معاشر المؤمنين! جئت إليكم وأنا أحمل في قلبي مشاعر المودة والمحبة، نبضات الفؤاد تحبكم يا أهل الأحساء وخفقات القلب تشكركم وتذكركم دائماً بما أنتم أهله، وإني قادم وملتقِ بأحبتي في الله في هذا المكان وأنا على يقين أن في الزوايا خبايا، "وأن بني عمك فيهم رماح" وأن في القوم من هم أعلم بالمقال من القائل، وأعلم بفقه الحديث من المتحدث، ولكن حسبنا وإياكم أن نجتمع في روضة من رياض الجنة، فتحفنا الملائكة، وتغشانا السكينة، وتتنـزل علينا الرحمة، ويذكرنا الله فيمن عنده، هذا الأجر لا يكون إلا في مثل هذه اللقاءات: (ما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه).
وفي الطريق إليكم ونحن نتجاذب أطراف الكلام مع صحبة كرام، قال بعض الإخوة: لو أن الواحد جعل الوقت في قناة فضائية ليلقي محاضرة أو ليقدم برنامجاً أفلا يكون هذا أولى وهو يخاطب عبر القناة ملايين البشر؟ وربما اختصر من الوقت والجهد ما اختصر، فرد أحد الإخوة جزاه الله خيرا قائلاً: ولكن الملائكة لا تتنـزل على القنوات الفضائية، ولا تغشاها السكينة ولا تتنـزل عليها الرحمة، نعم يؤجر من جاهد فيها، فهو في مضمار جهاد، وفي ميدان دعوة وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً [الفرقان:33].
ومن هنا نعلم أن مثل هذه اللقاءات ومهما ضربت لأجلها أكباد الإبل، وقطعت لأجلها الصحاري والقفار فليس بكثير على أن يفوز أو على أن نفوز جميعاً بمن الله وكرمه وجوده بدعوة من الملائكة ومغفرة من الرب عز وجل، ونحن في سبيل الاستماع لا لغرض ولا غاية ولا قسط من أمور الدنيا قاطبة، وإنما غايتنا وقسطنا أن تغفر ذنوبنا، وأن تستر عيوبنا، وأن تكفر سيئاتنا، وأن يرفع الله درجاتنا، اللهم ذلك ما نتمنى فنسألك اللهم ألا ترد دعاءنا وألا تخيب رجاءنا.
أحبتي في الله:
والعين تعرف من عيني محدثها إن كان من حزبها أم من أعاديها |
وأهل الأحساء بينهم وبين قلبي صلة، وبينهم وبين فؤادي مودة، ولا غرو ولا عجب وإن كنت مقصراً في الزيارة، إلا أن العهد لو طال، والبعد لو اتصل، فإن الحنين داعٍ إلى معاودة اللقاء، وحسبنا أنا قد أمهلنا، وأمد الله في أعمارنا، حتى التقينا مرة أخرى، ونسأله ألا يكون آخر العهد بكم، ونسأله سبحانه أن يمنحنا من جوده وبركاته وفضله ما يمن به علينا من اللقاء مرات وكرات في هذا المكان وفي غيره مما يرضيه سبحانه وتعالى.
شباب اليوم هم أخطر العناصر في المجتمعات، بل إن الجماعات المشهورة بالدمار والتخريب والاغتيال والسطو تقوم على الشباب، كما أن الجهاد والدعوة والإصلاح والبذل والتوجيه والعطاء يقوم على الشباب؛ فالشباب طاقة وقوة تقبل التوظيف والتوجيه، فمن سبق إلى مناخ قلوبها ومراتع أفئدتها، ثم وجهها إلى خيرٍ أثمرت وأنتجت خيرا، ومن سبق إلى مناخ قلوبها ومرابع أفئدتها ثم عمرها باللهو والغفلات أنتجت من الشرور والمصائب ما لا يحصيه إلا الله عز وجل، ولذا لا نعجب حينما نرى أمر الشباب يتردد ذكره ويتعدد في مواضع شتى في كتاب الله عز وجل بياناً وتنبيهاً إلى خطرهم وشأنهم ألم يقل الله عز وجل: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13]، وما الحاجة إلى النص والتنبيه والبيان إلى شأنهم وأنهم فتية إلا لأن الفتوة لها شأنها ولها منـزلتها، بل وفي الحديث: (يعجب ربنا للشاب ليس له صبوة) بل إن الله عز وجل يذكر شاباً قد آتاه الله الحكم صبيا ويأمره أن يأخذ الكتاب بقوة يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً [مريم:12]، بل إن أهل الضلالة وقادة الشرك في زمن إبراهيم عليه السلام لما أخذوا يختصمون في شأن من دمر وحطم أصنامهم ومعبوداتهم وآلهتهم، قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:60]، ولو لم يكن للشباب تلك المنزلة الشامخة العلية لما خص أولئك بهذا الأمر، والنبي صلى الله عليه وسلم يعرف قيمة الشباب وقدرهم، ومن خالط الشباب ومن عاشرهم وقضى زمناً في تربيتهم وتوجيههم وشرح صدره وفتح أبواب قلبه لاستماع مشكلاتهم ودنا منهم وألان لهم الجانب، وخفض لهم الجناح، علم أن في الكثير من الشباب طاقة لو أردت أن تسلطها على أمة لتسلطت، وعلم أن في الشباب قدرة لو وجهتها في كثير من مجالات الخير لنفعت وأعطت وأثمرت.
شبابنا هيا إلى المعـالي هيا اصعدوا شوامخ الجبال |
هيا اهتفوا يا معشر الرجال قولوا لكل الناس لا نبالي |
معاذ وابن مسعود وسالم رضوان الله عليهم شباب ولكنهم قادة كانوا من القراء، كل واحد منهم أصبح مدرسة مستقلة يروى كتاب الله عنهم وعلى ألسنتهم، وزيد بن ثابت واحد من الشباب لكنه من كتبة الوحي بل ومن المترجمين المعتمدين، تعلم لغة اليهود في أيام عديدة، وتأملوا سرعة الاستيعاب والقدرة على الفهم والإدراك حيث استطاع أن يتعلم لغة يهود نطقاً وكلاماً وكتابة وخطاباً وحواراً في مدة يسيرة لم تبلغ شهراً واحداً.
أيها الأحبة! رسالتي وكلماتي من محب عرف الشباب، نصيحة محبة موجبها الإخلاص، رائدها مشاعر المودة وقودها التقدير، إنها إلى الشباب جميعاً، وهي أيضاً إلى من تعدى وجاوز سن المراهقة، وإلى من يكابد المراهقة وآلامها، رسالة إلى كل شاب صالح يسعى لإعفاف نفسه، ويدرك خطر مرحلة الشباب، وما يكتنفها ويعتورها من صراع الشهوة وما يحيط بالشباب من هتافات داعية إلى الغفلة، وليس الخطاب للشباب وحدهم، بل هو أيضاً إلى الآباء والأمهات الذين يعالجون تربية الشباب وتوجيه الشباب ويحرصون ويدأبون داعين في سجودهم وخلواتهم وساعات الإجابات التي يتحرونها أن يصلح الله عز وجل شبابهم، آمالنا في شبابنا عظيمة أن يتقلدوا أعلى المناصب ويتسلموا زمام التوجيه، ويمتطوا صهوة المنابر دعاة إلى الله وفرساناً تغبر أقدامهم في سبيل الله، وأن نراهم في كل ميدان من ميادين الحياة نفخر بهم وتقر أعيننا بصلاحهم واستقامتهم.
عبد الله بن عمرو بن العاص شاب لكن شبابه قاده إلى العناية بكتابة السنة وتحريرها.
مالك بن حويرث يقول: أتينا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون، فمكثنا عنده مدة، فعلمنا وأكرمنا، فلما رأى شوقنا إلى أهلينا، قال صلى الله عليه وسلم: (ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم وأمروهم).
لكنني أسأل الرحمن مغفرة وطعنة ذات فرغ تقذف الزبدا |
وضربة بيدي حران مجهزة بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا |
حتى يقال إذا مروا على جدثي يا أرشد الله من غازٍ وقد رشدا |
شاب يعرف أنه قادم إلى الموت الزؤام، قادم إلى معركة هو يشتهي أن يموت فيها، لا يفكر كيف يهرب منها، أو ما هو الحال في المرد وما هو المصير في الرجوع! عجبٌ من أمر هؤلاء الشباب إنهم كشبابنا في حواسهم وجوارحهم، لكن قلوبهم تختلف عن قلوب شبابنا، لكن إيمانهم يختلف كثيراً كثيراً عن إيماننا، ومن هنا يتباين الناس، فلا يتباين الناس بأنوفهم ولا بأعينهم ولا بألوانهم ولا بطول قاماتهم وقصرها، وإنما يتباينون بهذه القلوب التي جمعت الإيمان وجعلت خوف الله وخشيته والخوف من عذابه والطمع في ثوابه جعلته رائداً يحركها في كل اتجاه أتت بالعجائب وأثمرت وأغدقت وأينعت وأعطت عطاء لا حدود له، وأما إن امتلأت القلوب بالشهوات واللهوات والغفلات، فلا تسل عن اهتمامها بسفاسف الأمور وخوفها وخشيتها وجبنها عن معاليها، كانوا يتوجهون إلى ساحات القتال والواحد منهم يعلم أن ليس بينه وبين الجنة إلا أن يراق دمه كيقيننا نحن أن ليس بيننا وبين الشارع إلا هذا الجدار، يقينهم في الجنة أصبح أحدهم يراه رأي العين، ما كان أمر شبابهم صارفاً لهم عن اليقين بما أعد الله من الثواب، وما يخشونه من العقاب، أما شهوات شبابنا اليوم فأصبح الواحد منهم إذا ذكر بالجنة أو خوف بالنار رأيت في قسمات وجهه وتيقنت من علامات تفاعلاته من هذا الخطاب أن بينه وبين الفهم واليقين بالخطاب أمداً بعيدا، أما أولئك فاستجابتهم الفورية وتفاعلهم العاجل مع الخطاب، والأمر والنهي دال غاية الدلالة على اليقين، وهذه مسألة من أعظم المسائل التي ميزت الأجيال القرآنية الفريدة، في العصور السالفة المجيدة، عن عصورنا هذه، ليست مصيبة الناس في هذا الزمان هي قلة علمهم، بل من أعظم مصائب الناس ضعف استجابتهم وضعف تفاعلهم وضعف انقيادهم وخضوعهم وإخباتهم لأمر الله سبحانه وتعالى، كان ذلك الجيل من الشباب وإن كانوا صغاراً لكن كانت نفوسهم كبيرة:
وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام |
يقول سعد بن أبي وقاص : رأيت أخي عمير بن أبي وقاص قبل أن نعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر يتوارى، فقلت: مالك يا أخي! فقال عمير بن أبي وقاص لأخيه سعد: إني أخاف أن يردني رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو يختبئ ليس خوفاً أن يشار إليه بالبنان فيختار من الذين يعرضون وتكون صدورهم مسرحاً للرماح وميداناً لطعن السيوف، لا، وإنما يتوارى خشية أن يرد وخشية أن يحرم طعنة، وخشية أن يحرم رمية بسهم، وخشية أن يحال بينه وبين أن تطير رقبته في سبيل الله، يتوارى حتى لا يراه النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول لأخيه سعد: إني أخاف أن يراني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستصغرني، فيردني، وأنا أحب الخروج لعل الله أن يرزقني الشهادة، شاب صغير، احتمال كبير أن يرد فلا يقبل في الجيش، يقول: لعل الله أن يرزقني الشهادة، قال: فعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ما خشيه عمير، فقد استصغره النبي صلى الله عليه وسلم فرده، فأخذ عمير يبكي وينتحب نحيب الثكلى التي ترى زوجها مذبوحاً أمامها، ويبكي بكاء مراً والدمع لا يقف مسفوحاً على خديه ويتوسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرجوه، ويريد أن يثبت بكل ما أوتي أنه قادر جديرٌ حقيقٌ أن يكرم ليدخل مع الجيش في ساحة المعركة، فيقبله النبي صلى الله عليه وسلم ويجيزه، يقول سعد : فكنت أعقد حمائل سيفه من صغره حتى يثبت السيف في يده ولا يسقط، قال سعد : فقتل وهو ابن ست عشرة سنة، لم يقف حد أمر أولئك الشباب إلى هذا، بل أصبحوا قادة على السرايا والجيوش.
عكاشة بن محصن جعله النبي صلى الله عليه وسلم أميراً على أربعين رجلاً في سرية، وزيد بن حارثة أمَّره النبي صلى الله عليه وسلم على سرية، وعمرو بن العاص أمَّره النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار في غزوة ذات السلاسل، وما خبر أسامة عنا ببعيد، فقد ولاه النبي صلى الله عليه وسلم قيادة جيش فيه كبار الصحابة، والشاهد أن أولئك الشباب وإن كانوا صغار الأعمار فإنهم كانوا كبار الأقدار.
لا تعرضن لذكرنا في ذكرهـم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد |
بل ربما من العبث أن نقول: إن الرعيل الأول والجيل المتقدم كانوا أفضل من هؤلاء:
ألم تر إن السيف ينقص قـدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا |
وأنت امرؤ فينا خلقت لغيرنـا حياتك لا نفع وموتك فاجع |
أنت معدود علينا ومحسوب من سكاننا، ولكن لو أصابتك مصيبة لدعينا نحن أن نبذل من جيوبنا لإسعافك وأن نتبرع من دماء عروقنا لإنقاذك، ثم لما شفاك الله وعافاك وجدنا ولاءك واهتمامك، وجدنا حرصك وتقليدك، وجدنا عنايتك ومتابعتك لقوم هم الذين ذبحونا وذبحوا أمتنا وما فتئوا يودوننا خبالا وعنتاً وخراباً وضلالاً، لماذا يا أخي أنت محسوب علينا ومعدود على أمتنا في أمة المليار وتعيش هذه العزلة الشعورية؟ نعم، بل وأكبر من ذلك لو أن أحداً تجرأ عليك ليرميك أو ليصمك وصمة تغض من شأنك في دينك، لرفعت عقيرتك وعلا صوتك واحتج لسانك وأشار بنانك معترضاً على هذا، ولكن الواقع يشهد بالانفصام ويشهد بهذه العزلة الشعورية التي جعلتك تعيش بيننا لكن مشاعرك قد نقلتها الشاشة الملونة عبر الفضائية أو الفضائحية القبيحة الخبيثة لتكون واحداً ممن يحبون أولئك غير آبه بما يفعل أولئك، ربما أعجبك عند القوم مغنية خالعة، ربما أعجبك عند القوم مطرب ماجن، ربما أعجبك عند القوم مشاهد ربما قادتك الشهوة إلى متابعتها ومسارقة النظر إليها وطلب الخلوة لمتابعتها، ولكنك تأكيداً لعزلتك الشعورية لم تلتفت للخطباء الذين بحت أصواتهم وهم يقولون: إن هؤلاء الذين تتابعهم ذبحوا إخوانك في الشيشان واغتصبوا أخواتك في البوسنة وكوسوفا، وجوعوا إخوانك المسلمين في الصومال، وحاصروا المسلمين وذبحوهم في كشمير، لم تلتفت لهذا لو كانت المشاعر مفتوحة لنا ولغيرنا لسمعت نداءنا على الأقل كما سمعت نداء غيرنا، لكن الواقع يشهد أن مشاعرك توجهت إلى أولئك واشتغلت بأولئك عن إخوانك، فأين الولاء؟ والله عز وجل يقول: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، والله يدعونا أن نحقق ولاء كولاء الكفار فيما بينهم حيث يقول سبحانه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73].
واقع كثير من شبابنا اليوم مع العزلة الشعورية البعيدة عن الحضور الفاعل لقضايا الأمة بل وقضايا المجتمع، واقع بعض هؤلاء الشباب في قوقعة وحصار عجيب قوقعة مع من؟ مع شلة محدودة لا يبغي بهم بدلا ولا يرضى عنهم حولا ولا يريد أن يترحل عنهم بعيداً قليلاً ولا كثيراً، فزاد مع عزلته الشعورية هذا الحصار بمجموعه على روتين من الغفلة غريب ومريب، فقدته الجماعة وغاب عن وجوه الأخيار في منازل الأبرار، وأصبح همه السهر بالليل والجلوس وترداد الحديث وتكرار اللقاءات دون أي جدوى وبدون أي فائدة، بل إن بعض هؤلاء قد تطاول به الأمر إلى درجة الهروب من تحمل المسئولية، بل وردد بعضهم ما ردده بعض الكافرين، حيث أراد أن يتخلص من تبعات الأسرة، ويريد أن يعيش على علاقات محرمة مفتوحة بسبب ما أشرب في قلبه من حب تلك المشاهد التي رآها عبر تلك الفضائحيات، هذا واقع طائفة من الشباب.
وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر |
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر |
سهروا في الليل على هذه الفضائحيات، فلما جاء الصباح إذا بأجسامهم أثقل من الجدران الساقطة لا يستطيع حراكاً، ولا يستطيع أن يرفع رأسه بل قد دعي إلى ما هو أعظم: حي على الصلاة، حي على الفلاح، فلم يجب، ثم دعي إلى العلم، فلم يجب، ثم دعي إلى السبب وكسب الرزق، فلم يجب، وظل هذا ديدنه ودأبه وطبعه وهجيراه، لا يفارقه ولا يبرحه إلى أن تمر به السنون ليرى أن من حوله قد سبقوا، وليرى أن الجادين المثابرين المتسابقين قد بلغوا وحمدوا السرى، وعند الصباح حمدوا السرى؛ لأنهم جدوا واجتهدوا، وأما هو فقد أصبح جثة راقدة على فراشه، لم يبد حراكاً، ولم يرفع بالعلم رأسه ولم يشرح بالفقه صدره فأصبح هذا شأنه وهذا حاله، هذا حال طائفة من شبابنا.
تسألني أم الوليد جملا يمشي رويداً ويجيء أولا |
يريد أن يتوب لكنه قائد للسفهاء! يريد أن يهتدي لكنه في زمرة الضعفاء! يريد أن يستقيم لكنه في عداد الضائعين المنحرفين! ويريد دواء آلياً أتوماتيكياً نووياً سريعًا لا يكلفه المجاهدة لحظة، والله عز وجل قد جعل الطريق إلى الهداية بالمجاهدة: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]، نعم، الحضارة الغربية بمكتشفاتها ومخترعاتها قد اخترع أساطينها أشياء كثيرة: السيارات السريعة، الطائرات المحلقة، الغواصات التي تبحر في ظلمات البحار، الإلكترونيات، العجائب المخترعات، لكنهم لم يخترعوا شيئاً يخلق الإرادة في نفس الإنسان الذي ينتظر الهداية بكبسولة دواء وجرعة شراب، ولقمة طعام أو إبرة في العضل والوريد، فما أطول ما ينتظر في أمر الهداية لكن الذي يريد الهداية جاداً صادقاً عليه أن يجاهد نفسه حتى يحصلها، والواقع شاهد على أن أولئك إذا أراد أحدهم أي أمر من الأمور بنصيحة طبيب، أو كاتبٍ أو بأمر قرأه في قصاصة مجلة أو جريدة أو في لقاء رآه في شاشة فضائية وقالوا: لن تستطيع أن تصل إلى هذا الشيء إلا بالحرمان من كذا وفعل كذا والتدريب على كذا، عذب نفسه حتى يبلغ ذلك، وربما سمعته يتصل على الفضائية ويقول لذلك الذي يتسيد الحوار: فعلت ما وجهت وقمت بما نصحتم، وفعلت ما أمرتم، ولكنني لم أحقق النتائج المطلوبة، لكنه لم يستجب لأمر الله سبحانه وتعالى وهو أمر محتم عليه واجب لا تردد فيه أن يستجيب له.
وما أنا إلا من غزية إن غـوت غويت وإن ترشد غزية أرشد |
فهو مع الناس إمعة لا يستطيع أن يملك لنفسه قرارا.
أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم |
ما دمت على حق وعلى يقين بأنك على حق، فافعل ما اعتقدته وتيقنته وتعلم أنه يفضي بك بإذن الله إلى مرضاة الله وجنة عرضها السماوات والأرض وإن خالفك المخالفون، وإن انتقدك المنتقدون، ما دام هذا شأنهم فلا يضرك، واجعل لسان حالك كما يقول الأول:
إذا رضيت عني كرام أحبتي فلا زال غضباناً علي لئامها |
وواقع بعض شبابنا اليوم احتقار للذات، وضعف وتقوقع وانزواء وخشية من مواجهة الآخرين، بل ترى الواحد يعيش بهذه النفسية ويظن أنه فاشل عاطل باطل لا يستطيع وليس بكفء، وليس بحقيق ولا جدير أن يقدم شيئا، أو أن يفعل شيئا، وربما كان منعكس تربوي عبث في نفسه، وأثر عليه، وجعله يميل إلى الانزواء والتقوقع، أو تظل أسير غلطة من أحد أبويك إلى أن تموت وأنت منعزل متقوقع، لم لا تضرب في جنبات هذه الأرض؟ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك:15].
لذا أحبتي في الله! أقول وبكل يقين: إن هذه النفوس كما قال تعالى: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الحديد:17] اعلموا أن هذه النفوس لو وجدت كلمة الحق إلى ثغرة من ثغرات قلوبهم سبيلا لو أن كلمة الحق طرقت أسماعهم في حالة صفاء، لو أن واحداً استطاع أن يصل إليهم وهم في حال تفرغ ذهن وخلوة من هذه الشهوات لاستطاع أن يصل إليهم، والدليل على ذلك أنك إذا زرت قوماً في عزاء فنصحتهم ووعظت شبابهم، وهم لما يجف قبر أبيهم أو قبر أمهم بعد مصيبة الموت التي حلت في دارهم، تراهم أسرع استجابة من السيل إلى منحدره، والسبب أنهم استمعوا إليك في لحظة ما كان يزاحم حديثك عندهم صورة ولا قينة ولا مسلسل ولا فيلم ولا لهو، فأطيب شيء ينبغي لنا ونحن بصدد دعوة هؤلاء الشباب الذين وصفنا طرفاً من واقعهم أن نأتي إليهم في حال الصفاء، ولا يعني ذلك أن ننتظر متى يموت أحد منهم أو أحد أقاربهم ثم لا نجد وسيلة لدعوتهم إلا في العزاء لا، لكن قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا [سبأ:46]، لا تظنوا أحبتي في الله أن أساليب الدعوة موقوفة على أن نجتمع في المسجد ويقوم أحدنا يتكلم، ربما هذه من أقوى أساليب الدعوة، لكن رجلاً ليس بفصيح، وليس بخطيب مفوه، وليس برجل يشار إليه بالبنان، أو يشخص إليه بالعيان، يأخذ ورقة في ساعة من ليل أو نهار، فيكتب رسالة مدادها الحرقة والإخلاص والمحبة والرأفة والشوق والمودة والنصح لهذا المدعو، ثم يبعث بها ولو لم يكن معها هدية ثم يبعث ثانية وثالثة ورابعة، والله ما أسرع ما تجدون إجابة هؤلاء؛ لأنك لم تنصحه في ملأ ولم تفضحه بين الناس، إنما خاطبته ربما قرأ الرسالة في حين صفاء وسكون وهدوء من نفسه، ثم توافق إجابة فيستجيب لأمر الله وبإذن الله عز وجل.
أحبتي في لله! أقول إن طائفة من الشباب ولله الحمد والمنة هم ليسوا بقليل على صراط مستقيم، وعلى هدىً وعلى إمام مبين، ولكن بعضهم كما قال تعالى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268]، بعضهم يحسب أن كل صيحة عليه، وأن كل أدنى مشكلة صغيرة لابد أن تحيط به وهو يرى أهل الباطل يتخطون الحواجز والسدود ويفعلون ولا يخشون ولا يخافون، وهو إذا أراد أن يمشي خطوة للدعوة والإصلاح، والتوجيه والإرشاد؛ ارتعدت فرائصه، واضطرب فؤاده، وخشي من نسيم الريح إذا هب حوله، لماذا يا أخي؟ أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام؟! قبل أن تكون مستقيماً مهتدياً كان الناس يتحدثون عن عجائب سطوك وغرائب لهوك وعجائب فعلك! عنيد صنديد، ذو بأس شديد، ولما من الله عليك بالهداية أصبحت حملاً وديعاً تخاف من أي شيء! (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام) نريد من تلك القوة التي كانت يوماً ما في الشر وفي العناد وفي اللهو وفي الغفلة وفي المعصية، نريد أن تسخرها بحكمة وفطنة وذكاء لتبني بها بدلاً مما كنت تهدمه من قبل، ولترشد وتصلح بها بدلاً مما كنت تفسد به من قبل، نعم ما فتئ الأعداء يرمون الصالحين بألوان القذائف والتهم، فتارة هم الأصوليون، وتارة هم الإرهابيون، وتارة هم المتطرفون، وتارة هم الذين يفسدون على المجتمعات أمنها، وتارة هم الذين يهددون الأمن الاقتصادي في البلدان وتارة وتارة، ولكن وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً [آل عمران:120]، وأي عاقل هو ذاك الذي يزعجه نهيق الحمير أو نباح الكلاب ليرده عن هدى مستقيم وصراط مبين قد أمره الله أن يمضي عليه وأن يسلكه؟
أخيَ! تأمل في إصلاح ذاتك وأصلح سريرتك وطيب سرك قبل علانيتك، وباطنك قبل ظاهرك:
يا من يطالب غيره بفضائـل وهو الذي يبدو إليها أحوج |
ما فاز من نشر الفضيلة مرشداً وخيوله تشكو الهزال وتعرج |
لو أنصف الإنسان في أقوالـه وفعاله لبدا الضيا والمخرج |
لو أصلح الإنسان بدءاً نفسـه عم الرضا والحق حقٌ أبلجُ |
أحبتي في الله! واقع شبابنا من الطرفين بحاجة إلى الإصلاح، ولا نزكي أنفسنا، فالصالحون بحاجة إلى تزكية أنفسهم، ونحن أول المدعوين إلى ذلك، والظالمون لأنفسهم بحاجة إلى أن يقلعوا عن الضلالة وظلم أنفسهم ويعودوا إلى الله عوداً حميداً، فإن كان واقعنا يشهد بتقصيرنا وتفريطنا إلا أننا لا نقول: إن الوقع صفحة سوداء غمامة قاتمة، ضباب كثيف، لا سبيل للسير فيه، لا، بل في الواقع خيرٌ وفي الواقع شر، والخير كثير، وحقيق أن يزاد وأن يحافظ عليه، والشر كثير وحقيق أن يجاهد وأن يكافح وأن نتواصى في إنكاره وإبعاده عن مجتمعنا، وأما الأمل فأن نكون على ما أراده الله عز وجل جميعاً كلنا سواء من كان مقتصداً أو سابقاً للخيرات أو ظالماً لنفسه بالآمال، أن نحول النقص إلى كمال والضعف إلى قوة والجهل إلى علم والفرقة إلى اتفاق والتفرق والإحن إلى سلامة الصدور والمحبة والأمل، أن نقضي واثقين بنصر الله وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105].
أسأل الله بمنه وكرمه، أن يعز الإسلام والمسلمين، اللهم يا حي يا قيوم يا ودود! يا ذا العرش المجيد! يا فعال لما تريد! اللهم هازم الأحزاب! منشئ السحاب! منـزل الكتاب! خالق الخلق من تراب! نسألك اللهم أن تمنحنا الأمن في دورنا وأوطاننا، وأن تصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأن تجمع شملنا وحكامنا وعلماءنا ودعاتنا، وألا تفرح علينا عدواً ولا تشمت بنا حاسداً، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في فلسطين والشيشان ، اللهم آمن روعاتهم واستر عوراتهم واحفظ ذرياتهم اللهم انصرهم نصراً مؤزرا، اللهم اجعل ما استولى عليه الروس من أرض إخواننا جمرة ملتهبة في قلوبهم حتى يلفظوها، اللهم يا حي يا قيوم اجعل سلاح الروس في صدورهم، وكيدهم في نحورهم، وتدبيرهم تدميراً لهم، اللهم لا تجعلهم يفرحون بمترٍ دخلوه في أرض المسلمين، اللهم اقتلهم بددا، ولا تبق منهم أحدا، اللهم إنهم ينكرون وجودك، ويدعون لك الصاحبة والولد، اللهم فأرنا فيهم عجائب قدرتك، وأنزل بهم بأسك وبطشك وعذابك ورجزك وأليم عذابك، إله الحق آمين، اللهم انصر إخواننا وثبت رميهم، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم احفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وشمائلهم، ومن فوقهم ونعوذ بعظمتك اللهم أن يغتالوا من تحتهم، اللهم اجمع على الحق كلمتهم، وأقم على التوحيد دولتهم، اللهم اجعل من مات منهم شهيداً في الجنة واحفظ اللهم الأحياء منهم وأقر أعينهم بنصر عاجل يا رب العالمين، اللهم صلَّ على محمد وصحبه وآله، وجزاكم الله خيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر