أن لفظ المعية هنا له إفادة خاصة، فالله سبحانه وتعالى مع خلقه مطلع عليهم، شهيد عليهم، مهيمن عليهم.

    [وكذلك في قوله: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة:7] إلى قوله: هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7] ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه في الغار: (لا تحزن إن الله معنا) كان هذا أيضاً حقاً على ظاهره، ودلت الحال على أن حكم هذه المعية هنا معية الاطلاع والنصر والتأييد].

    أي: ليست معيةً علمية محضة، بل هي معية علمية ومعية نصر وتأييد؛ ولهذا كل معية خاصة تتضمن المعية العامة وزيادة: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40] أي: معنا بعلمه ونصره وتأييده؛ ولهذا كانت مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، ولم تقع للمشركين، ولو كانت المعية معية علمية لكانت متحققة حتى مع المشركين.

    وقوله: ودلت الحال أي: دل السياق والمورد.

    [وكذلك قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128].

    وهذه تفارق المعية العامة، لأنها خصت بالمؤمنين، فدل على أن لها اختصاصاً بهم.

    [وكذلك قوله لموسى وهارون: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46].

    هذه معية خاصة؛ ولهذا قال سبحانه: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46] ففي صفة السمع والبصر أطلق ولم يضف، أما في المعية فقال: معكما وذلك لأن السمع والرؤية كما أنه يدخل فيهما موسى وهارون كذلك يدخل فيهما فرعون ومن معه، لكن في المعية لا يدخل فرعون ومن معه، لأن هذه المعية هي معية النصر والتأييد، فتفصيل السياق القرآني يدل على هذا: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46] ولم يقل سبحانه: أسمعكما وأراكما، بل قال: أسمع وأرى ليشمل هذا ما يقع من فرعون ومن معه كما يقع من موسى وهارون.

    الفرق بين التصور والفرض العقلي

    [هنا المعية على ظاهرها، وحكمها في هذه المواطن: النصر والتأييد.

    وقد يدخل على صبي من يخيفه فيبكي فيشرف عليه أبوه من فوق السقف فيقول: لا تخف، أنا معك، أو أنا هنا، أو أنا حاضر... ونحو ذلك، ينبهه على المعية الموجودة بحكم الحال دفع المكروه، ففرقٌ بين معنى المعية وبين مقتضاها].

    هذا محصل الجواب في مسألة المعية: أنه كل من تحقق له الفرق بين معنى المعية ومقتضاها فإنه يزول عنه الإشكال، وأن الإشكال فرع عن التسوية بين معنى المعية وبين مقتضاها، فإن المعنى الكلي للفظة المعية في حال التجريد والقطع عن السياق والإضافة هو مطلق المصاحبة والمقارنة.

    ومقتضاها: هو مدلولها بحسب السياق، فلكل سياق ما يناسبه، فمن قال: إن المعية هي الحلول والذاتية. قيل: يلزمك أن كل سياق في كلام العرب ورد فيه حرف مع فإنه يحمل على حلول الذات، وهذا لا يلتزمه عاقل، أو على أقل تقدير أنه يلزم منه أن كل سياق جاء في كلام العرب، واستعمل فيه لفظ مع فإنه يدل بظاهره على الحلول والذاتية ويحتاج إلى تأويل.. وهذا لا يلتزمه أحد؛ لأنه ليس هذا هو ظاهر الكلام في جمهور موارد المعية، فإن الناس لا يفهمون من قول العرب: ما زلنا نسير والقمر معنا؛ إلا معنىً واحداً، وهو أنهم يبصرون القمر، وإذا فرض في العقل معنىً آخر تبين بالعقل أنه معنىً ممتنع يفرضه العقل ولا يتصوره، ومعلوم أن العقل يفرض المحال، لكنه لا يتصور المحال، والعبرة ليست بفرض العقل وإنما العبرة بتصوره.

    وهذه أيضاً قضية عقلية مهمة وهي: التفريق بين فرض العقل وبين تصوره. فمن قال: إن هذا الشيء ثبت بالعقل؛ لأنه كذا.. نقول: هذا فرض عقلي، والشيء لا يكون له أثر إلا إذا تصوره العقل تصوراً صحيحاً، أما إذا فرضه العقل فإن العقل يفرض المحال، ودرجة الفرض في العقل سابقة على درجة التصور، حيث إن الفرض هو المبدأ الأول، فالعقل يفرض الشيء أحياناً ثم يدخل دائرة التصور فلا يقبل التصور؛ فيكون محالاً في العقل.

    إذاً: فرق بين الفرض العقلي وبين التصور العقلي؛ ولهذا يقولون: الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وليس عن فرضه. والتصور: هو الدرجة الثانية بعد الفرض، وهو دخول المفروض محل القبول العقلي.

    أي: كأن الفرض بمنزلة السؤال على العقل والتصور بمنزلة الجواب ونحن نعلم أنه ليس كل سؤال يمكن جوابه، فكذلك هنا.

    لفظ المعية بين الاشتراك اللفظي والتواطؤ

    [وربما صار مقتضاها من معناها فيختلف باختلاف المواضع.

    فلفظ المعية قد استعمل في الكتاب والسنة في مواضع، يقتضي في كل موضع أموراً لا يقتضيها في الموضع الآخر، فإما أن تختلف دلالتها بحسب المواضع، أو تدل على قدر مشترك بين جميع مواردها -وإن امتاز كل موضع بخاصية- فعلى التقدير ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب عز وجل مختلطة بالخلق حتى يقال: قد صرفت عن ظاهرها].

    وكأنه يمكن أن ينتهى إلى نتيجة، وهي: أن لفظ المعية إما أن يكون مقولاً بالاشتراك اللفظي أو مقولاً بالتواطؤ، فإن كان مقولاً بالاشتراك اللفظي فلكل سياق ما يناسبه، وهذا يزيد المسألة تباعداً ولا يوجب التلازم في حكم المعية.

    وإن كان مقولاً بالتواطؤ قيل: التواطؤ يقع بقدر واحد كلي، وإنما أوجب ذلك اختلاف السياقات.

    فسواء فرضت أن اللفظ مقول بالتواطؤ أو مقول بالاشتراك اللفظي فإنه في كلا الحالين لا يستلزم في سائر موارده الحلول والذاتية.

    1.   

    الأشاعرة جبرية في القدر

    [ونظيرها من بعض الوجوه: الربوبية والعبودية، فإنهما وإن اشتركا في أصل الربوبية والعبودية، فلما قال: آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف:121-122]كانت ربوبية موسى وهارون لها اختصاص زائد على الربوبية العامة للخلق، فإن من أعطاه الله من الكمال أكثر مما أعطى غيره، فقد ربه ورباه ربوبيةً وتربيةً أكمل من غيره، وكذلك قوله: عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً [الإنسان:6] وسُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً [الإسراء:1]فإن العبد تارةً يعنى به المعبد].

    أي: أن العبودية في قوله تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً [مريم:93]عبودية عامة، لكن العبودية المضافة إلى الله سبحانه وتعالى في مثل قوله تعالى: عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ [الإنسان:6]وقوله: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1] لها اختصاص، مع أن ثمة اشتراكاً في أصل العبودية، وهي أنهم طوع لأمر ربهم من جهة أنهم لا يخرجون عن أمره الكوني، ولا يخرجون عن قدره، فإن العباد إنما يمضون بقدر الله، وهو الخالق لأفعالهم المقدر لها.

    ولهذا كان أقوى طريق اعترض به الأشعرية على المعتزلة في قولهم: إن الله لم يخلق أفعال العباد: أن هذا من باب النقص في الربوبية.. وهذا اعتراض صحيح من الأشاعرة، وإن كان الأشاعرة لما تركوا قول المعتزلة في القدر وأبطلوه اتخذوا مذهباً -في الجملة- من جنس مذهب جهم بن صفوان ، وإن كانوا من جهة الأحرف والألفاظ يوافقون أهل السنة في الجملة، فقالوا: إن للعبد إرادة وقدرة، ولكنها مسلوبة التأثير. ولهذا صرح بعض أئمة الأشعرية أن قولهم جبر، حتى قال الرازي : العبد عندنا مجبور في صورة مختار . وقال الشهرستاني : والجبر نوعان: جبر غال، هو جبر جهم بن صفوان ، وجبر متوسط، وهو الذي سلكه أئمة أصحابنا .

    وقال الرازي أيضاً: إن العباد ليس لهم في هذا المقام إلا أحد قولين: إما الجبر وإما القدر . أي: نفي القدر، والقول بأن العبد يخلق فعل نفسه.. ولا شك أن الأمر ليس كذلك، فإن القول الذي عند سائر الأنبياء والرسل وفي دين محمد صلى الله عليه وسلم على أتم وجه هو أن العبد ليس مجبوراً وليس مستقلاً بفعله، بل الخالق سبحانه للعبد ولأفعاله.

    وفرق بين قولك: إن الله هو الخالق لأفعال العباد، وبين قولك: إن الله هو الفاعل لأفعال العباد، فالفاعل حقيقةً هو العبد؛ ولهذا وصف في القرآن بالأفعال، سواء أفعال الطاعات أو أفعال المعاصي، ووصف العباد بأنهم يعصون ويكفرون ويفسقون، وبأنهم يطيعون ويصلون ويصومون.. إلخ، فأضيفت الأفعال من الطاعات والمعاصي إلى العباد، فالعبد هو الفاعل لفعله حقيقة وليس مجازاً كما قال الأشعرية، والله هو الخالق للعبد ولفعله، وخلقه سبحانه وتعالى تارةً يقع بمحض أمره وتارة يقع بتوسط السبب المخلوق من جهته سبحانه.

    وقد رويت في كتب العقائد والتراجم كثير من القصص التي وقعت بين المعتزلة والأشاعرة حول مسألة القدر، منها: أن الأستاذ أبا إسحاق الاسفرائيني ، وهو من علماء الأشاعرة وأساتذتهم الكبار، كان مقرباً من الصاحب بن عباد ، الذي كان معتزلياً، وكان بينهما ندامة وصحبة وصداقة؛ ولهذا كانوا يتنادرون في مذهب كل منهم في مسألة القدر، وفي يوم من الأيام كان الصاحب بن عباد في حديقة منزله ومعه الأستاذ أبو إسحاق الاسفرائيني ، فقطع الصاحب بن عباد ثمرةً من إحدى الشجر يريد التندر بعقيدة الأشعرية، فقال لـأبي إسحاق : يا أبا إسحاق ! من قطع الثمرة؟ -لأن الأشعرية يقولون: العبد له قدرة مسلوبة التأثير، وهو يريد أن يثبت له أنه ليس كذلك- فقال: الذي يستطيع أن يعيدها. أي: الذي يستطيع أن يعيد هذه الثمرة إلى شجرتها، أي: أنت قطعتها لكن لا تستطيع أن ترجعها إلى محلها؛ لأن المعتزلة يقولون: إن القادر هو القادر على الضدين، أي: من يستطيع أن يرفع ويستطيع أن يخفض، يقطع ويعيد، فلما قال له: من قطعها؟ قال: الذي يستطيع أن يعيدها.

    ومما وقع بينهما أيضاً أن الصاحب بن عباد كان على مائدته يأكل ومعه الأستاذ الاسفرائيني ، فتقصد الصاحب بن عباد شيئاً بجانب الاسفرائيني من الطعام فأخذه، فقال: يا أستاذ! من الذي أكل؟ ففي هذه الأثناء شرق بأكله -أي: غص بأكله- فقال له الاسفرائيني : من الذي غص؟

    أي: إن كنت قصدت هذا فأنت أحمق، أي: كيف تقصد إلى شيء قد يقع بسببه موتك؟

    وقد دخل القاضي عبد الجبار بن أحمد عليهما يوماً فسلم ثم قال: سبحان من تنزه عن الفحشاء!

    وهو يقصد ذم مذهب الاسفرائيني الذي يقول: إن العبد ليس له أثر في فعله. أي: إذا جعلتم العبد ليس له أثر في الفعل فالفاعل إذاً هو الله، والله منزه عن الفحشاء التي طائفة من العباد يفعلونها، فقال الاسفرائيني مباشرة: سبحان من لا يكون في ملكه إلا ما يشاء! أي: وأنتم قلتم: العبد يخلق فعل نفسه، فصار في ملك الله ما لا يشاء.

    1.   

    الاشتراك أو التواطؤ في اللفظ لا يستلزم التطابق في المعنى في سائر السياقات

    [فإن العبد تارة يعنى به المعبد فيعم الخلق كما في قوله: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً [مريم:93]وتارةً يعنى به العابد فيخص ثم يختلفون، فمن كان أعبد علماً وحالاً كانت عبوديته أكمل، فكانت الإضافة في حقه أكمل، مع أنها حقيقة في جميع المواضع].

    مقصود المصنف من هذه الأمثلة: أن الاشتراك أو التواطؤ في اللفظ بقدر لا يستلزم التطابق في المعنى في سائر السياقات، وهذا ما سماه البعض الألفاظ المشككة، وهو ما يكون متواطئاً بقدر ولكنه يكون في بعض المعاني والسياقات أحق، كما تقول: بياض الثلج وبياض الفرس، فنسبة البياض في الثلج ليست كبياض الفرس. فاللفظ في الموردين لفظ مشكك، هكذا يقولون من جهة أنه في الثلج أتم ثبوتاً، وقد رجح المصنف أن حقيقة المشكك نوع من المتواطئ.

    [فمثل هذه الألفاظ يسميها بعض الناس مشكِكةً، لتشكك المستمع فيها هل هي من قبيل الأسماء المتواطئة أو من قبيل المشتركة في اللفظ فقط، والمحققون يعلمون أنها ليست خارجة عن جنس المتواطئة، إذ واضع اللغة إنما وضع اللفظ بإزاء القدر المشترك، وإن كانت نوعاً مختصاً من المتواطئة فلا بأس بتخصيصها بلفظ.

    ومن علم أن المعية تضاف إلى كل نوع من أنواع المخلوقات كإضافة الربوبية مثلاً، وأن الاستواء على الشيء ليس إلا للعرش، وأن الله يوصف بالعلو والفوقية الحقيقية، لا يوصف بالسفول ولا بالتحتية قط لا حقيقةً ولا مجازاً؛ علم أن القرآن على ما هو عليه من غير تحريف].

    أي: أن القرآن على ما هو عليه من غير تأويل في مسألة العلو ومسألة المعية، وقد تقدم أن الفاضل في المناظرة أنه إذا كان النافي ينفي شيئاً من الصفات ألا يسلم له أن يستعمل الألفاظ المجملة المشتركة، فمن ينفي العلو ويقول: إن الله ليس في جهة. يقال له: أخبرنا عن العلو والفوقية؟ فإن قال: إن الله ليس علياً ولا فوق العالم فإنه يكون أتى على المخالفة الصريحة لما في الكتاب والسنة؛ لأن الله قال: سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1]وقال في كتابه: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50]وأمثال ذلك؛ ولهذا بعض المتأخرين ممن قصدوا مذهب أهل السنة جمعوا بين إثبات اللفظ الشرعي الثابت فقالوا: إن الله هو العلي الأعلى، وأنه فوق خلقه بائن عنهم، وأنه ليس في جهة. فقولهم: ليس في جهة، بقية بقيت عليهم من مذهب المخالفين، وحينما نقول: إنها بقية بقيت عليهم من مذهب المخالفين فإننا لا نقصد أن الحق أن يقولوا: إن الله في جهة؛ لأن هذا الحرف باستعمال المستعملين له صار لفظاً مجملاً، وإنما يلتزم اللفظ الشرعي.

    أما لفظ الجهة فهو لفظ مجمل حادث يفصل في معناه: فإن كان معنىً صواباً قبل، وإن كان غير صواب رد، واللفظ من حيث هو يتوقف فيه، فلا يطلق إثباتاً ولا نفياً.

    1.   

    ليس معنى أن الله سبحانه في السماء أن السماء تحويه

    [ثم من توهم أن كون الله في السماء بمعنى أن السماء تحيط به وتحويه فهو كاذب إن نقله عن غيره، وضال إن اعتقده في ربه].

    فهو كاذب إن نقله عن غيره، وبخاصة إن نقله عن السلف.

    والمعتزلة والمتأخرون من الأشاعرة جمهور أدلتهم التي استدلوا بها من العقل على نفي ما سموه جهةً إنما يدل على نفي الجهة الوجودية -أي: الجهة المخلوقة- كقولهم: لو كان في جهة لكان معه غيرٌ قديم.. فهذا دليل على أنهم فهموا من الجهة الجهة المخلوقة، والله منزه عن الجهات المخلوقة، فإنه بائن عن خلقه فوق سماواته مستو على عرشه.

    فالمقصود: أنه لو قال قائل: بم نجيب عن أدلة المعتزلة ومتأخري الأشعرية في مسألة العلو؟

    قيل: باختصار سائر أدلتهم فرع عن إثبات جهة وجودية مخلوقة -وهي السموات السبع أو جهة مخلوقة أياً كانت هذه الجهة- وأن الله فيها، كما يقال: إن الملائكة في السماء، وإن بني آدم في الأرض.. وهلم جرا، وهذا المعنى ليس محل نزاع عند أهل السنة؛ فإن أهل السنة يسلمون بذلك، بل يكفرون من زعم أن الله في جهة مخلوقة، ويكفرون من فسر السماء بالسموات السبع، أي: بمعنى أن الله فيها حال كما أن الملائكة فيها.

    وأما من فسر السماء بأنها السموات والله فوقها.. فهذا معنىً معروف.

    [وما سمعنا أحداً يفهم هذا من اللفظ، ولا رأينا أحداً نقله عن واحد، ولو سئل سائل المسلمين: هل تفهمون من قول الله ورسوله إن الله في السماء إن السماء تحويه؟ لبادر كل أحد منهم إلى أن يقول: هذا شيء لعله لم يخطر ببالنا.

    وإذا كان الأمر هكذا: فمن التكلف أن يجعل ظاهر اللفظ شيئاً محالاً لا يفهمه الناس منه، ثم يريد أن يتأوله. بل عند الناس أن الله في السماء وهو على العرش واحد، إذ السماء إنما يراد به العلو، فالمعنى: أن الله في العلو لا في السفل، وقد علم المسلمون أن كرسيه سبحانه وتعالى وسع السماوات والأرض، وأن الكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وأن العرش خلق من مخلوقات الله لا نسبة له إلى قدرة الله وعظمته، فكيف يتوهم بعد هذا أن خلقاً يحصره ويحويه؟!].

    فإذا كان الله أخبر عن كرسيه أنه: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا [البقرة:255]فكيف يتوهم أن الله سبحانه وتعالى حال في السموات السبع أو غيرها؟!

    [وقد قال سبحانه: وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه:71]وقال: فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ [آل عمران:137]بمعنى: على ونحو ذلك].

    مقصوده: أن قوله سبحانه: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16]أنه لن يقال: إن ظاهره الحلول في السموات؛ لأن حروف الجر -كما هو معروف عند أهل اللغة- يدخلها التناوب كثيراً، كما في قوله تعالى: وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه:71]فليس المقصود هنا بحرف الجر في الظرفية والحلول وإنما عليها، وهذا تستعمله العرب في كلامها بحسب المقصود، فإنهم تارةً يصرحون بالحرف المناسب لهذا السياق، وتارةً يذكرون حرفاً آخر ليس أصله له ولكن لمعنى يناسب.

    وهذا يستخدم كذلك في مسائل التعدية واللزوم، فإن الفعل المتعدي بنفسه قد يعطى حكم الفعل اللازم من حيث اللغة؛ لأنه ضُمِّن معناه؛ ومثال هذا قوله تعالى: فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النور:63]مع أن الفعل خالف فعل متعد بنفسه، حيث يقال: خالف زيدٌ عمراً، لكن في هذا السياق: فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النور:63]عدي الفعل بعن، ولم يقل: فليحذر الذين يخالفون أمره، وذلك لأنه أُعطي حكم الفعل اللازم فعدي تعديته؛ لأنه ضمن معناه؛ وأقرب فعل يناسب السياق هو الفعل أعرض ؛ أي أن الفعل خالف ضمن معنى الفعل أعرض ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله في تفسير قوله تعالى: فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]قال: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك؛ لعله إذا رد بعض قول النبي صلى الله عليه وسلم أن يقع في قلبه شيء من الزلل فيهلك .

    ولهذا: ليس كل من خالف الشرع يستحق هذا الوعيد المذكور في هذا السياق؛ لأن المخالفة قد تقع بطريقة الجهل، وظلم النفس الذي يتوب العبد منه ويستغفر، وإنما هذه الفتنة المتوعد بها في السياق تقع لمن أعرض، قال: فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]أي: يعرضون عن أمره.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755959273