أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ [الأعراف:19-22].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! ما أسعدنا! فمن أين لنا أن نعرج إلى الملكوت الأعلى، وأن نعيش ساعة مع الله، وهو يتكلم مع آدم وحواء، كيف يتم لنا هذا؟ يتم لنا بفضل هذا الإيمان الذي رزقنا الله به، وبفضل هذا الكتاب -القرآن العظيم- الذي أنزله الله تعالى علينا ليكون نوراً وهداية لنا، ثم بفضل رسول الله الذي اصطفاه الله رحمة للعالمين، فهيا نعيش هذه الساعة مع الله، فلولا فضل الله علينا بالإسلام، وبهذا الكتاب العظيم، وبهذا الرسول الرحيم، فمن أين لنا أن نعرف هذا أو حتى يخطر ببالنا؟ فبلايين البشر لا يعرفون شيئًا عن هذا، ولا يخطر على بالهم فهم كالبهائم، ومع الأسف أعرضنا عن القرآن الكريم، وتركناه وراء ظهورنا، فأكثر محاكم العالم الإسلامي فقيرة من القرآن، لا يتحاكم إليه، ولا يرجع إليه في شيء، وأكثر الناس لا يتلونه للعلم والمعرفة، وإنما إما للأجر والمثوبة، وإما مقابل ذلك دنيا يتناولونها، ومع الأسف! ولكن لنترك هذا، ولنرق إلى الملكوت الأعلى ولنسمع.
ولكن: وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ [الأعراف:19] للأكل منها، فالله تعالى أذن لهم في أن يأكلوا من كل الجنة وما فيها، إلا شجرة واحدة، قال لهم: لا تقرباها للأكل منها؛ لحكمة اقتضت ذلك.
وأحسن ما قيل في هذه الشجرة: أنها من الجائز أن تكون التين؛ لأن الله أقسم بالتين في قوله: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ [التين:1]، ولأنه أشبه بثمار الجنة، فلا يوجد فيه عظم، ولا فيه كذا، فكله صالح للأكل.
وهذا علمناه أو لم نعلمه فلا يضرنا جهله ولا علمه، وإنما العلم الذي ينفعنا أن هناك نهي إلهي لهذين المخلوقين، فقد نهاهما رحمة بهما وشفقة عليهما أن يأكلا من هذه الشجرة، كما نهانا عن الخمر والزنا واللواط والربا والكذب، وكل المفاسد والشرور، لماذا نهانا عنها؟ أليس لصالحنا؟ بلى والله من أجل صالحنا؛ إذ فيها هلاكنا وخرابنا ودمارنا، والواقع شاهد، تخبث أنفسان وتلوثها، وتصبح غير أهل للملكوت الأعلى، والنزول بذلك القدس في السماوات.
والمراد بهذه الزوجة هنا: حواء، فمن هي حواء هذه؟ هذه امرأة، ومن أراد أن ينظر إليها ينظر إلى أمه أو إلى امرأته يرى حواء في سمعها .. بصرها .. لسانها، لكن كونها بيضاء أم سمراء هذا غير مهم.
وقيل: إن آدم سمي آدم من الأدمة التي هي السمرة، فليست بياض ولا سواد، وهو كذلك.
فحواء قال لها الجبار: كوني فكانت، وأخرجها من ضلعه الأيسر، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يوصي بالنكاح: ( إنهن خلقن من ضلع أعوج، فإن أنت ذهبت تقيمها كسرتها، وإن تركتها تركتها على عوج ) فاصبر إذاً على عوجها، فإذا أردت أن تقومها تنكسر، فالضلع أعوج، إذا أردت أن تقومه ينكسر، فكذلك المرأة ما دامت قد خلقت من هذا الضلع الأعوج فاجتهد أن تصلحها، وأن تربيها، وأن تحسن إليها، أما إذا أردت أن تقومها بالقوة فما تستطيع، فقد تطلق منك أو تحاربك.
إذاً: وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [الأعراف:19] عرفتم ما هي الجنة؟ أتشكون فيها؟ اذهبوا للبساتين وشاهدوا الجنان كيف هي، فالأشجار والمياه والثمار صور مصغرة، وسميت جنة؛ لأن من دخلها فأشجارها تجنه وتغطيه.
فَكُلا [الأعراف:19] هذا هو الإذن بالإباحة.
فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا [الأعراف:19] من أي شجرة.
وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [الأعراف:19] لنفسيكما، ولهذا نقول: الظلم هو ظلم العبد لربه بصرف عبادته إلى غيره، وظلم الإنسان لأخيه الإنسان بسبه وشتمه، أو إفساد عقله، أو أذاه في عرضه أو ماله، وظلم الإنسان لنفسه بأن يعرضها للخبث والنتن والتعفن بفعل المحرمات وترك الواجبات، والله يقول: فَتَكُونَا [الأعراف:19] يا آدم وحواء؛ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأعراف:19] لأنفسهم.
هذا توجيه من سياسي عجيب أبو مرة. فقرروا قتله، وأعدوا أربعين شاباً، وبعثوا بهم إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتظروا إذا خرج أن يضربونه ضربة واحدة فيتفرق دمه بين القبائل ويسكت بنو هاشم، وشاء الله أن يخرج بينهم، ويرمي حفنة تراب في وجوههم، فلا يراه أحد، وانشغلوا بمسح التراب من أعينهم.
والشاهد عندنا: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ [الأعراف:20] إبليس، لم سمي بإبليس؟ لأن الله أبلسه وأيأسه، بسبب معصية، وها نحن منغمسون في المعاصي، ألا نخاف؟ ما دفع هذا الشيطان حتى أبلس؟ قال فقط: لن أسجد لهذا أنا خير منه، فسامحني يا رب لن أسجد، فلأجل هذا الرد على الله، وعدم الطاعة أبلسه، فمسح الخير منه ومن ذريته نهائياً، فلا خير فيهم، فهو مبلس وآيس. هذا الشيطان مأخوذ من شطن الحبل إذا تدلى في البئر وارتفع، أو من شياط النار أو غيلانها وهيجانها.
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ [الأعراف:20] من أجل ماذا؟ قال: لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا [الأعراف:20] كيف يوسوس لهم، وقد أبلس بالأمس، وطرد من الجنة؟ قلت غير ما مرة: الإسرائيليات لها في هذا مجالات، منهم من يقول: دخل في صورة أفعى ودخل الجنة، وهذه كلها خيالات وسببها العجز عن إدراك هذا، أما اليوم فلا عجب، فكل إنسان له محطة للتلقي والإرسال، فالشيطان وإن كان في أمريكا يتصل بك في الهاتف ويوسوس لك، لم يبق هذا عجيب ولا غريب، فهو خارج الجنة ويتصل بهم بواسطة الجهاز المخلوق مع الإنسان، واتصاله ليس بذاته كما يتصل بك أخوك من نيويورك، فالشيطان وهو خارج من الجنة مبعد مطرود منها يتصل بهم بطريق الوسوسة، إذ قال تعالى: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ [الأعراف:20] ما قال: فكلمهما، والوسوسة حركة خفية لا ذات لها ولكن تفهم.
وهذه الوسوسة هو الذي يستخدمها طول الحياة في بني آدم، ويقال فيه: الوَسواس؛ لأنه يوسوس في صدور الناس، وذكرنا أن المتقي منا، وأن صاحب التقوى منا، فما هي هذه التقوى؟ الذي اتقى غضب الله وسخطه عليه فلم يخرج عن طاعته لا في معتقد ولا قول ولا عمل، هذا المتقي لله عز وجل جهازه كله نور، راداره صالح لدفع العدو، ما إن يحوم حول قلبه العدو حتى يتفطن له ويطرده، فالطائرة إذا حومت الرادارات تشعر بها، وهذا أمر واضح.
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف:201-202] فالذين اتقوا أصحاب القلوب الطاهرة والأرواح الزكية المستنيرة إذا حوم العدو وطاف تفطنوا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فيطرد طرداً بعيداً ولا يعود إليهم، والذين قلوبهم مظلمة منتنة ونفوسهم متعفنة ينزل ويبيت ويغني لهم فيها، فكل الذين يخشون هذه الذنوب والكبائر ويبيتون عليها ويظلون قلوبهم منطفئة من النور فلهذا الشيطان حل بها، ما يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أبداً.
فوسوس لهما الشيطان من أجل أن يأكلا من الشجرة المنهي عنها.
إذاً: لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ [الأعراف:20] وستر؛ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا [الأعراف:20] من أجل أمرين: إما اتقاء أن تكونوا ملكين من الملائكة فتخلدون في الملكوت الأعلى، وإما اتقاءً لأن تكون من الخالدين، خشية أن تكونوا من الملائكة أو من الأتقياء فمنعكم من أكل هذه الشجرة، فهيا كلا منها تظفران بهذا، وتغرير وخداع وكذب، فوسوس لهما الشيطان بتزيينه للأكل من الشجرة من أجل أن تنكشف عورتهما، وحواء هي التي بدأت الأكل، وهي التي استعجلت: فها أنا أكلت ما حصل شيء فكل أنت، فأكلا فزال ذلك النور فأصبحت ترتعد فرائصهما، وعورتهما مكشوفة، وأخذا يأخذان من ورق الشجر ويلصقانه على عورتهما.
والآن كشف العورة مذموم ومبغوض من اليهود والنصارى ومن كل إنسان، إلا من مسخت فطرته، أما ما دامت الفطرة وإن كان أكفر الكفار ما يسمح أن تكشف عورته للناس بالفطرة، لكن الذين فسدت فطرهم لأن الشيطان أفسدها هناك نادي العراة موجود في أوروبا فتأخذ ورقة من الباب وتنزع ملابسك وتدخل عريان، هذا مسخ كامل.
إذاً: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ [الأعراف:20] لماذا؟ لِيُبْدِيَ [الأعراف:20] ما معنى يبدي؟ يظهر، أبدى الشيء أظهره.
لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ [الأعراف:20] أي: ما غطي وستر من سوءتهما، ولا نقول: إلا أن هذا حجاب نوراني أحسن من قول بني إسرائيل، لا حرير ولا كتان ولا الفطرة.
قال: وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا [الأعراف:20] يا آدم وحواء. عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [الأعراف:20] لأجل هذا نهاكم عن أكل هذه الشجرة.
إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:21] وكان ناصحاً أو خادعاً؟ كان غاشاً كاذباً، يريد أن يهبطا إلى الأرض ليعبث بهما.
قال: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:21].
ذَاقَا الشَّجَرَةَ [الأعراف:22] الذوق معروف، كتذوق حبة العنب أو التين أو التمر.
بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا [الأعراف:22] ظهرت لهما سوءتهما، فنظر آدم إلى حواء وإذا سوءتها مكشوفة، ونظرت حواء إلى آدم وإذا سوءته كذلك مكشوفة والعياذ بالله.
بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ [الأعراف:22] أخذا بسرعة.
يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [الأعراف:22] ورق التين، وورق العنب، ويجمعونه ويجعلونه على فرجيهما للستر؛ لأن الحياء الآن فطري، وقد زالت تلك الأنوار.
يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا [الأعراف:22] من فوق عرشه.
وَنَادَاهُمَا [الأعراف:22] ماذا قال لهما؟ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ [الأعراف:22] هذا الاستفهام للتأنيب.
أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ [الأعراف:22] لو أراد الله أن ينادينا الآن فلن يسلم منا إلا من سلمه الله عز وجل، بمعصية واحدة فقط أكل من شجرة ممنوعة.
ثانياً: لا بد من معرفة ما يغضب الله منك ويسخطه عليك، فا الذي يغضب الله منا ويسخطه علينا هي المعاصي، ففيم هذه المعاصي؟ في أوامره ونواهيه، فالذي يترك ما أوجب الله ويعرض عنه ولا يبالي به أطاع أم عصى؟ والذي يخشى ما حرم الله، ونهى عنه، وتوعد عليه بالعذاب، أو وضع له حدوداً في الدنيا ويخشاه ويرتكبها هذا اتقى الله؟ هذا حارب الله، وخرج عن طاعته.
فلا بد إذاً بعد الإيمان الصحيح من معرفة ما يحب الله وما يكره، فيجب علينا معرفة هذا، فنقول بلسان الحال: لا نستطيع، كيف نتعلم؟ نحن لا نتكلم معكم أنتم يا عباد الله، بل نتكلم مع أمة الإسلام، نساءها ورجالها وأطفالها من إندونيسيا إلى موريتانيا، فقد عمهم الجهل وغشاهم بظلمته، فلا يعرفون ما أحل الله ولا ما حرم، ضعف إيمانهم فما أصبحوا يستطيعون النهوض بواجب أو الكف والبعد عن محرم، فما علة ذلك؟ والله إنها الجهل بالله وبمحابه ومساخطه وبوعده ووعيده.
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] فهل تحقق هذا المبدأ؟ وهل النساء والرجال كلهم متعاونون متساعدون متناصرون في دينهم ودنياهم في هذا الولاء؟ العكس هو الموجود، فبعضهم أعداء بعض إلا من سلم الله. فلماذا نكون ثلاث وأربعين دولة، لم لا يكون إمامنا واحد، وجيشنا واحد، ودستورنا واحد، وقلبنا واحد، وطريقنا إلى الله واحد؟ لم الفرقة؟ لو كان هناك إيمان حق لما كانت الفرقة ولما تمت أبداً.
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [التوبة:71] لو كان أهل القرية كلهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فمن يعصي؟ ومن يغشى المنكر؟ ومن يترك الواجب؟ فكيف بالبلاد كلها؟ فواجب المؤمن أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ [التوبة:71] كيف يقيمون الصلاة؟ يقيمونها وفق النظام الرباني، مواعيد بلقاء الله عز وجل على سطح الأرض خمس مرات في اليوم والليلة في كل أربع وعشرين ساعة هو الذي قننها ونظمها وقدرها، فالصبح من طلوع الفجر إلى قبل طلوع الشمس، والظهر من الزوال إلى أن يصير الظل مثله، والعصر مثل الظل إلى قبل الغروب، والمغرب كذا، والعشاء كذا، لماذا؟ للقاء مع الله عز وجل، والمصلي يناجي ربه، ما إن نقف بين يديه إلا وهو معنا ينظر إلينا ونصب وجهه لنا، ونحن نتحدث معه، هذا يسبحه، وهذا يكبره، وهذا يدعوه ويسأله، والقلوب معه، فنخرج من الصلاة وكلنا نور، لا نستطيع أن نمشي بعد ذلك في الظلام، لا سرقة، ولا خيانة، ولا غش، ولا خداع، ولا مكر، ولا كذب، ولا باطل، ولا شر، عصمة إلهية فأنت مع الله خمس مرات فكيف تستطيع أن تعصيه؟ لكن أكثرنا لا يصلي، ومن صلى فقلبه ليس مع الله، وجوارحه كما يعلمها الله، فيخرج من المسجد ويعصي الله. هذه هي الحقيقة.
فكيف العودة إلى الله؟ يجب على أهل المدن كما يجب على أهل القرى، وستذكرون هذا في قبوركم قبل يوم القيامة، لأنكم ما سمعتموه، فليس هناك علاج لهذا المرض إلا العودة إلى الله عز وجل، ليس بالحديد والنار ولا بالكذب، فأهل القرية إذا دقت الساعة السادسة، فشيخ القرية أو المسئول عنها يكون على المنبر يوم الجمعة لا يتخلف رجل ولا امرأة ولا طفل إلا مريض أو من يمرضه، يصلون المغرب كما صلينا الآن، ويجلسون جلوسنا هذا، النساء وراء الستارة، والأطفال صفوفاً بيننا وبينهن، ويتعلمون الكتاب والحكمة، وهكذا في كل المملكة والجمهورية والسلطنة، وما إلى ذلك، لو تم هذا والله ما استطاعوا أن يعيشوا متفرقين ولا متقطعين متمزقين، ولقالوا لا إله إلا الله محمد رسول الله وإمامنا واحد، وقد عرف عدونا هذا وما عرفناه، فهو يمزقنا ويفرقنا من طريق بعدنا عن ربنا عز وجل، فكيف بالذين تكبروا عن شرع الله بكامله ورفضوه، هل يكونون كإبليس فقط؟
غداً إن شاء الله وبعده تسمعون كيف أهبط الله آدم وحواء إلى الأرض بسبب هذا الذنب، وهو ذنب واحد فقط، فما قتلا، ولا فجرا، ولا زنيا، ولا سبا الله، ولا كذبا الله، فقط وسوس لهما الشيطان فأكلا من هذه الشجرة فكانت النهاية: أن اهبطوا إلى الأرض للشقاء والآلام والموت والدمار والعذاب.
فالقرآن اليوم من إندونيسيا إلى موريتانيا لا يقرأ إلا على الموتى فقط، فلا يتأمل، ولا يتدبر، ولا يتفكر فيه، ولا يسأل عن معانيه أبداً، فأهل الإيمان إذا قرءوا هذه الآية لا يستطيعون أن يعصوا الله أو يخرجوا عن طاعته، فيرضون بالعذاب والموت والفقر ولا يرضون أن يخرجوا عن طاعة ربهم عز وجل.
قال: [ أولاً: سلاح إبليس الذي يحارب به ابن آدم الوسوسة ] سلاح إبليس هو الوسوسة، فلا رمح ولا سيف ولا جيش، فما هو إلا [ الوسوسة والتزيين لا غير ] التزيين للقبيح بأن يصبح زيناً جميلاً.
[ ثانياً: تقرير عداوة الشيطان للإنسان ] إلى الأبد، فقرر الله هذا في هذه الآية، الشيطان عدو للإنسان إلى الأبد، إذاً: فلنأخذ بالحيطة، ولنتأكد من هذه العداوة، ولا نعطيه أعناقنا ولا نمشي وراءه.
[ ثالثاً: النهي يقتضي التحريم إلا أن توجد قرينة تصرف عنه إلى الكراهة ] في مسألة فقهية النهي وصيغة (لا تقرب، لا تفعل، لا تترك) بصورة عامة هذا النهي يدل على الحرمة كما دل عليه هنا، إلا إذا كانت قرينة من قرائن اللفظ أو العمل تصرفه عن الحرمة إلى الكراهة، ولا خير في الكراهة، حتى المكروه نتركه، لكن عند الضرورة المكروه أخف من الحرام.
[ النهي يقتضي التحريم إلا أن توجد قرينة تصرف عنه إلى الكراهة.
رابعاً: وجوب ستر العورة من الرجال والنساء سواء ] ستر العورة واجبة وهي ما بين السرة والركبة، إلا الرجل مع امرأته، ومع هذا كانت تقول عائشة أم المؤمنين: (ما رأيت من رسول الله ولا رأى مني).
[ خامساً: جواز الإقسام بالله تعالى، ولكن لا يحلف إلا صادقاً ] جواز الإقسام بالله من أين أخذنا هذا؟ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:21] يجوز للمؤمن أن يحلف بالله على شرط أن يكون صادقاً، أما الذي يحلف بالله كاذباً فيا ويله. يجوز للمؤمن أن يحلف بالله عز وجل ولا يجوز أن يحلف بغير الله أبداً، لا بالرسول، ولا بالكتاب، ولا بأي مخلوق، أو كائن من الكائنات إلا بالله، ولكن يجب أن يحلف وهو صادق، فإن كان يحلف وهو كاذب فهو النفاق وصاحبه منافق والعياذ بالله.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر