اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ [الروم:8].
يأمر الله سبحانه وتعالى عباده بالتفكر في ملكوت السماوات والأرض، فيقول: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ أي: أولم يتفكر العباد بينهم وبين أنفسهم في خلق السماوات والأرض، وفي ملكوت الله سبحانه، فيعرفون أن هذا الخلق العظيم الذي خلقه الله سبحانه آية للعباد، ليعرفوا قدرة ربهم وقوة ربهم، وأن هذا الكون لا بد وأن يكون له خالق قد خلقه، أولم يتفكروا في ذلك أم أنهم كالأنعام لا يفهمون ولا يعرفون ولا يفكرون؟
قال سبحانه: مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ أي: خلقها حقاً سبحانه وتعالى بالحق وبالعدل، وبالقسط بحكمته سبحانه وتعالى، فهو خلقها ليحق الحق بكلماته سبحانه وتعالى، وخلقها لأجل مسمى، وكل شيء عنده بمقدار، وكل شيء بقضاء وقدر، فإذا جاء الأجل انشقت السماء فهي يومئذ واهية، وإذا بالأرض تتفجر بما فيها من أنهار ومن بحار، وبما فيها من جبال، كل ذلك بأمر ربها سبحانه وتعالى.
كذلك العباد كل عبد مخلوق لأجل معين، له وقت معين يخلق فيه، ووقت معين يموت فيه، ووقت معين يبعث فيه، كل ذلك عند الله بمقدار، ولكن الناس لا يفهمون ذلك، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ أي: يكفرون بالبعث والنشور، وبالعود إلى الله سبحانه للحساب إما للجنة أو للنار.
فقومه الذين كانوا معه لا يجرؤون أن يقولوا ذلك له، بل كان يستخفهم فيطيعونه، فنقول: كانوا خفاف العقول، كانوا يطيعونه وهم يعرفون أنه كذاب، وأنهم كذابون في عبادتهم له، فلو أن الناس تفكروا واعتبروا بهؤلاء الذين خافوا من فرعون فعبدوه من دون الله سبحانه، كيف انتهى أمر فرعون وقومه، وصاروا عبرة للناس، وهلا اعتبرتم بهؤلاء؟! كيف فعل الله عز وجل بهم، ففرعون أغرقه الله سبحانه، وهو الذي قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، وهو الذي قال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، وحين أغرقه الله قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90].
قال تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ أي: نهاية ونتيجة سوء عملهم، كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً [الروم:9] يعني: كانت أبدانهم قوية، وكانوا طوالاً في قامتهم، وكانوا عراضاً في أبدانهم، وكانوا ذوي عضلات وقوة، وآثارهم تدل على ذلك، انظر إلى الذين بنوا الأهرام يا ترى كيف كانت أجسامهم؟ وكيف كانت قوتهم؟ لعلهم (أوناش) ولعلهم (روافع)، لقد أعطاهم الله عز وجل قوة بدنية، فرفعوا وبنوا وصارت آثارهم تدل على ما أعطاهم الله سبحانه من قوة ومن علوم، لكن هل انتفعوا بما أعطاهم الله من قوة؟ لا، بل تمردوا وعتوا وعلوا في الأرض واستكبروا، فالله سبحانه وتعالى يقول: كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ أي: أنهم كانوا يقلبون الأرض بالحرث، فكانوا يزرعون ويبذرون ويحصدون، وكانوا أقوياء يفعلون ذلك.
قوله: وَعَمَرُوهَا [الروم:9] أي: أقاموا فيها أعماراً طويلة، فهم عمروا حتى قيل: لن يزولوا، أين ذهب هؤلاء؟ انتهى أمرهم، حين يتكلم عنهم الإنسان يقول: قوم في الماضي السحيق، هل كانوا يظنون أن يصيروا ماضياً يتندر بهم ويتكلم الناس عنهم؟! لقد أقاموا عمراً طويلاً، فظنوا أنهم لن يبيدوا أبداً، أو قوله سبحانه: وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أي: عمروها بالسكنى وعمروها بالزراعة والفلاحة، وعمروها بالصناعة، وعمروها بغير ذلك.
قوله: أكثر مما عمروها يعني: الذين من بعدهم، وأعمار العباد تتناقص، ففي عهد نوح عاش نوح ألف سنة إلا خمسين عاماً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في الدعوة، أما الآن فلا أحد يعيش هذا العمر، فأعمار أمة النبي صلى الله عليه وسلم قصيرة، من الستين إلى السبعين، والقليل من يجوزون ذلك، لكن السابقون عمروا، كان الواحد يعيش مائتين سنة ويظن أن عمره طويل، ولكن ليس بطويل جداً، الآن لا أحد يعيش هذه المدة، والآن يقولون: المعمر الذي يعيش في البلد الفلاني مائة وخمس عشرة سنة، أو عاش مائة وسبع عشرة سنة فنحن نقول: هذا معمر فكيف به إذا عاش ثلاثمائة سنة أو أربعمائة سنة، يكون ماذا؟ السابقون عاشوا هذه السنين وأكثر.
فالله عز وجل يقول: وعمروها أي: عمروا الأرض وسكنوا فوقها، وامتدت أعمارهم، لكن مهما طال عمر الإنسان فلا بد في النهاية أن يرجع إلى الله عز وجل ليحاسبه سبحانه.
قال: وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ أي: بالآيات البينات من عند الله، هذه الآيات التي تبين نفسها وتفصح عن نفسها، أو جاءتهم معجزات من عند رب العالمين سبحانه، وقراءة الجمهور: وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ ، وقراءة أبي عمرو ( وجاءتهم رسْلهم بالبينات ) بسكون السين فيها.
قوله تعالى: فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [الروم:9] كأن هنا فيه شيء مقدر محذوف، والمعنى: أنهم لما جاءتهم رسلهم بالبينات فكذبوا ولم يعتبروا ولم يتعظوا فأهلكهم الله، ولم يظلمهم الله سبحانه بإهلاكهم، قال: فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وقال: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].
والله عز وجل قد حرم الظلم على نفسه قال: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، فمستحيل أن الله عز وجل يحكم بغير العدل، فحكمه العدل، وقوله الحق سبحانه، فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أي: ظلموا أنفسهم بشركهم وبعصيانهم وبتمردهم على ربهم سبحانه، وباستكبارهم على رسل ربهم عليهم الصلاة والسلام، فاستحقوا عقوبة رب العالمين سبحانه التي ذكرها في كتابه.
فإذاً: هنا على هذه القراءة كانت العاقبة وكانت النتيجة الشيء الذي يسوء الإنسان، والشر الذي يحيق بهذا الكافر نتيجة وعقوبة وعاقبة فعله وصنيعه.
وكانت عاقبتهم ما يسوءهم؛ لأنهم كذبوا بآيات الله، ولأنهم فعلوا أسباباً استحقوا بها أن يسيئهم الله سبحانه وأن يجعلهم في النار.
يقول الله سبحانه وتعالى: ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا أي: عاقبة المسيئين، وعاقبة المسيئين هي: السُّوأَى فعلى تأنيث السوء، مثل ما نقول: الحسنى تأنيث الحسن، وقد تأتي بمعنى أفعل التفضيل.
قوله: أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون يعني: استحقوا ما يسوءهم يوم القيامة من شر في النار. بسبب أنهم كذبوا بآيات الله، وكانوا بهذه الآيات يستهزئون.
فهنا ذكر ألوهيته سبحانه، والألوهية هي أنه سبحانه يستحق أن يعبد وحده لا شريك له، فهو إله، أي: معبود.
قوله: الله يبدأ الخلق بدء الخلق وإعادة الخلق من صفات الربوبية، وهو الرب الذي يفعل ما يريد سبحانه، ويفعل ما لا يقدر غيره أن يفعله، فهو الذي يبدأ الخلق، بدأه وفطره وأبدعه وأوجده على غير مثال سابق، لم يكن هناك خلق قبل هذا، فقد خلق هذا الخلق بهذا الشكل الآن سبحانه.
قوله: ثم يعيده أي: الذي يبدأ قادر على الإعادة، قادر أن يفنيه ثم يعيده مرة ثانية.
قوله: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ المرجع إلى الله فقوله: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هذه قراءة الجمهور على الخطاب، وقراءة أبي عمرو وشعبة عن عاصم : (ثم إليه يرجعون) على الغائب، فترجعون على الخطاب، أي: أنتم (ترجعون) إلى الله، و(يرجعون) على الغائب، أي: يرجعون هم.
وقراءة يعقوب ستكون: ( ترجعون) و(يرجعون ) يقرؤها روح عن يعقوب ويقرؤها رويس عن يعقوب : (ترجعون) و(يرجعون).
قوله: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ عندما تقوم الساعة يوم القيامة يقوم الناس من قبورهم، ويحشرون بين يدي ربهم.
قوله: يبلِسُ الْمُجْرِمُونَ أبلس الرجل بمعنى انقطع وتحير ويئس، فهو لم يقدر على النطق وعلى الجواب.
كل هذه المعاني في هذه الكلمة (أبلس) يعني: يئس وقنط وانقطع واندهش وتحير، وجلس حزيناً متفكراً ساكتاً مغموماً متحيراً، هذا هو المبلس، فالمجرمون في هذا اليوم يكونون منقطعين متحيرين، وقد كان الواحد منهم في الدنيا يعرف أن يتكلم ويعرف أن يجادل ويجد له أنصاراً، أما يوم القيامة فلا أحد ينصره، وإنما يجلس متحيراً لا يقدر على الاعتراض على شيء، فالله عز وجل ذكر حال المجرمين يوم القيامة أنهم مبلسون، أي: آيسون قانطون من رحمة الله لا يقدرون أن يدفعوا عن أنفسهم.
ثم قال هنا: وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ أي: كفروا بمن عبدوه من دون الله.
قوله تعالى: فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ الروضة عند العرب: هي المكان الجميل الذي يستمتع فيه الإنسان، يعني: هي مكان منخفض فيه غدير أو بئر ماء أو عين ماء نابعة تجري، وحول الماء ينبت البقول الذي في الأرض، فكانت العرب تفرح بهذا المكان، هذا الشيء في الدنيا، وكأن الله عز وجل يقول: أتحب هذا البستان؟ فما عند الله أعظم من هذا بكثير، وإن سميت روضة، فإنما هو من باب المشاكلة فقط، تشبهاً في الاسم فقط، أما في الحقيقة فما عند الله أعظم بكثير من هذا الذي ترونه في الدنيا، مهما ذهبت إلى حديقة في الربيع، ونظرت إلى ما فيها من ورود ومن ثمار ومن أشياء طيبة واستمتعت بها، فهي لا تسوى شيئاً بجوار الجنة، الجنة أعظم منها بكثير.
فيقول الله سبحانه وتعالى: فهم في روضة يحبرون، قوله: يحبرون هذه كلمة جميلة جداً، حبر الشيء يعني: زين الشيء، فكأنهم يمتعون في الجنة بكل أنواع الزينة، ومهما تخيلت وتفكرت في الجنة فلن تصل إلى ما عليه هذه الجنة العظيمة، والنبي صلى الله عليه وسلم يذكر لنا الجنة ويقول: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) يعني: ما لا عين رأت من جمال، ومن حور عين، وما فيها من نبت وثمار، وما فيها من طيور، وما فيها من متعة.
فإذاً: الإنسان لا يستطيع أن يتخيلها على حقيقتها.
قوله: (ولا أذن سمعت) يعني: الإنسان في الدنيا يريد أن يستمتع بالسماع، فتراه يسمع موسيقى، ويسمع أغاني، يريد أن يسمع كذا، وهذا الاستمتاع والاستماع قد حرمه الله عز وجل على المؤمنين في الدنيا، فلما حرم منها في الدنيا عوضه خيراً منها في الآخرة، فقيل للمؤمن: إن تصبر عن هذه في الدنيا فإنا سنسمعك ما لا أذن سمعت يوم القيامة في جنة الله عز وجل، تسمع موسيقى وتسمع أغاني وتسمع أصواتاً عمرك لم تسمعها، لو أن إنساناً يسمعها وهو في الجنة بقوته التي هو عليها في الدنيا لمات طرباً، لن يفرح ويضحك، بل سيموت من شدة الطرب؛ لأنه لا يتحملها الإنسان على ما هو عليه في هذه الدنيا، أما في الجنة فيعطى قوة عظيمة جداً، وأشياء ليست له الآن، لذلك يقول لك ربك: اصبر الآن في الدنيا عن سماع هذه الأشياء التي منعت من سماعها؛ لأنها في الدنيا تلهيك عن ذكر الله سبحانه وتعالى؛ ولأن هذه الأغاني فيها مجون وفيها خلاعة وفيها حب وفيها ضياع الإنسان وابتعاد عن الله سبحانه، ونحن في الجنة سنسمعك ما تطرب به وما تلذ به، ستسمع أصوات الملائكة، وتسمع أصوات الحور العين، وتسمع ما لم تسمعه أبداً، هذا مما يحبر به أهل الجنة، فهم يحبرون ويمتعون ويسرون ويكرمون ويسمعون ما لم يخطر على بالهم من ملاذ تستمتع به آذانهم في الجنة.
ليس هم يحضرون ويذهبون بأرجلهم، بل يريدون أن يهربوا لكن لا يستطيعون، قال تعالى: يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [الطور:13] أي: يؤخذ أحدهم ويدفع ويلقى في نار جهنم، فهو محضر، ولو يستطيع أن يفر لفر، لكن تأخذه ملائكة العذاب ولا يقدر على الهرب من عذاب رب العالمين سبحانه، فأولئك في العذاب محضرون.
فقوله: فسبحان معناها: سبح الله تسبيحاً عظيماً، حين تمسي بالمساء وحين تصبح بالصباح، وباقي اليوم في كل وقت سبح ربك وصل له، لتصل إلى جنته، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر