الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6].
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد: معشر الإخوة الكرام! خير بقاع الأرض وأحبها إلى الله جل وعلا المساجد؛ فهي محل نور رب العالمين, وهي موطن عباد الله المهتدين, وقد نعت الله جل وعلا من يعمرونها ويتواجدون فيها بأنهم رجال, ثم وصفهم بأربع خصال: لا تلهيهم هذه الدنيا عن طاعة ذي العزة والجلال, يعظمون الله جل وعلا فيذكرونه ويصلون له, يشفقون على عباد الله ويُحسنون إليهم, فيعطونهم قسطاً من أموالهم, ثم هم على أتم الاستعداد ليوم المعاد: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:36-37].
إخوتي الكرام! وكنا نتدارس الصفة الثانية من صفات عباد الرحمن الذين يعمرون بيوت ذي الجلال والإكرام في الأرض؛ ألا وهي إقامة الصلاة, وقد مضى الكلام على هذه الصفة في موعظتين اثنتين.
إخوتي الكرام! وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام إذا اعتراه هم ودهاه حزن يفزع إلى الصلاة, ويشرع لنا ذلك؛ لنستعين بهذه الصلاة على كل شدة في هذه الحياة, ثبت في المسند أيضاً وسنن أبي داود بإسناد صحيح من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ).
أي: نزل به أمر مهم وشدة وحزن وكرب وغم فزع عليه صلوات الله وسلامه إلى الصلاة. فالصلاة هي مفزع المؤمنين, كيف لا؟ وبها يناجون رب العالمين. قال الله: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45].
يقول: ( فلما دخل الليل قال النبي صلى الله عليه وسلم: هل من رجل يكلؤنا )؟ أي: يحفظنا ويحرسنا في هذه الليلة. ( فانتدب لذلك صحابيان: أنصاري
إن الفائدة التي نحصلها من صلاتنا بذكر الله -عندما نذكره- أكبر من كل شيء.. أكبر من كون الصلاة تنهانا عن الفحشاء والمنكر, وأكبر من كل طاعة ومن كل لذة, وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45].
إخوتي الكرام! إذا أقام الإنسان الصلاة ووفاها حقها علماً وعملاً نال بها الراحة وقرة العين، وحصل بهجة النفس وانشراح الصدر وطمأنينة القلب.
إخوتي الكرام! وهذا الأمر الرابع قبل أن أتكلم عليه تكلمت على الأمر الثالث, وهو أن الجوارح ينبغي أن تسكن وأن تخشع, كما خشع الباطن ينبغي أن يخشع الظاهر, وعليه يجب أن تضبط عينيك وأن تضبط فمك وأن تضبط جميع جوارحك, وأن تكون في سكون وخشوع وإخباتٍ لله جل وعلا.
وكنت أشرت على سبيل الإجمال أن النظر ينبغي أن يكون إلى محل السجود, وقد سأل عدد من الإخوة عن هذا الأمر, ولذلك أرى أن أكمله وأن أتكلم عليه, وهو يتعلق بالأمر الثالث, ثم نتدارس الأمر الرابع إن شاء الله.
من هذه الآثار ما رواه الإمام الطبري في تفسيره، ورواه ابن أبي حاتم أيضاً وابن المنذر وعبد بن حميد في تفاسيرهم، ورواه الحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن, والأثر رواه الإمام الحازمي في الناسخ والمنسوخ، وسعيد بن منصور في السنن أيضاً عن محمد بن سيرين شيخ الإسلام, والأثر مرسل وإسناده صحيح إلى محمد بن سيرين عليهم جميعاً رحمات رب العالمين, قال: كان الصحابة الكرام ومعهم نبينا عليه الصلاة والسلام في أول الأمر إذا قاموا إلى الصلاة رفعوا رءوسهم ونظروا فوقهم, وتلفتوا يميناً وشمالاً, فأنزل الله قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2]. يقول محمد بن سيرين في هذا الأثر: فلما نزلت هذه الآية طأطئوا رءوسهم, وفي رواية: ( طأطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه ونكس رأسه ), والصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين كانوا على هذا الأمر, فحنوا رءوسهم كما في بعض الروايات: طأطئوها .. نكسوها. وهذا الأثر رواه الحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن أيضاً عن محمد بن سيرين متصلاً عن أبي هريرة رضي الله عنه, فهو متصل, لكن كما قال الإمام البيهقي : المحفوظ هو المرسل, وقال الإمام الذهبي : هو الصحيح. هذا الأثر الأول. معنى (طأطئوا رءوسهم) .. حنوا رءوسهم .. نكسوا رءوسهم أي: نظروا إلى محل سجودهم.
وورد في سنن البيهقي - وإسناد الأثر فيه ضعف كما قال الإمام النووي في المجموع-: عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( يا
وهذا الأمر نقل عن السلف الكرام رضوان الله عليهم أجمعين, فقد ثبت في سنن البيهقي والأثر رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق وإسناد الأثر فيه ضعف أيضاً -وكما قلت: الآثار تعتضد ببعضها- عن أبي قلابة رضي الله عنه وهو عبد الله بن زيد الجرمي من أئمة التابعين, توفي سنة 104هـ, أخرج حديثه أهل الكتب الستة كما قال عنه الإمام الحافظ ابن حجر في التقريب: ثقة فاضل عابد, أخرج حديثه أهل الكتب الستة إلا أبا داود , فأخرج عنه في كتاب القدر لا في كتاب السنن, وهو عبد صالح، ومن مناقبه وفضائله واحتياطه وحزمه وعزمه أنه عندما أريد على القضاء في بلاد البصرة هرب إلى بلاد الشام وتوفي هناك, وكان يقول: ما مثل القاضي العالم إلا كمثل رجل وقع في البحر, فما عسى أن يسبح ثم يغرق. هذا العبد الصالح يقول: حدثني عشرة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيامه وركوعه وسجوده وقراءته كانت كصلاة هذا الأمير, يعني: الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز عليهم جميعاً رحمة الله جل وعلا.
يقول الراوي عن سليمان بن داود الخولاني إمام ثقة حديثه في سنن أبي داود وسنن الإمام ابن ماجه ، يقول: فنظرت إلى صلاة عمر بن عبد العزيز وتأملتها, فكان لا يجاوز بصره موضع سجوده. هذا الأثر يدل على هذا الأمر, وهو أن الإنسان إذا قام إلى الصلاة ينبغي ألا يجاوز هذا النظر موضع السجود. وهذه الآثار -كما قلت- تعتضد ببعضها وتتقوى, وهو أن الإنسان إذا قام إلى الصلاة ينبغي أن يكون نظره موضع سجوده.
إخوتي الكرام! هذا الأمر الذي دلت عليه هذه الآثار وتعتضد ببعضها، هو الذي أفتى بموجبها - بموجب الآثار- أئمتنا الأبرار, عليهم جميعاً رحمات العزيز الغفار. فهذا قتادة والأثر ثابت عنه في سنن البيهقي بإسناد صحيح أنه كان يقول: الخشوع في القلب وإلباد البصر في الصلاة, أي: يحصل الخشوع بهذين الأمرين أن يخشع القلب ويتفكر ويتدبر, وإلباد البصر في الصلاة. ومعنى إلباد البصر أي: سكونه بحيث يكون إلى موضع السجود لا يتجاوز ذلك, فهو مستقر ثابت.
وروي مثل هذا عن شيخ الإسلام محمد بن سيرين أيضاً عليهم جميعاً رحمة الله, أنه كان إذا صلى لا يجاوز بصره موضع سجوده, وكان يعجبه ذلك للمصلي, أي: إذا صلى الإنسان ألا يجاوز بصره موضع سجوده.
وحاصل ما ذكروه: أن الإنسان ينبغي في صلاته أن يضع بصره موضع سجوده في جميع أحوال صلاته, سواء كان قائماً أو راكعاً أو ساجداً أو جالساً. وهذا هو الذي نقل عن الإمام أحمد , وقال الإمام النووي : إنه أصح القولين.
وهناك قول حكي في كتب الفقه أيضاً, وهو أن هذه الآثار التي تدل على وضع البصر موضع السجود تحمل على حالة الوقوف والقيام, فإذا كان الإنسان قائماً يضع بصره موضع سجوده, وأما إذا ركع فينبغي أن ينظر إلى قدميه, وأما إذا سجد فينبغي أن ينظر إلى أرنبة أنفه, وأما إذا جلس فينبغي أن ينظر إلى حجره بحيث لا يتجاوز نظره رءوس أصابعه. وهذه الكيفية منقولة عن شريك بن عبد الله , ورجحها الإمام البغوي عليهم جميعاً رحمة الله.
فإن قال قائل: ما الدليل على هذه الكيفية؟ قلنا: الدليل على هذا كما قال أئمتنا: إن هذه الكيفية فيها قصر للنظر, وإعانة على الخشوع عند أداء الصلاة؛ لأن النظر كلما امتد وتبعثر تفرق القلب, فبين العين والقلب صلة عجيبة, فإذا امتدت العين إلى مكان بعيد تشوش القلب, وعليه أنت إذا كنت قائماً تنظر إلى محل سجودك, فإذا ركعت تنظر إلى قدميك, فإذا سجدت لا يتجاوز النظر أرنبة الأنف, وإذا جلست بعد ذلك تنظر إلى حجرك بحيث لا يتجاوز النظر أصابع اليدين اللتين على الفخدين إلى منتهى الركبتين.
وكل من القولين -كما قلت إخوتي الكرام!- قرره أئمة الإسلام, والأخذ بأيهما كان حسن, إما أن تنظر إلى محل سجودك على الدوام في جميع أحوال صلاتك وإما أن تفعل هذا, فانظر أيهما أخشع لقلبك فافعله ولا حرج.
والأثر -كما قلت إخوتي الكرام!- صحيح على شرط الشيخين، وصححه أئمة الإسلام.
ولفظ الحديث عن أمنا أم سلمة رضي الله عنها قالت: ( كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قاموا إلى الصلاة لم يعد بصر أحدهم موضع قدميه ). فهو يصلي مطرق الرأس لا يتجاوز بصره موضع قدميه. تقول: ( فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم واستخلف
وهذا الحديث -إخوتي الكرام- فيه موسى بن عبد الله ، انفرد الإمام ابن ماجه بالإخراج عنه، فلم يرو عنه أحد من الكتب الستة، والإمام المنذري لما ذكر الحديث في الترغيب والترهيب قال: إسناد حسن، وليس فيه إلا موسى بن عبد الله بن أبي أمية المخزومي ولم أقف على جرح أو تعديل فيه، ولا يحضرني جرح أو تعديل فيه، وهذا الحديث عندما تعرض له أئمتنا كما فعل الإمام أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد المنبجي الحلبي في كتابه تسلية أهل المصائب قال: إسناده مقارب، بفتح الراء وكسرها مقارَب مقارِب، أي: رجال الإسناد يقاربهم غيرهم في الحفظ، وهم يقاربون غيرهم في الحفظ. وتبعه على هذا الاصطلاح الإمام السفاريني في غذاء الألباب شرح منظومة الألباب، وقال: إسناد الحديث مقارِب، إسناد الحديث مقارَب، أما الإمام المنبجي فتوفي سنة خمس وثمانين وسبعمائة للهجرة، وأما الإمام السفاريني الذي جاء بعده فتوفي سنة ألف ومائة وثمان وثمانين للهجرة عليهم جميعاً رحمات رب العالمين.
إذاً: موسى بن عبد الله بن أبي أمية المخزومي انفرد الإمام ابن ماجه بالإخراج عنه، وقد حكم عليه الحافظ ابن حجر في التقريب بأنه مجهول؛ لأنه لم يرو عنه إلا راوي واحد، وليس فيه -كما قلت- توثيق ولا تجريح، والحديث يعطينا صورة واضحة لأحوال السلف الكرام في العصر الأول، وكيف كانت الأحوال تتغير في كل مرحلة؟ فهم في عهد النبي عليه الصلاة والسلام لهم هذه الحالة، لا يجاوز بصر أحدهم موضع قدميه، وفي عهد أبي بكر رضي الله عنه لا يجاوز بصر الواحد منهم موضع سجوده، وفي عهد عمر رضي الله عنه لا يجاوز بصر أحدهم القبلة، فلما وقعت الفتنة وتغيرت القلوب نظر الناس يميناً وشمالاً، وكيف يفعل الناس في هذه الأيام من النظر إلى سائر الجهات؟! وكل هذا كما تقدم معنا اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة الإنسان.
وخلاصة الكلام إخوتي الكرام! إذا صلى الإنسان ينبغي أن يضع نظره موضع سجوده, ولا يجوز أن يرسل نظره زيادة عن ذلك ولا بمقدار أنملة, وإذا فعل هذا فقد شوش ذهنه وتسبب في تشويش قلبه, ونقص من الخشوع بمقدار ما يطلق بصره. هذا فيما يتعلق بالنظر الذي سأل عنه عدد من الإخوة الكرام.
ثبت في مسند الإمام أحمد والسنن الأربع والحديث رواه ابن حبان في صحيحه، وابن خزيمة في صحيحه ورواه الطبراني في معجمه الكبير وأبو يعلى في مسنده، وإسناد الحديث صحيح من رواية أبي مسعود الأنصاري البدري رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود ). فإذا ركعت ثم أردت أن تسجد أقم الصلب وأقم الظهر واعتدل قائماً مطمئناً حتى تستوي تماماً ويحصل عندك شيء من الراحة والاطمئنان, ثم تهوي إلى السجود. وأما أنك ترفع بحيث لا يعتدل الارتفاع ثم تهوي إلى السجود فأنت ينطبق عليك حديث ( لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع وفي السجود ).
والحديث إخوتي الكرام! روي عن عدة من الصحابة الكرام, رواه الإمام أحمد أيضاً في المسند وابن ماجه في السنن وابن خزيمة في صحيحه وابن حبان عن علي بن شيبان رضي الله عنه وأرضاه وهو من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا صلاة لرجل لا يقيم صلبه في الركوع والسجود ).
والحديث رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير عن طلق بن علي , ورواه الإمام أحمد في المسند بإسناد جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا ينظر الله إلى صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه بين ركوعه وسجوده ). وفي رواية: ( لا ينظر الله إلى رجل لا يقيم صلبه في صلاته بين ركوعه وسجوده ). إذاً: لا ينظر الله إلى هذه الصلاة ولا إلى فاعلها المصلي, ولا صلاة له, ولا يقبل الله صلاته إذا لم يسو هذه الأركان ولم يطمئن فيها على وجه التمام.
وقد ثبت في معجم الطبراني الكبير ومسند أبي يعلى وصحيح ابن حبان من رواية أبي عبد الله الأشعري , وهو يعرف بكنيته, تابعي صالح, قال: ( حدثنا أمراء الأجناد:
وقد ثبت في معجم الطبراني الكبير بإسناد حسن عن بلال رضي الله عنه: ( أنه رأى رجلاً أيضاً لا يتم ركوعه وينقر في سجوده, فقال له: لو مت على هذا لمت على غير ملة محمد عليه الصلاة والسلام ).
والجواب: أن ذلك يحصل بأمرين اثنين: أولهما: قوة المقتضي, وثانيهما: انتفاء المانع.
أيها العبد المؤمن! أيها المصلي! أيها المسلم! إذا علمت أن الله خلقك سبحانه وتعالى وأحسن إليك فـ مَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل:53], واستحضرت تقصيرك نحو ربك جل وعلا إذا استحضرت هذه المعاني في بدء صلاتك أنك مخلوق لخالق وهو الله جل وعلا, والله أحسن إليك بنعم لا تحصى، وأنت مقصر نحوه. صلاتك حقيقة ستكون بين خوف ورجاء .. بين رغبة ورهبة؛ ترغب فيها إلى الله وترهب منه مما عندك من تقصير, فأنت بين حالتين في صلاتك؛ إما أن تعبد الله كأنه يراك، وإما أن تعبد الله كأنك تراه، فإذا لم يكن هذا وما وصلت إلى هذا المقام فلا أقل من استحضار الأمر الثاني؛ ألا وهو أنه يراك سبحانه وتعالى, ويراك وأنت عبده ومحسن إليك وأنت مقصر معه, فاستح منه في صلاتك, وأحضر قلبك واخشع لربك جل وعلا.
فهذا الأمر إذا استحضر الإنسان قوة المقتضي, أي: المقتضي للخشوع وحضور القلب.
أيها المصلي! أتعلم أنك في صلاتك تقرأ أعظم سورة أنزلها الله جل وعلا على أنبيائه ورسله عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه, ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها, لا يوجد سورة تعدل هذه السورة؛ ألا وهي سورة الفاتحة.
وقد ثبت هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام في مسند الإمام أحمد وصحيح البخاري ورواه أهل السنن الأربعة إلا الإمام الترمذي من حديث أبي سعيد بن المعلى , وثبت أيضاً في المسند والترمذي والنسائي وصحيح ابن خزيمة والمستدرك وموطأ الإمام مالك من حديث أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين. وللحديثين قصة, وفيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها, أم الكتاب فاتحة القرآن هي السبع المثاني وهي القرآن العظيم الذي أوتيته ).
يا عبد الله! عندما تقرأ هذه السورة وتصل إلى قول الله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] التي هي بينك وبين رب العالمين. هذه الآية كما قال أئمتنا: سائر كتب الله جل وعلا شرح لها. فالقرآن تضمن الكتب السماوية بأسرها, ومضمون القرآن كما يقول أئمتنا الكرام في حزب المفصل الذي يبتدأ من سورة (ق) إلى نهاية القرآن, ومضمون هذا الحزب في سورة الفاتحة, وسورة الفاتحة مضمونها في هاتين الجملتين: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، أي: عبادة لله على الدوام, واستعانة بذي الجلال والإكرام, حب له على التمام, تذلل له على الدوام, وهذان ركنا العبادة: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5], ثم استعانة به في كل زمان ومكان.
استحضر هذا أيها المصلي! عندما تقرأ هذه الآية ينبغي أن ينخلع القلب, إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]. وأما أن تقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] وأنت تعبد الريال .. وأنت تعبد المرأة .. وأنت تعبد الهوى .. وأنت تعبد الشهوة وذهنك غائب عما تناجي به ربك, فهذا حقيقة مما ينبغي أن يستحي منه الإنسان.
فكن على علم بذلك أيها الإنسان! عندما تصلي, ثم بعد ذلك ينبغي أن تصرف الموانع عنك, فإذا وجد المقتضي فلا بد من انتفاء المانع.
والموانع أن تحصن أربعة أمور: الخطرات والنظرات, فما ينبغي في غير الصلاة أن يدخل قلبك وسوسة ولا أن تشغله بما لا ينفع من أخطار رديئة, فهذا سيعرض عليك في صلاتك, وما ينبغي في غير الصلاة أن تطلق بصرك هنا وهناك؛ فالله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
اضبط الخطرات واللحظات, ثم اضبط بعد ذلك الخطوات واللفظات, وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63].
ومن ضبط هذه الأمور الأربعة فهو صديق صديق, لا يخطر في قلبه إلا حق يرضاه الله, ولا ينظر إلا إلى حلال أحله وأباحه الله, ولا يمشي إلا لمباح أحله وشرعه الله, وبعد ذلك لا يتكلم إلا بما يحب الله.
يا عبد الله! ألا سددت منافذ الشيطان خارج الصلاة, اضبط خطراتك ولحظاتك وخطواتك ولفظاتك, فإذا ضبطت هذا، وقمت تصلي واستحضرت المعنى الأول قوة المقتضي من خلق الله لك، وإحسانه إليك وتقصيرك في حقه، حقيقة ستخشع في صلاتك, وستعيش في الصلاة ما بين رغبة ورهبة.. ما بين خوف ورجاء, وإذا لم يحصل هذا فيك فكم من إنسان إخوتي الكرام! يصلي ولا يحصل من صلاته إلا جزءاً يسيراً, كما ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود والنسائي والحديث رواه ابن حبان في صحيحه من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن العبد ليصلي الصلاة وما يكتب له إلا نصفها .. إلا ثلثها .. إلا ربعها .. إلا خمسها .. إلا سدسها .. إلا سبعها .. إلا ثمنها .. إلا تسعها حتى بلغ إلا عشرها ). سبحان الله! كتب له واحد من عشرة, هذا إن كتب له, وقد أحياناً لا يكتب له شيء من صلاته, وقد يرتكب وزراً, وكم من إنسان يصلي ويتحمل بصلاته خطايا ما لو وزعت على أهل مدينته وحيه وبلدته لأهلكتهم وهو يصلي, وحقيقة إذا كان الإنسان يصلي وذهنه يرتع في كل نقيصة ورذيلة، ما حال من يسيء الأدب مع رب العالمين في حضرة مناجاته سبحانه وتعالى؟
ولذلك إخوتي الكرام! لابد من استحضار هذا, من سد منافذ الشيطان الأربعة, ثم استحضار بعد ذلك إحسان الله إلينا وتقصيرنا في حقنا, لعل الله يمن علينا إذا استحضرنا ذلك بحلاوة مناجاته عند صلاتنا له.
نسأل الله أن يرزقنا حلاوة الإيمان, وخشية على الدوام؛ إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
أقول هذا القول, وأستغفر الله.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله خير خلق الله أجمعين، اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، وارضَ اللهم عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأعطنا ولا تحرمنا، اللهم أكرمنا ولا تهنا، اللهم آثرنا ولا تؤثر علينا، اللهم ارضنا وارض عنا، اللهم اغفر لأمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم ارحم أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اغفر لأمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم انصر أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم أهلك أعداء أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم أنزل علينا من بركات السماء، وأخرج لنا من بركات الأرض بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر