أما بعد:
أيها الإخوة في الله! إنه لمن دواعي الفرحة والسرور والغبطة أن نلتقي مثل هذا اللقاء الإيماني، وأن تلتقي هذه الوجوه المؤمنة بالله سبحانه وتعالى طلباً للخير، وحباً للفائدة، طلباً لما عند الله سبحانه وتعالى وخوفاً مما عنده، ونحمد الله سبحانه وتعالى أن نرى مثل هذا الجمع يجتمع في مجال الدعوة إلى الله، وعلى كلمة الحق، وكما تعرفون معنا في هذه الليلة رجلٌ نذر نفسه لله سبحانه وتعالى، وللدعوة إليه، وهو معروف للجميع وهو فضيلة الشيخ/ عبد الله بن حماد الرسي، ولا أريد أن أطيل في تعريفه، فهو معروف للجميع، وأنا أعرف أنه لا يرضى بالثناء والحمد، فلا أستطيع أن أقول إلا تقديم الشكر الجزيل لفضيلته، وأدعو الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذه الخطوات وهذه الجلسة في ميزان حسناته، كما أدعوه جل وعلا أن يجعلها أيضاً في ميزان حسناتكم جميعاً، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعنا على الهدى وأن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وكما تعرفون أن المحاضرة بعنوان: بداية ونهاية، ومع فضيلة شيخنا ومحاضرته.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ البلاغ المبين، نصح لأمته وتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً [آل عمران:102-103].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى يحثنا على التقوى في كتابه العزيز، وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم يحثنا على التقوى، يقول ربنا جل وعلا: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197] والتقوى هي التجارة الرابحة التي سوف يجدها المتقون يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89] ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اتق الله حيثما كنت).
حياتك في الدنيا قليل بقاؤها ودنياك يا هذا شديدٌ عناؤها |
ولا خير فيها غير زاد من التقى تُنال به جنات عدن وماؤها |
بلى إنها للمؤمنين مطية عليها بلوغ الخير والشر داؤها |
ومن يزرع التقوى بها سوف يجتني ثماراً من الفردوس طاب جناؤها |
وتب مما جنيت وأنت حي وكن متنبهاً قبل الرقاد |
قال الله عز وجل: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ... [الحديد:20] ثم ضرب الله مثلاً فقال: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20] هذه هي الآخرة، إما عذاب شديد في نار جهنم، أو مغفرة ورضوان في جنات النعيم.
فاحذروا الحياة الدنيا فإنها غرارة خداعة، وكم يمر بالأسماع من كتاب الله جل وعلا، ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من التحذير من الدنيا.
فإن الله جل وعلا يحذرنا من الدنيا ويقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر:5] هذه الحياة الدنيا التي حصل بيننا بسببها البغضاء والشحناء والتقاطع والعداوة.. فقطيعة الأرحام وعقوق الوالدين كل هذا بسبب الدنيا، الحياة الفانية الدنيئة، التي لا تزن عند الله جناح بعوضة، يقول صلى الله عليه وسلم: {لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة؛ ما سقى كافراً منها شربة ماء} ولكنها مطية للآخرة إذا عرف الإنسان كيف يتصرف بها.
والإنسان إذا طلب منه الآن بذل شيء قليل لمشروع من المشاريع الخيرية، تثاقل عن ذلك، نسأل الله العفو والعافية، ولكن إذا رأى يوم القيامة ذلك الفضل العظيم، وذلك الجزاء الوافر، تمنى أنه أنفق كل أمواله في تلك المشاريع الخيرية، والأمر كما قال الله تعالى: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35] فالنفس -أيها الإخوة- تحتاج إلى جهاد، فيجاهدها على فعل الخيرات وبذل المعروف في سبل الخير، وسوف يجدها يوم القيامة، وبعكس ذلك الذي يستعمل الدنيا في مشاريع الشر؛ فإنه سوف يجد ذلك يوم القيامة يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:6-8].
أيها الإخوة: إن الدنيا مزرعة للعبادة، والله سبحانه وتعالى خلقنا وأوجدنا في هذه الحياة لنستكثر من الأعمال الصالحة، ونحن في دار الابتلاء تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:1-2] ليبلوكم أي: ليختبركم أيكم أحسن عملاً، أيكم أحسن العمل وأخلص العمل لله، واتبع في أعماله وأقواله وأفعاله نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان عمله وفقاً لكتاب الله وعلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكمله بالإخلاص لله رب العالمين.
فهذه الحياة الدنيا سوف يقضيها الإنسان إما بالأعمال الصالحة، وسوف يجد غب ذلك، وإما بالأعمال السيئة وسوف يجد ذلك مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].
لذلك الرسول صلى الله عليه وسلم يقول عند وفاته؟ {اللهم في الرفيق الأعلى} حباً لمجاورة الله عز وجل، وبلال بن رباح لما جلست زوجته عند رأسه تقول كلمات، قال لها: [[لا تقولي هكذا، غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه]] الله أكبر! المؤمن يفرح بلقاء الله عز وجل، ويفرح بالموت، ولكن الكافر على خلاف ذلك، يقول صلى الله عليه وسلم: {وإن الكافر إذا حضره الموت بشر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه، فكره لقاء الله فكره الله لقاءه} رواه البخاري ومسلم.
وأما الكافر -والعياذ بالله- فإنه عند خروج الروح يقول الله تعالى عنه: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الأنفال:50] هل ظلمهم الله عز وجل؟ لا.. وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].. وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [هود:101] ثم يقال لهم أثناء ذلك الضرب: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [آل عمران:182] ثم يقال لنفسه: اخرجي أيتها الروح الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، فلا تسأل عن تلك الروح ماذا تعمل بذلك الجسد، فتقول: يا ويلها إلى أين؟ إلى حفرة من حفر النيران، إلى قبر يضمك فتختلف فيه الأضلاع ويفتح فيه باب إلى النار، ويأتيه العمل الخبيث الذي كان يعمله في الحياة الدنيا، يأتيه بأكره صورة وأكره رائحة وأبشع منظر، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، نسأل الله العفو والعافية.
رجل في عهد ابن عباس رضي الله عنه، ما عاش مع البلوت ولا مع الكينكان ولا مع الدمنة ولا مع الميسر والقمار، عاش في تجارته وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا [البقرة:275] ولكنه لما اشتغل به عن طاعة الله، وصده عن ذكر الله وهي الصلاة كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المنافقون:9] ذكر بعض المفسرين أن ذكر الله في هذه الآية هو الصلاة، فهذا الرجل لما اشتغل بتجارته وبحسابه سلط الله عليه هذا التنين في قبره.. نسأل الله العفو والعافية.
فعذاب القبر حقٌ، وكذلك نعيم القبر حق، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما مر على رجل من الصحابة قال: {أفٍ! قالوا: ماذا يا رسول الله؟ قال: إن الشملة أو العباءة التي غلها لتشتعل عليه ناراً في قبره} لأنه أخذها قبل أن تقسم الغنائم، فهي تشتعل عليه في قبره ناراً.. نسأل الله العفو والعافية. ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: {إنهما ليعذبان وما يعذبان بكبير} أي: ليس كبيراً في أعين الناس، ثم قال صلى الله عليه وسلم: {بلى إنه لكبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله} أي: لا يتنزه من بوله، ولذلك يعذبان في القبر، فشق رسول الله صلى الله عليه وسلم جريدة وغرزها على قبر كل واحد منهما لعله يخفف عنهما ما لم تيبسا.
وبعض الناس يأتي ويأخذ ويشقها ويضعها على القبر، فنقول له: هذا فعل يخالف هدي الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه وتعالى أطلعه على ما في هذين القبرين من أن اللذين في قبريهما يعذبان، فلذلك لا ينبغي لأحد أن يتعدى أو يخالف هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، أو كما يفعل بعض الناس إذا دفنوا الجنازة وقفوا صفوفاً، وقالوا: ماذا تقولون في فلان؟ وقد تواطئوا على هذا الخبر، فيقولون: فلان بن فلان رجل طيب، ويمكن أنه لا يعرف الصلاة في بيوت الله، لكنهم قالوا: فلان طيب أخذاً بالحديث الذي يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أنه مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيراً، فقال: وجبت، ومر عليه بأخرى فأثنوا عليها شراً، فقال: وجبت، فقال
لكن ينبغي أن تكون شهادة حقيقية على إنسان متق لله عز وجل، صاحب تقوى ودين، أما من لا يعرف الصلاة، أو من هو منهمك في المسكرات والمخدرات، أو من يرتكب اللواط والزنا، ثم يقف الناس في جنازته صفوفاً ويقولون: فلان بن فلان نعم الرجل.. فهذا خلاف الواقع، وسوف يسألون عن هذه الشهادة يوم القيامة.
ومذهب أهل السنة والجماعة أنه لا يحكم لأحد من أهل القبلة بجنة ولا بنار، ولكن يرجى للمحسنين الثواب، ويخاف على المسيئين العقاب.
وهذا الذي رآه صلى الله عليه وسلم هو أن الله وكل بالرجل الذي كان يتثاقل عن الصلاة، ملكاً يضربه بذلك الحجر هو من عذاب البرزخ.
كذلك مر برجل آخر وهو مستلق لقفاه، وإذا بآخر قائم عليه بكلوب، وإذا هو يشرشر شدقه ومنخره وعينيه إلى قفاه، وكلما صحا هذا الجانب أتى إلى الجانب الآخر، فسأل عنه صلى الله عليه وسلم، ما هذا؟ قالوا: هذا الرجل الذي يغدو فيكذب الكذبة فتبلغ الآفاق.. نسأل الله العفو والعافية.
ولذلك حذر صلى الله عليه وسلم من الكذب، فقال: {إياكم والكذب! فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً}.
ثم مر صلى الله عليه وسلم بأناس في مثل التنور أسفله واسع وأعلاه ضيق، فيأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم هذا اللهب ارتفع بهم، وضوضوا من شدة ما يأتيهم من هذا الحر، وهم عراة في ذلك التنور، فقال صلى الله عليه وسلم: من هؤلاء؟ قالوا: هؤلاء الزناة والزواني.. الذين يفعلون جريمة الزنا، الذين يرتكبون الجريمة الشنعاء، والذين يرتكبون الجرثومة الخطيرة التي تسبب الأمراض في الدنيا، عقوبتهم في الدنيا الفقر وتسويد الوجه، ومرض الزهري والسيلان والإيدز وغيرها من الأمراض المستعصيات، التي حصلت في آخر الزمان بسبب هذه الجرثومة الخطيرة التي انتشرت، نسأل الله جلت قدرته أن يبعدها عن بلادنا وعن بلاد المسلمين أجمعين، إنه على كل شيء قدير.
ففي الدنيا يجازون بهذه المصائب.. فقر وتسويد للوجوه، ويصابون بهذه الأمراض الخطيرة المتسعصية، التي لم يوجد لها علاجٌ حتى الآن، وفي البرزخ يعذبون في مثل التنور، ويوم القيامة لا تسأل عن أحوالهم في جهنم، نعوذ بالله من جهنم.
ومر صلى الله عليه وسلم على أناس -وهذا ليلة أسري به صلى الله عليه وسلم يقول: {مررت بأناس لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم} أهل الغيبة الذين لا تطيب مجالسهم إلا بأكل لحوم الناس، ولا تطيب مجالسهم إلا بالاستهزاء والسخرية بعباد الله.. ومع الأسف الشديد يحدث من بعض الناس استهزاء بأهل الدين، حيث يقولون: هذه مطوع له لحية مثل لحية التيس، أو له لحية مثل المكنسة.. وهذا لبس ثوب أخيه الصغير، أي: قصر ثوبه اتباعاً للرسول صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذا أخطأ ولبس ثوب أخيه الصغير.. يستهزئون به؛ لأنه اتبع هدي الرسول صلى الله عليه وسلم.
ويقولون: هذا متجمد.. هذا متزمت.. هذا رجعي.. ويا وليهم إذا لم يتوبوا من هذه الألفاظ! وكم مرة أقول هذا الكلام، وهو من باب النصيحة، وقد يقع هذا الأمر من أناس كبار في السن، يقولون: ما هذا الدين الذي أتى به هؤلاء الشباب؟ لأن بعض هؤلاء الكبار عاش بين الشيشة والتتن والدخان وغيرها، ولما رأوا بعض الشباب التزم وتمسك بدين الله؛ قالوا: ما هذا الدين الذي أتى به هؤلاء الشباب.. ويظنون أن هذا الدين جديد، وهذا هو دين الله الذي بعث به محمداً صلى الله عليه وسلم، ولكن نشكر الله عز وجل على هذه الصحوة واليقظة، ونسأل الله عز وجل الثبات على دينه.
صحيح أنه قد مرت بنا سنون غفلنا وابتعدنا وأعرضنا، ولكن هذا من فضل الله سبحانه وتعالى أن وفقنا ورجعنا، فنسأل الله عز وجل أن يتم علينا هذه النعمة، وأن يثبتنا على قوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [آل عمران:8].
فمع الأسف الشديد تجد شاباً متمسكاً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا هو واضع يديه على صدره في الصلاة مثلما أمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا برجل آخر من المعرضين الذين لم يعرفوا هدي الرسول، يقول: ما هذا الدين الجديد الذين جئتم به لنا؟ هذه هي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن صدق الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال: {بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء! قيل: ومن الغرباء؟ قيل: الذين يصلحون إذا فسد الناس، أو يُصلحون ما أفسد الناس}.
فيا أيها الشباب: الله الله في الرجوع إلى دين الله وكتاب الله، وإلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تلتفوا إلى المستهزئين فقد استهزئ برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأني أنظر إليه وهو يصلي عند الكعبة، لما وضعوا على رأسه سلا الناقة، واقرءوا هذا في سيرته صلى الله عليه وسلم، وما سئم ولم يضره ذلك، وما ضعف عزمه عن الدعوة إلى الله عز وجل، وعن طاعته سبحانه، وكم مر برسول الله صلى الله عليه وسلم وبصحابته الكرام من الابتلاء والامتحان فما ضرهم ذلك، كان منهم من تحمى الحديدة وتوضع على رأسه تفوح رائحة لحم رأسه، ومنهم من يسحب على الرمضاء، ومنهم من توضع عليه الصخرة الكبيرة، ولم يرده ذلك عن دين الله عز وجل، ومنهم من ضرب حتى اختلط أنفه بوجهه، ويحمل وهو يقول: كيف حال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ولم يضرهم ذلك أبداً.
أما البعض منّا في هذه الأزمنة المتأخرة والمظلمة، إذا سمع كلمة بسيطة من بعض المستهزئين ابتعد عن الدين وانحرف والعياذ بالله، فلو رسخ الإيمان في قلبه، لما ضره ألقاب الملقبين، ولا ضره استهزاء المستهزئين، فلقد كان في من كان قبلنا يوضع المنشار على مفرق رأسه، ويوضع على الأرض قطعتين، ولم يرده ذلك عن دينه؛ لأن الإيمان ثبت في قلوبهم ثبوت الجبال الراسيات، فالله الله أيها الإخوة في الله!
وهذه بشارة يزفها لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، تسطر لكم في كتب الأحاديث، ويدونها لكم علماء الإسلام، خدمة ميراث محمد صلى الله عليه وسلم، هذه البشارة التي يزفها لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله حيث يقول: {وشاب نشأ في عبادة الله }.
أيها الإخوة: يقول ابن عباس رضي الله عنهما عن عذاب البرزخ: [[إن اللوطي إذا مات من غير توبة مسخ في قبره خنزيراً]] نسأل الله العفو والعافية.. اللوطي الذي يأتي الذكران من العالمين دون النساء، الذي يهجر ما أحل الله له من الزوجة الطيبة ثم يرتكب هذه الجريمة الشنعاء؛ جريمة اللواط التي إذا فعلت في مكان هربت الشياطين منه، تخشى أن ينزل عليهم العذاب مع أولئك المفسدين الذين يفسدون في الأرض، وتكاد الجبال أن تقتلع من أصولها؛ لأنها جريمة نكراء، وما عذب الله أمة أشد عذاب مما عذب به قوم لوط، حيث أمر جبريل عليه السلام أن يقتلع قراهم ويرفعهم إلى السماء حتى سمع أهل السماء صياح الديوك ونباح الكلام، ثم قلبها عليهم، ثم أتبعهم الله بحجارة من سجين.
تلك القرى التي كانت تغط بالناس، أصبحت الآن بحيرة ميتة منتنة لا يستفاد منها، ثم عقب الله بذلك، وقال: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:83] ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: {من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به}.
وأبو بكر رضي الله عنه أحرق اللوطي في النار، وكذلك عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، وقال: ابن عباس رضي الله عنه: [[أرى أن ينظر أعلى مكان في البلد، ثم يرمى منه ويتبع بالحجارة]]. هذا اللوطي الخبيث صاحب الجرثومة الشريرة التي تنشر الشر والعار في الأرض.. نسأل الله العفو والعافية.
في ذلك اليوم العظيم، إذا حشرت الوحوش، واقتص لبعضها من بعض، وهذا من عدل رب العزة والجلال أنه يأخذ للشاة الجلحاء من الشاة القرناء حقها، ثم يقول لها: كوني تراباً، فيقول الكافر في ذلك اليوم: يا ليتني كنت تراباً.
أيها الإخوة: في ذلك اليوم العظيم نأتي حفاةً عراةً غرلاً؛ لذلك تقول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: {يا رسول الله! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض! قال: الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض} فهل تفكرنا في ذلك اليوم أيها الإخوة؟ هل تذكرنا ذلك اليوم العظيم يوم لا ينفع مال ولا بنون؟ إن القلوب لمريضة، وإلا كيف يمر بنا سماع ذلك اليوم العظيم مر الكرام، ونحن لاهون غافلون.
لا إله إلا الله! رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً.. نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق، والساعة آتية لا ريب فيها.. فمن حقق ذلك دخل الجنة على ما كان له من عمله.
أيها الإخوة! يا أهل لا إله إلا الله! يا خير أمة أخرجت للناس! يا أمة محمد! الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لنستعد لذلك اليوم العظيم، يوم القيامة، والوقوف بين يدي الله عز وجل، لعل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الذين يعبرون على الصراط.
أيها الإخوة: وفي نهاية المطاف لا شك أن الناس -وكلنا نؤمن بذلك- ينقسمون إلى قسمين: قسم إلى دار السعادة والأفراح، إلى دار النعيم، إلى الجنة، إلى دار السعداء، وقسم يذهب بهم إلى النار، ويسحبون على وجوههم إلى نار جهنم.
أسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.. اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، اللهم اشف مرض قلوبنا، وارزقنا نهج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.. وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.. اللهم اجعلنا من أهل الجنة، اللهم اجعل آخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولا تجعلنا من أهل النار رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً [الفرقان:65-66].. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا.. اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا، وارزقنا استعمالها في طاعتك وفي رضاك وفيما تحبه وترضاه يا رب العالمين.. اللهم اجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا.
اللهم اغفر لنا في هذه الساعة أجمعين، ولوالدينا ولوالد والدينا، ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، برحمتك يا ارحم الراحمين.. اللهم دعوة من أعماق قلوبنا نتوسل إليك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تصلح ولاة أمورنا، اللهم أصلح ولاة أمورنا، اللهم ارزقهم الجلساء الصالحين الناصحين يا رب العالمين.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر