أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
تكلمنا في الدرس الماضي في إثبات أن كلام الله تعالى غير مخلوق، وأن الله تعالى متكلم ولا يزال متكلماً بما شاء وكيف شاء سبحانه وتعالى، لا ينتهي كلامه، وبينا ذلك من آيات الكتاب المبين.
ودرسنا في هذه الليلة في إثبات أن القرآن كلام الله تعالى، وأنه غير مخلوق من سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
فقال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب ما جاءت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه -أي: من المرفوع والموقوف- بأن القرآن كلام الله ].
في الدرس الماضي بعض الإخوة كتبوا إلي رسالة وقالوا: ما قيمة هذا الكلام؟ ما قيمة ذكر هذه الفتنة خاصة وأن الناس لا يعرفونها؟ وهذه حقيقة، وقد أتتني رسائل في الدرس الماضي بعد أن شرحت أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وبينت خطر القول بخلق القرآن، لكن لا يزال الأمر غامضاً على بعض الناس، وقد سألوا عن خطورة القول بخلق القرآن، خاصة وأن بعض الوعاظ -كما ذكر بعض السائلين- يصعدون على المنابر يقولون: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الصيام والقرآن يشفعان لصاحبهما، فأما الصيام فيقول: أي رب! أظمأت نهاره فشفعني فيه، وأما القرآن فيقول: أي رب! أسهرت ليله فشفعني فيه)، ويسأل عن صحة الحديث.
الحديث صحيح، لكن بدون لفظة: (وقال القرآن أي رب!) القرآن ما قال ذلك، ولكن الحديث: (الصيام والقرآن يشفعان لصاحبهما يوم القيامة، أما الصيام فيقول: أي رب!)؛ لأن الصيام مخلوق، والصيام فعل العبد، وأفعال العباد مخلوقة، (فيقول الصيام: أي رب! أظمأت نهاره فشفعني فيه، وأما القرآن فيقول: أسهرت ليله فشفعني فيه) ولم يقل القرآن: أي رب!
ومن الخطأ الفادح فعلاً قول بعض الأئمة أو الخطباء في هذا الحديث: أي رب!، كما أن من الخطأ الشائع على ألسنة الناس إذا أراد أن يقسم يميناً مغلظاً أخذ القرآن بيمينه وقال: (ورب هذا القرآن) فجعل القرآن مربوباً، والمربوب مخلوق، فهذا يمين خطأ في الاعتقاد، ولا يصح؛ لأن القرآن ليس مربوباً، ولو كان مربوباً لكان حادثاً، ولو كان حادثاً للزم أن نقول: إن الله لم يكن متكلماً حتى خلق لنفسه الكلام، كما أنه لا بد أن يفنى إذا كان حادثاً؛ لأن كل حادث يطرأ عليه الفناء لا محالة.
ولذلك قامت مناظرة في زمن المعتصم في مجلسه، وكانت في فتنة خلق القرآن، وكان الذي تولى كبرها عالم من علماء السلطة في ذلك الزمان يسمى أحمد بن أبي داود أو أحمد بن أبي دؤاد، ينطق هكذا وهكذا، وهو الذي وشى بالإمام أحمد عند الخليفة في زمن العباسيين وقال: إن أحمد يقول: إن القرآن ليس مخلوقاً وهو مخلوق؛ لأن القرآن شيء، والله تعالى خلق كل شيء، فلما كانت المناظرة بين الإمام أحمد وبين إمام الضلالة أحمد بن أبي دؤاد بين يدي المعتصم قال ابن أبي دؤاد : يا أحمد ! أليس القرآن شيئاً؟ قال: بلى. قال: أوليس الله تعالى خلق كل شيء؟ قال: بلى. قال: إذاً: القرآن مخلوق. فقال أحمد بن حنبل : يا ابن أبي دؤاد ! أليس القرآن شيئاً؟ قال: بلى. قال: أوليس الله تعالى قال: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف:25]؟ قال: بلى. قال: هل تقول: إن القرآن يدمر؟ -أي: يفنى ويزول- إذا قلت ذلك فقد كفرت، فسكت أحمد بن أبي دؤاد ولم يعر ابن حنبل جواباً.
وانتهت المناظرة وكل مسلم ومسلمة ينتظر هذه الصولة وهذه الجولة لمن تكون: لـأحمد بن حنبل أم لـأحمد بن أبي دؤاد ؟ فلما انهزم ابن أبي دؤاد ولم يعر أحمد بن حنبل جواباً انصرف الناس وقد كتبوا عن أحمد بن حنبل في هذه اللحظة: القرآن كلام الله غير مخلوق.
ولا زال أهل السنة إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة يعتقدون أن القرآن كلام الله غير مخلوق.
والقرآن هو كلام الله عز وجل، والمخلوق منا لم يكن متكلماً، فلما خلق الله له الكلام تكلم، والمخلوق منا جاهل، فلما خلق الله له العلم صار عالماً، والمخلوق منا جهول، فلما خلق الله الحلم صار حليماً، وغير ذلك من الصفات التي يتصف بها المخلوقين لم يكونوا يتصفون بها ابتداءً، فلما خلقها الله اتصفوا بها؛ ولذلك قال النبي عليه السلام: (إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم) فلم يكن المرء منا عالماً حتى خلق فيه العلم، ولم يكن حليماً حتى خلق فيه الحلم، وغير ذلك من سائر الصفات، لكن الله عز وجل ليس كمثله شيء وهو السميع البصير؛ ولذلك صفاته كلها غير مخلوقة.
الكلام صفة من صفات الله، فلو قلت إن الكلام مخلوق للزم من هذا القول أنه سبحانه لم يكن قادراً على الكلام حتى خلق لنفسه الكلام فصار متكلماً بعد أن لم يكن متكلماً، وهذا بلا شك فيه نسبة النقص إلى الله عز وجل، وهذا محال ومنتف في حق الله عز وجل؛ لأن الله تعالى متصف بكل صفات الكمال والجلال أزلاً وأبداً، متصف بها دائماً بلا ابتداء ولا انتهاء، فالقول بأن الكلام مخلوق والعلم مخلوق، والحلم مخلوق، والحكمة مخلوقة، وغير ذلك من سائر صفات المولى عز وجل لا شك أنه كفر بواح.
ثم كل مخلوق حادث، والفناء يطرأ على جميع المحدثات، فلو أني قلت: إن كلام الله تعالى مخلوق لكان لزاماً أن أقول: بأنه لم يكن ثم كان، أي: حادث ومربوب ومخلوق، وكل مربوب لا بد أن يفنى ويبقى الرب تبارك وتعالى، فحينئذ نقول: إن هذا القرآن لا بد أن يفنى، وأن يطرأ عليه الفناء والزوال، بمعنى: أن الله تعالى وإن كان متكلماً إلا أن العجز سيلحقه بعد ذلك، وهذا كفر بواح.
ثم إن القرآن الكريم اشتمل على أسماء الله تعالى وصفاته، فإذا قلنا: بأن كلام الله مخلوق لكان لزاماً أن نقول: وكذلك ما في هذا الكلام من أسماء وصفات فإنها كذلك مخلوقة، وذلك لأن القرآن إذا كان مخلوقاً فإن الله تعالى لم يكن متكلماً ولا عالماً، فلم يتكلم حتى خلق لنفسه الكلام والعلم والقدرة، فحينئذ لابد أن نقول: إن جميع الصفات مخلوقة.
وكأننا نقول: إن جميع هذه الصفات ستزول. وإن قالوا: ويبقى الرب فكيف يتصور بقاء الرب بغير صفة وبغير اسم؟ وقلنا في الدروس الماضية: إن الله تبارك وتعالى ذات متصفة بصفات، فإذا نفينا الصفات عن الله عز وجل فكأننا نقول: الله ذات بلا صفات، وهذا القول يساوي القول بأن (لله عدم)؛ لأنه لا يتصور ذات بغير صفات، وهذا بلا شك كفر بواح.
هذا بعض مخاطر القول بأن القرآن مخلوق، فضلاً عن أن الله تبارك وتعالى أثبت لنفسه الصفات أزلاً وأبداً، ولم يكن منها شيء مخلوق، وأثبتنا ذلك من كتاب الله عز وجل فيما يتعلق بكلام الله تعالى.
وهذا الشاهد: (فإن قريشاً منعوني أن أبلغ كلام ربي). إذاً: الرب يتكلم؛ ولذلك كان من بعض حجج أهل التوحيد على أهل الشرك وعباد الأصنام: أنهم كانوا يقولون لهم: أتعبدون أصناماً لا تتكلم ولا تعي ولا تعيركم جواباً ولا ولا ولا؟
وثبت في السنة أن أم سليم لما هلك زوجها مالك بن النضر والد أنس بن مالك رضي الله عنه تقدم لها أبو طلحة ، فقالت: يا أبا طلحة ! مثلك لا يرد، ولكنك رجل مشرك وأنا امرأة مؤمنة، يا أبا طلحة ! أتعبد أصناماً لا تسمع ولا تعقل ولا تتكلم؟ ولا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً؟ قال: يا أم سليم ! أنظريني ثلاثة أيام -أي: أعطيني مهلة ثلاثة أيام لأنظر في كلامك هذا- فأتاها بعد ثلاث وقال: يا أم سليم ! جزاك الله خيراً، لقد فكرت في كلامك فوجدت أنه شرك، وأن ما أنت عليه توحيد وإيمان. قالت: اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فآمن بين يديه، فذهب وأعلن إسلامه، ثم أتى إليها وقال: يا أم سليم ! هل لك في نكاحي؟ قالت: نعم. ومهري إسلامك، فلم تأخذ شيئاً في صداقها غير إسلام أبي طلحة ، فكانت أم سليم تفاخر النساء. تقول: زوجكن آباؤكن على الدينار والدرهم وتزوجت على الإسلام، وهو بلا شك شرف عظيم جداً، وأثمن مهر، ويكفي أنه سبب للعتق من النار ودخول الجنة.
فقوله: (فإن قريشاً منعوني أن أبلغ كلام ربي) فيه إثبات أن الرب تبارك وتعالى يتكلم.
وأنتم تعلمون حديث عائشة رضي الله عنها: (أن الوحي كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في الليلة شديدة البرد، فما ينفصم عنه الوحي إلا وهو يقطر عرقاً) عليه الصلاة والسلام من شدة الوحي.
وكذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يتغير لونه تماماً إذا نزل عليه الوحي، فكان وجه يصفر أو يحمر، وذلك من شدته عليه عليه الصلاة والسلام، فكذلك يصعق الملائكة جميعاً [ (حتى يأتيهم جبريل، فإذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم -أي: كشف عنهم الفزع- فيقولون: يا جبريل! ماذا قال ربك؟ -وفي هذا إثبات أن الرب يتكلم- قال: يقول الحق) ] قول الله تعالى هو الحق، وقوله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. قال: [ (فينادون: الحق الحق) ]. أي: فيتنادون فيما بينهم: الحق الحق، أي: تكلم الله تعالى بالحق، تكلم الله تعالى بالحق.
ومصداق ذلك في قوله تعالى: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23].
وله شاهد من حديث أبي هريرة في صحيح البخاري : أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير)، فوصفوا كلام الله تعالى بأنه قول الحق.
أما المرفوع: (القرآن كلام الله) وأما الموقوف فقول ابن مسعود : من قال غير ذا أي: من قال غير أن القرآن كلام الله فقد كفر.
وأما قوله: (إنما هما اثنتان) من قول ابن مسعود ، فالكلام هو كلام الله عز وجل وهو أحسن الكلام، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
قال: [ (ألا وإياكم -أسلوب تحذير- ومحدثات الأمور، فإن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) ].
قال البيهقي : والظاهر أن ابن مسعود أخذ هذا من النبي صلى الله عليه وسلم، أي: أخذ هذا القول: (إنما هما اثنتان الكلام والهدي) من النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن حجر : هكذا رأيت هذا الحديث في جميع الطرق موقوفاً على ابن مسعود. وقد ورد بعضه مرفوعاً من طريق أبي الأحوص عن ابن مسعود وأخرجه صاحب السنن، وجاء أكثره مرفوعاً من حديث جابر ، وهو عند مسلم وأبي داود والنسائي وأحمد وابن ماجه ، وذكر الحافظ هذا في الفتح.
ثم قال في شرحه للحديث في كتاب (الاعتصام) أن هذا الحديث له حكم الرفع؛ لأن هذا الكلام لا يقال من قبل الرأي، أي: لا مدخل للرأي فيه، فلا بد أن يكون مستنده المعصوم عليه الصلاة والسلام.
ولذلك قال: لأن فيه إخباراً عن صفة من صفاته صلى الله عليه وسلم، وهو أن هديه خير الهدي، وهو أحد أقسام المرفوع. وقل من نبه على ذلك.
وأما حديث جابر المرفوع في صحيح مسلم : (إنما هي اثنتان: الكلام والهدي) فهو كذلك في باب تخفيف الصلاة والخطبة من كتاب الجمعة عند الإمام مسلم .
[ عن فروة قال : قال خباب بن الأرت وأقبلت معه من المسجد إلى منزله فقال: إن استطعت أن تقرب إلى الله عز وجل فإنك لا تقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه ].
خباب بن الأرت ينصح فروة بن نوفل من التابعين: إذا أردت يا فروة ! أن تتقرب إلى الله فليس هناك أحب إلى الله عز وجل من كلامه أن تتقرب به إليه، من تلاوته وتعظيمه وتشريفه والعمل به، والدعوة إليه، وغير ذلك.
[ قال ابن أبي العوام: اشهدوا عليَّ أن ديني الذي أدين الله عز وجل به: أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن من زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر، وهذه كانت مقالة أبي ]. فهذا قول ابن مسعود وابن أبي العوام ، وكذلك قول أبي العوام نفسه.
قال: [ عن فروة بن نوفل الأشجعي قال: كنت جاراً لـخباب فقال: يا هناه -أي: يا صاحبي أو يا صديقي- تقرب إلى الله ما استطعت، فإنك لن تتقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه ] سبحانه وتعالى.
[ قال أبو عبد الرحمن - أبو عبد الرحمن السلمي الذي روى ذلك عنه-: فذلك الذي أقعدني مقعدي هذا ]. أي: طلبي لأن أكون من خير خلقه هو الذي جعلني أتعلم القرآن وأعلمه إياكم مما أجلسني في هذا المكان، طلباً للخيرية والرفعة.
قال: [ فذلك الذي أقعدني مقعدي هذا. وكان يعلم القرآن في مسجد الكوفة أربعين سنة ]. أبو عبد الرحمن السلمي الكوفي كان يعلم القرآن في مسجد الكوفة الكبير أربعين سنة طلباً للخيرية.
وفي هذا بيان استحباب أن يعوذ الرجل أولاده أو المرأة أولادها، خاصة عند الصباح وعند المساء حتى لا يمسه الشيطان لا في نهاره ولا في ليله، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ حسناً وحسيناً رضي الله عنهما، ويقول: [ (أعيذكما بكلمة الله التامة من كل شيطان وهامة، وشر كل عين لامة، ثم يقول: هكذا كان إبراهيم يعوذ اسماعيل وإسحاق) ] يعني: كان إبراهيم يعوذ بنفس هذه الكلمات ولديه إسماعيل وإسحاق.
قال: (أعيذكما بكلمة الله التامة) الكلمة التامة هي كلمة التوحيد: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً رسول الله.
أما الكلمة التامة في زمن إبراهيم عليه السلام فهي: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن إبراهيم رسول الله عليه الصلاة والسلام)، إذ لم يكن محمد عليه الصلاة والسلام قد بعث في ذلك الوقت، فكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام يعوذ إسماعيل وإسحاق بكلمة التوحيد، وكذلك النبي عليه الصلاة والسلام كان يعوذ الحسن والحسين ويقول: (أعيذكما بكلمة الله التامة من كل شيطان وهامة، وشر كل عين لامة) أي: التي تلم الفساد، من اللم: وهي التي تجمع أنواع الشرور والفساد.
والغالب أن من تعوذ بـقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1] يجمع معهما سورة الإخلاص وهي: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4]، وهي السورة الوحيدة في القرآن الكريم التي اشتملت كل آياتها على توحيد الله عز وجل، فكل سور القرآن ربما تجد فيها الأمر بالتوحيد وقد لا تجد، وربما تجد فيها أحكاماً حلالاً وحراماً، أخلاقاً وآداباً، لكن سورة الإخلاص هي التي تكلمت عن التوحيد من أولها إلى آخرها، وقالوا: هذه السورة هي نسب الله عز وجل.
وقد جاء في الأثر: (أن قريشاً أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا محمد! انسب لنا ربك) فأخذوا على نسب آلهتهم التي يعبدونها من دون الله، فلو أنهم سئلوا: انسبوا لنا اللات أو العزى لاستطاعوا نسبة آلهتهم؛ لأنها من حجر أخذوه من جبل كذا، والذي صنعه ونحته وجعله على هذه الصورة فلان بن فلان، والذي حمله من مكان كذا إلى مكان كذا هو فلان بن فلان، وتم صنعه في ساعة كذا وفي يوم كذا، وتم تنصيبه وعبادته في ساعة كذا، وأول من عبده فلان، وهكذا يستطيعون أن ينسبوا آلهتهم.
ولذلك أجروا عادتهم مع آلهتهم مع النبي عليه الصلاة والسلام: (انسب لنا ربك) فنزل قول الله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص:1-2] الذي تلجأ الخلائق كلها إليه سبحانه وتعالى رغم أنوفهم في سرائهم وضرائهم، حتى المشرك يلجأ إليه في وقت الضر، فإذا كشف عنه الضر رجع لعبادة الأصنام، وهذا دليل فطري أنه لا يكشف الضر ولا يسوق النفع إلا الله عز وجل، علم ذلك المشركون، اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ [الإخلاص:2-3]، ليس أباً لأحد، وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:3]، ليس ابناً لأحد، فليس له ولد ولا والد، هذا نسب الله عز وجل.
عن عائشة : (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات).
فإذا كان القرآن مخلوقاً فكيف يتعوذ به النبي صلى الله عليه وسلم؟
قال: [ ويتعوذ هو عليه الصلاة والسلام بمخلوق ويأمر أمته أن يتعوذوا بمخلوق مثلهم؟ ] هذا كلام عظيم جداً وافتراء عليه صلى الله عليه وسلم.
قال: [ وهل يجوز أن يعوذ إنسان نفسه أو غيره بمخلوق مثله؟ ] يعني: هل أقول: أعوذ بنفسي من شر ما نزل بي؟ هل يصح ذلك؟ الجواب: لا يصح؛ لأني مخلوق، لا يصح التعوذ بالمخلوق، ولا أقول: أتعوذ بـالبدوي أو بـالحسين أو بالسيدة أياً كانت السيدة، أو غير ذلك من سائر وسائل الشرك التي يقع فيها كثير من الخلق، فهذا كله من الأعمال الشركية، والتوسل غير المشروع، فيقول: أعيذ نفسي بالسماء، السماء لا ترقى، بالجبال؟ بالأرض؟ بالأنهار؟ بالبحار؟ بالأنبياء؟ بالعرش؟ بالكرسي؟ كل ذلك مخلوق أم لا؟ كل ذلك مخلوق، هل سمعنا أحداً تعوذ بالسماء أو تعوذ بالأرض أو الجبال؟ ما سمعنا ذلك، أو بالكرسي والعرش؟ ما سمعنا ذلك.
قال: [ وإذا جاز أن يتعوذ المخلوق بمخلوق مثله فليعوذ نفسه وغيره بنفسه فيقول: أعيذك بنفسي ]، وإذا كان لأحد أن يعوذ بنفسه فليس هناك أفضل من النبي عليه الصلاة والسلام، وليس هناك أشرف مخلوق منه عليه الصلاة والسلام؛ ومع ذلك ما كان يعوذ أحداً بنفسه، وإنما كان يقول: (باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، الله يشفيك، باسم الله أرقيك)، ولم يقل: أعيذك بنفسي، وكان يعوذ الحسن والحسين بكلمات الله التامة، ولم يكن يعوذهما بنفسه، فلو كان التعوذ بالمخلوق جائزاً لكان من أفضل الأعمال والقربات أن يعوذ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بنفسه؛ لأنه أشرف مخلوق، فلما لم يكن ذلك منه دل على حرمة التعوذ بالمخلوقات جميعاً وإن عظمت كالسماء والأرض والجبال والأنبياء والملائكة وغير ذلك، كما أن التعوذ بالقرآن تعوذ بغير مخلوق؛ وذلك لأننا نفينا مشروعية التعوذ بالمخلوقين، وثبت التعوذ بالقرآن الكريم إذاً: القرآن غير مخلوق. هذا الذي يريد أن يذهب إليه الإمام.
قال: [ عن عبد الله بن مرة عن أبي كنف عن عبد الله بن مسعود أنه سمع رجلاً يحلف بسورة البقرة فقال: أما إن عليه بكل آية منها يميناً ]. يعني: قد حلف (286) يميناً؛ لأنه حلف بسورة البقرة فقط، وهي: (286) آية، قال: عليه (286) كفارة إذا كان حانثاً في هذا اليمين، وإذا لم يكن حانثاً فلا شيء عليه.
وقد أورده كذلك الإمام اللالكائي في كتاب أصول الاعتقاد من طريق حنظلة بن خويلد العنزي قال: أخذ عبد الله بن مسعود بيدي فلما أشرفنا على السدة -أي: وصلنا إلى الباب- إذ نظر إلى السوق فقال: اللهم إني أسألك خيرها وخير أهلها.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل هذا السؤال إذا نزل قرية، قال: (اللهم إنا نسألك خير هذه القرية وخير ما فيها ومن فيها، ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها ومن فيها).
وكذلك قد ثبت في السنة: أن شر البقاع الأسواق، وخير البقاع المساجد. قال ابن مسعود لما أشرف على باب السوق: اللهم إني أسألك خيرها وخير أهلها، وأعوذ بك من شرها وشر أهلها، قال: فمر برجل يحلف بسورة من القرآن، فقال ابن مسعود : أما إن عليه بكل آية منها يميناً.
قال: [ عن الحسن -وهو من مراسيل الحسن - قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف بسورة من القرآن فبكل آية منها يمين) ]، ولا شك أن مراسيل الحسن ضعيفة، لكن عمل بمقتضى هذا النص سلف الأمة ومنهم عبد الله بن مسعود ، ولم يعلم له مخالف من الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
وروي كذلك عن مجاهد مرفوعاً كما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، ثم قال البيهقي : هذا الحديث إنما روي من وجهين جميعاً مرسلاً: عن مجاهد وعن الحسن.
وروي عن ثابت بن الضحاك موصولاً مرفوعاً، لكن في إسناده ضعف، ثم ذكر حديث ابن مسعود السابق لهذا، ثم قال: فقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مع الحديث المرسل فيه دليل على أن الحلف بالقرآن يكون يميناً في الجملة، ثم التغليظ في الكفارة متروك بالإجماع.
[ عن إبراهيم وهو -النخعي- أنه كان يقول: من حلف بسورة من القرآن فبكل آية يمين ]. وهذا قد سبق.
وقول إبراهيم قد رواه كذلك موقوفاً عن ابن مسعود : من حلف بالقرآن فعليه بكل آية يمين، ومن كفر بحرف منه فقد كفر به أجمع. والحرف إما أنه بمعنى الآية من القرآن الكريم، أو بمعنى: طريقة النزول؛ لأن القرآن نزل على سبعة أحرف، فمن كفر بحرف منه فكأنما كفر بجميع الأحرف، أي: بالقرآن، وقد جاء من طرق متعددة موقوفة ومرفوعة أن فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه.
قال: [ لأن اسم الله غير مخلوق ]. وأسماء الله تعالى قد وردت في كتابه الكريم، والكتاب كله ليس مخلوقاً وكلام الله تعالى كله ليس مخلوقاً. إذاً: الأسماء الواردة في القرآن الكريم لكونه كلام الله ليس مخلوقاً، وكذلك بقية الأسماء الواردة في السنة.
قال: [ ومن حلف بالكعبة أو بالصفا والمروة فليس عليه الكفارة؛ لأنه مخلوق وذاك غير مخلوق ]. أي: أن أسماء الله غير مخلوقة، وما دون ذلك من الكعبة أو الصفا والمروة أو الأنبياء أو السماء أو الأرض أو الجبال أو غير ذلك من سائر المخلوقات فإنها مخلوقة ولا كفارة فيها، وبالتالي يلزم الحالف بها أن يتوب إلى الله عز وجل.
تعليقاً على كلام الشافعي رحمه الله: من حلف باسم من أسماء الله فحنث فعليه الكفارة -يعني: اسم الله غير مخلوق- ومن حلف بالكعبة أو بالصفا والمروة فليس عليه الكفارة؛ لأنه مخلوق وذاك غير مخلوق.
قال: حكى الربيع عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: من حلف بالله أو باسم من أسماء الله فحنث فعليه الكفارة، فإن قال: وحق الله وعظمة الله وجلال الله وقدرة الله، يريد بها اليمين أو لا نية له فهو يمين، ثم ذكر باقي الكلام.
قال: ولا يجوز الحلف بغير الله تعالى لما ورد في الحديث: أن ابن عمر سمع رجلاً يقول: لا والكعبة، فقال ابن عمر : لا يحلف بغير الله -أي: بغير الله وأسمائه وصفاته- فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك). وهذا بلا شك كفر عملي، أو شرك عملي؛ لأنه لو كان كفراً اعتقادياً فهو مخرج من الملة، فأنتم تعلمون أن يمين المصريين بالنبي صلى الله عليه وسلم عن بكرة أبيهم إلا من تعلم، سواء كانوا يقصدون به اليمين أو لا يقصدون، المهم أن يمينهم يسبقه الواو أو التاء أو الباء، وهذه أحرف القسم.
قال ابن عمر : سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك).
قال الترمذي : وفسر هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن قوله: (فقد كفر أو أشرك) على التغليظ، يعني: المراد بهذا النص ليس ظاهره وإنما هو التغليظ، والحجة في ذلك: حديث ابن عمر : أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (وأبي وأبي -كالمنكر على من قال ذلك- فقال: ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم) فمن الناس من يقول: ورحمة أبي، فيقال: ما دام قد حلف برحمة أبيه فهو صادق.
فإن قلت له: وإن حلف بالله؟ لقال: محتمل قد يكون صادقاً، وقد يكون كاذباً، وإن قلت له: فإن حلف بتربة أبيه؟ لقال لك: هي أعز من رحمة أبيه، فلا يمكن أبداً أن يكون كاذباً في هذا اليمين.
وهذا هو شأن العراقيين، فالعراقي يحلف بالله فيكون كذاباً، وإن حلف بشرف صدام وكان كاذباً فيه فمصيره الإعدام لا محالة، عجيب!
كان لدينا صاحب عام (1983)م في الأردن، أخذ سيارته وسافر إلى العراق، وجلس هناك فترة من الزمن، وجاء بدولارات معه، وكان يمنع خروج الدولارات في تلك الأيام من العراق، فجاء صاحبنا بحبل من الحبال المغلفة بالبلاستيك، ووضع مكان السلسلة دولارات، فكانت الدولارات داخل الغلاف البلاستيك غير ظاهرة؛ لأن الغلاف سميك، فخرج من العراق بسيارته، فأخبر عنه من أخبر أنه قد خرج بالدولارات -طبعاً هذه جريمة لا تغتفر- فتبعه أربعة من الضباط الكبار، فأدركوه على الطريق، فقالوا: معك دولارات؟ قال لهم: لا. ليس معي دولارات. قالوا: جنب السيارة. فجنب السيارة على اليمين، وأخذوا يفتشون السيارة شمالاً ويميناً، إلى أن فكوا العجلات وما وجدوا شيئاً، ونزعوا الكراسي وقطعوها قطعاً فما وجدوا شيئاً، فلما فتحوا شنطة السيارة أخذوا هذا الحبل ورموه على الأرض، واستمر التفتفيش ثلاث ساعات أو أربع ساعات وما وجدوا شيئاً. قالوا: أمعك دولارات؟ قال لهم: لا. قالوا: أتحلف بشرف صدام أنه ليس معك دولارات. قال لهم: إذا حلفت بشرف صدام أنه ليس معي دولارات؟ قالوا: إذا حلفت بشرف صدام سنتركك. فقال: وشرف صدام معي دولارات. قالوا: أين؟ قال لهم: في الخرطوم الذي رميتموه على الأرض، فأخذوا الخرطوم ومزقوه حتى أخرجوا الدولارات كلها، ولم يجرءوا قط أن يمسوه بأدنى أذى؛ لأن الذي سيتولى العقاب حينئذ هو صدام بنفسه، وصدام كان في ذلك الوقت يسمح إذا انتهك اليمين به أن يدخل المظلوم عليه شخصياً، فيقول المظلوم: لقد حلفت بشرفك للواء الفلاني، أو للوزير الفلاني فيعزله فوراً؛ لأنه حلف بشرفه، فانظر إلى أين وصلت الخيبة!
إذاً: لا يجوز الحلف إلا بالله وأسمائه وصفاته.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم) وفي الحديث عن أبي هريرة : أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من قال في حلفه: واللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله. لا كفارة له إلا ذلك)، فما دام قد وقع في نوع من الشرك فإنما ينجيه التوحيد.
ثم قال الترمذي : هذا مثل ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن الرياء شرك) والمقصود بالشرك: الشرك الأصغر.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ : ويكون من الكفر الذي هو دون الكفر الأكبر، كما هو من الشرك الأصغر.
وذكر الحافظ ابن حجر في الفتح خلاف العلماء في حكم من حلف بغير الله: هل هو للتحريم أو للكراهة أو للتنزيه؟ على ثلاثة أقوال، وأكثرهم: أنه للتحريم، فمن حلف بغير الله أكثر أقوال أهل العلم أن هذا اليمين يمين محرم، بل قال ابن عبد البر : لا يجوز الحلف بغير الله إجماعاً.
قال الحافظ : إن اعتقد في المحلوف فيه من التعظيم ما يعتقده في الله حرم الحلف به، وكان بذلك الاعتقاد كافراً، وعليه ينزل الحديث المذكور. أي: ظاهره.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) أي: كفراً أكبر وشركاً مخرجاً من الملة، إذا كان يعتقد في المحلوف به ما يعتقده في الله تعالى، كمن يعتقد أن البدوي يملك النفع والضر، فتقول له: إنه لا يملك لنفسه شيئاً. يقول: لا والله. إن البدوي يملك حمل المرأة، ويملك إسقاطها، ويملك النفع ويملك الضر، وهو الذي يحفظ الأرض، ويحفظ السماء، ويسير الجبال، فلو قال ذلك واعتقده في البدوي كفر ولا عذر فيه؛ لأنه من أصول الاعتقاد.
قال: وكان بذلك الاعتقاد كافراً وعليه ينزل الحديث المذكور، وأما إذا حلف بغير الله لاعتقاده تعظيم المحلوف به على ما يليق به من التعظيم -الذي يناسبه للبشر- فلا يكفر بذلك، ولا تنعقد يمينه، وهي محرمة.
ويقع في المعصية حيث حلف بغير الله، وقد جاء النهي عن ذلك كما سبق في الأحاديث؛ ولما جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) يعني: يسكت، والحديث أخرجه البخاري .
ولكن الإمام في الحقيقة يخالف جماهير العلماء الذين يقولون في هذه الآية: لا يَمَسُّهُ -أي: اللوح المحفوظ- إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79] يعني: الملائكة، والإمام بهذا يخالف، وكأنه يجمع الأدلة من هنا وهناك لإثبات صحة ما يقول، ونحن نعتقد صحة ما قال وما يقول بدون التكلف الذي تكلفه في تأويل قول الله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79].
وفي حديث محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر -وهو ابن عمرو بن حزم - قال: [(كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لجدي -أي:
وهذا الكتاب قد روي بطرق متعددة، وفي كل طريق منها ضعف، فمنهم من يثبته من جهة الإسناد ومنهم من يرده، وإن كانت الأمة أجمعت على وجوب العمل بهذا الكتاب؛ لأنه من قبيل الوجادة، والوجادة نوع من أنواع صيغ التحمل الثمانية التي منها: التحديث، والسماع، والإجازة، والعرض، وكذلك منها الوجادة، وصورة الوجادة: أن يجد الراوي كتاباً مكتوباً فيه شيء من العلم، بخط فلان يعرفه جيداً، ويثبت أن هذا من حديثه، فحينئذ لا يقول: سمعت ولا حدثنا ولا أخبرنا، وإنما يقول: وجدت في كتاب فلان قال: كذا وكذا، وهذه الوجادات موجود منها شيء ليس باليسير في مسند الإمام أحمد بن حنبل عن عبد الله بن الإمام : أنه وجد كتاباً في بيت أبيه. وهو يعرف أنه لأبيه، فقال: وجدت في كتاب أبي أنه قال: حدثنا فلان، ثم يذكر الإسناد ويذكر المتن.
فقول الراوي: وجدت في كتاب فلان؛ هذا يعبر عنه العلماء بالوجادة، فكذلك الكتاب الذي أرسله النبي عليه الصلاة والسلام لـعمرو بن حزم كتاب وجده أبو بكر بن عمرو بن حزم ، أو وجده موجهاً من النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمرو بن حزم ؛ فهو عند أهل العلم من باب الوجادة.
[ عن نافع عن ابن عمر : أنه كان لا يأخذ المصحف إلا طاهراً ]. أي: لا يمس المصحف إلا وهو على طهارة.
وفي الصحيحين من حديثه أيضاً: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو) وفي رواية زيد فيها: (مخافة أن يناله العدو)، والمقصود بالعدو هنا: العدو المحارب لا العدو المسالم؛ لأن العدو منه من يكون محارباً، ومنه من يكون مسالماً، فالعدو الذي لا يقاتلني عدو مسالم، والعدو الذي رفع راية الحرب عدو محارب، وكذلك هناك عدو بيني وبينه عهد وأمان، وعدو ليس بيني وبينه عهد، فالأعداء كثيرون، ولكن لكل منهم حكمه، منهم من كان معاهداً، أو بيني وبينه عهد وأمان، ومنهم من نقض العهد فصار حربياً، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو) إنما قصد العدو المحارب، وأنتم تعلمون أن نقض العهد يكون لأدنى شيء، وما وجد الكفار قط أحفظ ولا أرعى للعهود والمواثيق من المسلمين على مر التاريخ، ما نقض المسلمون عهداً قط، وإنما الذي كان ينقض دائماً هو العدو وخاصة إذا كان العدو يهودياً، فإن اليهودي ما حفظ وما رعى عهداً قط، فاليهود قوم غدر، وأظن أن غدرهم لا يخفى على أحد، حتى الساسة أنفسهم يعلمون بغدر اليهود بالليل والنهار؛ لأنهم إذا نقضوا العهد مع المسلمين فإنما ينقضون العهد مع الساسة المسلمين أولاً، فهم أعرف الناس في المسلمين بغدر اليهود وبحيلهم وألاعيبهم، فالساسة أعلم بهم منا، إذ نحن نعلم أنهم أهل غدر وخيانة من القرآن والسنة، ولكن غدرهم وخيانتهم في الواقع واقعة على السياسين بالدرجة الأولى.
فقوله: (لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو) أي: إذا خيف وقوع المصحف بأيديهم.
[ عن نافع عن ابن عمر : (أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو) ]، وأنتم تعلمون أن العدو إذا نال المصحف أو استهزأ به أو سخر منه أو ضربه بقدمه أو بعصاه فقد انتقض العهد؛ لأنه لا يحترم ميثاق المسلمين ولا كلام رب العالمين الموجه إلى العالمين، والمعني بحفظه هم المسلمون، فلو أن العدو استهزأ بكتاب الله أو بشيء من شعائر الدين كالصلاة أو الصيام أو النبي عليه الصلاة والسلام، كما استهزءوا به ورسمه اليهود على خنزير وكتبوا على هذا الخنزير: (محمد بن عبد الله) فهذا بلا شك ينقض العهد والأمان، فلا عهد مع اليهود ألبتة.
[ فعن ذر -وقيل: ذر بن صهيب : قال: سألت عطاءً : أقرأ فتخرج مني الريح؟ قال: أمسك عن القراءة حتى تذهب ]. أي: أمسك عن القراءة حتى تذهب عنك الريح أو تخرج من الأماكن المستقذرة.
و[ عن عبد العزيز بن أبي رواد عن مجاهد : أنه كان إذا صلى فوجد ريحاً أمسك عن القراءة ].
قال ابن بطة : [ فهذا ومثله كثير مما أمرنا به من إعظام القرآن وإجلاله، وتنزيهه وإكرامه لفضله على سائر الكلام، قال الله تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:77-79].
وقال عز وجل: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:192-195] ].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصل اللهم على النبي محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.
الجواب: ما سمعنا أن أحداً من أهل العلم قال ذلك قط ولا أجازه، وإنما التوراة والإنجيل كتابان محرفان، حرفهما اليهود والنصارى؛ ولذلك لا يجوز الحلف بهما قط، وإن كان الأصل أنهما من كلام الله عز وجل، لكن بعد أن دخلهما التحريف فلا يجوز الحلف بهما، والقرآن الكريم ناسخ لهذين الكتابين، فلا يجوز الحلف بهما أبداً.
الجواب: كلام الإمام البيهقي على قول ابن مسعود : من حلف بكتاب الله عز وجل فعليه بكل آية كفارة؛ لأن الكفارة لا تكون إلا في اليمين المشروع. قال: (انعقد إجماع أهل العلم على جواز الحلف بكلام الله عز وجل على أنه صفة من صفاته، وقد ترك العلماء الكفارة وحملوها على التغليظ). يعني: لا يلزم الحالف بكتاب الله حين الحلف أن يكفر عن كل آية كفارة، وإنما يكفر كفارة واحدة، فحمل كلام ابن مسعود على التغليظ والوعيد الشديد للاحتياط في الحلف بكلام الله عز وجل كذباً، وليس المقصود منه الظاهر، وإنما المقصود منه: التغليظ.
الجواب: نعم. الحديث في الصحيحين، ومعنى هذا الحديث: أن هؤلاء السبعين يدخلون بغير حساب ولا سابقة عذاب، وأوصافهم: أنهم لا يكتوون، والكي مشروع، لكنه آخر الدواء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث فيهن الشفاء: شرطة بمحجم -وهي الحجامة- أو شربة عسل -فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ [النحل:69]- أو كية بنار).
وقال: (آخر الدواء الكي) قيل: هو حديث، والحقيقة أنه ما روي من طريق إلا وفيه ضعف، فمنهم من قال: ليس بحديث أصلاً، ومنهم من ضعفه، وبعض المتساهلين قد أثبته حديثاً للنبي عليه الصلاة والسلام.
والنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن من أوصاف هؤلاء السبعين الذين يدخلون الجنة ومع كل واحد سبعون ألفاً قال: (هم الذين لا يكتوون) أي: لا يكتوون لأول وهلة، أو أنهم يدعون الكي توكلاً على الله عز وجل، وأملاً في الشفاء من عنده؛ حتى يدركهم الموت بغير كي، فجمعوا بين ترك التداوي والتوكل على الله عز وجل، ولا شك أن هذه درجة عظيمة، والتداوي مشروع وجائز؛ ولذلك قال ابن القيم : ما كنا نتداوى إلا إذا مر على الداء ثلاثة أيام، وكنا نسترقي بفاتحة الكتاب وغيرها، فوالله لقد وجدنا أنها نافعة في الرقية. ذكر هذا الكلام في بداية كتاب الداء والدواء، كما أنه ذكره في كتاب زاد المعاد، في الجزء الثالث: الطب النبوي.
قال: (هم الذين لا يسترقون ولا يرقون)، وقوله: (ولا يرقون) رواية شاذة؛ وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام رقى، كان يرقي الحسين ويعوذ الحسن والحسين بالمعوذتين.
أما قوله: (هم الذين لا يسترقون) أي: لا يطلبون الرقية، لكن هذا لا يمنع أن تقع عليهم الرقية بغير طلب، فالذي يطلب الرقية يسترقي؛ لأن الألف والسين والتاء للطلب، فاسترقى فلان أي: طلب الرقية، فكونه استرقى خرج من السبعين ألفاً، وبعض الناس يفهم من هذا الكلام أنه لو استرقى دخل فيهم، وهذا خطأ، إنما المفهوم أنه خرج من الفئة التي تدخل الجنة بغير حساب ولا سابقة عذاب.
إذاً: النص الصحيح: (يدخل الجنة سبعون ألفاً بغير حساب. قيل: من هم يا رسول الله؟! قال: هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون). أما الرواية القائلة: (هم الذين لا يرقون) فهي رواية شاذة، والصحيح أنهم: (الذين لا يسترقون) أي: لا يطلبون الرقية من غيرهم.
الجواب: التوسل المشروع يكون بأسماء الله تعالى وصفاته، وكذلك التوسل بالعمل الصالح، والدليل على ذلك: حديث أصحاب الغار الذين انطبقت عليهم الصخرة. وكذلك يشرع التوسل بدعاء الصالحين الأحياء والدليل على ذلك: حديث عمر عندما استسقى بدعاء العباس عم النبي عليه الصلاة والسلام. قال: اللهم إنا كنا نستسقي إليك بدعاء نبيك وقد مات نبيك والآن نستسقي بدعاء عم نبيك العباس .
إذاً: الاستسقاء والتوسل بدعاء الصالحين من الأحياء من التوسل المشروع، وما دون ذلك من التوسل الممنوع.
الجواب: بلا شك أن الأشاعرة والماتريدية ليسوا من أهل السنة والجماعة، وكوننا ننفي عنهم ذلك لا يلزم منه الحكم بتكفيرهم، لكن إذا قلنا: فلان ليس من أهل السنة لا يمنع أن يكون من أهل القبلة، فالأشاعرة من أهل القبلة مسلمون، ولكنهم ليسوا من أهل السنة والجماعة.
الجواب: نعم نهى عن الاتكاء على اليد اليسرى، والحديث ثابت عند أبي داود ، وقال: (إنما هي جلسة أهل النار).
والحديث الذي عند أبي داود فيه النهي عن الاتكاء على اليدين: اليد اليسرى واليد اليمنى، ومن باب أولى أن يكون النهي شاملاً لليد الواحدة، فهذا النهي ثابت والحديث فيه صحيح، وهي جلسة أهل النار، وفي رواية: (أنها جلسة الشيطان).
الجواب: نعم. نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الترجل إلا غباً، أي: نهى عن تسريح الشعر ودهنه إلا غباً، والغب: هو اليوم بعد اليوم أو الأيام بعد الأيام، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (زر غباً تزدد حباً) يعني: عندما تحب أن تزور شخصاً لا ينبغي لك أن تزوره كل يوم من باب المحبة في الله إلى أن يكرهك في الله.
والمقصود: أن تزوره كل فترة من الزمن إذا تطلب الأمر ذلك، لا أن تقلقه في عائلته، كل وقت تطرق عليه الباب إلى أن تؤثمه، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (الضيافة ثلاثة أيام، وما زاد عن ذلك فهو صدقة).
وكان عبد الله بن عمر إذا زار أحداً أخذ مولاه نافعاً معه، فكان إذا انتهت الثلاثة أيام قال: يا نافع ! أخرج طعامنا من الكيس. لأنه انتهى حقهم في الضيافة.
ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ولا يحل لأحدكم أن يؤثم أخاه)، يعني: بعد الثلاثة أيام ترحل بنفسك، ولا توقع أخاك في الإثم بكراهة وجودك، أو بتقديم الطعام لك على غير نية صالحة، أو بأنك ثقيل على قلبه، أو توقعه في بغضك، ولا شك أن المسلم لا يتصف بهذا كله إلا لعلة وضرورة، فلا تكن أنت السبب في إيقاع أخيك في هذا الإثم، فقوله: (ولا يحل لأحد أن يؤثم أخاه) أي: يوقعه في الإثم بسبب المكث عنده أكثر من ثلاثة أيام، لكن هل هذا الحديث في البادية أم في المدينة؟ اختلف أهل العلم، والذي يغلب على ظني أن هذا في البادية؛ لأن البادية لا يتمكن المرء من مكان يقيم فيه، ولا من مطعم يطعم فيه، لكن في المدينة هناك المطاعم والفنادق وغير ذلك، فبإمكانك أن تنزل فيها.
كما أن في القاهرة والمدن الكبيرة هذه العادات مسألة في غاية العسر، خاصة إذا كان الضيف صعيدياً؛ لأن هذه أعراف، والحقيقة الإخوة الصعايدة المقيمون في القاهرة في غاية العنف والمشقة من هذا الأمر، إذ يأتيه أخوه من خارج البلد فيمكث عنده شهراً كاملاً.
وعندما يذهب للعمل يأخذ أخاه معه، فلو أنه أخذ أخاه ثلاثة أيام أو أربعة أيام معه في العمل فإن أصحاب العمل سيتحرجون جداً، فلا يقدمون طعاماً ولا شراباً، فيصبح قاعداً على الكرسي، وهكذا يثقل على أخيه؛ فلذلك ينبغي أن يكون حريصاً على خفته، فلا يجلس شهراً بلا هدف ومن غير مصلحة، إن جاء للزيارة مكث شهراً، وإن جاء لمصلحة مكث السنة كلها، وأخوه ماذا يفعل؟ هل يتركه مع امرأته في البيت؟ إذاً تقع المحاذير والانتهاكات الشرعية، وانتهاك الحرمات وغير ذلك، وإن قلت له: تعال معي العمل قال: هذا لا يأمنني، بل يعتبرني خائناً!
فنقول: أفضل شيء هو تطبيق الشرع حتى وإن وجد في نفسه وغضب، فهذا دين الله سبحانه وتعالى، فلابد أن يقول المضيف: أكرمتك ثلاثة أيام وقدمت فروض الطاعة لك، وقد انتهت الثلاثة أيام.
والأنكى من ذلك أن الأسرة في البلد تتفق مع أسرة أخرى أو مع بعضها البعض أن كل ثلاثة أيام يزورون شخصاً!
وصلى الله على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر