إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن سنة الدفع تستلزم دافعاً، وقلت قبل ذلك مراراً: إننا في أَمَسِّ الحاجة إلى تبني الكوادر العلمية، وإلى النفقة عليها وتفريغها؛ لتذود عن دين الله تبارك وتعالى، وتشبه هذه المسألة دولة مترامية الأطراف، وساحلها البحري أيضاً مترامي الأطراف ولا يوجد حرس حدود، أو بين كل جندي وآخر اثنان أو ثلاثة أو أربعة كيلو مترات، ألا يسهل اختراق مثل هذه الدولة وإدخال المخدرات فيها ببساطة؟! فلا نستطيع أن نذود عن حدودها إلا إذا كان لدينا حراس حدود.
كذلك يقول العلماء: إن أخطر مرض أصاب الإنسان حتى العام الماضي هو مرض الإيدز، ومرض الإيدز إشكاله أنه يصيب جهاز المناعة، فيمكن أن يموت المرء من أقل ميكروب، وهذا سر خطورة هذا المرض، فجهاز المناعة في الأمة المسلمة هم العلماء، فينبغي تقوية هذا الجهاز وتكثيره، والحمد لله رب العالمين الدعوة انتشرت أكثر من ذي قبل عند جماهير المسلمين، وأنا أتمنى أن يستيقظ كثير من أصحاب الأموال، وأن يتبنوا طلاب العلم، أن يبحثوا عنهم أو يسألوا العلماء: من هم طلاب العلم، فيأخذ كل واحد واحداً أو اثنين أو ثلاثة، وأفضّل لصاحب المال أن يكفل واحداً فقط ويكفيه، أفضل من أن يكفل ثلاثة ولا يكفيهم.
فلو فرضنا أن شخصاً يخرج زكاة ماله ثلاثمائة جنيه في الشهر مثلاً، نقول له: أعطِ هذا المبلغ كله لطالب واحد، واكفه مؤنة حياته، وقل: هذا لك بشرط أن يكون وقتك وقفاً لله، فكل ما تحتاجه في حياتك لا دخل لك فيه، لكن بقية وقتك وقف لله عز وجل، للذود عن دين الله، فنحن نحتاج عشرات الألوف في المساجد يعلمون الناس دينهم، ويتصدون لهذا الغزو الذي يهجم على الإسلام والمسلمين، فصوتي هذا لا يصل إلى أكثر من هذا المسجد أو إلى بضعة أشخاص آخرين عن طريق الأشرطة، أما هذا الجهاز المدمر -التلفاز- فينشر الدمار يومياً خلال الأربع والعشرين ساعة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان يجادل بالقرآن).
متى يبلغ البنيان يومـاً تمامـه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
إذا دعى شخصاً آخر لوليمة، تجد الأم متبرجة والبنت متبرجة وكلهم يجلسون على نفس الطاولة، والطفل الصغير عندما يرى هذا الشيء وأن هناك مائدة على الطاولة وأمه لا تلبس الخمار، وجاره يعني جار أبيه المعزوم أيضاً يجلس بجانبها أو أمامها، وكلهم يأكلون على طاولة واحدة ينطبع في ذهن الولد الذي لا يعرف شيئاً أن هذا صحيح، بدليل فعل أبيه وأمه.
والصحيح أنه لا يصلح أن يأكل الجيران مع بعضهم، وربما كان قبل ذلك بسنتين كانت هذه المرأة الجالسة على الطاولة محجبة، وبعدها بسنة خلعت الحجاب، وهذا ما حدث عرضاً خاطئاً، فنحن عندنا سرطانات في كل الأجهزة، من الذي يخط هذا الشيء؟ إنهم أناس بيدهم الرسمية، وبيدهم الإمكانات، وهم كثيرون، وعددهم فوق الحصر، فمن الذي يدفع أمثال هؤلاء؟ إنها الكوادر العلمية التي تحتضنها الجماهير، وتذود عن دين الله عز وجل، وأقول: لا تلقَ الله خائناً، أنا دللتك ولا زلت أقول: إن عدم تبني طلاب العلم والذود عن دين الله عز وجل خيانة لهذه الأمة، قتل الخراصون أمثال ذاك الكاتب الكاذب الذي يقول: (رد اعتبار فرعون) هل القرآن يحاكم ويطالب برد اعتبار فرعون؟ كيف يكتب هذا العنوان؟ وكيف لا زال هذا الكاتب يكتب حتى هذه اللحظة في الجرائد، كيف يقول: رد اعتبار فرعون؟ وهل لفرعون اعتبار إذ أهدر الله قدره فلم يعد له قيمة؟ فهذه كلها هجمات على الإسلام، وهناك جرائد متخصصة في الهجوم على الدعاة إلى الله عز وجل.
وهذا عمل اليهود، أكاد أجزم أن الذين يفعلونها هم اليهود، ولا تخرج أبداً عن أيديهم على الإطلاق، وما هو المانع أن يفعل شخص فعلاً ثم يقوم بإرسال رسالة إلى وكالات الأنباء: نحن الموقعون أدناه الجماعة الإسلامية بمصر نعمل كذا وكذا.. وسنواصل النضال بل أي طفل يمكن أن يعمل هذا وليس من الصعب أن أرسل رسالة فاكس باسم الجماعة الفلانية أو باسم أي إمام، ثم تنزل حملات واعتقالات.
نحن نعلم أن الدعوة تحتاج إلى أكثر من هذا، وينبغي على أصحاب الأموال أن يحملوا هذا العبء ولا يتضجروا منه؛ لأن الحمل الذي يحمله الدعاة أكثر من حملكم، لا تظن أنك إذا أعطيته مائة جنيه أو مائتين أو ثلاثمائة أو أربعمائة أن حملك ثقيل بهذا، لا، إن حمله أكثر منك، فهذا الرجل يطوف البلاد ويجوب الطرق، تأتي الساعة الواحدة والثانية ليلاً وهو يمشي في الطرقات من هذه البلد إلى هذه البلد، فلا تمن عليه أبداً في يوم من الأيام بهذا المال الذي تعطيه إياه، فإن الله عز وجل غني حميد، وهو الذي يمن وحده على عباده.
فأمثال هذا الكاتب ليس الخطورة في كذبه، لكن الخطورة في زخرفة الكذب، والرسول عليه الصلاة والسلام قال في الحديث الذي ذكرته آنفاً: (أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان يجادل بالقرآن)، فعندما يقول لك: قال الله، ماذا ستقول؟ وأنت ليس عندك علم؟ والقرآن له قداسة في النفوس، فأنت لا تستطيع أن ترد الآية، وهناك أرضية في قلب كل إنسان على استعداد لتقبله حتى ولو كان هذا الإنسان مجرماً، وهذا منافق عليم اللسان، يستطيع أن يزخرف القول.
فالزاني المحصن المتزوج إذا زنى بعد زواجه أو المرأة التي زنت بعد زواجها حكمهم الشرعي أن يحفر لهم حفرة في الأرض إلى السرة ويردم عليه، ثم يأتي كل مسلم بحجر ويرميه به في رأسه حتى يموت، هذا هو الحكم الشرعي، فهذا يقول: هل هناك دين في الدنيا يكرم الحيوان بأن يقول لك: حد الشفرة واذبح، وفي نفس الوقت يقول لك: عذب المسلم الموحد الذي زنا وعصى الله عز وجل؟ لماذا لا تذبحه بسكين حادة وتعامله معاملة الحيوان الأعجم؟
وهذا الكلام ينطلي على الناس، لكن ما هو وجه القبح فيه طالما أنه زخرفه هكذا من الخارج؟ وجه القبح فيه: أن الشيء إذا فعل لا لحكمة كان قبيحاً، فتخيل مثلاً: أن رجلاً جاء وبنى قصراً منيفاً بملايين الجنيهات، وبعدما بنى القصر قال للناس كلهم: ما رأيكم في هذا القصر الجميل؟ فقالوا له: ما شاء الله، لا نعرف قصراً مثله إلا في الجنة، فأحاطه بحزام ناسف وفجره، فهذا فعله قبيح لأنه خلا من الحكمة.
فنسأل ما هي الحكمة في تعذيب الحيوان؟ هذا حيوان ستذبحه لتأكله فليس هناك حكمة في أن تأتي بسكينة غير حادة لأن الذبح بالسكين غير الحاد إساءة، لكنّ رجم المسلم الموحد الذي عصى الله عز وجل بجريمة الزنا بعد إحصانه فيه حكمة، فربنا سبحانه وتعالى ذكر العقوبة الأخف وهي الجلد، فالشاب الذي لم يتزوج وزنا يجلد مائة جلدة، فقال تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2]، مع أن الله تعالى أمر بالستر، وذم العاصي الذي يعصي الله خلف جداره ثم يخرج يقول: يا فلان ويا علان أنا فعلت كذا وكذا بالأمس فقال النبي صلى الله عليه وسلم في حقه: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يبيت الرجل وقد ستره الله ثم يصبح فيكشف ستر الله عليه...)، وهناك أحاديث في الستر على المسلم كحديث (من ستر مسلماً في الدنيا ستره الله يوم القيامة)، والأصل أن نستر على أصحاب القبائح، وندعوهم إلى الله عز وجل..
ولكن مع هذا لم يأمر الله سبحانه وتعالى هنا بالستر، ولكن أمر بالتشهير قال: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2]، لأنه إذا رأى هذا الشخص يرجم بالحجارة يتفكر في حاله إذا كان مكانه، أنه سيفضح ويعذب، فتحصل بهذا العبرة.
وضُعف العذاب على الزاني المحصن والزانية المحصنة، بينما خفف على البكر رغم أن كله زنا؛ لأن مصيبة المحصن والمحصنة كبيرة؛ لأنه من الممكن أن يزني بها وتلد ولا يعرف زوجها أن هذا ليس بابنه، لكن البنت إذا كانت بكراً وكلنا كان يعرف أنها بكر وفجأة انتثر بطنها ستسأل من أين هذا؟ وبالتالي يكتشف الزنا، فلما استطعنا كشف الزنا وكانت المسألة واضحة كانت العقوبة على الدون، لكن إذا كانت امرأة متزوجة وعندها أولاد وزني بها وحملت قيل: إنه من زوجها! فيربي الشخص هذا الولد وهو أجنبي، لذلك ضُعِّفت العقوبة، لأن العقوبات على حسب آثار المعاصي، فكلما كانت المعصية أثرها أكبر كانت العقوبة أشد، وهكذا.
فعندما يكتب هذا الكلام، وحد الرجم مجمع عليه بين علماء المسلمين من أهل السنة والجماعة، فقد أجمعوا جميعاً على ثبوت الرجم. وقالوا: إنه كان في كتاب الله عز وجل ثم نُسخ نسخَ تلاوة ورفعت الآية برمتها من كتاب الله عز وجل وبقي الحكم.
فأحد أنواع النسخ الذي يذكره علماء الأصول: هو نسخ التلاوة، وهو أن يرفع لفظ الآية كلها، وفي صحيح البخاري أنه كان هناك آية تقرأ في كتاب الله عز وجل، قرأها عمر بن الخطاب ، وقال: كنا نقرأ فيما نقرأ (لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم) والبخاري روى هذا الحديث في كتاب الحدود من صحيحه، باب رجم الزاني المحصن، والآية الأخرى موجودة في مستدرك الحاكم (إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة نكالاً من الله والله عزيز حكيم) كانت آية في كتاب الله ونسخت، فكان قرآناً، ثم رفع القرآن وصار حكماً لازماً بالإجماع.
فعندما يأتي شخص وينفي هذا الحكم الثابت بالإجماع بمثل هذه الترهات، نحتاج إلى جيش من الدعاة يبين للناس حقيقة الأمر.
فعندما يقول في الثاني: عالم، وأخلى الأول من صفة العلم دلّ على أن الأول جاهل.
لو كانت هذه آخر امرأة على وجه الأرض، فإن أي رجل تتدفق في عروقه دماء الرجولة لا يمكن أن يبقي هذه المرأة على الإطلاق، فيبكي ويقول: أقبل يدك!! وكأن المسألة في يدي أنا، فأقول: يا بني هذه ليست بيدي، ولكن اذهب إلى لجنة الفتوى، فقلت له: تعال لي بعدما ترجع وأخبرني كيف كانت الفتوى، فطبعاً لم يرجع، ولكن أتاني أخوه وقال: إنه ذهب إلى مسجد بجانبهم إلى شخص مقيم شعائر، وبكى هناك قليلاً وقال: الأولاد سيشردون، ولم أكن أقصد، فقرص أذنه وقال له: هات ثلاثين جنيهاً ولا تكررها، وارجع لها.
فهذا الشخص يريد فتوى خطية، جاءني فلم تعجبه الفتوى، فذهب إلى لجنة الفتوى ولم تعجبه الفتوى، ثم ذهب إلى مفتٍ ثالث ولم تعجبه الفتوى، كل هذا لأن قلبه لم يسترح من الفتوى، فلا يجوز لهذا أن يعدد السؤال فشرط أن ينقل السؤال من مفتٍ إلى مفتٍ آخر أن يحيك في صدره شيء من فتوى الأول، وليس الهوى هو الذي يدفعه، يعني أن يكون خالياً من الهوى، فإن كانت الفتوى الثانية لا يزال يحيك في صدره شيء منها مع البراءة من الهوى يلتمس الثالث، فالثالث إما أن يرجح فتوى الأول أو فتوى الثاني فيصيرون اثنين على واحد، أو إذا وافق الاثنين وصاروا ثلاثة فلا يحل له أن يسأل الرابع.
إذاً عندما قال: (دلوني على أعلم أهل الأرض) وانتقل من مفتٍ إلى مفتٍ آخر، هذا يشرع لنا في ديننا بالشرط الذي ذكرته، فلما ذهب إلى الراهب العالم قال له: (إني قتلت مائة نفس فهل لي من توبة؟ فقال: نعم. ومن يحجب عنك باب التوبة، اخرج إلى أرض كذا وكذا).
ففتوى هذا الرجل العالم جميلة فيها بهاء، وكذلك فتاوى الأئمة الكبار، مثل الأئمة الأربعة أو العلماء المجتهدين، وكذلك تعليلهم للفتاوى، تجد جمالاً ليس في مجرد الفتوى، بل هي فتوى وتعليم.
مثلاً: شخص قطع المصحف ودعسه برجله، فهذا كافر بدون أي توقف، والذي يتوقف في تكفير هذا وهو يعلم أن له عقلاً، فهو كافر بالله العظيم، بخلاف ما لو كان مجنوناً فهذا لا يكفر، والذي يقول: إنه سيدخل الجنة ولو مات على النصرانية، كافر؛ لأنه عارض حكم الله في الشخص إذا مات على النصرانية، ومن لم يكفر الكافر فهو كافر، وهذه القاعدة تنطبق على من كفره الله ورسوله أو من قام دليل قطعيٌ بكفره.
من قال إن أبا لهب في الجنة، أو شك مقال: هو كافر أم لا؟ فهو كافر؛ لأنه عارض حكم الله: سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:3]، وما عدا ذلك فالإحجام عن إلقاء كلمة الكفر هو الأسدُّ والأبرأ للذمة، إذاً لا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب، ولو كان كثير السيئات، فقد تطاله رحمة الله وعفو الله عز وجل، وقد يكون له حسنات تكفر سيئاته بها، كما لو نطق الشهادتين والروح تخرج فإنه يدخل الجنة وكل هذا وارد.
فلا نقطع لأحد بجنة ولا نار، فهذا العالم بيّن أنه لا يملك هذا الأمر، قال: (نعم). وهذه الإجابة عن السؤال، ثم قال: (ومن يحجب عنك باب التوبة) يعني: لا أنا ولا أحد، فإن الله فتح باب التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها؛ ثم نصحه، وهذا شأن المفتي العاقل الذي يعتقد أنه بالنسبة للناس كالأب، وليس اسمه أنه يؤدي وظيفة فقط.
والدعوة لا تصل إلا بأن يكون الإنسان محتسباً، يدعو الناس إلى الله عز وجل، فالعالم ليس مجرد شخص يعطي حكم الله، ويظل واقفاً ويكتفي بأن يقول للناس: الطريق من هنا، لأن هناك أكثر من طريق في الأمام، فمن المحتمل أن يأخذ طريقاً خطأ، فينادي عليه: يمين، شمال، وراء، أمام، فبعد أن يراه سلك الطريق السليم يستريح، ويحس أنه عمل الذي عليه، هكذا فعل الراهب العالم، لم يقل له: نعم لك توبة ومن يحجب عنك باب التوبة فقط، لأن هذا تشخيص للمرض، لكن أين العلاج؟ فإن الطبيب عندما يقول للمريض: عندك المرض الفلاني ثم يصرفه، لا يكون قد عمل شيئاً يستحق أن يأخذ عليه أجرة حتى يعطي الدواء، لأن المريض لم يأت له إلا ليرفع عنه العلة بإذن الله، فكذلك المفتي، عندما يقول: لك توبة، وماذا بعد ذلك:؟ يذهب للنوم، لا، بل بعد تشخيص الداء ومعرفتنا أن له علاجاً، دله عليه، وهو الخروج من أرضه -لأنها أرض سوء- إلى أرض كذا وكذا، فإن فيها قوماً يعبدون الله فيعبده معهم.
عندما كنت آخر مرة في الكويت، قابلني شاب كان في جماعة التكفير، ثم سافر وخرج ليعمل في الخارج، وإخوانه يشتكون منه، فكنت موجوداً في آخر يوم فقال: نعمل جلسة مصرية، لا يحضرها إلا أهل مصر، فأتوا يتكلمون في شأن هذا الرجل الذي كان في جماعة التكفير، ثم ترك التكفير أنه بقيت عنده علة وهي أنه إذا أغضبه أحد يكفره، فهم دائماً يرضونه حتى ولو كان مخطئاً، فلما جاءوا طرحوا هذه المسألة والقضية ويقولون له: ارفق بإخوانك، فقال والله أنا عصبي بطبعي، وأول ما فتحت عيني على الدين فتحتها على التكفير، فترك عندي شيئاً يعسر علي جداً أن أتخلص منه، وبعدما أكفر أخي أدخل في نوبة بكاء، لأنني أعرف الحكم، يعني يعرف أن الذي يكفر مسلماً وهو غير صادق أن التكفير يعود إليه، فيقول: أنا أشعر أني كفرت نفسي، لكن ليس هذا بإرادتي، فانظر كيف أن الجماعة أثرت فيه أول ما بدأ يستقيم، وظل هذا الأثر يلازمه حتى الآن، لذلك هجران أهل المعاصي والبدع واجب، فإنك إذا وجدت شخصاً يلازم المعاصي أو البدع وتساهلت معه، فأقل ما في المسألة أنك لن يتمعّر وجهك ولن يتغير قلبك لله عز وجل، ولا تأمن أن تكون واحداً من هؤلاء المبتدعين فيما بعد.
لذلك كان من الخطر على هذا القاتل أن يظل في أرضه، فهو رجل مجرم وسفاك للدماء فكيف يجلس في بلد لم يقل له فيها أحد: وحد الله، ولم يقل له أحد: قف عند حدك، بل كان حوله البطانة السيئة التي توقعه في الشر، ألا يقول المثل: إذا لم تقدر على عدوك صاحبه، الذي لا يستطيع على عدوه يصاحبه، فهذا الرجل شرير، وأي واحد يقول له كلمة يقتله مباشرة، إذاً: نصاحبه، يعني أول ما يحب أن يقتل، أقول له: وأنا أعرف لك فلان من أين يدخل وأين يخرج، وآتيك بكل تحركاته، وأستغله، وأستغله حتى لا يقتلني، فإذا رأوا أن هذا الرجل قد تاب يذهبون إليه قائلين: مالك مريض، ما لك ما عدت تقتل أحداً؟ أين رجولة الأمس فبعد هذا الكلام يمكن أن يغتاظ ويعود إلى القتل من جديد، وهذا ممكن.
فهذا جعل الناس يحجمون عن إنكار تشغيل المسجل بهذا العلو، ولا تجد أن أصحاب العمارة يقفون وقفة رجل واحد ويوقفون هذا العبث الموجود في العمارة، أيظنون أن المصيبة إذا نزلت سينجون منها؟ مع أن الزلزال إذا جاء فإنه سيضرب العمارة كلها: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25].
إذاً: لا بد أن ننقي مجتمعاتنا من المعاصي والبدع، ونتكاتف؛ لأن المجموع له تأثير على الفرد، لهذا قال له: (اخرج من أرضك فإنها أرض سوء إلى أرض كذا وكذا؛ فإن فيها قوماً يعملون الصالحات، فاعبد الله معهم).
فملائكة العذاب تقول: إنه لم يعمل خيراً قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي، فقالوا: نحكم هذا الآتي، وقالوا له: الوضع كذا وكذا، والله عز وجل قد علم هذا الملك كيف يقضي، فهذا الرجل خرج من أرضه وليس بينه وبينها سوى مترين وبقي له اثنان من الكيلو مترات حتى يصل إلى الأرض التي سيدخلها، ولمعالجة هذه المسألة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فقال الله لهذه الأرض أن تقاربي، ولهذه أن تباعدي)، قال: (فوجدوه أقرب إلى أرض المغفرة بشبر واحد، فغفر له فدخل الجنة).
نستطيع أن نقول: أيها العاصي أقبل، ونحن الآن في بداية شعبان ورمضان على الأبواب، ورمضان موسم العصاة، فالعصاة يرجعون، فكم من عاص رجع في رمضان، وكم من ولي من أولياء الله كان بدايته في رمضان.
الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر