أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
أيها الإخوة الكرم: لماذا تقوم الحروب بين الناس؟
هذا السؤال.. ليس له إلا جوابٌ واحد، وهو أن كل طائفة على وجه الأرض تبحث عن التمكين لها، كل الحروب القائمة على وجه الأرض سببها البحث عن التمكين، فالنظام العالمي الجديد الذي تحاول أمريكا أن تفرضه باستخدام مذهب اللصوصية والإرهاب، كل هذا ليكون لها مكان -وأصل التمكين من المكان- وشرع الله عز وجل الجهاد للمسلمين لأجل هذا التمكين.
إذاً: غاية النزاع في الأرض سببه التمكين، لذلك امتن الله عز وجل على بني إسرائيل أنه مكّن لهم، فقال عز وجل: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً [القصص:5]، وقال: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] بعد ذكر التمكين مباشرةً، ذكر الله عز وجل ميلاد موسى، فقال تبارك وتعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص:7] إذاً: التمكين يحتاج إلى رجال، رجال يجودون بأرواحهم للدفاع عن دين الله، وعما يعتقدونه على أي حال، فالمسلمون يجودون بأرواحهم دفاعاً عما يعتقدونه الحق من دين الله عز وجل، فسبيلنا إلى التمكين، وجود رجال، وبغير هذا الشرط لا يكون هناك تمكين أبداً، فلا تمكين إلا برجال، الرجولة ترضع من الصغر، فالذي يضيع عمره وطفولته، يضيعها في الفوضى لا يؤمّل الخير فيه، ومثل هذا لا أبني عليه بناءً سامقاً، لأن الأصل ضائع، فأنت أردت أن تبني برجاً، فكلما أردت أن تصعد إلى فوق يجب عليك أن تهتم بالأساس -المسألة هكذا متناسبة- الصعود إلى فوق معناه الاهتمام بالأساس، فأساس الإنسان طفولته، هذا البناء العظيم الذي يبنى، وهذه المسئولية الجسيمة التي توضع على كتف الإنسان، لا يتحملها إلا رجل له بطولة مشرفة، وأين ذهبت طفولة أولادنا؟، ماذا علمناهم؟ أكلوا وشربوا وذهبوا إلى المدارس وتعلموا كل شيء إلا الدين.
هكذا ذهبت طفولة أولادنا هدراً، واعلم صلاح البيت مناط بصلاح الأساس، هذا هو معمل تخريج الرجال، والمرأة تعرف مسئوليتها، والرجل يعرف مسئوليته.
إذاً: الغاية هي توحيد الله عز وجل، لا يكون من نسلك رجل فاسق ولا فاجر: (إني لأكره نفسي على إتيان المرأة، رجاء أن يخرج الله من صلبي نسمة توحده) هذه هي الغاية، والله تبارك وتعالى لما ذكر طلاق المرأة للمرة الثالثة قال: فَإِنْ طَلَّقَهَا [البقرة:230]يعني: للمرة الثالثة، فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230]، حسن! فَإِنْ طَلَّقَهَا [البقرة:230]، يعني: الزوج الثاني، وأراد الزوج الأول أن يردها إلى عصمته: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ [البقرة:230]، إذاً: الغاية من إقامة البيت المسلم هو إقامة حدود الله عز وجل، فالبيوت التي تسودها الفوضى لا قيمة لها: إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ [البقرة:230]، إذا كان الهدف المراجعة، فلأن يكون في إقامة الحدود من باب أولى.
رجل يتزوج بامرأة.. لماذا؟ ليقيما حدود الله، هذه هي الغاية من إقامة البيوت، ولقد ذهب الشرع مذهباً عظيماً في سبيل هذا الاصطلاح، فحض على اختيار المرأة؛ لأن المرأة كالأرض، فالأرض البوار ثمنها رخيص، والأرض التي تزرع ثمنها غال. إذاً: عندما تنظر إلى المجتمع الذي تعيش فيه المرأة، إذا خرجت من بيتٍ ملتزم فإنها توزن بالذهب، لا تستكثر من أجل الحصول عليها كل غالٍ ونفيس، فهذه هي الأرض الخصبة.
اعلم أن المرأة قنطرة سعادة وشفاء، فكيف تستهين باختيارها؟
ابحث عن المرأة التي إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أقسمت عليها أبرتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك.
إن الرجل إذا تقدم إلى امرأة لابد أن يراعي فيها الصلاح، وهذا لنجابة الولد؛ لأن المرأة الفاسدة لا تربي الأبناء تربية سليمة فهي تهدم ولا تبني.
إذاً: المرأة الفاسدة لا تستحق شربة الماء، ووجودها كعدمها، تماماً مثل الرجل الكافر لا قيمة له، فالحيوان البهيم أفضل منه عند الله عز وجل.
روى وكيع في أخبار القضاة في ترجمة شريك بن عبد الله النخعي ، رحمه الله، وكان قاضياً مشهوراً، أنه جاءه رجلٌ نصراني على بغلة، وكان مقرباً من زوجة الخليفة؛ لأنه كان يشتري لها الذهب وحاجياتها، فظن أن له مكانة، فكان يظلم الناس وعنده من يسنده ويعينه على ظلمه، فظلم هذا النصراني رجلاً مسلماً، فرفع المسلم شكاته لـشريك بن عبد الله رحمه الله، فجاء هذا الرجل النصراني على بغلة منتفخاً، فلما نزل من على بغلته أمر به شريك فجلد جلداً قوياً فتوعد شريكاً ، أنه سيشتكيه إلى امرأة الخليفة، وركب النصراني البغلة، وجعل يضربها بعنف، فقال له شريك : قاتلك الله! لا تضربها، فإنها أذكر لله منك: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، لا يوجد الجحود والكفر إلا في بني آدم والجن، فكل المخلوقات مستقيمة على صراط الله، وهي أذكر لله عز وجل من كثيرٍ من بني آدم، إن الحيوان البهيم أفضل من الكافر، قال الله عز وجل: أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179].. بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:44]، يعني: الأنعام أفضل منهم.
فالمرأة الصالحة خير متاع الدنيا، واسألوا الذين ابتلوا بنساءٍ فاسدات، اسألوهم. إن الرجل إذا ابتلي بامرأةٍ فاسدة يحسد كل رجلٍ يمشي في الشارع يظنه سعيداً، يحسد كل الخلق، لأنه يشعر أنه يشقى وحده، حتى ربما حسد من هو أدنى منه في الدين والعلم والمكانة، بسبب فساد المرأة؛ لذلك حض النبي صلى الله عليه وسلم الرجال على اختيار النساء، فإنهن الأرض التي تنتج الرجال الذين يمكن الله لهم.
أذكر لكم عن هذا البيت كيف كان شكله وكيف كان وضعه؟ هذا البيت كان فيه الحسن بن صالح بن حي ، وأخيه علي بن صالح بن حي وأمهما، وكان طريقتهم كالآتي: كانوا يقسِّمون الليل ثلاثة أقسام، الحسن بن صالح يقوم في الثلث الأول، وعلي بن صالح يقوم في الثلث الثاني، وأمهم تقوم في الثلث الثالث، فلما ماتت الأم قسم علي الحسن الليل بالنصف، يقتسمان وقت الأم بينهما، فلما مات الحسن ، حمل علي الليل كله، هذا هو البيت، فجارية تعيش في مثل هذا البيت كيف لا تقول مثل هذه المقالة الرائعة: إنك بعتني إلى قوم سوءٍ لا يقومون الليل؟!
ابنك كاميرا مثل (الكاميرا المسجلة) يلتقط عليك كل حركاتك، فإياك أن تتصور أن الولد يغفل عنك، فالولد يتأسى بك، فكل شيءٍ تفعله يصوره ويسجله (كالكاميرا المسجلة)، فعظم حرمات الله أمام الولد، إذا ذُكر الله فاجهر بالثناء عليه أمام الولد، وإذا ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فارفع صوتك بالتسليم والصلاة عليه أمام الولد، هذا كله يؤثر في بنيان الولد، وفي تربيته، عظم حرمات الله عز وجل، فإنها من تقوى القلوب.
إن الرجل قد سُن له أن يدخل البيوت ويخطب المرأة، فهل يجوز للمرأة أن تطلب الرجل؟ لقد سنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإقرار في أن للمرأة أن تعرض نفسها على الرجل الصالح، وهذا شيءٌ عجيب؛ لأن للعلماء قاعدة تقول: (ما منع سداً للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة) يعني: قد يكون هناك فعل لم يحرم لذاته، ولكن حرم لأننا لو فتحناه أدى إلى فساد، وذلك مثل النظر، فالنظر إلى النساء ليس محرماً في ذاته، إنما هو محرمٌ لما يفضي إليه من الفساد وهو الزنا، ولذلك قال العلماء: النظر بريد الزنا، ومنع الرجل من النظر إلى المرأة لما يفضي إليه النظر من الفساد.
إذاً: حُرِّم النظر إلى المرأة الأجنبية سداً لذريعة الزنا.
إذاً: أنا أريد أن أتزوج، سأتقدم بطبيعة الحال إلى امرأةٍ أجنبية، فكيف آخذها؟ هل أتزوجها قبل أن أنظر إليها أم أنظر إليها؟ نقول: انظر إليها قبل الزواج، إن النظر حرام إلى الأجنبية. نقول لك: نعم. النظر حرام إلى الأجنبية سداً لذريعة الزنا، ولكن يباح للمصلحة الراجحة، وهي دوام العشرة.
ولذلك روى الإمام النسائي والترمذي وابن ماجة عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: (خطبت امرأةً فقلت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، قال: فهل نظرت إليها؟ قلت: لا. قال: انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما) (يؤدم بينكما) أي: يدوم الود، وقال له في النص الآخر: (انظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئاً)، وكان في أعين الأنصار صغر، فقال: (انظر إليها)، فلربما لم تنظر إليها ثم تتزوجها فتجد فيها شيئاً لا تحبه، فتطلقها بعدما صارت ثيباً! لا.
إذاً: المصلحة الراجحة وهي دوام العشرة بيني وبين التي خطبتها تقتضي أن أنظر إليها قبل الزواج، مع أن النظر محرم في الأصل سداً للذريعة.
والمرأة لو عرضت نفسها على الرجل فقد يكون هذا الرجل ضعيف القلب فيظن بهذه المرأة سوءاً، فالأفضل والأصون لكرامة المرأة أن لا تعرض نفسها؛ لئلا يطمع فيها الفساق، ولئلا تبتذل. ولا يباح للمرأة أن تعرض نفسها مع وجود مثل هذا، ولعل مثل هذا الخاطر هو الذي يحجب النساء العفيفات عن عرض أنفسهن على الرجل الصالح، خشية أن يظن الرجل بهن سوءاً أو يظن أنها امرأة متبجحة قليلة الحياء، وهذا أمر مغروس في الفطرة.
ففي صحيح البخاري من حديث ثابت البناني رحمه الله قال: (كنت عند
إذاً: المناسب أن لا تعرض المرأة نفسها سداً لذريعة سوء الظن بها، لكن في سبيل الوصول إلى الرجل الصالح، يباح لها أن تعرض نفسها، إذ هو غاية المنى بالنسبة للمرأة في الدنيا، وخروجاً من هذا الأصل فإنه يباح لها ذلك، وإن سيئ بها الظن، يباح لها ذلك، كل هذا لتحصيل الرجل الصالح الذي هو غاية المنى في الدنيا، وعلى ذلك أدلة منها هذا الدليل الذي ذكرته آنفاً، ومنها أيضاً: ما رواه الشيخان عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: (جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فقالت: يا رسول الله! وهبتُ نفسي لك، فصعَّد النظر إليها، وصوبه، ثم جلست المرأة، فقال رجلٌ لما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رغب عنها: يا رسول الله! زوجنيها، قال: ما عندك، اذهب إلى أهلك فالتمس مهراً، فذهب ثم جاء. قال: ما وجدت، قال: اذهب فالتمس ولو خاتماً من حديد، فذهب ثم رجع. فقال: لم أجد، ولكن يا رسول الله! معي إزاري، أعطيها نصف الإزار مهراً، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : وما تصنع بإزارك إن لبسْتَه لم يكن عليها منه شيء، وإن لبسَتْه لم يكن عليك منه شيء، فجلس الرجل وطال جلوسه ثم قام ينصرف فناداه، قال: ماذا معك من القرآن؟ قال: معي سورة كذا وكذا، قال: أتقرؤهن عن ظهر قلب؟ قال: نعم. قال: اذهب قد ملكتكها بما معك من القرآن
استنبط الإمام البخاري رحمه الله! من هذا جواز أن تعرض المرأة نفسها على الرجل الصالح، وإن كان الحديث قد سيق في هبة المرأة نفسها.
لا يحل للمرأة أن تهب نفسها للرجل، فتقول: وهبتُ نفسي لك، يعني: بلا مهرٍ ولا ولي، فإن هذا من خصوصيات النبي صلى الله عليه وآله وسلم: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:50]، لكن استنبط الإمام البخاري بدقيق فقهه، وثاقب نظره من الحديث ما لا خصوصية فيه، وهو جواز أن تعرض المرأة نفسها على الرجل.
وكذلك في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، قال: (إن
وفي صحيح البخاري ومسلم من حديث زينب بنت أم سلمة : (أن
أي: هي محرمةٌ لسببين، السبب الأول: أنها ربيبة في حجري، والربيبة هي ابنة المرأة من الزوج الآخر.
بمعنى أن رجلاً تزوج امرأة، أنجب منها بنتاً، ثم طلقها أو مات عنها، فالمرأة تتزوج، وإذا تزوجت المرأة رجلاً، تصير البنت من الزوج الذي طلق أو مات ربيبة، والربيبة تحرم إذا دخل الزوج بالأم، أما إذا لم يدخل بها، فيجوز له أن يتزوجها، قال الله عز وجل في آية المحرمات: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [النساء:23]، أي: إذا عقد الرجل على المرأة ولم يدخل بها وطلقها، جاز له أن يتزوج ابنتها، بخلاف البنت، فإنه إذا عقد الرجل على البنت ولم يدخل بها، حرمت الأم إلى يوم القيامة، لقول الله عز وجل في آية المحرمات: وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ [النساء:23]، فبمجرد العقد صارت البنت زوجة، وصارت أمها محرمة إلى يوم القيامة، فقال: (فوالله لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي)، والسبب الثاني: لأن ثويبة أرضعته وأبا سلمة ، فهو أخوه من الرضاعة، فلا يحل أن ينكح الرجل ابنة أخيه من الرضاعة.
وروى أبو يعلى في مسنده بسندٍ قواه الحافظ ابن حجر رحمه الله: (أن امرأةً قابلت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحج تعرض نفسها عليه، فجعل
كل هذا فيه دليل على أنه يجوز للمرأة أن تعرض نفسها، ويجوز للولي أن يعرض بنته، وهي سنة.. سنة الصالحين، وهناك أمثلة أخرى نذكرها إن شاء الله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
الحمد لله، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
تأمل قول ابنة الرجل الصالح قالت لأبيها: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26]، للرجل الصالح صفتان حميدتان وهما: الأمانة والقوة. فالقوة: ليقوم الرجل بأعباء الزوجية، من نفقة وغيرها، والأمانة: قال صلى الله عليه وآله وسلم: (اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله)، هذه هي الأمانة، إمساكٌ بمعروف أو تسريحٌ بإحسان، لماذا تظلمها؟ لماذا تقض مضجعها بالمعاملة السيئة، إذا لم تمسك بالمعروف فسرِّح بإحسان ! فلا تعضلها، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، والرجل الأمين لا يخون الأمانة، فقد جاء وأعطى ولي الزوجة العهد أنه سيحافظ عليها، وأنه سيتقي الله فيها، فإذا كان رجلاً أميناً حقاً لا تُضَار المرأة يوماً معه، إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26]، لا يضر الرجل إن لم يكن ذا مال أو جاه أو جمال، إذا كان قوياً وأميناً، ولكن أين الذين يزنون الرجال بميزان الرجولة لا بميزان المادة؟ لقد فقدوا في هذه الأيام!!
فلو كن النسـاء كمثل هذي لفضلت النساء على الرجال
فما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال
أين هؤلاء النساء؟ المرأة هي قاعدة البناء العظيم الذي ترتكز عليه الأمة، فساد المرأة يعني فساد الدنيا والآخرة، وصلاحها صلاح الدنيا والآخرة.
سعيد زوّج رجلاً معه ثلاثة دراهم فقط ؛لما لمح فيه من الصلاح والنجابة والأمانة والقوة، فيا أيها الناس! اختاروا لبناتكم الرجل الصالح.
أيها الرجل: لا تستحيي أن تعرض ابنتك أو من كنت وليها على من تثق بدينه وتقواه، لست أفضل من عمر ، ولست أفضل من صاحب مدين، هؤلاء السلف، ونعم السلف لنا، سنُّوا لنا هذه السنة، وعلم بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما عنف عمر وما راجعه، فدل ذلك على أنها سنة بإقراره صلى الله عليه وآله وسلم.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، رب آتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.
والحمد لله رب العالمين.
ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلاله، وكل ضلالةٍ في النار، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميدٌ مجيد.
أيها الإخوة الكرام: الحديث عن الأسرة مؤلم ومحزن، لا يعرف ذلك إلا من دخل في مشاكل الناس، ربما ظن أحدكم أن التمكين قريب، لكن ليس الخبر كالمعاينة، أسرنا مهترئة، بسبب الفشل، والآن أجيب عن السؤال الذي ذكرته في مطلع الخطبة، لماذا نتزوج؟ نسبة لا تكاد في الأرقام الذين تزوجوا بقصد أن ينجبوا عباداً لله، بالنسبة للسواد الأعظم قليل جداً، أولياء الأمور هم الذين استرعاهم الله عز وجل هذه الذرية، كثيرٌ منهم خانوا هذا العهد وضيعوا رعيتهم..
كل يوم تأتي المكالمات لمشاكل لا آخر لها، فهذه وأختها، لبسن النقاب منذُ أربعة أشهر، تقول إحداهن: لقد وصلت وتقول: ما أحسست أنني استحق الحياة إلا بعد أن غطيت وجهي، وهذا الشعور لا يشعر به فعلاً إلا من تعاطى هذا الفعل، والمرأة إذا ارتدت النقاب لا تستطيع أن تخلعه، فإذا نزعت نقابها فكأنك كشفت عورتها، هكذا شعور المرأة المنتقبة، لكن..ما هي المشكلة؟ المشكلة أن أباها أمرها بخلع النقاب، ثم اتخذ خطوات عملية، أخذ النقاب ووضع عليه (كيروسين) ثم أحرقه، هذه الخطوة الأولى.
الخطوة الثانية: الأم تذهب إلى بيت أبيها عقوبة لهذه البنت، وأبت أن ترجع هذه الأم إلا إذا خلعت النقاب.
الخطوة الثالثة: ممنوع منعاً باتاً وضع أي شيء على الرأس، لا تضع حتى غطاء الرأس! يعني تخرج بشعرها.
الخطوة الرابعة: أنه إذا جاءه ضيف ألزم بناته وأهله على أن يصففن شعورهن، ويدخلن على هذا الضيف سافرات.
الخطوة الخامسة: أنه يأمرهن أن يجلسن بجوار الضيف وإذا امتنعن من ذلك فالسوط موجود!!
الخطوة السادسة: الضرب المبرِّح أمام الضيف!!
أسمعتم؟! أهؤلاء رجال؟! لو لم يكن هناك دين لكان هناك غيرة، فالكلاب تقتتل على الكلبة.
وهذا كلب ومع ذلك فيه نوع من الغيرة، وهذا الرجل يفعل كل هذه الأفاعيل مع ابنته، وهاهي تسأل: ماذا أفعل؟ ويقف الإنسان في حيرة، قالت: بذلنا كل شيء، ستقول لي يا شيخ: اصبري تحملي، كل ما يخطر على بالك أنا فعلته، إنه يضربني بالسوط ضرباً مبرحاً أمام الضيف. هذا نموذج لكثير من الأسر، هؤلاء لا يستحقون الحياة، هؤلاء يهزمهم شر الخلق وأضعفهم -اليهود والنصارى- هؤلاء لا ينتصرون أبداً، إن بنياننا الأسري مختل.
يا أولياء الأمور: إذا انتقبت البنت فاحمدوا الله على ذلك؛ فإن النقاب عفة ووقار وشرف.
اسأل نفسك سؤالاً: أيهما أفضل عندك: أن تنتقب ابنتك أم أن يهرب بها أحدهم ويتزوجها؟ هذه بمقابل لبس النقاب، فالنقاب صيانة وعفاف وشرف، كيف تأخرت حتى الآن في تغطية وجه امرأتك وبنتك وأختك..؟!
ما سبب ذلك؟ السبب: إهمال التربية الصحيحة، هذا الولد لو كان رجلاً تقياً، لما وجد في أصدقائه ولا أقرانه من يقول له: شُم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي)، أنت إذا كنت رجلاً مصاحباً للمؤمنين، أرأيت مؤمناً يغشك ويدمرك ويعطيك ما حرم الله؟ لا. لا يمكن هذا، أي رجل ملتزم يعرف قيم دينه إذا ارتكب هو في نفسه معصية فإنه يحاول أن يتوارى عن الأنظار، فكيف يجهر بها أمامك؟! بل كيف يدعوك إليها؟ لا يجرؤ على ذلك.
وإذا قيل لأحدهم: احلق لحيتك وإلا لن تأخذ الوظيفة، تراه يتساءل هل يحلق حتى يأخذ الوظيفة ثم يعفيها مرة أخرى، هذا إذا كان الرجل فيه تدين، وغالب الناس لا يقف عند هذه المسائل ولا يفكر على الإطلاق، بل يقوم فوراً ويحلق لحيته، ولسان حاله يقول: لماذا لا أختار الدنيا؟ اعلم يا أخي! أن الله عز وجل لا يضيِّع من توجه إليه، وإنما يختبرك وينظر إلى صدق عزيمتك، كما قال تبارك وتعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2-3]، فإذاً: لا بد من اختبار، إذا صدق الرجل مع الله عز وجل ورسوله، وكان وقافاً عند حدود الله عز وجل مكّن له في الأرض: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41]، فهذه شروط التمكين، هل نحن أمة تستحق التمكين، وثلث الأمة لا يصلي؟ ثلث الأمة لا يصلي وربما أكثر، هؤلاء لا يسجدون لله عز وجل، هل يمكّن لهؤلاء؟ لا يمكَّن لهم أبداً، إنما يمكَّن الله عز وجل لعباده المؤمنين، الذين إن مكنّ لهم كانوا أوفياء لشرعه.
إن الناظر إلى حال الأمة الإسلامية وحال أفرادها يرى كثيراً من الناس يتصرف تصرف أهل الجاهلية، إذا ركبوا سفينةً في البحر وأتاهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم قد أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين، فلما نجاهم إلى البر إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق: وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [يونس:22- 23].
إذا كنت في البحر وذهب منك الحول والقوة حينها تلجأ إلى الله، وبمجرد أن تمشي على رجليك، تتصور أنك ملكت أمرك حينها!! هذا يذكرني برجل ركب معي من القاهرة مرة، ويبدو أنه أول مرة يركب طائرة، والطائرة كانت تطير بسرعة كبيرة حوالي ألف كيلو في الساعة، نظرت للرجل ورأيت وجهه قد اصفر، أول ما بدأت الطائرة تطير وقال: انتيت، لا حول إلا بالله. يعني: لم يعد في أيدينا شيء، الطائرة صارت مرتفعة، فبعد أن استقر حاله وأحضروا له عصير الليمون، تعرفت عليه، وقلت له: سمعتك تقول كذا وكذا، لا حول ولا قوة إلا بالله، وهل وأنت تمشي على الأرض بقدميك لك حول بغير حول الله؟ إن كثيراً من العباد يحسب المسألة خطأ، عندما يمشي على الأرض ينسى قدرة الله. يعني: أنه بإمكانه فعل كل شيء، يستطيع أن يعود إلى بيته لوحده، ويستطيع أن يمشي، لكن وهو في الجو، فلا يستطيع أن يفعل شيئاً!! وكذلك لو كان في لجة البحر لا يستطيع أن يفعل شيئاً، في الجور والبحر يلجأ إلى الله.
إن الله ليكره ذلك، والله عز وجل لا تليق بعظمته هذه المعاملة، وهو الغفور الودود، وتأمل هذين الاسمين المتعاقبين: (الغفور الودود) يعني: يغفر الذنب ويتودد إليك.
مثلاً -ولله المثل الأعلى- إذا أسأت إلى أبيك، أو إلى أخيك، أو إلى أمك، أو إلى أختك، أو إلى خالك، أو عمك، أو صديقك، كان عليك أن تصطلح معه، وتذهب لتقول له: هل تريد مني خدمة؟ أنا جئت اليوم أقدّرك وأعتذر عما بدر مني، حتى تزيل هذا الغبش الذي كان .
إذاً: المسيء هو الذي يتودد، لكن لاحظ الشيء العجيب، الله عز وجل هو الغفور، يغفر للمسيء، وهو الودود الذي يتودد إلى عبده المسيء، فسبحان من رب عظيم! فلماذا أشركت معه غيره؟ أشركت مالك أو أولادك أو امرأتك أو سلطانك أو أشركت معه غيره وهو يقول: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) هذا من عزته تبارك وتعالى، فالعزيز لا يقبل هذا.
تركت وصالكم شرفاً وعـزاً لخسة دائر الشركاء فيـه
إذا وقع الذباب على طعــام رفعت يدي ونفسي تشتهيه
ولا ترد الأسود حياض مـاء إذا كان الكلاب يلغن فيه
لا يمكن للأسد أن يشرب من حوض شرب منه كلب؛ ترفعاً وعزة.
وها نحن في صفاتنا نأبى أن نشارك أصحاب الخسة فيما يطلبونه، فلله عز وجل المثل الأعلى، فكيف بهذا الإنسان يشرك به ويتركه!!؟ لا، هو العزيز، ولذلك عندما تشرك معه غيره، يقول لك: اذهب إلى من أشركت؛ لأن حقيقة الشرك فيه دلالة على النقص.
هل يوجد أحد في الدنيا يتمنى أن أحداً يشاركه في ماله أو في تجارته، عندما تذهب إلى أي شارع تجد شركة فلان الفلاني، فلان وأولاده، فلان وشركاه، هذه الشركات عُملت لماذا؟ أنا لو معي رأس مال أكنت أتمنى أن يشاركني أحد في الربح؟ الحال أن بعض الناس حين يشتركون مع بعض تجد كل شريك يطمع في شريكه. ويقول له: أنا أريد ربحاً أكثر منك، ويمكن أن يظلمه، فلو كان هذا الرجل معه مالاً ما أشرك معه أحداً.
إذاً: الشركة دلالة على النقص، لماذا دخل في شراكة؟ لأن رأس ماله ضعيف، أو لأن خبرته قليلة، أو لأنه ضعيف يحتاج إلى ظهر يحميه، لذلك يُدخِل شخصاً ذا سلطان ليحميه، وهناك أناس لهم مناصب كبيرة أحيلوا إلى التقاعد، فتجد أصحاب الأموال يذهبون إليهم يدخلونهم في هذه الأموال ويشاركونهم، من أجل أن يخلصوهم من الجمارك؛ لأن هذا المتقاعد يعرف المسئول الفلاني والمسئول العلاني وما إلى ذلك، مع أن هذا المتقاعد تراه يجلس لا عمل له، يجلس على مكتب، ويوصِّلونه بسيارة، والسائق يذهب به ويعود، هذا كله لماذا؟ لأجل أنه يعرف المسئولين الكبار، فالرجل هذا يسهل لهم العقبات ويمرِّر لهم المخالفات.
إذاً: الإشراك نقص.. فقل لي إذاً لماذا تشرك مع الله؟ هل الله عز وجل فقير؟ لا. فرزق الله لا ينفد، قال تعالى: إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ [ص:54]، وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:180].
إذاً: يجب أن نعلم أن الله عز وجل أغنى الشركاء عن الشرك، وأنه الغني ونحن الفقرءا، نحن محتاجون إليه، وهو غني عنا، ومع ذلك تراه يغفر ذنوبنا ويتودد إلينا، فما علينا إلا أن نوحده وأن نعظمه حق التعظيم، وأن نقدره حق التقدير.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر