قال الله عز وجل في سورة الأحقاف: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ [الأحقاف:29-35].
ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات كيف أنه صرف مجموعة من الجن يستمعون القرآن من النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهذا كان في مكة بعد موت أبي طالب ، وموت خديجة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ازداد ابتلاء الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم، وازداد أذى المشركين له، فخرج يدعو أهل الطائف فتلقوه بما ذكرنا في الحديث السابق، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكان اسمه نخلة، وهنالك ساق الله عز وجل إليه مجموعة من الجن فاستمعوا منه القرآن، وصدقوه، ورجعوا إلى قومهم ليبلغوهم وينذروهم، فقالوا: يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ .
إنه كتاب عظيم جاء من بعد موسى عليه الصلاة والسلام، وفيه شريعة من الله كما كان كتاب موسى فيه شريعة من الله سبحانه وتعالى، مصدقاً الكتب السابقة، وللرسل السابقين عليهم الصلاة والسلام.
وقوله: (يهدي إلى الحق) أي: يدل على طريق الله سبحانه، وإلى الحق الذي يريده الله، كما يدل على الإله الحق المعبود سبحانه وتعالى، ويهدي إلى طريق مستقيم، أي: طريق الشريعة الموصل إلى جنة الله عز وجل.
قال الله تعالى عن الجن أنهم قالوا لقومهم: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ فالجن يدعون قومهم ويقولون: يا قومنا، والرسل يدعون أقوامهم ويقولون: يا قومنا، وهذه الكلمة فيها ما فيها من اللطف بمن تدعوه، فحين تقول للإنسان: يا إنسان! افعل كذا، فقد يستشعر أنه شيء وأنت شيء آخر، وحين تقول له: يا أخي! أو تدعو المجموعة: يا قومنا! فإن هذا يجعلهم يألفون من يدعوهم، ويحسون أنه يخاف عليهم من عذاب الله سبحانه.
قال الله تعالى: قَاْلُوْا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى فبدءوا بالدليل النقلي قبل مخاطبة العقل، فالنقلي: أنه كتاب جاء من عند الله عز وجل سمعناه ولم نقله من عندنا، وقد جاء من بعد موسى على محمد صلوات الله وسلامه عليه، ووجدناه يهدي ويدل على الطريق المستقيم وإلى الجنة.
وقوله: (يا قومنا أجيبوا داعي الله) أي: ما جاءكم من عند الله سبحانه، واسمعوا وعوا كلام رب العالمين.
وقوله: (وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم) فيه أن الذي يدخل في دين الله عز وجل الله فإنه يغفر له من ذنوبه، وكأن (من) هنا للدلالة على جنس الذنوب، وليس المقصود بها بعض الذنوب فقط، فالإسلام يغفر به الله عز وجل جميع الذنوب، ويجب ما كان قبله من الكفر والمعاصي بشرط الإحسان في الإسلام، فلو أن إنساناً كان كافراً سواء كان يهودياً أو نصرانياً أو وثنياً، أو في أي ملة من الملل غير الإسلام ثم أسلم وتاب وآمن وعمل صالحاً فالله يغفر له جميع ما فعله قبل ذلك، ولكنه لو أسلم ولم يعمل صالحاً، ولم يستمع لما يقوله الله سبحانه فقد تنفعه كلمة التوحيد يوماً من الدهر، ولكنه قد يؤاخذ على كل ما عمل من ذنوب قبل الإسلام وبعده، فلابد أن يحسن في الإسلام، فيصلي ويصوم ويزكي ويفعل الطاعات ويمتنع من المعاصي، وهذا الذي جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل أسلم فأحسن غفر الله عز وجل له ذنوبه، ومن أسلم ولم يحسن أخذ بالأول والآخر) أي: بالذي فعله قبل ذلك والذي يفعله بعد إسلامه؛ لأنه لابد للإنسان المسلم من أن يظهر عليه أثر الإسلام، وإن كانت كلمة التوحيد وهي العهد والميثاق الذي بينه وبين الله عز وجل لا تجعله خالد مخلداً في نار جهنم كالكفار، ولكنه قد يستوجب النار والعذاب إلى ما شاء الله سبحانه وتعالى، ثم يخرج منها إلى الجنة.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى الجن وإلى الإنس وإلى جميع الخلق، فدعاهم صلى الله عليه وسلم فاستجابوا له.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي)، فقد رحم الله عز وجل به هذه الأمة وأعطاهم الغنائم، وقد كان الأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وسلم لا يحل لهم الانتفاع بها، فإذا قاتلوا وغلبوا أعداءهم أخذوا الغنائم ووضعوها فوق الجبل وتركوها، فتنزل نار من السماء فتحرقها، ويكون ذلك دليلاً على أن الله قد قبل منهم هذا الجهاد، ولكن في شريعتنا رحم الله عز وجل هذه الأمة فأباح لهم أن ينتفعوا بهذه الغنائم.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض طيبة طهوراً ومسجداً)، فالذي يريد أن يصلي فمسجده الأرض، وفيها طهوره، فإذا لم يجد ماء يتوضأ به فليتيمم من الأرض، وله أن يركع ويسجد على تراب الأرض، فلا يحتاج إلى سجادة ولا حصيرة، فالأصل أن الأرض طاهرة، إلا إن علمت النجاسة في موضع فلينتقل الإنسان إلى موضع آخر ليس بنجس، وهذا تيسير عظيم من الله سبحانه في أمر الوضوء والاغتسال، فالبدل من ذلك هو التيمم.
وقد كان السابقون يحتاجون إلى مكان يصلون فيه، وأما نحن فلا نحتاج إلى ذلك، ففي أي مكان أدركتنا الصلاة صلينا، فإذا لم يوجد المسجد صلاها المسلم في أي مكان من الأرض، وأما السابقون فكانوا ملزمين بأن يصلوا في المساجد، ولذلك قال الله عز وجل لموسى عليه السلام وأخيه وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً [يونس:87]؛ لأن آل فرعون منعوهم من الصلاة والعبادة في المساجد، فأمرهم الله أن يجعلوا بيوتهم إلى القبلة، وأن يصلوا في بيوتهم، فالأصل عندهم ألا يصلي الإنسان في بيته، ولكن للضرورة التي وقعوا فيها من إيذاء فرعون وجنوده لهم رخص لهم في ذلك، وأما نحن فالأرض لنا مسجد وطهور، فإذا وجد المسجد فيلزم المسلم أن يذهب إليه، وإذا لم يجد المسجد صلى في أي مكان هو فيه.
قال صلى الله عليه وسلم: (فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل -أي: حيث كان-، ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر) أي: أنه صلى الله عليه وسلم نصر بالرعب، فجعل الله له جنوداً من الإنس ومن الملائكة، وجنوداً مما شاء الله عز وجل مما يبثه في قلوب أعداءه، ومن ذلك الرعب، فأيما عدو سمع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قادم إليه جعل الله عز وجل في نفسه الرعب والخوف من النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل الله له من الجنود ما يعلم ومالا يعلم صلوات الله وسلامه عليه.
قال: (وأعطيت الشفاعة)، فأعظم عطاء من الله سبحانه لنبيه أن يشفع في فصل القضاء يوم القيامة، ويطلب من الله عز وجل أن يفصل القضاء بين العباد، وله شفاعات أخرى معلومة.
وقوله: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف:31] أي: يغيثكم من عذاب النار يوم القيامة، فالجن فيهم منذرون، لكن لم يذكر الله لنا أن فيهم رسلاً منهم، إلا أنهم يسمعون أنبياء الله عز وجل من البشر ويبلغون أقوامهم، فهؤلاء سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم، فذهبوا وبلغوا قومهم وقالوا لهم: استجيبوا لربكم.
وأما قول الله عز وجل: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ [الأنعام:130] فهذا جاء على التغليب، فمعنى رسل منكم أي: من الإنس للجميع، كما تقول للشمس والقمر: الشمسان، وهي شمس واحدة، ولكنه غلب واحد من الاثنين، وتقول: العمران، وتقصد أبا بكر وعمر رضي الله تبارك وتعالى عنهما، وهو عمر واحد وليس اثنين، وقلنا: العمران ولم نقل: البكران؛ لأن العمران أسهل. فهذا أيضاً من هذا الباب، فالمقصود بـ (رسل منكم) أي: من جنس واحد من الاثنين وهو الإنس.
فذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله إلى أن الجن لا ثواب لهم إلا أن يجاروا من النار، وبعد ذلك يقال لهم: كونوا تراباً فيكونون تراباً، والصواب خلاف ذلك، فكل مؤمن له أجر عند الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله عز وجل عندما ذكر الجنة وما فيها قال: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:46-47]، والخطاب هنا موجه إلى الإنس والجن، فالذي يخاف مقام الله عز وجل له جنتان سواء كان من الإنس أو من الجن، ثم قال بعد ذلك: وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:62-63]، فالمطيع له الجنة والعاصي له النار من الجن والإنس.
وقوله: وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ [الأحقاف:32] أي: لا يجد من ينصره ويتولى الدفاع عنه ويتولى أمره من دون الله، بل هو في ضلال مبين وبعيد، فقد ابتعد كل البعد عن طريق الهداية، فهو في أعظم الضلال، وضل الإنسان بمعنى: تاه، فالذي لم يعرف ربه، ولم يستجيب له فقد تاه، وهذا التيه الذي هو فيه ضلال بيّن، فكل من ينظر إليه يعرف أنه ضال ضائع هالك، فهذا كذلك في ضلال مبين، كما قال الله تعالى: أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ .
فالغرض أن الله ذكر الأنبياء السابقين وما فيهم من عزيمة وصبر على أمر الله، فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهم في صبرهم عليهم الصلاة والسلام.
وقال سبحانه وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الأحقاف:35] أي: لا تستعجل فتدعو عليهم بأن يمحقهم الله ويبيدهم، ولكن اصبر عليهم، فكان كذلك صلوات الله وسلامه عليه.
ثم قال تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ [الأحقاف:35] أي: كأن هؤلاء حين يتخيلون ما هم فيه من طول العزاء والشقاء والعناء يوم القيامة لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ [الأحقاف:35]، وكأن هذه الدنيا لعبة، فالإنسان حين يتفكر في عمره وكم مضى منه: عشر سنين، أو عشرون سنة، أو خمسون سنة، أو أكثر فإنه يحس أنه لا شيء، ولو عمِّر كما عمِّر نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فإنه عندما يقارن يوم القيامة بما عاشه في الدنيا يشعر وكأنه لم يعش ساعة، ولذلك عندما يسألون: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ [المؤمنون:112-113]
قال الله سبحانه كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ أي: هذا بلاغ، فقد بلغناكم وأنذرناكم، والبلاغ بمعنى الكفاية أيضاً، كأنه يقول: هذا فيه كفاية لكم في إنذاركم، ولو أنكم تعقلون ذلك لاكتفيتم به، فعملتم ثم خفتم من المرجع إلى الله سبحانه وتعالى.
ثم قال تعالى: فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ أي: فلا يهلك على الله إلا هالك، وهو الإنسان الذي فسق وخرج من عباءة الإيمان، ودخل في الكفر والشرك بالله سبحانه، فلا يهلك إلا الفاسقون.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر