أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك. آمين.
وها نحن مع سورة النحل، ومع هذه الآيات المباركات الكريمات:
قال تعالى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ * لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [النحل:20-25].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أعيد إلى أذهانكم أن السور المكية تعالج العقيدة في أعظم أركانها: التوحيد والنبوة والبعث الآخر، وهذا الذي تسمعونه من الآيات.
تلك الأصنام والتماثيل التي يدعونها، ودعاؤها هو عبادتها، إذ الدعاء هو العبادة ومخها، هؤلاء الذين يدعونهم لا يخلقون شيئاً، والله ولا ذبابة، فكيف إذاً يدعونهم؟ يطمعون فيهم ويطرحون بين أيدهم ويسألونهم حاجاتهم، وهم عاجزون عن خلق ذرة، أين يذهب بعقول بني الإنسان؟
لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا [النحل:20]، صغر أو كبر، قل أو كثر، وَهُمْ [النحل:20] أنفسهم يُخْلَقُونَ [النحل:20]، أي: مخلوقون. فالآية تنفر التنفير الكامل من الإقبال على غير الله في طلب حاجة، وأن من له حاجة لا يطلبها إلا من الله، أما مخلوقاته فإنها لا تملك شيئاً.
والدعاء يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الدعاء هو العبادة )، لأن العبادة: ذل وخوف وخشوع وخضوع وطمع ورغبة، تتجلى هذه كلها في الدعاء، إذا رفع المرء يديه يدعو تقول عنه:
أولاً: هذا فقير محتاج، ولولا أنه افتقر واحتاج ما رفع كفيه.
ثانياً: الذي رفع يديه إليه غني، عليم، حكيم، قادر على أن يعطيه.
ثالثاً: حين يناديه: يا رب! يدل على أنه موقن أن الله يسمع صوته ويعرف حاجته وفقره، ويقدر على أن يعطيه، يدل هذا على أنه ما رأى غير الله أبداً يقضي حاجته، وإلا لقال هكذا بيديه أو هكذا إلى اليمين أو الشمال، لكن هكذا فقط يرفعها إلى العلو، فلهذا كان الدعاء مخ العبادة، العبادة إذا سلب منها الدعاء ماتت، والدعاء هو العبادة.
فها هو ذا تعالى ينفرهم من دعاء غيره ويصرفهم عنه بالدليل فيقول: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [النحل:20]، كلمة: (من دون اللَّه) يدخل فيها كل مدعو، لا الملائكة، ولا الأنبياء، ولا الرسل، ولا الأصنام، ولا الأحجار، ولا الأولياء، ولا كل مدعو غير الله، إذ حقاً وصدقاً -والله العظيم- لا يسمع دعاءك ويعرف حاجتك ويقضيها لك إلا الله، فلا تلتفت إلى غير الله، وضل الذين يدعون الأصنام والأحجار والقبور، المسيحيون الآن ماذا نقول عنهم؟
ما زالوا كالبهائم يعلقون الصلبان في أعناقهم ويدعونها ويحلفون بها ويستغيثون بها، أين العقول؟ هل يعرفون عن عيسى ما نعرف نحن؟ عيسى بن مريم عليه السلام من ديار القدس، كان بكلمة التكوين (كن) فكان، عبد الله ورسوله، كيف يعبد؟ كيف نرفع صوتنا: يا روح الله! وندعوه ونستغيث به؟
المهم: أن الشياطين هي التي تقلب هذه القلوب وتتحكم فيها -والعياذ بالله تعالى- فتصرفها عن الحق.
أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ [النحل:21]، لأن المعقول أن الميت لا يسأل حاجة؟ هل هناك من يقف أمام ميت يقول: أعطني شرابًا، أو أسلفني كذا درهمًا، أو أنقذني من كذا؟ ما هو بمعقول أبداً ولا يفعلها البشر، لكن لما زين الشيطان لهم عبادة القبور والأشجار والأحجار صاروا يدعونها وهم لا يسمعونهم ولا يشعرون بدعائهم: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النحل:21]، أي: الوقت الذي يبعثهم الله فيه للحساب والجزاء ما يدرون عنه ولا يعرفون، فكيف يُعبدون؟ كيف يدعون؟ كيف يستغاث بهم؟ كيف يسألون؟
هذا خبر: إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [النحل:22]، فمن ينقضه بأن يثبت إلهًا آخر مع الله، كيف ينقض؟ ومن ينقضه بأن يقول: لا إله؟ من قال: لا إله؛ فهو أحمق، مجنون، كذاب، مبطل، لا يعرف شيئاً، كيف يكون مخلوقًا ويقول: لا خالق؟! المخلوقات بين أيدينا ننظر إليها ونعيش معها ونقول: لا خالق؟! من يقول: لا خالق؟!
إذاً: الخالق اسمه الله، فهيا بنا نعبده، نؤلهه، فيصبح إلهنا الحق، لا إله لنا غيره: إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [النحل:22]، هذه الكلمات كان لها ضوؤها على نفوس العرب، وعلى ضوئها اهتدت وآمنت ورفعت راية لا إله إلا الله إلا الله: إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [النحل:22] لا ثاني له.
إن قضية من القضايا كهذه لا يصح نقضها بحال من الأحوال، أما بأنه لا إله فهذا مستحيل، يستحيل أن تكون الخليقة لا خالق لها. وأما أن يكون إله ثان مع الله وثالث فهذا مستحيل أيضاً، وكيف لا والله الخالق يخبر عن نفسه ويقول: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19]، وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [البقرة:163]، يا بني البشر.. يا بني آدم!
واسمعوا ما قال تعالى: فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ [النحل:22]، ما لهم؟ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [النحل:22]، قلوبهم منكرة للحق، منكرة للمعروف، منكرة للخير، منكرة للتوحيد، منكرة للإيمان والعياذ بالله.
إذاً: قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [النحل:22]، والحال أنهم مستكبرون، والمستكبر لا يركع، هل المستكبر يعدل عن صنمه أو حجره ويقول بما قال فلان أو فلان؟ إنه لا يقبل أبداً، فالكبر من شر الأدواء وأخطرها، وحسبنا أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم : ( إن الله لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر )، إذا وجدت هذه الذرة فصاحبها لا يعرف الله، أبداً لا يذل ولا يتصاغر أمام الله؛ لوجود هذه العلة: (وهم مستكبرون) والعياذ بالله.
فسبحان الله! قالت العلماء: الذنوب تستطيع أن تخفيها، إلا الكبر فإنه لا يخفى، ما يغطى ولا يستر، المصاب به لا يستطيع أن يستره، كل العيوب يمكن تغطيتها إلا الكبر -والعياذ بالله- فإنه لا يستر أبداً ولا يخفى على أحد، فالمستكبر هو الذي لا يستجيب للدعوة أبداً ولا يقبلها.
لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ [النحل:23] من عبادات وما يظهرونه من اعتقادات وما يعلنون عنه من عبادات وما يتركونه، الكل معلوم لله، ويجزي به، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ [النحل:23].
معاشر المؤمنين والمؤمنات! هذا الداء خطير، فلنجاهد أنفسنا حتى لا نرى أبداً في منظر متكبر، لا في الكلمة ولا في النظرة ولا في الحركة، ولا في المشي ولا في الركوب ولا في القعود؛ لأن الكبرياء لله، ومن نازع الله في كبريائه قصم ظهره وأهلكه، لا بد من التواضع واللين والانكسار والعطف والرحمة، أما الطغيان والتعالي والتجبر فمن صفات غير الصالحين.
وهذا يتناول أول ما يتناول النضر بن الحارث عليه لعائن الله، إذ هو الذي رفع يديه إلى الله وقال: اللَّهُمَّ [الأنفال:32]، يا الله، إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال:32]، حتى لا نشاهد محمدًا ينتصر، ولا دينه يقبل ويستجاب له، هذا من شر الكبر، هو الذي يقول: أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [النحل:24]
وأعجب من هذا: أنه جمع بعضًا من قصص فارس والروم وكان يجمع الناس، يقول: تعالوا أقرأ عليكم وأسمعكم خيرًا مما يسمعكم محمد صلى الله عليه وسلم.
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ [النحل:24]، يا عرب.. يا أهل مكة! يقولون: أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [النحل:24]، ما هناك غيرها!
فليحذر المؤمن والمؤمنة أن يبتدع بدعة ضلالة فيقلده الناس فيعملون بما سن لهم وابتدع؛ فإنه يتحمل الوزر كله، والذين يدعون إلى الخير بالمعروف يثابون على كل ما دعوا به وطلبوه؛ فلهذا يجب أن نتفطن لهذه القضية، أنت في بيتك، في قريتك، في سوقك، احذر أن تبتدع بدعة أو تسن سنة سيئة؛ خشية أن يعمل بها غيرك فتحمل أنت الوزر وهو لا ينقص من وزره شيء، ومن استطاع منا أن يعلم الناس الهدى ويعرفهم بالخير، وينشر بينهم الفضيلة فليفعل فإن أجور ذلك لا حد لها، كل الذين يحصلون عليه من الأجر تحصل أنت عليه أولاً، من غير أن ينقص من أجورهم شيء.
هكذا قال تعالى: لِيَحْمِلُوا [النحل:25] بعد قولهم: (أساطير الأولين)، أي: صرفوهم عن الإسلام والتوحيد والإيمان إلى الكفر والشرك ليحملوا أوزار الكفر والشرك وهم لا يشعرون، هذه لام العاقبة: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [النحل:25]، ألا ساء ما يحملون من تلك الآثام والجرائم والموبقات، من الشرك والكفر وما يترتب على ذلك من العذاب والشقاء والعياذ بالله تعالى.
يقول تعالى: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النحل:21]، أيضاً، إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [النحل:22]، والعياذ بالله، لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ [النحل:23]، من كان في قلبه ذرة كبر يجب أن ينتزعها، يجب أن يتخلى عنها، يجب أن يبتعد عنها، ولو أدى ذلك إلى أن يهاجر من مكان إلى مكان، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر )، لأن الكبر مرض يمنع من الاستجابة للخير وقبول المعروف وعبادة الله.
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ [النحل:24]، يقولون ماذا؟ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [النحل:24]، خرافات وضلالات فقط، ومن مظاهر ذلك شخص يدرس كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيسأل شخص شخصًا آخر: من هذا الذي يدرس؟ يقول له: هذا خرافي، فيصرفه حتى لا يحضر الدرس، وآخر يدرس الهدى، يسأله عنه فيقول: هذا وهابي فيصرفه، هؤلاء يحملون أوزارهم يوم القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل:25].
في هذا السياق مواجهة صريحة للمشركين ] الذين كانوا بمكة، والموجودون اليوم بالعالم [ بعد تقدم الأدلة على إشراكهم وضلالهم ] لأنهم يدعون غير الله ويعبدون غير الله [ فقوله تعالى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [النحل:20]، أي: تعبدونهم أيها المشركون. أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ [النحل:21]، أي: هم أموات إذ لا حياة لهم، ودليل ذلك أنهم لا يسمعون ولا يبصرون ولا ينطقون ] بأي لغة فهم أموات.
[ وقوله: وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النحل:21]، أي: لا يعلمون متى يبعثون، كما أنكم أنتم أيها العابدون لهم لا تشعرون متى تبعثون، فكيف تصح عبادتهم وهم أموات ولا يعلمون متى يبعثون للاستنطاق والاستجواب والجزاء على الكسب في هذه الحياة الدنيا؟ ].
هذه علة البعث: وهي أنهم يبعثون للاستنطاق والاستجواب والجزاء على الكسب في هذه الحياة.
[ وقوله: إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [النحل:22]، هذه النتيجة العقلية التي لا ينكرها العقلاء، وهي أن المعبود واحد لا شريك له، وهو الله جل جلاله، إذ هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت ذو الصفات العلا والأسماء الحسنى، وما عداه فلا يخلق ولا يرزق ولا يدبر ولا يحيي ولا يميت، فتأليهه سفه وضلال.
وبعد تقرير ألوهية الله تعالى وإثباتها بالمنطق السليم قال تعالى: فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [النحل:22]، ذكر علة الكفر لدى الكافرين والفساد عند المفسدين، وهي تكذيبهم بالبعث الآخر -أي: بيوم القيامة- إذ لا يستقيم عبد على منهج الحق والخير وهو لا يؤمن باليوم الآخر يوم الجزاء على العمل في الحياة الدنيا، فأخبر تعالى أن الذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة لكل ما يسمعون من الحق الذي يدعو إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبينه آيات القرآن الكريم، وهم مع إنكار قلوبهم لما يسمعون من الحق مستكبرون عن قبول الحق والإذعان له.
وقوله تعالى: لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ [النحل:23]، أي: حقاً أن الله يعلم ما يسر أولئك المكذبون بالآخرة وما يعلنون، وسيحصي ذلك عليهم ويجزيهم به لا محالة في يوم كانوا به يكذبون، ويا للحسرة.. ويا للندامة!
وهذا الجزاء كان بعذاب النار متسبب عن بغض الله للمستكبرين وعدم حبه لهم.
وقوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [النحل:24]، يخبر تعالى عن أولئك المنكرة قلوبهم للوحي الإلهي وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، هؤلاء المستكبرون كانوا إذا سئلوا عن القرآن من قبل شخص يريد أن يعرف ممن سمع بالدعوة المحمدية فجاء من بلاد يتعرف عليها يقولون: أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [النحل:24]، أي: أخبار كاذبة عن الأولين مسطرة عند الناس فهو يحكيها ويقول بها، وبذلك يصرفون عن الإسلام ويصدون عن سبيل الله.
قال تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ [النحل:25]، أي: تبعة آثامهم وتبعة آثام من صدوهم عن سبيل الله كاملة غير منقوصة يوم القيامة، وهم لا يعلمون ذلك، ولكن الحقيقة هي: أن من دعا إلى ضلالة كان عليه وزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزار من عملها شيء، وكذا من دعا إلى هدى فله أجر من عمل به من غير أن ينقص من أجر العامل به شيء.
وقوله تعالى: أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [النحل:25]، أي: قبح الوزر الذي يزرونه فإنه قائدهم إلى النار موبقهم في نار جهنم ]، والعياذ بالله.
وقد قلت: كم من إنسان يسأل آخر: ماذا تقول في الشيخ الفلاني أو في الدرس الفلاني؟ فإذا كان صاداً يقول: هذا الشيخ خرافي؛ حتى لا يسمع كلامه، وآخر يقول: هذا الشيخ وهابي -كما تسمعون- ليصرفوا الناس، والله إن هذا لصرف للناس، ووالله لا يجوز هذا ولا يحل بحال من الأحوال.
ومن الأوزار التي يحملها المرء يوم القيامة أوزار البدع، كالذين يقولون: نحن نطلب الشفاعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: يا رسول الله .. يا رسول الله! اشفع لنا؟
فنقول: هل كان أحد من أصحاب رسول الله يأتي إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: يا رسول الله! اشفع لي؟
لما غضبت فاطمة الزهراء على أبي بكر في قضية الإرث وقالت: منعتني إرثي -وأبو بكر ما منعها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة )- فهل استطاعت أن تأتي إلى قبر أبيها وتقول: يا رسول الله، يا أبت اشفع لي؟ كان هذا هو المفروض، لكنها والله ما نادته، ولا رفعت صوتها عنده، ولا قالت: يا رسول الله، أو: يا أبي.
إن الأزمة الشديدة تكونت من الثالوث، وقد جاء الظالمون ليذبحوا خليفة رسول الله في غرفته، في عليته، والبلاد في هيجان، فلم ما جاءوا إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله! اشفع لنا، أو: ادع الله لنا أن ينقذنا من فتنتنا؟ والله ما كان ولن يكون، فكيف إذًا يجوز أن نقول للميت: يا فلان اشفع لي؟ هذا جهل مركب، بسبب أنهم ما عرفوا أنه لا يسمع النداء ويجيب إلا الله.
فأرواح المؤمنين في الملكوت الأعلى، وأرواح الكافرين في الملكوت الأسفل، وإن كان هناك اتصال دائم بين الروح والقبر، كهذه الآلات الجديدة: اللاسلكي، لكن أما تستحي من الله فتقبل على عبد من عباده تقول: يا فلان وتنسى الله عز وجل؟ أتشك في قدرة الله وعلمه ورحمته؟ ولهذا كان الشرك من أعظم أنواع الكفر والعياذ بالله تعالى.
أولاً: بطلان الشرك وتقرير التوحيد ]. خلاصة الآيات هذه: بطلان الشرك وتقرير التوحيد، فيا أهل لا إله إلا الله! زادكم الله قوة ونصراً، ويا أهل الباطل! زادكم الله هزيمة وكسراً.
من أين أخذنا هذا؟
من قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ [النحل:20-21].
قال: [ ثانياً: التكذيب باليوم الآخر والبعث والجزاء هو سبب كل شر وفساد يأتيه العبد ]، كثيرًا ما أقول: قد تضطر إلى أن تنام إلى ثعبان هو عند رأسك أو حية وتأمن إن شاء الله، ولا تأمن أن تنام إلى جنب من لا يؤمن بيوم القيامة، متى احتاج إليك أكلك، إذ ما عنده ما يمنع من فعل الشر أبداً، الذي يفقد الإيمان بيوم القيامة والجزاء وما يتم فيه من النعيم المقيم والعذاب الأليم؛ صاحب هذا الكفر لا خير فيه بالمرة ولا يوثق فيه ولا يعول عليه، هل فهم هذا العالم الإسلامي؟ لو فهموه لعرفوا الكفرة فلا يثقون فيهم ولا يعولون عليهم.
أقول: الذي يخلو قلبه من عقيدة أنه سيقف يوماً بين يدي الله فيسأله ويستنطقه ثم يجزيه إما بالنعيم وإما بالعذاب، من خلا من قلبه هذا فلا خير فيه أبداً ولا يعول عليه، وما يفعل من الشر أيضاً لا يلام عليه.
قال: [ ثالثاً: التنديد بجريمة الاستكبار عن الحق والإذعان له ]، من أين أخذناه؟
من قوله تعالى: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ [النحل:23]، ومن كان يا أبنائي في قلبه قليل منه فلينزعه وليتطامن وليذعن لله ولا يتكبر عن الله ولا عن عبادته ولا عن عباده وخلقه.
قال: [ رابعاً: بيان إثم وتبعة من يصد عن سبيل الله بصرف الناس عن الإسلام ]، بيان تبعة وجريمة وإثم من يصد الناس عن سبيل الله، أي: عن الإسلام والعياذ بالله، ولهذا مكاتب وصحف وإعلام في العالم، كلهم يصدون عن سبيل الله، لا يريدون الإسلام. من أين أخذنا هذا؟
من قوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [النحل:24]، لماذا؟ ليصرفوا الناس عن الإسلام ورسول الإسلام، الآن الإعلام من أوله إلى آخر هذه مهمته، وهو كله من كيد الثالوث الأسود.
قال: [ خامساً: بيان تبعة من يدعو إلى ضلالة؛ فإنه يتحمل وزر كل من عمل بها ] وقد أخذنا هذا من قول الله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [النحل:25].
والله تعالى نسأل أن يطهرنا من الوزر والإثم وأن يجعلنا من عباده الصالحين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر