القرآن الكريم كلام الله المنزل من عنده سبحانه، وهو معجز في آياته وأحكامه، وهو سبيل عز هذه الأمة، ولما عمل به السلف وترجموه إلى واقع عملي، نصرهم الله، ومكن لهم في الأرض، وفتحوا الدنيا شرقاً وغرباً.
وفي المقابل: لما تركه الخلف وراحوا يتلمسون العزة في غيره أذلهم الله، والواقع خير شاهد على هذا، فإذا أرادت الأمة العزة والنصر فعليها أن تراجع كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم فإنهما مصدر العز.
-
داء الانفصام النكد بين المنهج المنير والواقع المرير
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الأخيار، وأيتها الأخوات الفاضلات، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك ومولاه.
أحبتي في الله! حقوق يجب أن تعرف، سلسلة منهجية تحدد الدواء من القرآن والسنة لهذا الداء العضال الكبير الذي استشرى في جسد الأمة، ألا وهو داء الانفصام النكد بين المنهج المنير والواقع المؤلم المرير، فأنا لا أعرف زماناً قد انحرفت فيه الأمة عن منهج ربها ونبيها صلى الله عليه وسلم، وضيعت فيه حقوق الإسلام كهذا الزمان، فأردت أن أذكر نفسي وأمتي من جديد بهذه الحقوق الكبيرة التي ضاعت، عسى أن تسمع الأمة مرة أخرى عن الله ورسوله، وأن تردد مع السابقين الصادقين الأولين قولتهم الخالدة:
سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285].
ونحن اليوم بحول الله وطوله على موعد مع اللقاء المتمم للثلاثين من لقاءات هذه السلسلة الكبيرة، والحقوق الجليلة، ونحن اليوم على موعد مع حق جليل .. جليل جليل، كبير كبير عظيم عظيم، ولم لا؟! وهو حق القرآن الكريم.
وكعادتي حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا، فسوف أركز الحديث مع حضراتكم تركيزاً شديداً في هذا الموضوع الجليل في المحاور التالية:
أولاً: مصدرية القرآن دليل على إعجازه.
ثانياً: كيف جمع القرآن ووصل إلينا؟
ثالثاً: حق القرآن.
فأعيروني القلوب والأسماع بل والكيان كله، فإن الموضوع من الجلال والأهمية والخطورة بمكان، والله أسأل أن يرد الأمة رداً جميلاً إلى القرآن والسنة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
-
مصدرية القرآن دليل على إعجازه
المرحلة الأولى
عنصرنا الثاني: كيف جمع القرآن؟ وكيف وصل إلينا المصحف الإمام؟
والجواب باختصار سريع: المرحلة الأولى من مراحل جمع القرآن كانت على عهد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهي المرحلة التي جمع القرآن فيها في صدر النبي وفي صدور الصحابة، فقد من الله عليهم بملكة حفظ جليلة، حفظ النبي القرآن وانتقل القرآن من صدر النبي إلى صدور الصحابة رضوان الله عليهم جميعاً، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم من شدة حرصه على القرآن يتعجل بالتلاوة خلف أمين وحي السماء فنزل قول الله جل وعلا:
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ [القيامة:16-17], أي: في صدرك
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ *
فَإِذَا قَرَأْنَاهُ [القيامة:17-18], أي: قرأه جبريل عليه السلام ، أو قرأناه على لسان جبريل ،
فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ *
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة:18-19]، سيبينه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.
فجمع القرآن في صدر النبي، واتخذ النبي مجموعة من كتاب الوحي كـ
زيد بن ثابت رضي الله عنه الذي سماه الإمام
البخاري بكاتب النبي، وكـ
أبي بن كعب و
عبد الله بن مسعود وغيرهم رضوان الله عليهم، فكان النبي إذا نزل عليه جبريل بالآية أمر كتاب الوحي فنسخوها في الجلود والعسب واللخاف وهي نوع من أنواع الحجارة الرقيقة كان يكتب عليها, والعسب جمع عسيب، وهو جريد النخل، كانوا يكتبون عليه أيضاً، فكان يأمر النبي صلى الله عليه وسلم كتبة الوحي بكتابة الآيات كما يمليها عليهم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وظل القرآن مكتوباً في هذه المرحلة في الجلود والعسب، أي: في جريد النخل، ومكتوباً على الحجارة، وفي صدور الرجال إلى أن مات سيد الرجال صلى الله عليه وسلم.
المرحلة الثانية
المرحلة الثانية: كانت في عهد
أبي بكر رضي الله عنه، لما وقعت معركة اليمامة بين
مسيلمة الكذاب وبين الصحابة قتل في هذه المعركة عدد هائل من الصحابة الذين كانوا يحفظون القرآن في صدورهم، فجاء الملهم
عمر رضوان الله عليه إلى
الصديق أبي بكر ، وقال
عمر للصديق : يا
أبا بكر ! يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم! اجمع القرآن في صحف، فقال
الصديق الذي كان مثالاً في الإخلاص والاتباع: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله؟ لا.
فقال
عمر : هذا والله خير -والحديث في صحيح
البخاري- قال
الصديق : فما زال
عمر يراجعني، أي: بجمع القرآن في الصحف، حتى شرح الله صدري لقول
عمر ، فأرسل إلى
زيد بن ثابت رضوان الله عليه، فقال
الصديق لـ
زيد : يا
زيد! إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك.
انظروا يا شباب الإسلام إلى شباب الصحابة، فـ
زيد بن ثابت كان شاباً في ريعان شبابه، واختاره النبي كاتباً من كتاب الوحي، بل سماه
البخاري كاتب النبي، يا لها من كرامة! (إنك شاب عاقل لا نتهمك، فتتبع القرآن فاجمعه).
قال
زيد: (والله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن) انظروا إلى أصحاب الهمم العالية الذين يقدرون المسئوليات الضخام الجسام، قال: والله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن، قال: فتتبعت القرآن فجمعته من اللخاف، أي: من الحجارة الرقيقة، والعسب ، أي: جريد النخل، وصدور الرجال، وجمع القرآن في صحف ضخمة عديدة، وانتقلت هذه الصحف إلى بيت
الصديق رضي الله عنه، فلما توفي
أبو بكر انتقلت الصحف إلى بيت
عمر رضي الله عنه، فلما توفي
عمر رضوان الله عليه انتقلت الصحف إلى بيت أم المؤمنين
حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
المرحلة الثالثة
المرحلة الثالثة: وهي الكبيرة والخطيرة، وكانت في عهد
عثمان رضي الله عنه، ففي صحيح
البخاري أن
حذيفة بن اليمان عاد إلى
عثمان رضي الله عنه بعد غزوة أرمينية مع أهل الشام، وبعد غزوة أذربيجان مع أهل العراق، فدخل
حذيفة على
عثمان فزعاً وهو يقول: يا أمير المؤمنين! أدرك الأمة قبل أن تختلف في كتاب ربها كما اختلف اليهود والنصارى!
قال
عثمان : وما ذاك؟
رأى
حذيفة أهل الشام يقرءون القرآن بقراءة
أبي بن كعب ، ورأى أهل العراق يقرءون القرآن بقراءة
عبد الله بن مسعود ، فكان أهل الشام يسمعون قراءة من أهل العراق لم يسمعوها من قبل، وكان أهل العراق يسمعون قراءة من أهل الشام لم يسمعوها من قبل، فاختلفوا اختلافاً شديداً حتى كفر بعضهم بعضاً! فجاء
حذيفة فزعاً وقال: أدرك الأمة قبل أن تختلف في كتاب ربها كما اختلف اليهود والنصارى، مع أن الله عز وجل من رحمته وتيسيره على الخلق قد أنزل القرآن على سبعة أحرف كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (
أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف), لا حرج أن تقرأ:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6], وفي قراءة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتثبتوا), والقراءتان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكانت بعض القبائل لا تستطيع أن تنطق حروفاً محددة، كانوا ينطقون مثلاً حرف الحاء عيناً، فيقولون في (حتى حين): عتى عين، فنزل القرآن ميسراً على سبعة أحرف قرأها النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سمع أهل الشام قراءة ما سمعوها من
أبي وسمع أهل العراق قراءة ما سمعوها من
ابن مسعود رضي الله عنهم جميعاً؛ اختلفوا، فأرسل
عثمان بن عفان رضوان الله عليه إلى
حفصة أم المؤمنين: أن أرسلي إلينا بالصحف -أي: التي جمعت في عهد
الصديق رضي الله عنه- لننسخها في نسخة واحدة، فأرسلت
حفصة الصحف إلى
عثمان ، فأرسل
عثمان إلى كاتب النبي
زيد بن ثابت رضي الله عنه وإلى مجموعة من أصحاب رسول الله، وأمرهم أن ينسخوا الصحف في مصحف واحد، ونسخوا مجموعة كثيرة من هذا المصحف الواحد.
وأرسل
عثمان إلى كل مصر -أي: إلى كل بلد من البلدان- بمصحف واحد إمام، وأمر ببقية الصحف غير هذا المصحف الإمام أن تحرق، وبذلك جمع
عثمان رضوان الله عليه الأمة كلها على مصحف واحد قرأ به كله نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا هو المصحف الذي تجدونه بين أيديكم الآن وهو يسمى: بالمصحف الإمام، أي: المصحف الذي جمعه
عثمان رضي الله عنه من الصحف كلها، فلقد قال للصحابة: إن اختلفتم مع
زيد فاكتبوا بلسان قريش فإنه قد نزل بلسانهم، أي: بالقراءة التي حفظها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من قريش.
وبهذا -أيها الأفاضل- حفظ الله القرآن الكريم فلم تتغير منه آية ولم تبدل منه كلمة ولم يحذف منه حرف، فما تولى الله حفظه لا يضيعه أحد:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].
بيت القصيد، وهو العنصر الثالث والمهم من عناصر اللقاء، ما هو حق القرآن؟ لكن ولابد من هذه المقدمة الموجزة لنقف جميعاً على هذه الكلمات الجليلة التي قدمت.
ما حق القرآن؟ هل أنزل الله القرآن ليقرأ على الأموات في القبور؟! هل أنزل الله القرآن ليحلي به النساء صدورهن في مصاحف صغيرة؟! هل أنزل الله القرآن ليهدى من الزعماء والحكام إلى بعضهم البعض؛ فترى الحاكم يستلم المصحف منحنياً على كتاب الله ليقبله بخضوع جسدي كامل وكأنه
عثمان بن عفان في الوقت الذي يضيع فيه شريعة هذا القرآن؟!
طه *
مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى [طه:1-2], ما أنزل الله عليك القرآن لتشقى به، أو لتشقى به أمتك من بعدك، أو لتشقى بحدوده وأوامره ومناهيه وتكاليفه, كلا. بل أنزل الله عليك القرآن لتقيم به أمة، لتحيي به أمة، لتقيم به دولة، لتسعد به البشر في الدنيا والآخرة:
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً [الإسراء:9].
تلاوة القرآن الكريم
العمل بالقرآن
ثم حق العمل بالقرآن، آهٍ! ما أكثر من تغافل عن دائه، وأعرض عن دوائه؟! فظل في ضنكه وشقائه، والله ما ذلت الأمة لكلاب الأرض من الإرهابيين السفاحين المجرمين من اليهود، ولأنجس أهل الأرض من عباد البقر الهندوس، ولأكثر أهل الأرض من الملحدين الروس، ولغيرهم من أذل أمم الأرض؛ إلا يوم أن أعرضت عن القرآن.
والله ما هانت الأمة إلا يوم أن نحّت القرآن، وهجرت التحاكم إلى القرآن، وضيعت العمل بالقرآن، أعلنها بملء فمي وأعلى صوتي، يوم أن استبدلت الأمة بالعبير بعراً، وبالثريا ثرى، وبالرحيق المختوم حريقاً محرقاً مدمراً، يوم أن تركت الأمة سفينة النجاة الوحيدة وركبت قوارب الشرق الملحد تارة، وقوارب الغرب الكافر تارة، وقوارب الوسط الأوروبي تارة؛ فغرقت في أوحال الذل، وغرقت في بحار من الظلمات من الفتن.
ويوم أن نطق العربي في قلب الجزيرة بكلام الوحي، سادوا العالم، فقد تفاعلوا مع القرآن بصورة مذهلة للعقل، سمع أعرابي رجلاً يوماً يتلو قول الله جل وعلا:
وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ *
فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ [الذاريات:22-23], فقال الأعرابي -ليس صحابياً-: من ذا الذي أغضب الكريم حتى يقسم؟!
إلى هذا الحد من التفاعل مع القرآن، كانت الآية تنزل فيقرأها النبي صلى الله عليه وسلم فتتحول في التو واللحظة إلى واقع، كان الصحابة في المدينة يشربون الخمر، ويدير
أنس بن مالك كأس الخمر على الصحابة، قبل أن تحرم الخمر، فدخل عليهم أحد الصحابة وكئوس الخمر تدور بينهم، وقرأ عليهم قول الله جل وعلا:
إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوه [المائدة:90], فلما قرأ الآية والله ما أكمل صحابي جرعة الخمر في يده! ما قالوا: نكمل هذه الكئوس وننتهي، لا. بل قام
أنس بن مالك وسكب قلال وجرار الخمر، وسكب الصحابة الخمر في الشوارع حتى سالت في طرقات المدينة وقالوا على لسان وقلب رجل واحد: انتهينا ربنا، انتهينا ربنا.
-
ساد الصحابة العالم باتباعهم للقرآن
-
الحث على الجهاد والشهادة في سبيل الله