قال الله عز وجل في سورة الفرقان: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا * يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا * وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا * أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا * وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا [الفرقان:21-26].
يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات كيف أن المشركين كانوا يتنطعون مع النبي صلى الله عليه وسلم ويطلبون ما يستحيل عليهم أن يجاب لمثله، قال تعالى: قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ [الفرقان:21]، فلو شاء الله عز وجل لأنزل ملائكة، ولكن حكمته سبحانه وتعالى تأبى ذلك؛ لأن معناها الإيمان جبراً وقهراً، وإذا رأى الإنسان الملائكة ماذا يملك؟ هل يقدر أن يختار؟ يرى الملائكة أمامه ثم يقول: أؤمن أو لا أؤمن، لا لن يقول ذلك، ولكن إذا رأى الملائكة لا بد أن يؤمن؛ لأنه يخاف ولا طاقة له بهؤلاء الملائكة، فلذلك من حكمة ربنا سبحانه أن يجعل للإنسان اختياراً في باب التكليف، فيكتسب الخير ويكتسب الشر ويحاسب على كسبه، والتوفيق من الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يقدر الأقدار سبحانه وهو الذي يعلم أن هذا في الجنة وهذا في النار، وهو الذي يعطي للإنسان الاختيار ليختار بمشيئته الله في ذلك، قال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29].
هؤلاء الكفار الذين لا يرجون لقاء الله، أي: لا يخافون لقاءنا أو لا يؤملون ذلك، أو لا يبالون به فكله من معاني (لا يرجون)، فهم لا يرجون لقاء الله، يعني: ليس على بالهم هذا الشيء؛ لعدم وجود الإيمان باليوم الآخر في قلوبهم، وهم لا يرجون لقاء الله، بل يقولون: مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية:24]، إذاً: فلا يوجد بعث بعد أن نصير تراباً، فلن نحاسب ولن نجازى وهم لا يؤملون ذلك، فلا يؤمل لقاء الله إلا هذا الذي يرجو جنة الله ويخاف من عذابه، وهؤلاء ليس على بالهم هذا الشيء فـ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا [الفرقان:21]، أي: لا يخافون من لقائنا ولا يبالون بلقائنا ولا يؤملون لقاءنا، فقوله تعالى: قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا [الفرقان:21]، هم الكفار.
قال تعالى: لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ [الفرقان:21]، ولولا: للتحضير والحذف، يعني: هلا نزل علينا الملائكة؟ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا [الفرقان:21]، يعني: من التطاول قولهم: حتى نرى ربنا، وكأنهم يقولون: لن نؤمن إلا بذلك، وهم الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الإسراء:90-92]، و(قبيلاً): مقابلة يعني: نرى الملائكة أمامنا بأعيننا، ولن نؤمن لك حتى وإن أتيتنا بهذا كله، ويقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: ولو أتيت بهذا كله فلا نظن أننا نصدقك.
إذاً: فالمعنى: أن الطلب لمجرد المعاندة، فيصير الأمر على ذلك أنهم لن يؤمنوا، فالله أعلم سبحانه وتعالى، وعلمه عظيم وهو الحكيم وهو القوي سبحانه القادر على كل شيء، فإذا آمنوا لن يزداد ملك الله عز وجل بهؤلاء شيئاً، ولو أنهم كفروا وعتوا عتواً كبيراً لم يخسر الله سبحانه وتعالى شيئاً، فهم مع جهلهم وغبائهم يظنون أن تعنتهم على النبي صلى الله عليه وسلم ينفعهم، ولكن ستجري عليهم أقدار الله عز وجل شاءوا أم أبوا، وفي النهاية إلى النار إن ماتوا وهم كفار.
قال ربنا سبحانه: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا [الفرقان:21]، أي: هؤلاء المتكبرون المتجبرون لقد استكبروا في أنفسهم، والإنسان الذي يستكبر في نفسه يحس أنه أعلم من غيره وأفضل من غيره، فيقول الله عز وجل لهؤلاء المستكبرين: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا [الفرقان:21]، والعتو: أعظم الظلم وأفحشه، والعتو كذلك: أشد الكفر والفساد في الأرض، والعتو هنا بمعنى: العلو على هيئة الاستكبار، فقد علو وتعاظموا في أنفسهم، واستكبروا على النبي صلى الله عليه وسلم، وأفسدوا في الأرض بكفرهم وعبادتهم غير الله سبحانه وتعالى، وظلموا أنفسهم وغيرهم.
قوله تعالى: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى [الفرقان:22]، أي: لهم لا الملائكة، فلن يأتيهم وهم على كفرهم إلا بالعذاب، فيتطاولون ويطلبون رؤية الملائكة، والله عز وجل يعلم أن هؤلاء لا يطيقون ذلك، بل إذا رأى أحدهم جنياً فزع وخاف، وهم من أخوف الناس من الجن، فقد كان الواحد منهم إذا مشى في طريق يأتي الشيطان يستهويه ويضحك عليه فيفزع ويخاف، حتى إنه ليكفر بالله سبحانه ويقول: أعوذ برب هذا الوادي، يعني: بسيد هذا الوادي من الجن، فهو لم ير الملائكة، فإذا رآهم وأنزلهم الله عز وجل عليه فكيف سيميز بينهم وبين الجان؟ فهم يقولون ما لا يفهمون، وكأنهم يطلبون العذاب من الله سبحانه.
والكفار أغبياء وحمقى حتى في دعائهم على أنفسهم، فهم يقولون: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ [الأنفال:32]، فهذا الدعاء يدل على غباء القلوب والعقول، فالإنسان يقول: يا ربِّ! إن كان هذا هو الحق فاهدني إليه، والذي يقول: يا ربِّ! عذبني، فيطلب العذاب لنفسه فهو أحمق لا يفكر.
يقول سبحانه: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ [الفرقان:22]، أي: لا توجد بشارة لهم، بل العذاب الشديد، فقد أعطاهم الله في الدنيا مالاً ويقولون: إذا رجعنا إلى الله فإنه سيعطينا كذلك، فيخدعون أنفسهم بذلك؛ لأنه لا بشارة للمجرمين، إنما البشارة للمؤمنين يوم القيامة.
والملائكة تضرب الكفار على وجوههم وعلى أدبارهم في أثناء خروج أرواحهم من أجسادهم، وتتقد قبورهم عليهم ناراً، ويوم القيامة يدخلون النار والعياذ بالله.
قال الله تعالى: وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا [الفرقان:22]، وهؤلاء المجرمون إذا رأوا الملائكة يضربونهم على وجوههم وأدبارهم، ومعهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا من النار أعيدوا فيها، قال لهم الملائكة: حِجْرًا مَحْجُورًا [الفرقان:22]، يعني: حراماً محرماً عليكم دخول الجنة، فكلما جاءت النار وعلت بهم يودون أنهم يخرجون فتأتي المقامع من فوق رءوسهم وتردهم ثانية في نار جهنم والعياذ بالله، فالملائكة تقول: إن خروجكم من النار محرم عليكم، وممنوع دخولكم الجنة.
والحجر: الحاجز الذي يحيط بالإنسان، وسمي عقل الإنسان حجراً؛ لكونه يحجزه عن المعاصي، ويحجزه عن أن يؤذي نفسه أو يؤذي غيره، فعقل الإنسان يدفع الإنسان إلى أن يفعل الخير وأن يجتنب الضر فسمي حجراً، وكما تقول: حجراً محجوراً، كذلك الكفار يقولون ذلك، فالكافر يقول: حجراً محجوراً يعني: لا تؤذونا يا ملائكة! ولا تعذبونا، حرام عليكم أن تفعلوا بنا هذا الشيء، والملائكة تقول: حجراً محجوراً، أي: لن تخرجوا من هذا المكان، فأنتم محبوسون فيه دائماً.
فهنا المقيل بمعنى: الراحة، أو بمعنى: المنزل، أو بمعنى: المثوى والمأوى، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: لا ينتصف النهار يوم القيامة من نهار الدنيا حتى يقيل هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار. يعني: يفصل الله عز وجل القضاء بين خلقه ولا يشغله شيء عن شيء، ويطيل الله عز وجل يوم القيامة على من يشاء ويخفف على من يشاء سبحانه وتعالى، فلا ينتصف النهار حتى يدخل هؤلاء الجنة ويدخل هؤلاء النار.
يقول ابن عباس : فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس، ثم تنشق السماء الثانية فينزل أهلها وهم أكثر ممن في السماء الأولى، ثم كذلك حتى تنشق السماء السابعة. وهذا شيء فظيع جداً وشيء مهول، فالخلق واقفون، والملائكة تنزل وتحيط بهم، والناس في فزع عظيم نسأل الله العفو والعافية، ويسأل الناس الملائكة أفيكم ربنا؟ مما يرونه من عظمة الملائكة في هذا اليوم ونزولهم من السماء، فيظنون أن فيهم الله سبحانه، ثم يأتي الله سبحانه وتعالى لفصل القضاء، نسأل الله عز وجل العفو والعافية.
يقول سبحانه: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ [الفرقان:25]، أصلها: تتشقق، فقوله: (تشَّقَّق) قراءة أبي عمرو ، وأما قراءة الكوفيين: عاصم وحمزة والكسائي وخلف وباقي القراء: (وَيَوْمَ تَشَّقَّقُ السَّمَاءُ) بمعنى: تتشقق السماء، والمعنى: المبالغة، فالسماء يأتي أمر الله إذا بها تكشط كما يكشط الشيء من على وجه اللبن.
فقوله تعالى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ [الفرقان:25]، يعني: تتشقق فيبدو الغمام عن الغمام، وقوله تعالى: وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا [الفرقان:25]، أي: ملائكة السماء ينزلون من السماء وأهل الأرض يسألونهم: فيكم ربنا؟ فيقولون: لا، قال تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]، فجاءت الملائكة من السماء وأتى ربنا سبحانه وتعالى، قال تعالى: وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ [الفرقان:25]، يعني: أنزلهم الله سبحانه وتعالى، هذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير : (وننزِلُ الملائكة تنزيلاً)، يعني: ينزلهم الله عز وجل من السماء فيحيطون بأهل الأرض.
وفي الدنيا كذلك الملك لله سبحانه وتعالى، ولكن جعل الناس بعضهم لبعض، وسخر بعضهم لبعض، فبعضهم يملك بعضاً، وبعضهم ملوك على البعض في الدنيا، وليس هذا على الحقيقة، فالمالِكُ والملِكُ الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى، فيوم القيامة يظهر ذلك جلياً، قال: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا [الفرقان:26]، أي: يوم القيامة وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا [الفرقان:26]، أي: يوماً شديداً شاقاً فظيعاً، يقولون: يا رب! اصرفنا ولو إلى النار، نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر