ثم لابد من البراءة من أهل البدع: عدم توقيرهم، عدم الإنصات لهم، عدم السماح لهم بنشر بدعتهم في الناس.
عن صالح المري قال: دخل رجل على ابن سيرين وأنا شاهد، ففتح باباً من أبواب القدر فتكلم فيه، فقال له ابن سيرين : إما أن تقوم، وإما أن أقوم. وعن سلام بن أبي مطيع قال: قال رجل من أهل الأهواء لـأيوب : أكلمك بكلمة؟ قال: لا. ولا بنصف كلمة. وعن مؤمل بن إسماعيل قال: مات عبد العزيز بن أبي داود وكنت في جنازته، حتى وضع عند باب الصفا، فصف الناس وجاء الثوري -أي: سفيان الثوري - فقال الناس: جاء الثوري ، فجاء حتى خرق الصفوف، والناس ينظرون إليه، فجاوز الجنازة، ولم يصل عليه؛ لأنه كان يرمى بالإرجاء.
وعن سفيان الثوري قال: من سمع من مبتدع لم ينفعه الله بما سمع، ومن صافحه فقد نقض الإسلام عروة عروة. وعن سعيد الثوري قال: مرض سفيان الثوري فبكى في مرضه بكاءً شديداً، فقيل له: ما يبكيك أتجزع من الموت؟ قال: لا. ولكني مررت على قدري فسلمت عليه، فأخاف أن يحاسبني ربي عليه.
وعن فضيل بن عياض قال: من جلس إلى صاحب بدعة فاحذروه. وعنه قال: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه: وعنه قال: إذا رأيت مبتدعاً في طريق فخذ في طريق آخر، ولا يرفع لصاحب البدعة إلى الله عز وجل عمل، ومن أعان صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام.
وعن بشر بن الحارث قال: جاء موت هذا الذي يقال له المريسي وأنا في السوق، فلولا أن الموضع ليس موضع سجود لسجدت شكراً، الحمد الله الذي أماته، هكذا قالوا.
وعن محمد بن أسلم قال: من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام. وعن الحسن قال: لا تجالس صاحب بدعة، فإنه يمرض قلبك.
وعن سفيان الثوري قال: من جالس صاحب بدعة لم يسلم من إحدى ثلاث: إما أن يكون فتنة لغيره، وإما أن يقع في قلبه شيء فيزل به فيدخله الله النار، وإما أن يقول: والله ما أبالي ما تكلموا، وإني واثق بنفسي، فمن يأمن بغير الله على دينه طرفة عين سلبه إياه. يعني: من أمن على إيمانه سلبه الله هذا الإيمان، وقال الأوزاعي : لا تمكنوا صاحب بدعة من جبل فيورث قلوبكم من فتنته ارتياباً.
وعن أيوب قال: لقيني سعيد بن جبير فقال: ألم أرك مع طلق ؟ قلت: بلى، فما له؟ قال: لا تجالسه فإنه مرجئ، قال أيوب : وما شاورته في ذلك، ولكن يحق للرجل المسلم إذا رأى من أخيه شيئاً يكرهه أن ينصحه.
هذه بعض النصوص في ذم أهل البدع، وفي معاداتهم.
لقد مر مبدأ الولاء والبراء بمراحل كثيرة في مكة وفي المدينة، نشير إليها باختصار: معروفة مراحل الدعوة في مكة حينما أمروا بالكف عن المشركين، والصبر والإعراض عنهم، إلى أن انتهت هذه المرحلة بنزول سورة الكافرون: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]* لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الكافرون:2] إلى آخر السورة التي هي براءة من الشرك.
أما في العهد المدني فقد تمكنت موالاة المسلمين في مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين الأوس والخزرج، ثم المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، حتى كانوا يتوارثون، وتعرض المسلمون لكيد أهل الكتاب، وكيد المنافقين، فأمروا بالبراءة منهم وعداوتهم.
المحبة التي هي أصل الموالاة لها أقسام: فهناك محبة شركية، محبة توقع صاحبها في الشرك، وقد دل عليها قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ [البقرة:165]* إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [البقرة:166].
فهذه هي محبة المشركين لأندادهم وآلهتهم وأصنامهم وأوليائهم، ولكن حال المؤمنين أنهم أشد حباً لله من محبة أصحاب الأوثان لأوثانهم، فهذه هي المحبة الشركية التي تناقض الإيمان من كل وجه.
القسم الثاني من أقسام المحبة: حب الباطل وأهله، وبغض الحق وأهله، وهذه صفة المنافقين.
القسم الثالث: المحبة الطبيعية، كمحبة الإنسان لماله وولده وأهله، وهذه إذا لم تشغل عن طاعة الله عز وجل، ولم تكن تعين على محارم الله فهي مباحة، مثل أن يحب الإنسان طعاماً معيناً أو يحب زوجة أو ولداً أو أقارب أو نحو ذلك، فهذه محبة إن لم تعن على معصية الله، ولم تصد عن سبيل الله فهي مباحة.
القسم الرابع من أقسام المحبة: حب أهل التوحيد، وبغض أهل الشرك، فهذه هي أوثق عرى الإيمان، حب أهل التوحيد وحب المؤمنين، وبغض أهل الشرك والبراءة من الكافرين، هذه هي أعلى مراتب الإيمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله)، فهي أوثق عروة وأقوى عروة من عرى الإيمان.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان) ، ومن أحب الله عز وجل المحبة الواجبة فلابد أن يبغض أعداءه، ولابد أن يحب ما يحبه الله سبحانه وتعالى من جهاد أعدائه، يقول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف:4]، وقال عز وجل: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [التوبة:14]، وقال عز وجل في صفة عباده الذين يحبهم ويحبونه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] ما صفاتهم؟ قال: (( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ )) أهل رقة ورأفة على من وافقهم في دينهم، وأهل غلظة وشدة على من خالفهم في عقيدتهم أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54].
وقال عز وجل في صفة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (( أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ))، هذه المحبة يترتب عليها -كما ذكرنا- الموالاة والولاء، ويترتب عليها حقوق للمسلم على أخيه المسلم، فمن ذلك: المودة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير)، فليس للكافر ولا للفاسق ولا للمبتدع من هذه المودة الكاملة نصيب.
أيضاً من ملامح هذه الموالاة: النصرة، مناصرة المسلم مهما كان جنسه أو لونه أو أرضه أو وطنه، يقول الله عز وجل: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:74]، وقال صلى الله عليه وسلم: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم) وقال صلى الله عليه وسلم (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)، وحينما سأله الصحابة: ننصره مظلوماً فيكف ننصره ظالماً؟ فبين أن ذلك يكون بالأخذ على يديه إن كان ظالماً فإن ذلك هو نصرته.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من امرئ يخذل امرءاً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته)، والحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود .
وقال صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله عز وجل في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً. ثم شبك بين أصابعه الشريفة صلى الله عليه وآله وسلم) .
حينما نتأمل البنيان كيف يبنى البنيان؟ يبنى على أعمدة وأركان ونحوها، وأقوى أجزاء البنيان الأعمدة والأركان، ففيها القوي وفيها الضعيف، الأركان دائماً تكون أقوى، ثم الضعيف يتشابك بعضه مع البعض، فهذا يكون كالنبيان أي كالحائط ليتقوى المؤمن في أمر دينه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر