عباد الله: أيها الإخوة! تحدثنا في الخطبة الماضية عن أقوال الصالحين عند الموت وبعض العبارات والأعمال التي قاموا بها عندما حضرتهم المنية وأقبلوا على الله، ومسلسل المنون يتتابع، ونذكر في هذه الخطبة الجانب المقابل في سوء الخاتمة وأقوال بعض من ختم فيه بالسوء عندما حضرتهم الوفاة.
اعلموا -رحمكم الله- أن الصالحين يتخوفون من سوء الخاتمة، ويخشون أن يبدو لهم عند الموت ما لم يكونوا يحتسبون، وأنهم يوقنون أن الأعمال بالخواتيم، وأن العبد يبعث على ما مات عليه كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم .
فساد الاعتقاد؛ وهو أخطرها على الإطلاق، فيتكشف في حال السكرات بطلان ما اعتقده، ولهذا يقول تعالى:وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47] .. قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الكهف:105-104].
فخاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطن للعبد ربما لا يطلع عليها الناس، فتظهر عند وفاته، يظهر المخبوء، قال عبد العزيز بن أبي رواد رحمه الله: حضرت رجلاً عند الموت يلقن لا إله إلا الله، فقال في آخر ما قال: هو كافرٌ بها، ومات على ذلك، قال: فسألت عنه، فإذا هو مدمن خمر، فكان عبد العزيز يقول: اتقوا الذنوب فإنها هي التي أوقعته.
إن الإصرار على المعاصي وهو سببٌ ثانٍ لسوء الخاتمة يجعل إلفها في قلب صاحبها، وإذا كان ميله إليها أكثر، حضرته عند الوفاة ربما فغلبت عليه فهلك، فهذه شهوة المعصية تصير حجاباً بين صاحبها وبين ربه، وتكون سبباً في شقائه في آخر عمره، ويعرف ذلك بمثال: وهو أن الإنسان لا شك أنه يرى في منامه من الأحوال التي ألفها طول عمره، حتى أن الذي قضى عمره في العلم يرى من الأحوال المتعلقة بالعلم والعلماء، والذي قضى عمره في الخياطة يرى من الأحوال المتعلقة بالخياطة، والذي اشتغل بالتجارة إدمانه عليها يومياً، وانشغاله بها يجعله يراها في نومه، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن نوعٍ من أنواع الرؤى، أي: (رؤى الشيء يهمّ الرجل في نهاره، فيراه في نومه) والموت وإن كان فوق النوم، لكن سكراته وما يتقدمه من الغشيان قريب من النوم، فطول الإلف بالمعاصي يقتضي تذكرها عند الموت، وعودها في القلب، فإذا قبضت روح العاصي في تلك الحال، يختم له بالسوء حتى قال مجاهد رحمه الله: [ما من ميت يموت إلا مثل له جلساؤه الذين كان يجالسهم] فهذه خطورة اعتياد المعصية والإدمان عليها، وضعف الإيمان الذي يجعل الإنسان واقعاً في المعاصي.
والرتبة الثانية: أن يغلب على القلب عند الموت حب أمر من الأمور التي كان يقارفها صاحبها وهو حي، فتظهر عند وفاته، فربما تكون سبباً في عذابه، قال ابن كثير رحمه الله: والمقصود أن الذنوب والمعاصي والشهوات تخذل صاحبها عند الموت مع خذلان الشيطان له، فيجتمع له الخذلان مع ضعف الإيمان، فيقع في سوء الخاتمة، قال الله تعالى:وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً [الفرقان:29].
ليس شرب الراح إلا في المطر وغناءٌ من جوار في السحر |
غانيات سالبات للنهى ناعماتٌ في تضاعيف الوتر |
غناء ووتر وأوتار وأغاني.
راقصات زاهرت مجلٌ رافلات في أفانين الحبر |
مطربات غنجاتٌ لحنٌ رافضات الهم آمال الفكر |
مبرزات الكأس من مطلعها مسقيات الخمر من فاق البشر |
عضد الدولة وابن ركنها مالك الأملاك غلاب القدر |
سهل الله إليه نصرهم في ملوك الأرض ما دام القمر |
وأراه الخير في أولاده ولباس الملك فيهم بل غرر |
قال ابن كثير رحمه الله: قبحه الله وقبح شعره وقبح أولاده، فإنه اجترأ في أبياته هذه، فلم يفلح بعدها، فيقال: إن بدأ أخذه كان حين قوله: غلاب القدر، أخذه الله فأهلكه، فتمثل عند موته بأبيات، وانظروا الفرق بين هذه الأبيات والتي قبلها، وفيها كلمة الرمق وهو التراب العالق في الماء:
تمتع من الدنيا فإنك لا تبقى وخذ صفوها ما إن صفت ودع الرمقا |
ولا تأمنن الدهر إني أمنته فلم يبقِ لي حالاً ولم يرع لي حقا |
قتلت صناديد الرجال فلم أدع عدواً ولم أمهل على ظنه خلقا |
وأخليت دور الملك من كل بازلٍ وشتتهم غرباً ومزقتهم شرقا |
فلما بلغت النجم عزاً ورفعةً ودانت رقاب الخلق أجمع لي رقاً |
رماني الردى سهماً فأخمد جمرتي فهاأنا ذا في حفرتي عاجلاً ملقى |
فأفسدت دنياي وديني سفاهةً فمن ذا الذي مني بمصرعه أشقى |
فيا ليت شعري بعد موتي ما أرى إلى رحمة الله أم ناره ألقى |
فهكذا حصل من هذا الذي قال عن نفسه: مالك الأملاك غلاب القدر، قال:فهاأنا ذا في حفرتي عاجلاً ملقى، وجعل يكرر هذه الأبيات، ثم جعل يكرر قوله تعالى: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:28-29].. مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:28-29] حتى مات.
وهكذا كان لأصحاب السلطان وقفات عند الموت كما حصل لبعض الخلفاء لما احتضر، سمع غسالاً يغسل الثياب، فقال: ما هذا؟ قالوا: غسال، قال: يا ليتني كنت غسالاً أكسب ما أعيش به يوماً بيوم ولم ألِ الخلافة، ثم قال:
لعمري لقد عمرت في الملك برهةً ودانت لي الدنيا بوقع البواسلِ |
وأعطيت حمر المال والحكم والنهى ولي سلمت كل الملوك الجبابرِ |
فأضحى الذي قد كان مما يسرني كحل مضى في مزمنات الغوابرِ |
فيا ليتني لم أعنِ بالملك ليلةً ولم أسع في لذات عيش النواظرِ |
وقيل لبعض هؤلاء من أصحاب السلطان في مرض الموت: كيف تجدك؟ قال: أجدني كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام:94].
أينما بنوا من القصور خلوها والتحقوا بالقبور |
أينما غرسوا من الزرع تركوه وولوا حيث لا رجع |
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ [سبأ:54].
ولما حضرت أحد السلاطين الوفاة، جعل يقول: حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام:44] وجعل يقول: لو علمت أن عمري قصير ما فعلت، وجعل يقول: ذهبت الحيل، فلا حيلة.
نسأل الله السلامة والعافية، اللهم ثبتنا عند الممات، اللهم اجعل ميتتنا على الإيمان يا رحمن.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
وأما أصحاب الدنيا المنشغلون بالأموال، فإن للموت معهم موعداً أيضاً، فإن كانوا قد اشتغلوا بالمال عن عبادة الله، وألهتهم الدنيا عن طاعته، فإن سوء الخاتمة نذير شديد، قال ثابت البناني رحمه الله : كان رجلاً عاملاً للعمال، فجمع ماله، فجعله في سارية، فلما حضرته الوفاة، أمر به، فنثر بين يديه، فجعل يقول: يا ليتها كانت بعراً، يا ليتها كانت بعراً، يا ليتها كانت بعراً، وقيل لأحد المحتضرين: قل لا إله إلا الله، فجعل يقول: الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا، والجنان الفلاني اعملوا فيها كذا.
وذكر ابن القيم رحمه الله عن أحد التجار أن أحد قرابته احتضر وهو عنده، فجعلوا يلقنونه لا إله إلا الله وهو يقول: هذه القطعة رخيصة، هذا مشترى جيد، حتى قضى نحبه.
وسمع بعض المحتضرين عند احتضاره يلطم على وجهه ويقول: يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر:56] قال أحدهم عند احتضاره: سخرت بي الدنيا حتى ذهبت أيامي.
وذكر ابن القيم رحمه الله أن رجلاً حضرته الوفاة، فقيل له: قل لا إله إلا الله، فجعل يهذي بالغناء، وقيل لأحد المحتضرين: قل لا إله إلا الله، فقال: وما يغني عني وما أعرف أني صليت لله صلاة، ولم يقلها.
صحب رجل الأخيار فترة من الزمن، فصلح أمره، وظهر ذلك في مظهره وثوبه ولحيته، ولكن في يوم من الأيام صحب الأشرار لينفثوا سمومهم في عقله وقلبه، وليدعوه إلى كل شر ورذيلة، وليغرسوا في قلبه بغض الصالحين ومجالسهم، وأخرجوه معهم إلى رحلة برية، وفي أثناء الطريق انقلبت بهم السيارة وماتوا جميعاً، وحضر الناس ليشاهدوا الحادث، وإذا بهم يعرفون هذا الرجل بعد موته قد حلق لحيته التي أطلقها مدة من الزمن، وأسبل ثوبه الذي قصره فترة من الوقت، ووجدوا بجواره كأس الخمر بعد معاقرته لها، لقد مات وهو مخمور بها، ولقي الله وهو سكران. كم من دمعة قطرت على هذه الخاتمة السيئة؟ فهل من قلوب واعية وآذان صاغية؟
يقول أحد الأشخاص: في أثناء عملنا توقفت أنا وزميلي على جانب الطريق نتجاذب أطراف الحديث، وفجأة سمعنا صوت ارتطام قوي فأدرنا أبصارنا، فإذا بها سيارة مرتطمة بأخرى كانت قادمةً من الاتجاه المقابل، هببنا مسرعين إلى مكان الحادث لإنقاذ المصابين، حادث لا يكاد يوصف، شخصان في السيارة في حالة خطيرة، أخرجناهما من السيارة ووضعناهما ممدودين، أسرعنا لإخراج صاحب السيارة الثانية الذي وجدناه قد فارق الحياة، عدنا إلى الشخصين، فإذا هما في حال الاحتضار، هبَّ زميلي يلقنهم الشهادة، قولوا: لا إله إلا الله، لكن ألسنتهما ارتفعت بالغناء يرددان أغنية كانا يستمعان إليها قبل الحادث، أرهبني الموقف وهالني الأمر، وكان زميلي على عكسي يعرف أحوال الموتى، وأخذ يعيد عليهما الشهادة، فما استطاعا نطقها، بل أخذا يغنيان، ومن حضر من الناس يسمعهما ليشهدا عليهما يوم الفضائح، واستمرا على ذلك حتى ماتا، وما استطاعا أن ينطقا بلا إله إلا الله.
قصص سوء الخاتمة لأهل الغناء كثيرة حتى أن بعضهم عند الغرغرة ربما لعن الدين وتبرأ من الصلاة.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وأحسن أعمالنا آخرها يا رب العالمين، اللهم أحينا مسلمين، وأمتنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم أحينا بالتقوى، وارزقنا التمسك بالعروة الوثقى.
اللهم أحي قلوبنا بذكرك، اللهم أحي قلوبنا بذكرك، اللهم لا تجعلنا من الغافلين، اللهم ردنا إلى الحق رداً جميلاً، وارزقنا فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، إذا أردت بعبادك فتنة، فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم آمنا في ديارنا وأوطاننا، واجعل بلدنا هذا بلداً آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر