الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزخرف: وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلآخِرِينَ [الزخرف:51-56].
يذكر الله عز وجل لنا في هذه الآيات وما قبلها أنه قد أرسل موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بالآيات إلى فرعون وملئه، قال الله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ [الزخرف:46]، وذكر في آية غيرها وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هود:96-97] فأرسله الله عز وجل إليهم ليدعوهم إلى عبادة الله عز وجل وحده وأن يتركوا ما هم فيه، وقد طلب موسى من ربه سبحانه أن يجعل معه أخاه هارون وزيراً ليعينه على ذلك، وكان موسى في لسانه لكنة من إصابة أصابته وهو صغير في بيت فرعون لما أراد أن يقتله ودافعت عنه امرأة فرعون وقالت له إنه صغير لا يفهم ولا يعقل، فقرب إليه جمرة من نار فلمسها بلسانه لأمر يريده الله سبحانه فأصابته لكنة من ذلك الوقت، ولذلك كان فرعون يعيره بأنه لا يكاد يبين، أي: ما يستطيع أن يتكلم وهذا كان قبل أن يوحى إليه بالرسالة، فلما جعله الله عز وجل نبياً قال تعالى: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [طه:43] فدعا ربه، فاستجاب له ربه سبحانه تبارك وتعالى فيما سأله، قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا [يونس:89] أي: دعوة موسى وهارون، فدعا موسى ربه سبحانه رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه:25-36].
فكل ما سأل موسى ربه قد أجابه الله، فكشف عنه ما كان فيه من كرب بسبب خوفه من فرعون ومن معه وبسبب اللكنة أو الثقل الذي كان في لسانه فالله رفع عنه هذا فصار قوياً بإيمانه بعصمة الله عز وجل له وأيضاً جعل له أخاه معه وزيراً يعينه على دعوته إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، وأرسله ربه بتسع آيات بينات إلى فرعون وملئه.
فلم ينظر إلى الآيات وإلى ما آتاه الله عز وجل من حجة قوية بالغة تثبت أنه رسول رب العالمين، وفرعون قال لقومه أنه ربهم الأعلى، فلما قال له موسى: أنا رسول رب العالمين، طلب منه فرعون الآيات، فلما رأى اليد والعصا بهت، فجادل بالباطل واتهم موسى بأنه ساحر، فقال: فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى [طه:58] فرد عليه موسى قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [طه:59].
والذي يريد أن يهرب حقيقة هو فرعون وليس موسى، وفرعون يقول لـموسى: لا تخلف هذا الموعد، واحضر من أجل أن نهزمك في هذا الشيء الذي لا تقدر على صنعه وهو السحر.
فاغتر فرعون بهؤلاء السحرة، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، ليظهر كذب فرعون ويؤمن من شاء الله عز وجل له أن يؤمن من هؤلاء السحرة الذين جاؤوا لنصرة فرعون من كل مكان، فاعتزوا عليه، قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الشعراء:41-42] لو أنكم انتصرتم على موسى.
وقوله تعالى: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ هذه الحجة التي يزعمها أنه يملك مصر وهو الملك عليها، وأن نهر النيل يجري في أرضه، فهذا الملعون يزعم أنه هو الذي أجرى هذا النهر وهو الذي خلق هذه البلاد وهو صاحب كل شيء كعادة المتكبرين والمجرمين حين ينسبون الفضل إلى أنفسهم، ويمنون على شعوبهم بأنهم هم الذين عملوا لهم كذا ورقوهم وحرروهم فهم يزعمون ذلك، وهذا فرعون يتكبر كعادة هؤلاء المتكبرين فيقول: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51] وكأنه الذي خلقها وقد قال لقومه قبل ذلك أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24] ولما قال لهم ذلك قال أفلا تبصرون أي: من أجل أن تعرفوا من الذي يستحق أن يعبد أنا أو إله موسى.
وحقر موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام فقال مخبراً: بل أنا خير من هذا، أو كأنه استفهام أم أنا خير من هذا الحقير الذي ربيته في قصري ولا يكاد يبين؟ أي: يتكلم وهو يتعتع، كأنه يزعم أنه ما زال على ذلك وقد شفاه ربه سبحانه تبارك وتعالى وما أرسله إلى فرعون إلا وكان ينطق فلا ثلغ ولا ثقل في لسانه فنطق وتكلم ومع ذلك فرعون ما زال يعيره بالماضي بأنه لا يستطيع أن يتكلم ويزعم أنه رسول.
وقوله تعالى: (( أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ )) أي: من أجل أن نعرف أنه رسول من رب العالمين يأتي بـالملائكة مربوطين بعضهم ببعض أو نصافح الملائكة أو يكونون معه ذهاباً وأياباً.
واستخف فلان فلانا: جعله طائشاً وأخرج الخفة التي فيه، والإنسان عنده صبر وحلم، ولما يأتي إنسان ينفذه أو يغيره أو يحمسه فإنه يخرج عن دائرة الصبر والحلم، فيخف عقله فتراه يهرج ويستخف بمن حوله فصاروا خفاف العقول بهذه الحالة وليس عندهم عقول يفكرون بها، فصدقوا فرعون فيما قاله لهم وأطاعوه فيما طلبه.
قوله تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [الزخرف:54] الفسق: الخروج من دين رب العالمين سبحانه، والفسق الأصغر: معصية رب العالمين، فهم خارجون عن طاعة رب العالمين سبحانه، والفسق الأكبر: الخروج من دين رب العالمين سبحانه، فلما آسفونا أخذناهم بالعذاب ونصرنا موسى على فرعون ومن معه من السحرة فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ * فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ [الشعراء:44-46] فالسحرة الذين جاءوا لينصروا فرعون سجدوا لله وقالوا: آمنا برب العالمين، وفرعون لم يتعظ من هؤلاء الذين يعرفون السحر ويفرقون بين السحر وبين الحقيقة، فيلقون حبالهم وعصيهم وهم يعرفون أن الذي يصنعونه يخيل لأعين الناس أنه يسعى، لكن العصا التي ألقاها موسى تحولت حقيقة إلى ثعبان مبين فأكل ولقف كل ما ألقاه هؤلاء فعرفوا أنه رسول من رب العالمين فآمن السحرة وسجدوا لله رب العالمين، فكانوا في الصباح كفاراً فأمسوا مؤمنين أبراراً رضي الله تبارك وتعالى عنهم، وتمسكوا بدين رب العالمين حتى وإن قتلهم فرعون أو هددهم فقال: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ *قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ [طه:71-72] فرعون هو الذي جمع السحرة من أقصى الأرض ثم بعد ذلك يقول: إن موسى هو الذي علمهم السحر، ومن حوله يعرفون كذب فرعون ، فإن موسى لم يذهب إلى السحرة ويتعلم منهم السحر، ولكن فرعون لا يستحيي أن يكذب على هؤلاء الناس وهو ملك، وإن من أشد الناس عذاباً عند رب العالمين الملك الكذاب، ففرعون يكذب ويقول للسحرة: إن موسى هو كبيركم الذي علمكم السحر فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الشعراء:49] فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [طه:71-72].
والله تعالى إذا أنزل العذاب على قوم ما كان لينجيهم منه، إلا ما كان من قوم موسى فقط فإنه كل ما أنجاهم من عذاب أتاهم بعذاب آخر في الدنيا ويكون نهايتهم إلى النار والعياذ بالله.
والسلف القدوة المتقدمون، فصار فرعون متقدماً لقومه ويتبعونه في الباطل فهو يقودهم إلى طريق النار، وكل من يحب فرعون أو يفتخر به فإنه قدوته وإمامه إلى نار جهنم وبئس المصير، لعنة الله على فرعون وعلى أتباعه وعلى من افتخر به وعلى من تشبه به قال تعالى: فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلآخِرِينَ أي: تضرب بهم الأمثال، فمن تكبر مثل فرعون حصل له ما حصل لفرعون، فصاروا مثلاً وسلفاً لهؤلاء الظلمة المجرمين.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر