وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
قال المصنف رحمه الله [باب: ما روي في سياق قول الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]]. علو الله جل وعلا علوان: علو مطلق، وعلو مقيد، فأما العلو المطلق فهو صفة ذاتية من صفات الذات، وأما العلو المقيد فصفة فعلية.
قال الإمام اللالكائي رحمه الله تعالى: [ كنا عند أبي سليمان داود بن علي قال: كنا عند ابن الأعربي فأتاه رجل فقال له: ما معنى قول الله عز وجل: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، فقال: هو على عرشه كما أخبر عز وجل، فقال: يا أبا عبد الله ! ليس هذا معناه إنما معناه استولى -إذاً أول الاستواء بالاستيلاء-، قال: يا أبا عبد الله ! ليس هذا معناه إنما معناه استولى، قال: اسكت ما أنت وهذا، لا يقال: استولى على الشيء إلا أن يكون له مضاد، فإذا غلب أحدهما قيل: استولى، ثم ذكر بيت النابغة ].
إن علو الله جل وعلا على عرشه لا ينافي قربه منا، ولا ينافي علمه وإحاطته بنا، فسبحانه جل وعلا يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون، لا تواري عنه سماء سماء ولا أرض أرضاً، ولا بحر ما في قعره ولا جبل ما في وعره، فإن الله جل وعلا يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء سبحانه وتعالى! وهو علي في قربه، قريب في علوه فقد أثبت الله جل وعلا أنه عال على العرش، والعرش فوق السماء، وأثبت أيضاً قربه من العباد، فقد قال جل وعلا: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، فقربه هنا قرب سمع وإجابة وإحاطة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أربعوا على أنفسكم! إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، وإنما تدعون سميعاً بصيراً).
أي: قريب منكم، يسمع دعاءكم فيستجيب لكم سبحانه وتعالى.
وفي الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء). الباطن الذي يعلم بواطن الأمور، فالله جل وعلا قريب من العباد، يعلم ما هم عليه، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويثبت ذلك جلياً قول ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه موقوفاً عليه: (ما بين كل سماء وأخرى خمسمائة عام، وما بين السماء الأخيرة إلى الكرسي خمسمائة عام، وما بين الكرسي والعرش مسيرة خمسمائة عام، والله فوق ذلك، -يعني: فوق العرش- ويعلم ما أنتم عليه).
وإذا علم العبد شأن الله الجليل العظيم فإنه سيوقره أحسن التوقير، وسيبجله أعظم التبجيل والتعظيم سبحانه وتعالى.
وأيضاً إذا علم العبد واستقر في قلبه ونفسه علو الله جل وعلا فإنه تعلو همته ويحب كل علو، سواء كان علو همة أو علو عبادة أو علو مكانة، فيرتقي بذلك تعبداً لآثار هذه الصفة، وهي صفة العلو لله جل وعلا، وكذلك إذا علم العبد أن الله علي عال على عباده بقهره وقوته فإنه لن يخاف إلا من الله جل وعلا، ولن يرتجف قلبه إلا من الله جل وعلا، ولن يذل إلا لله جل وعلا، ولن يتوكل إلا على الله، ولو اجتمعت جيوش الكفر كلها على أهل الإسلام فلا يعبأ بهم؛ لأنه يعلم أن الله فوقهم قاهر، وأن الله جل وعلا عال بذاته، قاهر لكل عبد من عباده، بربوبيته جل وعلا، وإذا أراد أن يجعل هذه الدنيا عاليها سافلها جعلها كذلك فلا يخاف إلا من الله، حتى لو أرجف المرجفون وقالوا: جمعوا وجيشوا الجيوش عليكم، فتسمو أرواحهم وتحوم قلوبهم حول عرش الرحمن؛ لأنهم يعلمون أنه القاهر القادر الرب الذي إذا أراد شيئاً قال له: كن فيكون، نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا نستيقن بعلو الله جل وعلا، ونتعبد له بأثر هذه الصفة، التي إذا تعبدنا له بها استحيينا منه، فلا نبادره بالمعاصي، وإن وقعنا استغفرنا، ورددنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إن تغفر تغفر جماً)، أي: ذنباً جماً (وأي عبد لك ما ألما) فالله جل وعلا غفور رحيم، وعلو قهره يجعلك تستغفره مستحيياً منه خائفاً منه جل وعلا.
الفرقة الأولى: الجهمية المعطلة، وهؤلاء هم نفاة الصفات. فينفون الاسم والصفة. وقد انتحلوا مذهب الحلولية، فنفوا أن يكون الله جل وعلا على عرشه، وقالوا: هو في كل مكان. أي: معي ومعك ومع الآخر، ومع هذا في بيته، ومع الآخر في متجره، وهنا في هذه البلدة مع الناس، ومعهم في فلسطين، ومعهم في مصر، ومعهم في أي ناحية من هذه الأمصار. وقالوا: إن الله جل وعلا في كل مكان. وقالوا: عندنا في ذلك الأدلة القوية التي تثبت هذا.
قالوا: وهذه الأدلة: أولاً من الكتاب: قال الله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ [الأنعام:3]. وقال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ [الزخرف:84]، واستدلوا أيضاً بقول الله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4]. واستدلوا أيضاً بقول الله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186].
وأما من السنة فقالوا: جاء في الحديث القدسي قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، ثم قال في الحديث: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها)، قالوا: فهذه دلالة على أن الله جل وعلا معه بسمعه وبصره ويده التي يبطش بها، فأولوا هذا الحديث على الحلول والعياذ بالله، هؤلاء هم الجهمية المعطلة الذين نفوا علو الله على العرش، وقالوا:إن الله جل وعلا في كل مكان.
وقبل أن نرد عليهم نقعد قواعد مهمة جداً لطلبة العلم، نسير على هذه القواعد لنصد أي بدعة وأي تحريف أو تأويل.
الفرقة الأولى: الجهمية المعطلة، وهؤلاء هم نفاة الصفات. فينفون الاسم والصفة. وقد انتحلوا مذهب الحلولية، فنفوا أن يكون الله جل وعلا على عرشه، وقالوا: هو في كل مكان. أي: معي ومعك ومع الآخر، ومع هذا في بيته، ومع الآخر في متجره، وهنا في هذه البلدة مع الناس، ومعهم في فلسطين، ومعهم في مصر، ومعهم في أي ناحية من هذه الأمصار. وقالوا: إن الله جل وعلا في كل مكان. وقالوا: عندنا في ذلك الأدلة القوية التي تثبت هذا.
قالوا: وهذه الأدلة: أولاً من الكتاب: قال الله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ [الأنعام:3]. وقال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ [الزخرف:84]، واستدلوا أيضاً بقول الله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4]. واستدلوا أيضاً بقول الله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186].
وأما من السنة فقالوا: جاء في الحديث القدسي قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، ثم قال في الحديث: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها)، قالوا: فهذه دلالة على أن الله جل وعلا معه بسمعه وبصره ويده التي يبطش بها، فأولوا هذا الحديث على الحلول والعياذ بالله، هؤلاء هم الجهمية المعطلة الذين نفوا علو الله على العرش، وقالوا:إن الله جل وعلا في كل مكان.
وقبل أن نرد عليهم نقعد قواعد مهمة جداً لطلبة العلم، نسير على هذه القواعد لنصد أي بدعة وأي تحريف أو تأويل.
القاعدة الأولى: التأويل قسمان: قسم مقبول، وقسم باطل مردود. والقسم المقبول: له تعريفان، أولاً: تعريفه في اللغة: التأويل: هو حقيقة الشيء. وثانياً: في الاصطلاح: له معان عدة:
فإذاً التفسير الثالث للتأويل هو: صرف اللفظ عن ظاهره الراجح إلى المرجوح بقرينة، يعني: من الحقيقة إلى المجاز مثل قول الله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ [القلم:42]، فالساق هنا لم تضف إلى الله، فلا تستطيع أن تقول: إن الساق المراد بها هنا: ساق الله جل وعلا. إلا أن تأتي قرينة تثبت أن الساق ساق الله جل وعلا. وقد ورد عن ابن عباس أثر في ذلك وفيه ضعف. والغرض المقصود من ذلك أنه قال: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ، يعني: هل من الموقف على الصراط أو من موقف يوم القيامة؟ وفي اللغة مسوغ لذلك، فإنهم يقولون: اشتدت ساق الحرب، يعني: حمي الوطيس وهول الحرب، فهذا المسوغ قد أصبح ظاهراً. إذاً: فهذا له مسوغ من اللغة. والصحيح: أن الساق المذكورة هنا هي: ساق الله جل وعلا؛ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، والغرض المقصود: أنه من الممكن أن يئول اللفظ الظاهر بالقرينة، يعني: من الحقيقة إلى المجاز. هذا القسم الأول، وهو التأويل الصحيح.
وكذلك تأويل أهل البدع لاستوى بمعنى: استولى، فإنه لا مسوغ له في اللغة، حتى بيت الشعر الذي احتجوا به فيه مقال، وهو شعر لرجل نصراني وليس بعربي، فهذا التأويل تأويل باطل.
إذاً: التأويل منه ما هو مقبول، وهو: التأويل الصحيح، ومنه ما هو باطل مردود، يرد على صاحبه. فلا بد من النظر في تأويلات القوم هل هي تأويلات باطلة مردودة أم هي تأويلات مقبولة لهم فيها مسوغات؟
وهذه القاعدة مهمة جداً في الرد على أهل البدع.
أولاً: خالفتم ظاهر القرآن؛ لأن المعية لا تستوجب المخالطة، وخالفتم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يفسر ذلك كما فسرتموه، وخالفتم إجماع الصحابة؛ لأن الصحابة أجمعوا على أن المعية هي معية العلم والإحاطة، هذا الرد إجمالاً.
القسم الأول: معية تستلزم المخالطة والمماسة، كأن تقول: الشاي مع الحليب، فهذه تستلزم الحلول والمخالطة. أو تقول: الملح مع الماء، فهذه أيضاً تستلزم المخالطة.
القسم الثاني: لا تستلزم المخالطة، بل هي بمعنى: مطلق المصاحبة. كما تقول العرب: سرت والقمر، يعني: سرت مع القمر، ولا قائل بأن القمر نزل من عليائه فوضع يده في يد الرجل الذي كان معه فتسامرا في الليل، وإنما سار معه القمر وهو في عليائه، فهذه معية بمعنى مطلق المصاحبة، أو تقول: سرت والنيل، فالواو هنا واو المعية، يعني: سرت مع النيل، ولم يخرج النيل من مجراه يسير مع الرجل. وإنما هذه المعية بمعنى: مطلق المصاحبة.
إذاً: معية الله جل وعلا في هذه الآية: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تحتمل أن تكون المعية التي تستلزم المخالطة والمماسة؛ لأن لها مسوغاً في اللغة أو أنها تكون بمعنى مطلق المصاحبة، دون استلزام المخالطة، والذي يرجح لنا أحد الاحتمالين هي: القرائن المثبتة، والقرائن هنا: أولاً: القاعدة المعروفة التي تكلمنا عنها آنفاً، وهي: أن القرآن لا اختلاف فيه. وقد أثبت القرآن بأن الله في عليائه، فقال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]. وأثبت أنه في السماء، فقال: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] أي: من على السماء. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟!). وقال صلى الله عليه وسلم للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء).
فهذه الأدلة أثبتت فوقية الله جل وعلا، وعلوه على عرشه، ثبوتاً راسخاً ودلالة قطعية متواترة. وقد تواترت الأدلة من القرآن والحديث وأجمع الصحابة على علو الله، وأن الله فوق العرش.
إذاً: هذه المعية حق؛ لأن الله أثبتها كما أثبت علوه على عرشه، وأثبت أيضاً معيته لعباده، فقال: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ .
إذاً: فقد أثبت القرآن أن الله فوق العرش وليس في الأرض. وأنه في السماء جل وعلا، وهم يقولون: في كل مكان، في السماء وفي الأرض، وفي البحر وفي الجبال، وفي كل مكان. فنقول لهم: أخطأتم، فقد أثبت الله في كتابه العزيز أنه في السماء، وتردد الاحتمال بين معية المخالطة ومعية مطلق المصاحبة لا أثر له؛ لأنه ثبت بالأدلة أن الله فوق السماء. إذاً: المعية هنا معية مطلق المصاحبة.
المعية الخاصة هي معية النصرة والتأييد، ينصر الله بها عباده المؤمنين، ولا يمكن أن يصل عبد إلى هذه المعية إلا بتقوى الله والإيمان والإسلام، قال الله تعالى حاكياً عن موسى عندما قال فرعون: إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ [الشعراء:54-56]. قال تعالى: فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الشعراء:57]. ثم قال عن موسى فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:61-62]، فمعية المصاحبة هنا تستلزم النصرة والتأييد، إِنَّ مَعِيَ رَبِّي أي: بنصره وتأييده وإحاطته، والنبي صلى الله عليه وسلم لما حبس في الغار مع أبي بكر رضي الله عنه قال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا. فقال: (يا
نسأل الله جل وعلا أن يمن علينا وعلى إخواننا المسلمين بهذه المعية، معية النصرة والتأييد.
إذاً: الله جل وعلا معنا، وهو فوق عرشه. هذا الرد الأول على هذا الاستدلال الذي استدلوا به.
إذاً: فاللازم الباطل الأول هو قولكم في تفسيركم وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ : في كل مكان، وتجعلون الله في الأماكن التي يتعالى عنها العبد الذي هو معروف نهايته، فمن باب أولى أن يتعالى عنها الرب جل وعلا. إذاً: هذا لازم باطل، وهو أن الله في كل مكان، أي: في مكان القاذورات، وفي الحمامات، وهذا اعتقاد مزري، يعني: ما يقبله عاقل أبداً.
اللازم الثاني من اللوازم الباطلة في هذا القول: أنك إذا قلت: إن الله معي هنا ومعك في البيت ومعه في المتجر ومعه في فلسطين ومع الآخر في مصر وآخر في أميريكا وآخر في فرنسا فمعنى هذا أنه جل وعلا يتجزأ، وحاشا لله أن يكون كذلك.
اللازم الثالث من اللوازم الباطلة: اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بالتقصير وعدم البيان، والله جل وعلا ما أنزل عليه القرآن إلا ليبين لهم ما أنزل إليه، قال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]. وإذا لم يبين النبي صلى الله عليه وسلم أن تفسير هذه الآية ومدلول هذه الآية: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ أنه في كل مكان، فقد قصر النبي صلى الله عليه وسلم واتهام النبي صلى الله عليه وسلم بالتقصير كفر؛ لأنه بلغ وقال: (هل بلغت؟! اللهم فاشهد!)، والله عز وجل يقول: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54]. فإن لم يبلغ واتهم بالتبليغ فهذا كفر والعياذ بالله، وهذا من اللوازم الباطلة.
وهذا أول رد عليهم في هذه الآية.
أما التفصيل فنقول: أولاً: الاستدلال بهذه الآية بعيد جداً من ناحية دلالات الأسماء الحسنى والصفات العلى؛ لأن القاعدة في أسماء الله جل وعلا: أن كل اسم من أسماء الله هو اسم من الأسماء الحسنى، ومن تمام الحسن: أنه يتضمن صفة كمال، فالرد على الاستدلال بهذه الآية من الدلالات: أن قول الله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ ، أن الله اسم من أسماء الله الحسنى يتضمن صفة الإلهية. وصفة الإلهية تعني: أنه إله، يعني: تألهه القلوب وتحبه وتعبده الأبدان والقلوب. إذاً: فقوله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ يعني: أنه المألوه المحبوب في السماوات، المعبود فيها، وهو الله في الأرض، أي: المألوه المحبوب المعبود في الأرض.
إذاً: أول رد عليهم من دلالات الأسماء، فإن اسم الله الأعظم الله يتضمن صفة الإلهية، وصفة الإلهية تعني: أنه هو الذي تألهه القلوب، يعني: تعبده القلوب وتحبه، فالله مألوه، يعني: معبود في السماوات وفي الأرض. فإذاً: هذه الآية حق على ظاهرها، وهذا تأويل بالقرائن.
الرد الثاني: وهو من القراءات المتواترة، فهناك وقف لازم عند قوله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ ، فيوقف وقفاً لازماً؛ لأن الآية بعد ذلك مستأنفة، وليست معطوفة مرتبطة بالتي قبلها. فنقرأ: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ ، ثم نسكت، وهذا قول ابن جرير، فنقف على (السماوات) ثم نستأنف: (وفي الأرض يعلم سركم وجهركم) فقوله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ قد دلت الأدلة على أن الله في السماوات، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء)، وفي سؤاله للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء) وقال تعالى: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16]. فكل هذا يتواكب مع قول الله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ . ثم نستأنف: وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ ، وهذا موافق لنص حديث ابن مسعود الموقوف: (الله فوق العرش ويعلم ما أنتم عليه). وقد نقل عن الإمام أحمد وأنس بن مالك والإمام الشافعي في عقيدة أهل الحديث: أن الله في عليائه فوق العرش، ويعلم ما أنتم عليه، علمه لا يخلو منه مكان.
إذاً الرد الثاني: أننا نقف وقفاً لازماً عند قوله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ ، والأدلة كلها قاطبة تؤكد هذا، ثم نستأنف وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ ، يعني: مع أنه فوق السماء فإنه يعلم ما أنتم عليه، ولا تخفى عنه خافية.
الرد الثالث على ذلك: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ [الأنعام:3]، أننا لو قلنا: إن الله جل وعلا في السماوات وفي الأرض دل ذلك على أن الله في كل مكان، ويلزم منه اللوازم الباطلة التي سبق أن سردناها.
وهذا هو الرد على هؤلاء الذين نفوا معية الله، ونفوا علوه جل وعلا على عرشه، وقالوا: إن الله جل وعلا في كل مكان، واستدلوا بقول الله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ، وبقوله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ وبقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ [الزخرف:84].
الطائفة الثانية هم المحرفة، الذين يدعون زرواً وبهتاناً بالمئولة، وهم الأشاعرة الذين أولوا صفة الاستواء بالاستيلاء، وسنرد عليهم من الكتاب والسنة ومن العقل والفطرة، والاستواء صفة فعل، فبعدما خلق الله العرش استوى عليه ولو قلنا: إنه ينزل فذلك لا يستلزم خلو العرش؛ لأن نزول الله لا نعلم كيفيته، كما أن استواء الله لا نعلم كيفيته، فإن الكون كله في يده كحبة خردل بيد أحدكم. وقد أورد الأشاعرة على أهل السنة بقولهم: هناك لوازم باطلة أيها المجسمة من إثبات صفة الاستواء، وهي: أنه عندما تقولون: إن الله استوى على العرش فمن اللوازم الباطلة أنه يلزم المماسة وإذا استوى على العرش فهو محدود فإذاً: الله محدود. وقالوا: إن الله جل وعلا يحتاج إلى العرش لو استوى عليه، وسنبين الجواب عن هذه الشبه في الدرس القادم إن شاء الله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر