-
تفسير قوله تعالى: (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض ..)
-
تفسير قوله تعالى: (هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين)
-
تفسير قوله تعالى: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)
قوله تعالى:
وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139].
أي: لا تضعفوا عن الجهاد فيما نالكم من الجراح، ولا تحزنوا على من قتل منكم، والحال أنكم الأعلون الغالبون دون عدوكم، فإن مصير أمرهم إلى الدمار حسبما شاهدتم من عاقبة أسلافهم.
(إن كنتم مؤمنين) أي: فلا تهنوا ولا تضعفوا إذا كنتم مؤمنين؛ لأن الإيمان يورث قوة القلب، والثقة بنصر الله تعالى، وعدم المبالاة بأعدائه، أو (إن كنتم مؤمنين) فأنتم الأعلون؛ لأن الإيمان يقتضي العلو لا محالة.
-
تفسير قوله تعالى: (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ...)
يقول تعالى:
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:140].
(( وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا ))، الأيام دول يوم لك ويوم عليك.
وسنة الحياة عدم ثبات الأحوال، لكن العاقبة للمتقين، فلابد من استحضار هذا عند الابتلاء.
في هذا الزمان الذي عم فيه الظلم وطم، وتحققت فيه كثير من أشراط الساعة على يد أعداء الدين، فما على المسلم إلا أن يستحضر مثل هذه الآيات:
إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ [النساء:104]، لكن الفارق هو أنكم
وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104]، مهما اشتدت المحن بالمؤمن، فما عليه إلا أن يفزع إلى الله ويستعمل سلاح الدعاء والتضرع لله تبارك وتعالى؛ لأن الله سبحانه هو نصير للمؤمن ومولى لهم قال عز وجل:
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ [محمد:11]، وقال عز وجل: (
وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [الحج:71] يكفي أن المدد مقطوع بين الظالم وبين الله سبحانه وتعالى؛ لأن ما بينه وبين الله خراب ودمار.
إذاً: يكفي المؤمن في البلاء أن يفزع إلى الله؛ ولأن الحبل بينه وبين الله متصل، وإذا فزع إلى الله سبحانه وتعالى فإن الله يمده بنصره وبمعونته، كما ذكرنا من قبل: أن قوة المؤمن ليست في عضلاته، بل في قلبه واتصاله بربه.
وهذا حديث يطول، ويكفي أن نتذكر قصة غلام أصحاب الأخدود، فقوة المؤمن تكون في قلبه أساساً، ولا ينافي أن يكون المؤمن قوياً في بدنه.
إذاً: المؤمن قوته تكون في قلبه، بتوكله وثقته بالله تبارك وتعالى، يقول عز وجل هنا: (( إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ )) إذاً: ليس جديداً علينا هذا الذي يحصل من البلاء للمسلمين الآن، وليس أمراً مفاجئاً ولا بغتة ولا فلتة، وإنما هي سنة الله التي لابد أن تمضي، ولابد أن يخضع لها جميع الخلق، فما بالكم تهنون وتضعفون عند القرح والألم، فقد أصابتهم القروح والآلام في سبيل الشيطان، وأنتم أصبتم في سبيل الله وابتغاء مرضاته.
(( وَتِلْكَ الأَيَّامُ ))، أي: أيام هذه الحياة الدنيا.
((نداولها بين الناس)) أي: نصرفها بينهم، تارة لهؤلاء، وتارة لهؤلاء، فهي عرض حاضر يقسمها بين أوليائه وأعدائه، (
الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)، بلا شك أننا الآن نستحضر هذا الحديث أكثر من أي وقت مضى، فالدنيا سجن المؤمن انظر كيف يكون حاله في السجن، فإذا خرجت روحه انطلق إلى الرحب والسعة، وإلى رضوان الله سبحانه وتعالى والنعيم.
فالمؤمن لابد أن يستحضر هذا الأمر؛ لأن الدنيا هي جنة بالنسبة للكافر، وهي في نفس الوقت سجن بالنسبة للمؤمن؛ لأنه مقيد بالأوامر والنواهي، مقيد بالبلاء وبحرب أعداء الدين وأعداء الله تبارك وتعالى.
هذه سنة الله التي لن تتبدل ولن تتخلف، حتى الذي يتنازل عن دينه كي يخفف عن نفسه من وطأة هذا السجن، وكي يطلب العافية لن ينال العافية، بل سيكون أول من يعذبه هذا الذي ترك دينه من أجله، فإن الله قضى قضاء مبرماً محكماً لا ينقض ولا يخلف، أن من أطاع غيره أو أحب غيره في معصيته عذبه به ولابد، والأمثلة لا تكاد تنتهي، كم رأينا من جبار في الأرض قام بتعذيبه وزير من وزرائه، كأن ينقلب عليه بعد ذلك، أو يقتله أو يعذبه أو يسجنه أو يحاكمه، وكم رأينا من أناس شرعوا قوانين لقهر الناس وإذلالهم، ثم كانت هذه القوانين وبالاً عليهم، فمن حفر حفرة لأخيه وقع فيها، فهي سنة الله لن تتخلف أبداً:
وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30].
الحكم والغايات المحمودة من معركة أحد
-
تفسير قوله تعالى: (وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين)
قال تبارك وتعالى:
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:141].
((وليمحص الله الذين آمنوا)) أي: لينقيهم ويخلصهم من الذنوب ومن آفات النفوس، وأيضاً يمحصهم ويخلصهم من المنافقين الذين يخالطونهم ولا يعرفونهم، فحصل للمؤمنين تمحيصان: تمحيص من نفوسهم، وتمحيص ممن كان يظهر أنه منهم ولكنه في الحقيقة عدو لهم.
ثم ذكر حكمة أخرى وهي محق الكافرين فقال: (( وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ )) أي: ويهلكهم، فإنهم إذا كانت لهم الغلبة يبغون في الأرض وينشرون الفساد ويظلمون الناس، فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم، إذا أراد الله تعالى أن يهلك أعداءه ويمحقهم قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه ومحاربتهم وقتالهم، كما جاء في الحديث: (
إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، حتى إذا لم يبق بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، لابد من السبب وهو العمل.
فلذلك إذا أراد الله سبحانه وتعالى شراً بشخص لخبث نفسه وعدائه لدينه، فإنه ييسر له الأسباب ويمهله ويمده في الغي، ويتمادى في ظلم الناس وفي محاربة دين الله عز وجل، ويظن أنه سيحقق إنجازات وانتصارات بأن غلب دين الله وغلب أولياء الله عز وجل وحقق نصراً يتباهى به ويفخر ويتيه به، وهذا المسكين لا يدري أن كل ما يوقعه من البلاء بأولياء الله فسيوقع الله به أضعاف أضعافه في جهنم وبئس المصير، فلذلك يقيض الله لهم من الأسباب كما قال عز وجل:
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم:83] أي: تدفعهم إلى الشر دفعاً
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [فصلت:25]، فإذاً إذا أراد الله به هذا فإنه ييسره للعسرى، كلما أراد ظلماً لا يسد عليه باب الظلم، بل يجعله يتمادى في الظلم ويتمادى في محاربة الله عز وجل؛ حتى يوقعه في سوء عاقبة هذه الأعمال.
قوله تعالى: (( وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ))، المحق: هو ذهاب الشيء بالكلية حتى لا يبقى منه شيء، أو لا يرى منه شيء، وقد محق الله الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وأصروا على الكفر جميعاً.
-
تفسير قوله تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ...)
-
تفسير قوله تعالى: (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه ..)
-
تفسير قوله تعالى: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ...)
لما أشيع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قتل قال المنافقون: إن كان قتل فارجعوا إلى دينكم، فنزل قوله تعالى:
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144].
((وما محمد)) صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا من المواضع التي ذكر فيها اسم النبي صلى الله عليه وسلم صراحة، وكما نلاحظ أنه لا يأتي اسمه إلا في حالة الخبر عنه بالرسالة:
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح:29] ..
وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ [محمد:2]، أو هنا: (( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ ))، لكن لم يناد النبي صلى الله عليه وآله وسلم باسمه في القرآن قط، إنما نودي بصفته؛ تعظيماً لشأنه صلى الله عليه وسلم: يا أيها النبي، يا أيها الرسول، يا أيها المزمل، يا أيها المدثر، وهكذا، بخلاف غيره من إخوانه من الأنبياء فقد نودوا بأسمائهم: يا إبراهيم، يا نوح، يا موسى، يا عيسى، وهكذا، فهنا خبر عنه بصفة الرسالة: (( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ )) أي: مضت، (( مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ )) أي: أن المقصود ما محمد عليه الصلاة والسلام إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفتؤمنون به في حال حياته، فإن مات انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ؟!
(( أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ )) أي: كغيره، والمقصود من الآية إثبات أنه لا منافاة بين الرسالة وبين القتل أو الموت؛ لأن هذه سنة الله الماضية في أنبيائه ورسله من قبل، فإنهم لابد أن يفارقوا الدنيا إما بموت وإما بقتل ظلماً، كما وقع من اليهود لعنهم الله حينما قتلوا يحيى عليه السلام وزكريا.
(( أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ )) أي: ارتددتم ورجعتم إلى الكفر.
والجملة الأخيرة محل الاستفهام الإنكاري أي: ما كان محمد صلى الله عليه وسلم معبوداً فترجعوا بموته؟! لو أنكم كنتم تعبدونه لحق لكم أن ترجعوا عن عبادته إذا مات، لكن أنتم تعبدون الله تبارك وتعالى.
((وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا)) أي: وإنما يضر نفسه.
((وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)).
أي: سيجزي الله الذين يثبتون على الإسلام؛ لأن الكلام في حق من ينتكسون أو ينقلبون على أعقابهم ويرتدون، أو: سيجزي الذين يثبتون في القتال، والأول أقرب، والله تعالى أعلم.
والله عز وجل سماهم هنا شاكرين لأنهم شكروا نعمة الإسلام التي هي أجل نعمة وأعز شيء يمن الله به على الإنسان، فهم يشكرون هذه النعمة بالثبات عليها وعدم جحودها أو النكوص على الأعقاب.
وهذه الآية تلاها
أبو بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه في يوم موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتلاها الناس كلهم، وذلك لما أنكر
عمر موت النبي عليه الصلاة والسلام، فأعرض عنه
أبو بكر وتلا هذه الآية في الناس، يقول
عمر : (فكأني ما عرفت هذه الآية قبل يومئذ) أي: كأنه ما سمع هذه الآية من قبل، فنزلت عليه برداً وسلاماً وسكينة.
معنى هذه الآية كما يقول
القاسمي : أن من كان على يقين من دينه وبصيرة من ربه لا يرتد بموت الرسول وقتله، ولا يفتر عما كان عليه؛ لأنه يجاهد لربه لا للرسول، كأصحاب الأنبياء السالفين، كما قال
أنس بن النضر عم
أنس بن مالك يوم أحد حين أرجف المنافقون وأشاعوا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ إليه تقاول بعضهم: ليت فلاناً يأخذ لنا أماناً من
أبي سفيان ، وقول المنافقين أيضاً: لو كان نبياً ما قتل؛ يقول
أنس بن النضر : (يا قوم! إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد حي لا يموت، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه، ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ثم شد بسيفه وقاتل حتى قتل رضي الله تعالى عنه).
وروى
ابن أبي نجيح عن أبيه: (
أن رجلاً من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه، فقال له: يا فلان! أشعرت أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل، فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم، فنزل: (( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ))).
ومن الحكم من غزوة أحد: أن وقعة أحد كانت مقدمة وإرهاصاً بين يدي موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنبأهم ووبخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قتل، بل الواجب عليهم أن يثبتوا على دينه وتوحيده، ويموتوا عليه ويقتلوا، فإنهم إنما يعبدون رب محمد وهو حي لا يموت، وما بعث محمد صلى الله عليه وسلم إليهم ليخلد أو يخلدوا، بل ليموتوا على الإسلام والتوحيد، فإن الموت لابد منه.
-
تفسير قوله تعالى: (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله ...)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ [آل عمران:145].
((وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)) أي: بقضاء الله تبارك وتعالى.
((كِتَابًا)) أي: كتب ذلك كتاباً.
((مُؤَجَّلًا)) أي: مؤقتاً لا يتقدم ولا يتأخر، فلم انهزمتم والهزيمة لا تدفع الموت والثبات لا يقطع الحياة؟! فالموت إذا كان مكتوباً لإنسان بسبب معين وبأجل معين فلابد أن يأتي، هذه عقيدة راسخة لا شك فيها على الإطلاق، ولذلك قال الشاعر:
أي يومي من الموت أفر يوم لا قدر أو يوم قدر
يوم لا قدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر
فلذلك نلاحظ في آيات الجهاد عموماً كيف أن الله سبحانه وتعالى يؤكد على هذين الأمرين اللذين هما سبب نكوص كثير من الناس عن الجهاد: خوف انقطاع الرزق، أو خوف حضور الأجل، فبين الله تبارك وتعالى كما في هذه الآيات أن الأجل مكتوب، ولن يتقدم ولن يتأخر.
يقول
الصديق رضي الله عنه: (احرص على الموت توهب لك الحياة).
وقال
أبي سليمان خالد بن الوليد رضي لله تعالى عنه حينما مات على فراشه: (ما في جسدي موضع إلا وفيه طعنة برمح أو ضربة بسيف، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء).
((وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا)) أي: من يرد بعمله جزاءه من الدنيا ((نُؤْتِهِ مِنْهَا)) هذا تعريض لمن حضر الجهاد طلباً للغنائم فقط، أي: نؤته ما قسم له ولا حظ له في الآخرة.
((وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا)) أي: من ثوابها، ((وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ)).
-
تفسير قوله تعالى: (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير ....)
-
تفسير قوله تعالى: (وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا ...)
شرع بعد ذلك في بيان محاسنهم القولية، وهو ما استنصر به الأنبياء وأممهم على قومهم من الاستغفار والاعتراف بالتقصير، ودعاء الله تبارك وتعالى والاستغاثة به، فبعد ما مدح أفعالهم مدح أقوالهم، قال عز وجل: (( وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ)) أي: عند قتل نبيهم مع ثباتهم وصبرهم، هذا على التفسير المرجوح بأن الأنبياء يمكن أن يقتلوا في الجهاد، وقد بينا من قبل أن هذا مذهب مرجوح.
((إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا)) الإسراف هو تجاوز الحد إيذاناً؛ بأن ما أصابهم لسوء فعلهم، وهذا اعتراف منهم بأنهم مسيئون، وقد أضافوا الذنوب لأنفسهم.
(( وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا ))، أي: بالقوة على الجهاد.
((وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)).
فلما اعترفوا بأنهم مسيئون، كان هذا منهم إحساناً، فأعقبها بقوله: (( وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ))، فالتوبة والاعتراف بالذنب هو من الإحسان.
أقوال المفسرين في معنى قوله تعالى: (وما كان قولهم إلا أن قالوا ..)
يقول
الرازي : فيه دقيقة لطيفة: وهي أن هؤلاء لما اعترفوا بكونهم مسيئين حيث قالوا: ((رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ..))، إلى آخر الآية سماهم الله محسنين، كأن الله تعالى يقول: إذا اعترفت بإساءتك وعجزك فأنا أصفك بالإحسان، وأجعلك حبيباً لنفسي، حتى تعلم أنه لا سبيل للعبد إلى الوصول إلى النصر والتمكين والعزة والرفعة إلا بإظهار الذلة والمسكنة والعجز له سبحانه.
يقول الإمام
ابن القيم رحمه الله تعالى: لما علم القوم أن العدو إنما يدال عليهم بذنوبهم، وأن الشيطان إنما يستزلهم ويهزمهم بها، وأنها نوعان: تقصير في حق، أو تجاوز لحد، وعلموا أيضاً أن النصر منوط بالطاعة، حينئذ قالوا: (( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا )) أي: الذنوب التي بسببها تصبح الدولة والغلبة لأعدائنا، كما يقول الشاعر:
بذنوبنا دامت بليتنا والله يكشفها إذا تبنا
فكل المصائب التي تحل بالمسلمين في كل زمان، اعتاد الناس على أن ينظروا فيها إلى ظلم الحكام، ولا يلتفت كثير من الناس إلى حقيقة أن تسليط هؤلاء الظالمين على المسلمين في كل زمان ومكان إنما هو بسبب ذنوبهم، ودليل ذلك في قوله تبارك وتعالى:
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام:129]، فالله عز وجل يولي ظالماً على الظالمين، ولولا أن الناس ظالمون لما عوقبوا بهذا السلطان، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (
خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن -وذكر هذه الذنوب وعقوبتها ومنها-: إلا ابتلوا بشدة المئونة، وجور السلطان عليهم)، يعني: أن المعاصي تكون عقوبتها أحياناً تسليط الظالمين على الرعية، ولذلك لما عوتب بعض الخلفاء أنه لا يسلك بهم سنن
عمر بن الخطاب و
أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قال لهم: لو كنتم أنتم مثل الرعية التي حكمها
أبو بكر و
عمر لكنت أنا مثل
أبي بكر أو مثل
عمر ، لكن ابتليتم بي وابتليت بكم. أو كما قال رحمه الله تعالى.
ويشيع على لسان العلماء قولهم: عمالكم أعمالكم، أي: كيفما تكونوا يولى عليكم. وصف الله حال فرعون وقومه قال:
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [الزخرف:54]، فلا ينبغي أن نلتفت فقط إلى ظلم الظلمة وطغيانهم، وإنما ينبغي أن نلتفت إلى أننا سبب في ظلمهم لنا، وسر هذا الالتفات وأهمية هذا التشخيص هو أن نعرف من أين أُتينا، فنبادر إلى العلاج الصحيح، وهو كما فعل هؤلاء الربيون: (( وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا )).
((وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا))، ثم علموا أن ربهم تبارك وتعالى إن لم يثبت أقدامهم وينصرهم لم يقدروا على تثبيت أقدام أنفسهم والنصر على أعدائهم، فسألوه مغفرة ذنوبهم، وتثبيت أقدامهم ونصرهم على عدوهم، فوفوا المقامين حقهما: مقام المقتضي وهو التوحيد والالتجاء إليه سبحانه وتعالى، ومقام إزالة المانع من النصرة وهو الذنوب والإسراف، وهذا تأديب من الله تعالى في كيفية الطلب بالأدعية عند النوائب والمحن، سواء كانت المحن في الجهاد أو في غيره، كما قال تبارك وتعالى:
إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
إذاً: التحول والتغيير ينبغي أن يبدأ من أنفسنا، كل إنسان يراجع نفسه ويفتش لعل ذنباً يفعله أو معصية يرتكبها، أو إسرافاً أو تجاوزاً للحد، هو السبب في كل المصائب التي تعم المسلمين.
-
تفسير قوله تعالى: (فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة..)
فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:148].
((فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا)) أعطاهم النصر والغنيمة وقهر العدو، والثناء الجميل، وانشراح الصدر بنور الإيمان، وكفارة السيئات، هذا ثواب الدنيا.
((وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ)) أي: الجنة، وحسنه هو التفضل فوق الاستحقاق، بأن يعطيك الله سبحانه وتعالى ما تستحقه ويتفضل عليك بما هو أوسع وأعظم منة منه وتكرماً.
ونلاحظ هنا أنه سبحانه وتعالى لم يصف ثواب الدنيا بالحسن بل قال: ((فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا))، بينما وصف ثواب الآخرة بالحسن، قال عز وجل: ((وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ)) فهو سبحانه أراد أن يميز ثواب الآخرة بهذا الحسن؛ لأنه هو المعتد به عند الله تبارك وتعالى، أما ثواب الدنيا فغير دائم، بل ينقطع وتشوبه الأكدار والمنغصات.
ثم قال: أما ثواب الآخرة فإنه دائم لا ينقطع، ولذلك قال: ((وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)).