أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فهذا هو الجزء الثاني من الكلام على ظاهرة التراجع عن التمسك بشرع الله عز وجل والنكوص عن طريق الله وترك الاستقامة التي يكون عليها بعض المسلمين أحياناً ثم يتركونها.
وقد كان الدرس الماضي بعنوان: (لا ترتدوا على أدباركم) وهذا الدرس أو الجزء الثاني من الكلام بعنوان: (مصيبة الدين: الضلال بعد الهدى) لماذا يحدث؟ تكملة الأسباب، وكيف يحدث؟ وما هو العلاج؟
سبق أن تكلمنا أيها الإخوة على بعض الأسباب الذاتية أو الشخصية التي تحمل بعض الناس علىترك لطريق الاستقامة، ومن الأمور التي ذكرناها سابقاً: مسألة أهمية أن يخلع الإنسان على عتبة الإسلام جميع ملابس الجاهلية وهو يدخل طريق الاستقامة، على عتبة هذا الطريق يخلع جميع ملابس الجاهلية وأن يتخلص من كل ما علق به في ذلك المجتمع الآثم الذي كان يعيش فيه، وهاهنا أمثلة واقعية وردت في بعض الأسئلة نؤكد فيها هذا المعنى أو هذه النقطة التي كثيراً ما أودت بتمسك بعض المستقيمين إلى الهاوية، وأسوقها إليكم مختصرة قريباً مما وردت:
إذاً: هذا شخص الآن هو يستقيم فترة معينة من السنة، ثم في نهاية السنة في العطلة الصيفية يترك الاستقامة ويقبل على أشياء من المنكرات مثل قراءة القصص المحرمة.
فانظر إلى هذه الشبهة، يعني: كشف المرأة وجهها ورأسها وشعرها وذراعيها ويديها كل هذا ليس بعورة، واختلاط الرجال بالنساء وهذه الأشياء السيئة الموجودة في كثير من المسلسلات ليست حراماً.
فإذاً: هذا رجل مازال على علاقة بأصحابه الأول ويزاول معهم اللعب ويحضر مجالسهم، والمجالس هذه طبعاً فيها أشياء كثيرة لا ترضي الله، لماذا يحضر المجالس؟ مجاملة لهم.
هذه المشكلة طبعاً سببها عدم التوازن، إن لنفسك عليك حقاً ولإخوانك عليك حقاً فهذا الشخص لم يستطع أن يوازن بين حق نفسه وحق إخوانه، فهو يصرف كل وقته إليهم، ولا يجد وقتاً يقرأ القرآن مثلاً لنفسه أو يذكر الله لنفسه أو يعمل الطاعات الفردية لنفسه، أو يذاكر، ولذلك فهو مقصر في الدراسة، فلما وجد نفسه على شفا هلكة ومستواه الدراسي قد تردى .. وجد بأن الحل أن يترك الناس الطيبين؛ لأنه لا بد أن يعدل من وضعه الدراسي، السبب إذاً عدم الموازنة.
المفروض بما أن هذا الإحساس من زمان يحدث أنه لا بد أن تنهى هذه العلاقة، يعني: سبحان الله العظيم! رجل أجنبي يتكلم مع امرأة أجنبية في الهاتف ماذا نتوقع وماذا ننتظر ولمدة سنتين، يعني: كأنه يكلم أخته وهي تكلم أخاها، هذه الأشياء العجيبة التي تقع اليوم في واقع بعض الناس تنبئ عن سطحية في فهم معنى الاستقامة، وأنه لا بأس من إقامة العلاقات مع النساء الأجنبيات في الهاتف، والشيطان يضحك ويلبس ويقول له: العلاقة السامية وأنت تساعد، وهذه أخوة في الله.
سبحان الله العظيم! انظر إلى الشيطان كيف يستغل المداخل وكيف يلعب بعقول الكثيرين حتى يوقعهم، ولا نستغرب إذا حدث وكان في بعض الأشياء أن تنتهي المسألة بالعلاقة أو بالملاقاة وما يحدث بعدها من سبل الشيطان، نسأل الله السلامة.
طبعاً هذا أيضاً من ضعف الإيمان، ولذلك كثيراً ما نقول: إنك حتى لو كانت هذه البنت أو هذه المرأة إحدى محارمك وإنك تحس بالفتنة من جلوسك معها فلا تجلس معها، ولا يجوز لك أن تخلو بها؛ لأن بعض الناس قد يحدث معهم مثل هذا الانتكاس الفطري لأن فطرة الواحد مستحيل أن تجعله يميل إلى أخته أو بنت أخيه مثلاً لأنهم من أبٍ واحد أو من أم واحدة أو أشقاء، لكن عندما يصل الانتكاس الفطري إلى هذه الدرجة فيجب عليه أن يعاملها كأنها شبه امرأة أجنبية عنه، لئلا يقع في ورطة.
إذاً: مازالت المشكلة بقاء آثار من الماضي.
وهذا آخر يقول: باسم الله والصلاة والسلام على محمد رسول الله وبعد: فإني شاب تبت إلى الله، ولكن أصبحت أمامي مشكلة وهي فتنة النظر، أرجو أن تعلمني الدواء الشافي لهذا المرض؟
أرى خلل الرماد وميض جمـر وأخشى أن يكون لها ضرام |
فإن النار بالعودين تذكى وإن الحرب مبدؤها كلام |
الواحد أحياناً يرى الظاهر طيباً؛ لكن تحت الظاهر هناك أشياء تتفشى وأشياء تنتشر، وأشياء تقوى لأنها لم تجتث من الأصل، هذه مشكلة الكثيرين، وهي مشكلة خطيرة فعلاً أن الداء لم يجتث من الأصل، لم تعالج المشاكل كلها، لم يتخلص الشخص من آثار الماضي، فهو الآن يبدأ الحياة الجديدة ولا زالت معه الآثار السلبية السابقة؛ فلا تلبث بعد فترة من الزمن مع نوعٍ من الفتور والانشغالات الدنيوية والبرود الإيماني ونقص الإيمان أن تظهر هذه الأشياء ظهوراً قوياً مثل البركان، فيتفجر ويكون بداية السقوط وينتهي الشخص.
فإذاً: التفتيش عن هذه الأمور من سلبيات الماضي، واجتثاث المنكرات الماضية من جذورها، وألا يبقى في حياتك الجديدة أي أثر من الماضي وأي داء من الماضي هذه المسألة مهمة جداً، ينبغي أن تقف على العتبة وتتخلص وتطرح جميع الأشياء الماضية.
وبعض الشباب والمستقيمين عندهم هذه النفسية؛ نفسية الدخول في أجواء الفتنة، هو يريد أن يلقى العدو، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، ولكن إذا لقيتموهم فاثبتوا) بعض الناس يتعمد أن يلاقي العدو فيعرض نفسه لأجواء من البلاء لا يطيقها، ثم بعد ذلك ينهار، وهذه تجارب كثيرة حدثت في تاريخ الدعوات تبين هذا الأمر الذي كشفه الرسول صلى الله عليه وسلم.
ويقول آخر: أحمد الله الذي هداني للصراط المستقيم، ولكن يحدث أن تحصل مني بعض المعاصي وأتضايق من نفسي وأتهم نفسي بأني منافق وإلا لما عملت هذه المعاصي، وبعد حينٍ أرجع إلى الله سبحانه وأستغفره ولكن يحصل ذلك مني من فترة إلى أخرى، ماذا أفعل؟!
يقول الآخر: إنني شاب هداني الله بعد ما كنت ضالاً وبدأت أعمل الصالحات، ولكني أحيانا أفعل بعض المعاصي والتي تكون في غيابٍ عن أعين الناس، وحينما أذهب إلى الصلاة وأكون في الصف الأول أو أعمل عملاً صالحاً أمام الناس تحدثني نفسي بأني منافق!
يقول الآخر: أنا شاب مسلم دخلت مع زملاء مستقيمين قبل ثلاث سنوات ولكن حدثت لي بعض المشكلات جعلتني أنسى الله وأفعل المعاصي بدون إحساس -على حد تعبيره- وأفكر أن أترك الشباب الطيبين لأن حياتي أصبحت حياة لا يعيش فيها شابٌ مسلم، دلني على طريق النجاة؟!
فماذا نلاحظ من مجموع هذه الأسئلة أيها الإخوة؟
الذي نلاحظه قضية اتهام النفس بالنفاق، واتهام النفس بالنفاق أحياناً يكون لها أسباب حقيقية وأحياناً يكون لها أسباب وهمية، فمثلاً: أحياناً يقبل الشخص على الله. ويسلك طريق الاستقامة .. يصاحب الناس الطيبين، وبعد فترة يحصل عنده ضعف إيماني فيقع في معصية من المعاصي، أو يتكرر منه وقوع هذه المعصية وهو لا يزال مع إخوانه الطيبين .. لا يزال يطلب العلم الشرعي .. لا يزال يمارس الدعوة إلى الله .. لا يزال يمارس الواجبات الشرعية، ولكن هذا الوقوع في المعاصي جعله يعيش في جو من التناقض، كيف يكون مع هؤلاء طيباً فإذا خلا بنفسه أصبح إنساناً يقع في المعاصي، كيف يمارس هنا الدعوة إلى الله ويطلب العلم ثم في بيته يقع منه شيء من المنكرات.
فإذاً يقول لنفسه: أنا عندي ازدواج في الإيمان بين الطاعة والمعصية، إذاً أنا منافق أظهر شيئاً وأبطن شيئاً آخر، إذاً أنا لا أستحق أن أكون في هذا الوسط الطيب، إذاً أنا لا بد أن أظهر على حقيقتي، هذه الوساوس من الشيطان ... هكذا يفعل، لا بد أن أظهر على حقيقتي، لا بد أن أكشف أمري للناس، إن هؤلاء الأطهار لا يصلح أن يكون بينهم واحدٌ ملوث من أمثالي، لا بد أن أفارقهم، إنني سبب نكبة وسبب فشل بينهم، إنني عنصر لا بد أن أبتر ... وهكذا؛ فتكون النهاية ترك الحياة الطيبة والاستقامة.
هو يظن أنه يقصد خيراً وأنه يريد أن يظهر على حقيقته وأنه لا ينافق، لكن النهاية ما هي؟ من الذي كسب؟
الذي كسب هو الشيطان؛ لأن الأمور قد تردت، أنت صحيح أنك تعمل المعاصي وأنت ما زلت في الجو الطيب، لكن هذا الجو الطيب يا أخي يساعدك على البقاء إلى مستوى معين وعدم التردي، إذا كان الجو الطيب لا يحملك على ترك المعاصي فهو يحملك على البقاء في مستوى معين من الطاعات، إذاً هذا الجو الطيب له فائدة، ومن الخسارة الكبرى أن تترك هذا الجو الطيب، ولا تترك الشيطان يلعب بك، ويوسوس لك حتى تترك طريق الاستقامة.
ومشكلة اتهام النفس بالنفاق مشكلة كبيرة، مع العلم بأن هؤلاء الناس الذين يفكرون لا يفرق بين النفاق الاعتقادي والنفاق العملي؛ هناك أشياء من النفاق العملي كبعض المعاصي: إذا وعد أخلف .. إذا اؤتمن خان .. إذا حدث كذب .. إذا عاهد غدر .. إذا خاصم فجر، لكن هذا النفاق العملي لا يعني أنك منافق مثل عبد الله بن أبي ومثل غيره من المنافقين، وأنك يجب أن تتميز عن الصف المسلم، لا. الفرق كبير، فإذاً لا بد من أن يعالج الشخص نفسه من هذه الوساوس.
قد يطالب الجديد في عالم الاستقامة بتكاليف عالية ونوافذ شاقة منذ البداية، يعني: مثلاً يطالب بقيام الليل، بصيام النوافل، بقراءة كتب ضخمة ليتناقش مع غيره فيها، فلما يطالب بهذه المستويات العالية من الأداء أو من العبادات لا تستطيع نفسه أن تقوم بها؛ لأنه الآن دخل في طريق الاستقامة فهو لا يزال غضاً طرياً، لا يزال عوده لم يشتد بعد، فإذاً من الخطأ أن يطالب هذا الشخص من البداية بتكاليف عالية، لأنه إذا رأى هذا الأمر من البداية فإنه سيكون سبباً للرجوع وسبباً لترك الطريق المستقيم، وسيقول في نفسه: هذه من البداية هكذا، أنا لا أستطيع أن أستمر بهذا المستوى فيترك.
وقد يأخذه الحماس في البداية فيقبل على هذه الطاعات والعبادات والتكليفات، ويركب هذه الموجة العالية، ولكن في منتصف الطريق تخف حماسته ويبرد إيمانه فيرى نفسه لا يستطيع المواصلة فيسقط، يرى أنه لا يستطيع أن يتحمل الأعباء فيقول تبعاً لذلك: ما دام أنني لا أستطيع أن أتحمل هذه التكليفات إذاً أنا لا أستطيع الاستقامة، لأنه عرف الاستقامة وفتح نفسه عليها أنها بهذا المستوى، إذاً مادام أنه لا يستطيع أن يصوم دائماً الإثنين والخميس، ولا يستطيع أن يقوم كل ليلة، ولا يستطيع مثلاً أن يتصدق بجزءٍ من ماله، ولا يستطيع أن يقرأ القرآن في كل سبعة أيام مرة، ولا يستطيع ولا يستطيع... فيترك الاستقامة، لأن تعريف الاستقامة عنده هي هذه الأشياء العالية.
فإذاً ينبغي مراعاة هؤلاء الجدد في عالم الاستقامة وألا يطالبوا مطلقاً بمثل هذه الأشياء العالية، وأن يترفق معهم ويرفق بهم، ولو أنهم تحمسوا لأدائها من أنفسهم فلا بد أن ينصحوا ويقال له: يا أخي تمهل، لا تقسو على نفسك، لا تكلف نفسك فجأة بكل هذه الأشياء فقد لا تتحمل.
ويدخل في ذلك أيضاً المطالبة بمستوياتٍ عالية من الزهد، يعني: مثلاً شخص يعيش في بيئة منعمة، أهله أهل غنى، أو فتاة تعيش في بيئة مرفهة، وعندهم خيرٌ كثير، فهو متعود وهي متعودة على مستويات عالية من الترف والبذخ والإنفاق على النفس، فعندما يأتي هذا الشخص أقول له من البداية: يا أخي لا بد أن تتخلى عن جميع الزينة وعن جميع هذه الملابس، ولا بد أن تلبس لباساً عادياً جداً، ولا بد أن تكون الملابس فيها تواضع، ورثاثة في الهيئة، والبذاذة من الإيمان وو ... إلخ، وهو الآن قريب الدخول في طريق الاستقامة، فعندما أطالبه بهذا النوع أو هذا المستوى العالي من الزهد، فإنه لن يتحمل وبالتالي سينفض يديه ويترك طريق الاستقامة.
إنسان كان في فواحش ومنكرات؛ من غير المناسب أن أطالبه بهذا المستوى من الزهد، لأعلمه أولاً أن الزهد هو ترك الحرام، انتبهوا معي أيها الإخوة، أعلمه في البداية أن الزهد الآن المطلوب منك هو ترك الحرام، فإذا ترك الحرام واستقام على الطريق فبعد ذلك يطالب بمستويات أعلى من الطاعات.
أن هذا الرجل أو هذه المرأة لم تُشغل في الطاعات، لم تملأ وقتها بأشياء نافعة؛ حلق ذكر، جلسات طلب علم، الذهاب في طاعة الله، الدعوة إلى الله، من بر الأرحام، الصدقات، الذهاب إلى المقابر، صلاة الجماعة في المسجد، أشياء كثيرة جداً، نشاطات إسلامية نافعة تفيد المجتمع، فإذاً عدم ملء واستغلال وقت الفراغ يوجد عن الشخص أوقاتاً كثيرة، لا يجد ما يشغله فيها فيشغلها في معصية الله ثم يسقط.
وهذه النفسية تكون موجودة عند الكثيرين، وقد تكون موجودة عند النساء لأن المرأة حساسة بشكل أكبر من الرجل، وعاطفية بشكل أكبر، فإذا لم تجد أحداً من أخواتها في الله تسأل عنها وتتحسس واقعها فإنها لا تلبث أن تترك ذلك المجتمع الطيب وتقول: إنهن لا خير فيهن لم يسألن عني، وهذا ليس عذراً، نفترض أن هذا الشيء حصل وهذا الشيء خطأ، لا بد أن يسأل المسلمون عن إخوانهم المسلمين، وأن يتفقد المسلمون أحوال إخوانهم المسلمين، لكن لو حصل لك يا أخي هذا الموقف، لو أن إخوانك من حولك تشاغلوا عنك أو غفلوا عنك وعن مشكلاتك، وغالباً أن بعض الناس لا يصرحون بمشكلاتهم ولا يقول: ساعدوني، وينتظر من الآخرين أن يكتشفوا ذلك بأنفسهم، عند ذلك يقول: إذاً لماذا أبقى مع هؤلاء الناس، كونهم لم يسألوا عنك لا يبرر لك عند الله ترك طريق الاستقامة، يعني: عندما يسألك الله يوم القيامة لماذا تركت الاستقامة وتركت التمسك بالدين فلن يكون جواباً: إن باقي إخواني لم يسألوا عني، هذا ليس بجواب وليس بعذرٍ مقبول.
لأن نفوس الناس ليست مهيأة إلى الانتقال بسرعة، بل إن مجتمعات المسلمين اليوم تكثر فيها المعاصي، ومن الصعب على الشخص أنه يترك فجأة وينتقل مباشرة بين يومٍ وليلة، فعندما يطالب بترك المنكرات فجأة والاستقامة فجأة، فإنه قد يسقط فجأة كما بدأ فجأة.
وقد يستدل البعض على عدم خطأ هذا الأمر؛ لأن هناك أناساً قد استقاموا فجأة وأكملوا الاستقامة، فنقول: إن هذا الاستدلال غير صحيح، والناس مراتب وطاقات وهمم، صحيح أن فلان فجأة استقام وأكمل إلى آخر عمره، لكن لا يعني أن هذا العمل الذي فعله يستطيع الآخرون كلهم أن يفعلوه.
فالفرد إن يترك يضع في عصرنا ترك الشباب أساس كل الداء |
إخوانكم لا شيء أغلى منهـم لا شيء يعدلهم من الأشياء |
لا تتركوهم للضياع فريسة ترك الشباب أساس كل الداء |
أحياناً يحدث هجر لإنسان من الناس له علة معينة في نفسيته قد يكون له فيها يد، وقد يكون لا يد له في إصلاحها، فيترك هذا الشخص ويهجر لهذه العلة أو السلبية التي في نفسه أو يخاف ويخشى على الآخرين منه فيترك ويهجر فتسوء أحواله أكثر وينتقل من الإيمان إلى المعصية، وينقلب حرباً على الدعوة إلى الله ناقماً في نفسه على هؤلاء الذين هجروه وتركوه، وقد يدفعه الشيطان إلى سلوك سبيل الانتقام.
يتزلزل كيان ذلك المسكين، لأنه لا يفرق بين الإسلام وبين تصرفات المسلمين، فيقول: هذه هي الاستقامة التي أريد أن أصل إليها، هذه النهاية لا بد من رفض ذلك كله جملة وتفصيلاً، من أين أُتي هذا الرجل؟
أُتي من سوء تصرفه، يتصور أن هذا القدوة أو هذا الشخص أو هذا الشيخ أو هذا المطوع أو هذا الإمام أنه هو الإسلام، فإذا رأى عليه ثغرة أو رأى عليه سلبية من السلبيات أو أنه وقع في منكر فمعنى ذلك أن هذا هو الإسلام، الإسلام في نظره هو ذلك الشخص، فإذا انهار هذا الشخص انهار الإسلام، الاستقامة في نظره يمثلها هذا الرجل، فإذا انهار ذلك الرجل انهارت الاستقامة، فلا بد أصلاً أن يتربى الناس على التفريق بين الإسلام وبين تصرفات المسلمين، لا بد أن يربى الناس على التفريق بين طريق الاستقامة وبين المستقيمين، هؤلاء -رجالاً أو نساء- قد يقعون في أخطاء إذاً هم بالنسبة لي آخذ منهم الحق فقط، وإذا وقعوا في أخطاء أنا ما عليَّ منهم، أنا ما زلت ممسكاً بالطريق أسير عليه.
هؤلاء الأشخاص الذين لقيت منهم سوء المعاملة ليسوا هم الصراط المستقيم، وليسوا هم سبيل المؤمنين، هؤلاء ناس يسلكون سبيل المؤمنين، لكن ليس هم الطريق نفسه، فتركك للجميع خطأ ظاهر، وسوء في التصور.
ليت هؤلاء الذين تركوا الاستقامة لهذا السبب ولهذا المنطلق يفهمون أن الإسلام لا يتحمل أخطاء المسلمين وليس مسئولاً عنها، وليتهم يعرفون أن الحق لا يعرف بالرجال وإنما يعرف الرجال بالحق، إذاً نعود فنكرر فنقول: إن التربية لا بد أن تكون من البداية على اتباع الحق وليس على اتباع الرجال، اتباع الطريق المستقيم.. وليس تقليد الآخرين إذا أخطأوا قال: هذا هو الإسلام، وهذا هو الدين، وهذه الاستقامة، ليس فيهم خير.
فبعض هؤلاء يبدأ بافتعال المشاكل وإثارة أجواء من عدم الارتياح مع الآخرين في النقاش وفي غيره، يظهر على سلوكه وعلى نقاشه أنه غير مرتاح، وأنه يتأفف وأنه يتضجر وأنه لا يعجبه شيء، وأن أسلوبهم غريب، وتتعالى أصواتهم ويكون دائماً هو الطرف المشاغب، وهو الذي يثير المشاكل في الأصل؛ لأنه يريد أن يتوصل من خلال إثارة المشاكل وافتعال هذه الأشياء إلى إيجاد المخرج الذي يخرج منه، وقد يصل به الأمر إلى الكذب والادعاء واتهام الأبرياء ليجد لنفسه المخرج المزعوم.
والبداية في العادة لمثل هؤلاء الاعتذار عن المشاركة في أعمال الخير، فيتخلف عن حلق الذكر وعن الاجتماعات الطيبة والمناسبات الإسلامية مبرراً ذلك بأشياء، يقول: أنا مشغول مع أهلي، إن والدي يحتاج إلي، أنا عندي مسئوليات أسرية، أنا عندي أعمال تجارية، وأنا عندي انشغالات، تبريرات لترك الأشياء الطيبة، وإذا كان الشاب يظهر تركه للتمسك بالدين أحياناً بأن يقصقص لحيته أو يحلقها مثلاً، أو يسبل ثوبه، فإن الفتاة تظهر ذلك عادة بالتخفف من حجابها أو إظهار زينتها أو شيءٍ من عورتها التي أمرها الله بسترها، هذه البداية.
طبعاً البداية أصلاً في القلب حاصلة؛ لأن القرار قد اتخذ بأن يتراجع الشخص عن هذه الأحكام الشرعية وعن هذا الطريق المستقيم، لكن متى يظهر وكيف يظهر؟ يظهر غالباً على الشكل الخارجي، فيبدأ كما ذكرت لكم بأن يخفف من مظهره الإسلامي فيطول ثوبه تدريجياً، وتقصر لحيته تدريجياً، والمرأة تبدأ تخفف من حجابها، يكون مثلاً كذا طاقة فوق بعض، فالآن هو يخف ويصبح شفافاً حتى يزول، كان المكياج من أول لا يظهر، الآن بدأ يظهر، الكعب العالي جداً يلبس، أشياء من الزينة ظاهرة.
أين كان هذا الكلام من أول، الآن بدأت الأعذار تظهر، وبدأ التأليف على العلماء وأن بعضهم يقول، وأنه قرأ في كذا، واحد ينام عن الصلاة يقول: يا أخي في حديث من نام عن صلاةٍ أو نسيها فوقتها إذا ذكرها، فأنا لا بأس أن أنام عن الصلوات، كيف أنت تجبرني على هذا، انظر كيف يستخدمون الأحاديث على حسب الهوى، وعلى حسب ما تطلبه النفس الأمارة بالسوء.
هذا الوضع في الحقيقة مع سوئه إلا أنه أهون من غيره، فبعض الناس يتحاشون أن يرى أي أثرٍ يربطه بواقعه السابق عن عداوة وبغض وكراهية لأصحابه وإخوانه السابقين .. لشخصياتهم ولما يحملونه من دينٍ وخلقٍ ومبادئ ومثل إسلامية، ولو أنه رضي أن يجلس مع أحد أصحابه الطيبين القدامى فإنه يتحاشى أن يفتح معهم أو يتحدث معهم في أي موضوعٍ يتعلق بمناقشة حالته السيئة وبتردي وضعه ويقطع الطريق على من يريد ذلك، إما بإنهاء المحادثة، أو تغيير الموضوع، أو الانصراف، هذه أشياء قد تقع الآن عملياً.
وبالإضافة إلى الانقطاع عن لُقيا إخوانه الطيبين والانقطاع عن الالتزام في شخصه ومظهره، فإنه يبدأ كذلك في ترك أمورٍ أخرى من الدين، فقد يبيع كتب العلم التي كان يمتلكها.
سبحان الله العظيم! الواحد لا بد أن يخشى على نفسه؛ لأن هذه أشياء قد تقع ويرى بعينه هذا الواقع، يكون عند الشخص كتب قد اشتراها واقتناها ليتفقه في الدين ويتعلم، فيقول مثلاً: ضعها في المسجد ودع المسلمين يستفيدون منها، وهو الذي كان جديراً وحرياً به أن يقرأ فيها ويستفيد منها، أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16] هؤلاء الذين استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.
سبحان الله! إنك لتعجب وأنت تقرأ رواية كعب بن مالك كيف وصل الخبر إلى ملك الأنباط فأرسل رسولاً إلى المدينة يقول لـكعب : إنا سمعنا أن صاحبك قد جفاك، وإن الله لم يجعلك بأرض هوان، فالحق بنا نواسك.
تستغرب عندما تعلم أنهم قوطعوا خمسين يوماً، قبل فترة جاءت الرسالة من ملك الأنباط إلى كعب بن مالك يقول: سمعنا أنه تغير وضعك وأن أصحابك قد جفوك، تعال عندنا ونحن سنكرمك، فانظر إلى مدى حرص أهل الجاهلية على التقاط هؤلاء الناس، وعلى استغلال وتحين الفرص، وكانت الرسالة تأخذ وقتاً للوصول، ولكن انظر إلى الاستغلال الذي يتم عن طريق أهل النفاق، يوصل الخبر بسرعة وتأتي الرسالة بسرعة.
يقول كعب بن مالك : وإذا بسائل من الأنباط يسأل يقول: أين كعب بن مالك ، فدلوني عليه، فلما قرأ الرسالة .. طبعاً الشخص الذي تربى على الأصول الإسلامية الصحيحة يرفض هذه المهاترات ويرفض هذه المساومات الخسيسة، ولذلك قال كعب رضي الله عنه: وهذا أيضاً من البلاء، فرميتها في التنور فسجرتها، قوله: هذا أيضاً من البلاء، أي: من الامتحان الذي يمتحنني الله به، الشيطان يريد أن يرجعني إلى أهل الكفر، أخذ الرسالة وألقاها في الفرن فاحترقت.
وبعض هؤلاء المتساقطين يسقط بهدوءٍ دون أن يثير وراءه غباراً فيتوارى وينزوي في عالم النسيان وينتهي أمره، أما بعضهم فإذا أعمى الله قلبه فإنه يسقط وقد أصبح حرباً على الإسلام وأهله، وعلى دين الله، غاية همه الآن أن ينتقم وأن يفرق صف المسلمين، وأن يشكك كل من يريد الاستقامة، ويأخذ على نفسه العهد بهذا، إن من أعمى العمى الضلال بعد الهدى!
وهذا شخص يقول في إحدى أسئلته: لي زميلٌ كان مستقيماً ثم رجع إلى فسقه، فنصحته فيستقيم ولكنه يعود مرة أخرى وينكص ويتردى، ثم ينصحه مرة أخرى فيعود ولكنه لا يلبث أن يتردى، فهناك بعض الناس عندهم قضية (يرجع إذا ذكر، وبعد ذلك ينسى مرة أخرى، ثم يعود وينسى وهكذا).
وهذا آخر يقول: شابٌ في الخامسة عشرة من عمره يسير مع إخوة له صالحين؛ لكنه بين حينٍ وآخر تأتيه هفوات حتى أنه يتغير تغيراً مشيناً في مظهره وفي كلامه، ثم يعود ويصبح من أحسن الشباب الموجودين، هذا أحد الأسئلة التي جاءت مرة في مناسبة من المناسبات يقول: ثم يعود ويصبح من أحسن الشباب الموجودين، ثم يعود لأفعاله القبيحة ويتصرف تصرفات كأنه ليس شاباً مستقيماً على الإطلاق.
فإذاً هذه المرحلة التي تكون في سن الشباب المبكر، يقع منهم هذا التذبذب كثيراً، وترى أنه يستقيم وينتكس وهكذا، حتى يكبر ويكون عنده نوع من النضج فيستقر على حالٍ معينة، قد يستقر على الاستقامة وقد يستقر على الانتكاس.
وهذا آخر يقول: كنت شاباً ضائعاً وكتب الله لي الهداية على يد أحد الإخوان، وبعد مضي فترة من الزمن إذا بهذا الذي كانت هدايتي على يده قد انحرف، وكان السبب أنه قد ارتكب خطأً كبيراً، ولقد حاولت معه كثيراً ولكن دون جدوى، مع العلم أن أخي هذا حافظ لمعظم القرآن، وكان يعلم منه الصدق والإخلاص في دعوته، أرجو النصيحة.
وهذا آخر يقول: أحد أصحابي في يوم من الأيام ينصحني بترك المنكرات وعدم إسبال الثوب وغيره حيث إنه كان مستقيماً في ذلك الوقت، وقد تراجع وهو الآن يدخن، ويعزف العود ويغني ويمثل بلحيته، وأود أن أنبهه ليعود إلى الحق، ماذا يفعل؟!
واحد يقول: هداني الله على يد هذا الشخص ثم هذا الشخص سافر إلى الخارج ورجع وهو متغيرٌ كلية وتارك للصلاة.
الانتقال من داعية إلى الله إلى كافر تارك للصلاة مرتد عن دين الله، ولذلك هذه قضية القلب قضية خطيرة، والله عز وجل مقلب القلوب، وقد ذكرنا لكم قصة ذلك الرجل الذي وصل إلى مستوى كبير من العلم ولكن أضله الله عز وجل على علمه، فإذاً هذا شيء يدفع الإنسان فعلاً أن يفتش في نفسه، وأن يتحسس، وأن يحاول أن يتخلص من جميع هذه الشرور والآفات التي قد تأتي في نفسه، ولذلك كان من الدعاء المأثور: (اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور) ما معنى الحور بعد الكور؟
يعني: إني أعوذ بك من النقصان بعد التمام والكمال، وهذا يحدث كثيراً.
وهذه القاعدة قاعدة إسلامية، ما هي الوقاية؟
الوقاية طبعاً هي سلوك سبيل التربية الإسلامية القوية الصحيحة، أي واحد لا يتربى على منهج الله تربية صحيحة فإنه معرض بنسبة كبيرة إلى الانهيار؛ لأن نفسه لم تتأسس على تقوى من الله ورضوان، بل إنها مؤسسة على شفا جرفٍ هار قد ينهار به في نار جهنم في أي لحظة.
ولذلك أيها الإخوة: لا بد من تربية إيمانية تهتم بأعمال القلب، تهتم بارتقاء القلب إلى مستويات إيمانية عالية عن طريق ذكر الله عز وجل والإقبال عليه بالتوبة والإنابة والاستغفار، والخوف من الله، ومحبة الله، ورجاء الله عز وجل، وغيرها من الأشياء.
ولا بد من أن تكون التربية علمية قائمة على منهاجٍ صحيح من الكتاب والسنة، غير قائمة على التقليد، وقد ذكرنا لكم قبل قليل حالات من الانتكاسات التي كان سببها تخريب الرجال، ولا بد أن تكون هذه التربية فيها وعيٌ يستطيع فيها المسلم أن يعرف الشر وأهل الشر ومصدر الشرور حتى يتحاشاها ويتجنبها، لا أن تدخل عليه من تحت ثيابه وهو لا يدري؛ لأنه مغلق العينين فاقد الوعي.
ولا بد أن تكون هذه التربية متأنية متسلسلة ترتقي بالمسلم إلى كماله تدريجياً، وكثير من هؤلاء المتراجعين لا تظهر عليهم الأعراض الظاهرة للانتكاس والنكوص والتراجع من البداية لأن البداية كانت في القلب، إنك عندما ترى شخصاً قد تغير شكله وسمته الإسلامي إلى سمتٍ غير إسلامي، لا تظن أن التغير حدث الآن لما رأيت الظاهر تغير، لا، إنه حدث قبل فترة، إن نفسه كانت تراوده إن هذا القرار قد جاء بناء على مقدمات حصلت في نفسه، وتغيرات حصلت في قلبه.
فإذاً لا بد أن ينتبه المسلمون لإخوانهم، لا بد من الرصد والتحليل للتصرفات وطريقة الكلام، وخفايا الإشارات والعبارات، فإن الفتنة تكون في البداية بذوراً، وبعد ذلك تنمو وتظهر على سطح الأرض، النبتة أيها الإخوة في بدايتها لا تكون ظاهرة على سطح الأرض، فإذا رويت بذرة الفتنة بماء الشيطان، ووضع لها السماد الشيطاني؛ فإنها لا تلبث أن تظهر على سطح الأرض، وأن تشق طريقها إلى الخارج، فأنت ترى شجرة الفتنة قد ظهرت على سطح الأرض الآن، لكن في الحقيقة أن الأمر من السابق يحدث، وأن المسألة لها وقت، ولها زمن حدثت فيه، ليست وليدة لحظتها وساعتها، وإنما هي نتيجة تفاعلات نفسية، النفس الأمارة بالسوء من السابق.
فإذاً من واجب الإنسان المسلم الداعية إلى الله أن يتحسس هذه الأشياء في نفوس إخوانه والناس من حوله قبل أن تحدث وتظهر وتطفح على السطح، لا بد أن يغوص هو إلى الأسفل ليرى ماذا يحدث هناك، لا بد أن ينقب عن الجذور ليرى ماذا يتم هناك، كيف تعالج المشكلة أساساً قبل أن تكبر وأن تستفحل، ولا بد من قلع بذور الفتنة، وإلا فإن هذه الشجرة تنمو في أصل الجحيم ويخرج طلعها كأنه رءوس الشياطين.
بعض الناس لا يريدون أن يحسوا بالواقع السيئ، ويعز عليه أن فلاناً من إخوانه يحدث له أشياء، فيبدأ يعتذر له بأعذار ولا يعالجه ولا ينتبه إليه ثم تكون النهاية، فحسن الظن يكون إلى درجة معينة، لكن بعد ذلك لا بد أن تكون المواجهة والصراحة والجدية في العلاج واستدراك ما فات، فليس كل تأخرٍ عن صلاة الفجر سببه النوم الذي لا ذنب للشخص فيه.
ليس كل واحد يتأخر مرات عن صلاة الفجر تقول: والله يمكن أنه مسكين معذور نومه ثقيل، قد يكون ... قد يكون ... هذه بداية النهاية.
وليس كل تخلف عن حلق الذكر والعلم سببه انشغال الشخص بوالديه أو بطاعاتٍ أخرى.
وليس كل إسبالٍ في الثوب أو طولٍ فيه سببه عدم انتباه الشخص إلى تفصيل الخياط أو أن الثياب الأخرى كلها متسخة.
لأنه كما ذكرنا لكم من أعمى العمى الضلال بعد الهدى، ويوجد فرق بين شخصٍ عرف الحق وتركه وشخصٍ لم يعرف الحق أصلاً، أيهما أسهل؟
الذي لا يعرف الحق أصلاً هو في الغالب أسهل، لأنه إذا عرض عليه وأقنع بطريقة صحيحة فإنه يتقبل، لكن واحد عرف الحق وعرف الأدلة ثم استقام عليها فترة من الزمن وتذوق حلاوة الإيمان فترة من حياته، هذا الرجل إذا تراجع كيف السبيل إلى إرجاعه؟ وماذا تقول له؟
الآن لو أنك رأيت عاصياً ما عرف الحق ولا أحد ذكره من قبل فقلت له: يا أخي اتق الله.. عذاب النار.. والجنة كذا، وأنت إذا استقمت لك من النعيم كذا وكذا، وإذا فجرت واستمريت على العصيان ينتظرك عذاب القبر، وذكرته بعظمة الله فإن الرجل قد يتفاعل معك ويتغير ويترك المنكر، لكن واحد يعرف هذه الأمور كلها ومرت عليه كلها، بل إنه ربما كان يمارسها في الدعوة إلى الله في يوم من الأيام، ماذا تقول له الآن؟
أنت تقول: كذا، يقول: أنا عارف، وقد يضحك بك ويستهزئ بك وأنت تكلمه، لأنه يعلم هذه الأشياء، وهذه المصيبة، هذه الخطورة؛ ولذلك بعض الناس يستكثرون من حجج الله عليهم، وبعد ذلك ماذا تقول له، وبماذا تذكره؟ بالنار، هو يعرف تفاصيل عذاب جهنم، وربما يعرف أكثر منك، تذكره بعذاب القبر وهو يعرف تفاصيل عذاب القبر، ماذا تقوله له الآن؟ إنه يعرف كل شيء ويفهم كل شيء، وربما كان يجيد الكلام في الماضي عن المواضيع التي أنت تكلمه الآن فيها أكثر منك، فهنا يقع في نفس الشخص المخلص حيرة شديدة، كيف يبدأ؟ وماذا يقول؟ ومن أين تكون نقطة الإصلاح؟
قد يكون من الخير أيها الإخوة أن يركز مع هذا الرجل على جوانب التذكير بالله، وأعمال القلوب، ومحبة الله، وخوف الله، لأنه لن يرده شيء مثلما ترده هذه الأمور، أعني: أن بيان الأحكام ليس فيها رجاء كبير أن ترده لأنه عارف بأدلة الأحكام أكثر منك، لكن ما هو الشيء الذي يمكن أن يؤثر في الناس؟
لا تزال الأشياء الترقيقية والتذكيرية والتي فهيا ربط بالله عز وجل يمكن أن تكون هي الطريق، مع أنه قد يكون يعلمها، لكن وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55] التذكير هو بداية العلاج، فهذا رجل في حالته من الممكن أن نشبهه أحياناً بحالة الشخص الذي قد وقع في غيبوبة بسبب حادث وهو الآن راقد على السرير في المستشفى، وأهله من حوله وهم يحاولون أن يعيدوه إلى وعيه، فأمه تصرخ وتقول: يا فلان فلان! أنا أمك، أنا فلانة تذكرني، أبوه يقول له: يا فلان! يا ولدي! أنا فلان تذكرني، إخوانه يقولون له: نحن فلان وفلان إخوانك ألا تذكرنا؟! أما تذكر خالك فلاناً وعمك فلاناً، بيتنا في المكان الفلاني، أصدقاؤك فلان وفلان في المدرسة، هذا يحدث الآن في مثل حوادث السيارات وغيرها، يقع في غيبوبة ويبدأ يفتح عينيه تدريجياً، وأحياناً يغلقها ويعود للغيبوبة، ثم يفتحها تدريجياً ويعود لغيبوبة، ماذا يفعل من حوله؟
إنهم يحاولون أن يذكروه بأقرب الأشياء إليه، حتى يحاول أن يستعيد وعيه شيئاً فشيئاً، ولذلك يقول الأطباء لمن حوله من أقربائه: داوموا على تذكيره وتنبيهه، داوموا على أن تصل الأصوات إلى أذنيه، ربما أنه يرجع إلى وعيه، يتذكر شيئاً فشيئاً.
هذا الشخص ممكن نقول أنه في مثل هذه الحالة، فإنك تهزه وتنبهه على أشياء في الماضي، هذه قضية مهمة، تذكير الشخص بأموره التي كانت في الماضي، ما تذكر كذا، كيف كنت تمارس كذا، تلك الأيام وتلك المجالس، ما حصل في المجلس الفلاني كذا من ذكر الله، ما حصل في المجلس الفلاني من الفوائد، وتحاول بشتى الأشياء أن يستيقظ هذا الرجل من الغيبوبة التي هي فعلاً غيبوبة؛ غيبوبة المعاصي والفسق تحتاج إلى واحد ينفض ويهز هزاً شديداً.
وقد تكون البداية الناجحة: أن يستخرج واحدٌ من هؤلاء الأسباب التي دعت هذا الشخص لأن يتغير، فإن كانت الأسباب شبهة أو شبهات فتزال بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وإن كانت شهوة من الشهوات فينصح ويوجه بما هو مناسبٌ عن موضوع التوبة، وآداب التوبة، وسعة رحمة الله ومغفرة الله لعله يرجع؛ لأن غالب الناس إما أنه ينكص على عقبيه بسبب شبهة أو بسبب شهوة، فلا بد إذاً من تكملة العلاج واستخراج السبب، لماذا صار كذا؟
وكثير من هؤلاء لا تدري ماذا تتكلم عنه؛ لأنك لا تعرف لماذا حدث لهم هذا الشيء؟ ما هي المشكلة؟ أساس البلاء من أين؟ لا بد من استخراج أساس البلاء.
وقد يكون في بعض الأحيان تدخل شخصٍ بعيدٍ نسبياً عن هذا الرجل لكن له مكانة في قلبه ذو فائدة إيجابية، خصوصاً إذا صار هذا المسكين إلى حالٍ لا يطيق فيها رؤية أحدٍ من المقربين إليه في السابق، فقد يشكو إلى البعيد أو يبث إلى البعيد أموراً لقيها من زملائه لا يستطيع أن يشكيها إليهم لأنه يعتبر أو يعتقد أنهم السبب، فلو جاءه شخصٌ آخر ينصحه أو يفتش في قلبه فقد يبوح له بسبب المشكلة التي لا يستطيع هو أن يقولها لهؤلاء الناس المقربين منه.
وإذا كان هذا الشخص يرفض المقابلة وجهاً لوجه نهائياً، ويرفض أن يكلمه أحد فربما يكون من المناسب كتابة الرسائل المؤثرة المشحونة بالتذكير بالله، وبأخوته في الله، ومن الأشياء التي قد تعيد إليه وعيه وصوابه.
ويستحسن أن تكون مثل هذه الأمور مواضيعٌ مسجلة أو مكتوبة سبق لهذا الشخص أن تأثر بها، فعن طريق هذه الأشياء التي تذكره وتربطه بالماضي، وتصل الخيط مرة أخرى ربما تكون هي بداية الرجوع.
وهناك حديثٌ لطيف وجميل جداً: هو أن أحد الأعراب جاء وسأل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعطيه عطايا والرسول صلى الله عليه وسلم أعطاه شيئاً، فقال له: أحسنت إليك، قال: لا أحسنت ولا أجملت، فالصحابة هموا ليفتكوا به، واحد يقول للرسول صلى الله عليه وسلم هذا الكلام، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: دعوه، فدخل إلى بيته عليه الصلاة والسلام فأخرج عطايا أخرى وأعطاها للرجل، ثم سأله مرة أخرى: أحسنت إليك، قال: نعم جزاك الله خيراً ومن أهل ومن عشيرة.
الآن هؤلاء الأعراب هذه أخلاقهم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم للأعرابي: أنت قلت ما قلت بالأمس وسمعك أصحابي، ولو أنك غداً قلت لهم هذا الكلام الذي قلته لي الآن أمام الناس الذين قلت لهم العكس، هذا طبعاً علاج حكيم من الرسول صلى الله عليه وسلم لنفوس أصحابه حتى يشفي صدورهم من حال أخيهم المخطئ، فمن الحكمة أن يشفي صدورهم من حاله، حتى لا يبقى في نفسهم شيء عليه.
ففي اليوم التالي جاء الأعرابي وسأله الرسول صلى الله عليه وسلم فقال الرجل: جزاك الله من خيرٍ ومن أهلٍ ومن عشيرةٍ، أنت أعطيتني وأكرمتني، فالصحابة سروا بهذا الكلام، فقال عليه الصلاة والسلام: (مثلي ومثل هذا كمثل رجلٍ له ناقةٌ شردت عليه) الآن أنت الآن اربط بين الموضوع الذي نتكلم فيه وهذا المثل النبوي، نتكلم الآن في موضوع شخص شرد عن الحق، كيف يرجع، كيف يعاد يقول عليه السلام: (مثلي ومثل هذا كمثل رجل له ناقة شردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً، فقال لهم: خلوا بيني وبين ناقتي، فإني أرفق بها منكم وأعلم، فتوجه بين يديها -يعني: بحيث أنها تراه- فأخذ من قمام الأرض فردها حتى جاءت واستناخت وشد عليها رحلها واستوى عليها، وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار) لأنه سب الرسول صلى الله عليه وسلم.
فأنتم الآن أيها الإخوة انظروا معي في هذا العلاج الرفيق، وكيف يعاد الشارد، لا يعاد الشارد بالعدو والجري وراءه، والإصرار والرجل لا يريد، وإنما تكون القضية برفق وبهدوء، وبتقديم الأشياء الجذابة التي تعيده، وإذا عاد لا يلقى عليه فجأة هذا الرحل، وإنما يعاد فيبرك ويستريح ويعاد إليه الرحل ويشد عليه، ثم يركبه صاحب الناقة عند ذلك.
إذاً: المسألة خطوات وحكمة ورفق وعلم، والرجل قال: فإني أرفق بها منكم وأعلم.
هذه قصة جبلة بن الأيهم: وكان من ملوك النصارى في جزيرة العرب، جاء وأسلم ويقال: إنه كان يطوف بالكعبة على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فجاء رجل من فقراء المسلمين فوطئ على إزار أو رداء جبلة بن الأيهم ، فـجبلة ملك هو يرى نفسه ملكاً من الملوك فكيف يطأ هذا الفقير الصعلوك على إزاره، فلطمه لطمة ذهبت بعينه أو بأنفه، فرفع الأمر إلى عمر فقال عمر : لا بد من القصاص لا بد من القصاص، قال: كيف يقتص مني لهذا الصعلوك؟
فـعمر قال: هذه شريعة الله، قال جبلة : آتيك في الصباح فيقال: إنه في الليل جمع أصحابه وكان أتى في حاشية وسرى بهم في الليل وهرب، وارتد عن دينه وذهب إلى ملك الروم فاستقر عنده، وأكرمه ملك الروم وأغدق عليه وأعطاه أشياء كثيرة، هذا الرجل قيل وردت عنه أبيات تبين لنا نفسية مثل هذا الشخص، لأن تحليل النفسيات وفهم النفسيات في مثل هذه الحالة مهمة جداً، يقول وهو يعترف بخطئه وندمه، يعبر عن حالته بهذه الأبيات:
تنصرت الأشراف من عار لطمة وما كان فيها لو صبرت لها ضرر |
تكنفني فيها اللجاج ونخوة وبعت بها العين الصحيحة بالعور |
فيا ليت أمي لم تلدني وليتـني رجعت إلى القول الذي قاله عمر |
ويا ليتني أرعى المخاض بقفرة وكنت أسيراً في ربيعة أو مضر |
ويا ليت لي بـالشام أدنى معيشة أجالس قومي ذاهب السمع والبصر |
أدين بما دانوا به من شريعة وقد يصبر العود الكبير على الدبر |
الرجل هذا يتحسر ويتندم ويقول: يا ليتني كنت راعي غنم، يا ليتني كنت خادماً، يا ليتني كنت ذاهب السمع والبصر، فقط أني أعيش في ديار المسلمين وأدين بما دانوا به من الشريعة، وقد يصبر العود الكبير على الدبر؛ الدبر وهو مرض يصيب الحيوانات في ظهرها، والحيوان الكبير طبعاً ليس له إلا الصبر على هذا المرض الذي إذا جاء في ظهره، يعني يقول: يا ليتني ما فعلت الذي فعلت، وأخذت قول عمر ، ويا ليتني رجعت إلى الحق، كثيرٌ من الناس الذين يتراجعون وينكصون نفسياتهم شبيهة جداً بنفسية جبلة بن الأيهم ، ولكن يمنعهم من العود اعتباراتٌ شخصية لا بد من مراعاتها وإزالتها، ولو قدر الله سبحانه وتعالى أن هذا الشخص عاد مرة أخرى واستجاب للعلاج فإن من الأمور المهمة في بداية عودته أشياء مهمة جداً: إظهار الفرح باستقباله وعودته، وعودة العلاقات الطبيعية معه إلى الوضع الطبيعي جداً، وعدم إظهار أي نوعٍ من التغيرات، أو إعادة البحث فيما مضى من صفحته السوداء، وذلك كي ينسى تلك الفترة وتطوى طياً بالكامل، ولكن لو قدر الله أن الرجل يستمر في انتكاسته وفي ضلاله ويستمر على الباطل الذي هو عليه ويتردى، فلو قضى الله عليه بذلك فلا يمكن لو حاول جنود الأرض والسماوات أن يعيدوه على ما كان عليه فلا يعود.
الله عز وجل يقول: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [الجاثـية:23] قسم الله الخلق إلى أشقياء وسعداء وكتب الكتاب وقدر الأقدار وانتهى الأمر، قد لا يعود برغم جميع الجهود التي تبذل، وهنا يكون وضعه درساً وآية من آيات الله يخوف الله بها عباده المؤمنين على أنفسهم أن ينكصوا وأن يتراجعوا ويسقطوا.
بعض الناس يخاف على نفسه، وقد يحدث له من شدة الخوف نفس الشيء.
واحد قد يرى هذا فيتملكه الخوف الشديد والذعر ويحس أنه سيسقط وفعلاً يسقط، ولذلك لا بد أن نتأمل هذه الآية: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [التوبة:115] قال الشيخ السعدي رحمه الله في التفسير: إن الله تعالى إذا امتن على قومٍ بالهداية وأمرهم بسلوك الصراط المستقيم، فإنه تعالى متمم لهم إحسانه، ويبين لهم جميع ما يحتاجون إليه، وتدعو إليه ضرورتهم، فلا يتركهم ضالين جاهلين بأمور دينهم.
ويحتمل أن المراد بذلك: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ [التوبة:115] فإذا بين لهم ما يتقون فلم ينقادوا له عاقبهم بالإضلال جزاء لهم على ردهم الحق المبين، والأول أولى.
وختاماً: فهذه كلمات من كلام ابن القيم أسوقها في ختام هذا الموضوع إلى ذلك الشخص الذي كان مستقيماً فانحرف وتلوث بالمعاصي، فرجع إلى نفسه رجعةً تذكر فيها حلاوة الماضي وطعم الإيمان الذي فقده، فتشوقت نفسه للرجوع، نسوق له كلام ابن القيم رحمه الله، اسمعوا هذا الكلام فهو في غاية الجودة في التعبير عن المقصود، يقول على الرجل الذي انتكس ويريد العودة: وصاحب هذا المشهد يشهد نفسه كرجلٍ كان في كنف أبيه، يغذيه بأطيب الطعام والشراب، ويلبسه أحسن الثياب، ويربيه أحسن التربية، ويعطيه النفقة، وهو القيم بمصالحه كلها، فبعثه أبوه يوماً في حاجةٍ له فخرج عليه في طريقه عدو فأسره وكتفه وشد وثاقه، ثم ذهب به إلى بلاد الأعداء فسامه سوء العذاب، وعامله بضد ما كان يعامله به أبوه، فهو يتذكر تربية والده وإحسانه إليه الفينة بعد الفينة، فتتهيج من قلبه لواعج الحسرات كلما رأى حاله، ويتذكر ما كان عليه وكل ما كان فيه، فبينما هو في أسر عدوه يسومه سوء العذاب، ويريد ذبحه في نهاية المطاف، إذ حانت منه التفاتة نحو ديار أبيه -الآن هذه مرحلة تذكر الشخص المنتكس الماضي ويريد الرجوع- فرأى أباه منه قريباً فسعى إليه وألقى نفسه عليه، وانطرح بين يديه يستغيث: يا أبتاه! يا أبتاه! يا أبتاه! انظر إلى ولدك وما هو فيه، ودموعه تسيل على خديه، قد اعتنقه والتزمه، وعدوه في طلبه حتى وقف على رأسه -الولد الآن عند أبيه والعدو يسعى يطالب به حتى وقف عند رأسه- وهو ملتزمٌ بوالده ممسكٌ به فهل تقول إن والده يسلمه مع هذه إلى عدوه ويخلي بينه وبينه؟! فما الظن بمن هو أرحم بعبده من الوالدة بولدها، ومن الوالد بولده، إذا فر عبدٌ إليه وهرب من عدوه إليه وألقى بنفسه طريحاً ببابه يمرغ خده في ثرى أعتابه باكياً بين يديه، يقول: يا رب يا رب ارحم.
وصلى الله على محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر