أيها الأحبة في الله! نسأل الله سبحانه وتعالى -وقد جمعنا في هذا المكان الطيب الطاهر- أن يجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم، وأن يرزقنا علماً، وأن يزيدنا بعلمنا عملاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أيها الأحبة في الله! الموضوع الذي أشار الشيخ -جزاه الله خيراً- إليه وهو (الإقبال على الله سبحانه وتعالى أسبابه وضوابطه) من الموضوعات التي يجدر بطلبة العلم والدعاة والمسلمين عموماً أن يتحدثوا عنها خاصة في مثل هذه الأيام، فالعالم كله يعيش والحمد لله ظاهرة واضحة جلية بينة في عودة الناس إلى ظلال الإيمان، وأصفياء الهدى، ورحاب الدين، الدين السماوي الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
والناس ما بين مستبشر بهذه العودة وهذا الإقبال، يبالغ فيعطيها أكثر من حجمها، وما بين منكر ومحارب ومحاد لها، وأجدر الناس بمعرفة الأمر على حقيقته هم دعاة وشباب الإسلام الذين يعلمون أن الله سبحانه وتعالى قد كلفهم بحمل رسالتهم في هذه الحياة، وأن هذا الإقبال الذي يتحدث عنه القاصي والداني قبولاً أو رفضاً، تأييداً أو رداً، إنما هو في النهاية شيء مما وعد الله به المؤمنين من النصر والتمكين، والعلو والظهور في هذه الحياة.
فلنحاول في هذه اللحظات أن نلقي شيئاً من الضوء على هذه القضية المهمة، مؤصلين ذلك قدر الإمكان تأصيلاً شرعياً، يستدل ويستظل ويستنير بهدي الكتاب والسنة، ثم نحاول -أيها الأحبة في الله- بعد ذلك أن نتلمس خطانا في هذا الطريق، وأن نتجنب المزالق التي قد يضعها في طريقنا أعداؤنا من شياطين الإنس أو من شياطين الجن، الذين يبذلون جهودهم الخبيثة من أجل الحيلولة بين الإسلام والمسلمين.
إن هذه القضية -أيها الأحبة في الله- ليست من القضايا الجديدة على واقع المسلمين، فإن التالي لكتاب الله سبحانه وتعالى، والمتبع لهدي نبيه صلى الله عليه وسلم على وعد من الله سبحانه وتعالى بأن هذا الدين سيبقى ظاهراً منتصراً، وإذا ظن الناس في بعض الأزمنة والدهور أن شأنه قد انتهى، وأن دوره قد انقضى، فما ذاك إلا إرهاصات لدور جديد يبدؤه هذا الدين في هذه الحياة، يحدثنا عن ذلك كتاب الله سبحانه وتعالى فيقول: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33] .
فهذا الدين مبدؤه من الله سبحانه وتعالى، هو الذي شرعه وأنزله، وكلف به، وأتمه سبحانه وتعالى، ليس للأنبياء والمرسلين إلا دور التبليغ والبيان والإيضاح، أما مصدر هذا الدين العظيم فهو فاطر الأرض والسماوات، وإذا استمد غير المسلمين توجهاتهم وعقائدهم وأفكارهم وتصوراتهم، وأنظمة حياتهم من فلسفات بشرية، وأنظمة وضعية، وقوانين ناقصة محكومة بقصور الإنسان الذي لا يتجاوز زمانه ولا مكانه، فإن المسلمين ينهلون من دين خالد تحدث الله سبحانه وتعالى عنه، فقال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة:3] .
والذي أنزل هذا الدين هو الذي وعد سبحانه وتعالى بأنه سيظهره على جميع الأديان والمبادئ والمناهج، ظهوراً كاملاً شاملاً جليلاً واضحاً، حتى وإن كره ذلك أعداء الإسلام، وخططوا دون ذلك، وبذلوا الجهود دون ذلك، فلن يغلب الله سبحانه وتعالى أحد، بل الله هو الغالب سبحانه وتعالى، وتأتي الآيات تؤكد هذا المعنى مرة بعد أخرى، فيقول الحق سبحانه وتعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] .
ويخطر على البال في هذه اللحظات كلمة لأحد علماء الإسلام عندما قال له أحد أحبار اليهود أو النصارى في الأندلس أيام أن كانت تستظل بظل الإسلام، يقول: ألا تزعمون أن التوراة والإنجيل نزلت من الله سبحانه وتعالى؟ قال: بلى، قال: وتزعمون أن كتابكم نزل من الله سبحانه وتعالى؟ قال: بلى. قال: فلماذا جوزتم أن يقع التحريف والتغيير والتبديل في التوراة والإنجيل، ولم تجوزوا ذلك في الكتاب الذي بين أيديكم؟ فتفكر ذلك العالم المسلم ملياً ثم قال: إن الله سبحانه وتعالى وكل حفظ التوراة والإنجيل إلى البشر، فهي في أصلها من الله، لكنها في حفظها أوكلت إلى البشر، فجاز عليها نقص وتقصير البشر، فوقع فيها التحريف والتبديل والتغيير، أما قال سبحانه وتعالى: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ [المائدة:44] أما هذا الدين فقد وكل الله حفظه إلى نفسه سبحانه وتعالى، فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] .
لا يستدعي الأمر وجود قوى مادية أخرى، وإذا كان ذلك ضروري فسييسره الله سبحانه وتعالى، لا يستدعي الأمر زيادة تدبير وتخطيط وتنفيذ، إلا ما يقتضيه مجرد الإيمان والعمل لهذا الدين، هذا شرط وذاك جوابه، وهذا وعد وتلك نتيجته، هذه مقدمة وتلك خاتمتها، إيمان وعملٌ صالح يأتي بعد ذلك ظهور الدين الإسلامي في هذه الأرض، والتمكين لأهله.
ثم يحدثنا القرآن الكريم عن أن هذه سنة كونية لا تتخلف ولا تتبدل، حصلت في أجيال إثر أجيال، وستبقى تحصل ما بقيت هذه الحياة، كلما وجد المؤمنون الذين يعملون الصالحات تحقق لهم وعد الله سبحانه وتعالى، ويقول سبحانه وتعالى مبيناً أن إعراض الناس عن دين الله لا يعني أن دين الله قد ضاع، ولا أن هذا الدين قد انتهى وتلاشى، إنما الناس هم الذين سيخسرون ويذهبون، يفقدون السعادة الأبدية في الدنيا والآخرة، والتوفيق الإلهي الرباني في الدنيا والآخرة، أما دين الله وقد تكفل الله بحفظه، فسيبعث الله له أقواماً آخرين يحملونه: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38] .
بل يحدثنا القرآن الكريم عن أن الذين يرتدون عن دين الله سبحانه وتعالى، أن الله سبحانه وتعالى سيستبدلهم بقوم آخرين، سيأتي الله سبحانه وتعالى بقوم يحبهم ويحبونه، والله سبحانه وتعالى هو الذي نقل الرسالة من أمة إلى أمة، أما كانت النبوة والرسالة في بني إسرائيل قبل نبينا صلى الله عليه وسلم؟ وقد حدثنا القرآن في أكثر من موضع، أن الله قد فضلهم وشرفهم وكرمهم على العالمين، وعندما تولوا -وكان الأنبياء يسوسونهم ويقودون حياتهم- عندما تولوا عن دين الله وأعرضوا عنه لم يكن بينهم كما قال الفاروق لـسعد بن أبي وقاص : [يا
وقد حدثنا القرآن كثيراً عن بني إسرائيل وذكر قصصهم وأنبياء بني إسرائيل، وحدثنا عن نتيجة بني إسرائيل، ونهايتهم حين أعرضوا عن دين الله سبحانه وتعالى ليس ذلك عبثاً، وليس ذلك لتجزئة الأوقات، إنما لكي نتعظ ونعتبر، ولكي نأخذ العبرة والعظة، ثم تأتي آية الله سبحانه وتعالى العظيمة الباهرة، هذه الأمة التي حدثنا عنها كثيراً، وحدثنا عما نزل بها من العقاب بسبب إعراضها عن الله سبحانه وتعالى، فعندما تعرض أمة الإسلام عن دين الله تؤدب بأدب هذه الأمة التي تحدث عنها في كتاب الله كثيراً.
ويأتي اليهود ويحتلون جزءاً من بلاد المسلمين، ويحتلون مسرى النبي صلى الله عليه وسلم، ويأخذون أولى القبلتين وثالث الحرمين، وما كأننا حدثنا عنهم في القرآن، وهذا تأديب، لكن تأديب لمن بقي في قلوبهم ذرة من الإيمان، حتى يتيقظوا ويتنبهوا، هذه الأمة التي نحدث عنها كثيراً، ونحذر، ويبين لنا حالها، لم نؤدب بأي أمة من الأمم إلا بها هي فقط، لكي نعود إلى الله سبحانه وتعالى.
ويحدد القرآن مرة أخرى هذه الحقيقة اليقينية، والسنة الكونية التي لا تتخلف أبداً، فيقول سبحانه وتعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21] .
إذاً أيها الأحبة في الله! هذه الغلبة التي يتحدث عنها القرآن الكريم لو أخذت على أنها فقط في حياة الأنبياء والمرسلين لما تحققت الغلبة، كما عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد النبوة ثلاثة وعشرين عاماً، فلو كانت كما يفهمها بعض أهل الفهم الظاهري السطحي البسيط، أن هذه الغلبة فقط هي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين أن الغلبة له ولرسوله لما تحقق هذا الوعد من الله سبحانه وتعالى، كم هي مدة حياة النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحياة بالنسبة لغيره؟ لكن الغلبة تتحقق بظهور دينه ورسالته من بعده، ظهوراً غالباً في هذه الحياة، حتى يتحقق فيه وعد الله، بأنه هو الغالب وهو الظاهر وهو المسيطر في هذه الحياة.
وهذا الظهور وهذه الغلبة وهذا الوعد من الله سبحانه وتعالى بأن الناس جيلاً بعد جيل سيفيئون إلى دين الله تتحقق بأمرين:
الأمر الأول: هو ظهور الحجة والبرهان، وهذا الدين في ذاته، وأن يعترف أعداء هذا الدين بأنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد حصل هذا الاعتراف قديماً وحديثاً، وسيحصل ما بقي هذا الدين وبقيت هذه الحياة، اعترف به الذين حادوه وجحدوه وقاتلوه، اعترفوا بأنه هو الحق في ذاته، ولكن لأهوائهم وشهواتهم ورغباتهم التي سقطوا أمامها وسيطرت عليهم حادوا ونابذوا ما علموا أنه الحق.
هذا الظهور الأول، وهو ظهور في ذات الدين، أي: يجعل من يبحث عن الحقيقة يعترف بأنه هو الحق المطلق الذي لا يأتيه ولا يخالطه الباطل، ولا يتطرق إليه الشك كما حدثنا الله سبحانه وتعالى عنه، وكما بلغه لنا رسوله صلى الله عليه وسلم.
والظهور الآخر: هو ظهور أهل هذا الدين بالتمكين في الأرض الذي تحدثت عنه الآية قبل قليل، والاستخلاف في الأرض، وقيادة البشرية إلى نور الله سبحانه وتعالى وهديه، وهذه الحقيقة التي يحدثنا عنها القرآن الكريم، ويحدثنا عنها النبي صلى الله عليه وسلم كما سنرى بعد قليل في أحاديث شتى، حصلت مرات ومرات في هذا التاريخ، لو أردنا أن نتحدث عن سير الأنبياء والمرسلين مع أممهم وأقوامهم لرأينا العجب العجاب، يأتي رجل ضعيف لا يملك شيئاً، ويصدع بهذا الدين وبهذا الحق، ويواجه سلطاناً قوياً، قد يدعي الربوبية وقد يدعي الألوهية، يملك الجنود والقوى المادية الرهيبة، ويواجهه هذا الإنسان الذي لا يملك إلا دعوة الحق يرددها، ولا يملك إلا أن يدعوهم إلى الدخول في دين الله سبحانه وتعالى، وبجميع المقاييس المادية يحكم الناس بأن الغلبة لذلك السلطان، معه الجيوش الجرارة، وراءه الأمم تتبعه، والحضارات العريقة والأجيال، والقوى المادية الرهيبة، والسلطان والجبروت، ولكن تكون النتيجة في النهاية أن النصر يكون لأنبياء الله سبحانه وتعالى ورسله.
ومن يتوقع أن هذا الرجل وقد خرج في هجرته مشرداً طريداً تبذل الجوائز لمن يأتي برأسه، وعندما يلتقي بأعرابي يبحث عنه لكي ينال مائة ناقة، يقول له: (كيف بك يا
وتتدرج الأحداث حدثاً بعد حدث، ومرة بعد أخرى، وإذا بمحمد صلى الله عليه وسلم هو صاحب الغلبة والنصر، وتتهاوى تحت أقدام تلاميذه وأصحابه الحفاة العراة العالة رعاء الشاء عروش الأكاسرة والقياصرة، ويعلي الله شأنهم، ويظهر دينهم، لم يأت صلى الله عليه وسلم بحضارة ومدنية جديدة، لم يقم المصانع، ولم يخترع الأسلحة، ولم يشتر أحدث الأسلحة، ولم يقم المزارع والسدود، أتت هذه كلها تبعاً بعد ذلك، إنما جاء بهذا الدين وحده، وأظهر الله به هذه الأمة بهذا الدين وحده، وجعلها سيدة الأمم في هذه الحياة.
صلاح الدين الأيوبي -أيها الأحبة في الله- لم يفعل شيئاً جديداً، إنما جمع الناس على كلمة لا إله إلا الله، وكان قلبه يحترق على دين الله، كان يقول له جلساؤه: ما لك لا تتبسم؟ فيقول: إني لأستحي من الله أن أتبسم ومسرى النبي صلى الله عليه وسلم في يد النصارى.
لو أردنا أن نسأل الناس من الذي كان يحكم بلاد الإسلام في عهد ابن تيمية ؟ لما عرف ذلك إلا المتخصصون، ولو أردت أن تسأل عوام الناس عن دعوة ابن تيمية وحياته، لأجابك عن ذلك حتى ربما الأطفال، إنه الظهور الذي حدثنا الله سبحانه وتعالى عنه، والذي حفظ الله به سبحانه وتعالى هذا الدين، هذه هي -أيها الأحبة- بعض الأمثلة، ولو أردنا أن نتحدث لطال بنا الحديث.
فيقول: الحمد لله الذي عافانا مما ابتليتم به، والله ما أرضى أن يقبل هذا قدمي فضلاً عن أن أقبل أنا كفه، فيضطرون لإطلاقه ويذهب إلى أرض مصر، وأول ما ينـزل فيها، يأتي وإذا بالخمر يباع علناً في أرض مصر، فينتظر الفرصة لكي يلتقي بسلطان مصر فلا يجد عليه طريقاً، وعندما يخرج سلطان مصر في موكبه ويوم العيد، وأمام الناس وفي زينته، وكان لا يجرؤ أحد على أن يكلمه، يقف على قارعة الطريق ثم ينادي بأعلى صوته: يا أيوب! وكان اسمه السلطان أيوب، ويلغي الألقاب كلها، يناديه باسمه مجرداً، فيقف ذلك السلطان، ويسل الحرس سيوفهم، ويلتفت الناس من هذا الذي تجرأ على أن ينادي على السلطان بهذه الصفة، فيقول له العز بن عبد السلام مرة أخرى: ماذا تقول لله سبحانه وتعالى إذا لقيته وقد استخلفك في أرضه فعصيته، وسمحت بأن يباع الخمر في أرضك؟ فيقول: من هذا؟ فيقولون: هذا العز بن عبد السلام ، فيقول: لقد كان ذلك من السلطان الذي قبلي، قال: أتقول كما قال الأولون: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23] .
قال: وبماذا تأمر يا شيخ؟ قال: أن تأمر بإزالته في هذا الوقت، فيأمر بإزالته، ثم يقع مرة أخرى شيء من المنكر، فيقوم هذا العالم فينكر على السلطان في مصر ، ويأمره وينهاه، فيغلظ له في القول، فيأخذ أثاثه على حماره ويخرج، فتجلب مصر كلها في أثر العز بن عبد السلام ، كل قرية تنادي القرية الأخرى، وكل حي ينادي الحي الآخر، فيسمع السلطان الجلبة، فيقول: ماذا حصل؟ فيقولون: خرج العز بن عبد السلام بملكك على حماره، فيقول: اذهبوا إليه سلوه ماذا يريد؟ قال العز بن عبد السلام : لن أعود من مكاني هذا حتى يغير المنكر الذي قام في أرض مصر .
العز بن عبد السلام كان من ثمار دعوته ومن تلاميذه المظفر قطز الذي هزم الله على يديه التتار في موقعة عين جالوت ، حين اكتسحوا العالم الإسلامي من حدود الصين إلى أن وصلوا إلى بلاد الشام، ودمروا مئات المدن وقتلوا الملايين، قتلوا في بغداد وحدها أكثر من مليون ونصف أو مليونين من المسلمين، وانتهت الجيوش الجرارة، جيوش كانت تُعد مئات الألوف، ولقيهم المظفر قطز في جيش قليل عدته قليلة من المماليك، وكان في رمضان وكان صائماً -تربية إيمانية صادقة، رباه وأعده عليها العز بن عبد السلام - وعندما خشي الهزيمة ما صاح ولا جزع على نفسه، إنما جزع على دينه، فألقى خوذته ورمى درعه، وصاح في وسط الجيش: وا إسلاماه! وا إسلاماه! فكان النصر الذي أنزله الله سبحانه وتعالى عليه.
أيها الأحبة! هذه بعض الأمثلة التي تؤكد لنا أن ما وعد الله سبحانه وتعالى به قد وقع في تاريخ أمتنا، بل قد وقع في تاريخ الرسالات كلها.
لكن في القرون المتأخرة كان الأثر أبلغ، العامل المؤثر كان موجوداً من بداية تاريخ هذه الأمة، لكن قابلية الأمة للتأثر بهذا الغزو زادت في القرون المتأخرة، فظهر أثرها في حياتها، وإلا مَن مِنا ينكر ما تعرضت له الأمة في بداية تاريخها بالغزو الكلامي الفلسفي، وأثار ذلك الذي لا زلنا نجني بعض ثماره المرة، من ينكر منا الغزو الصوفي المتأثر بـالصوفية الإشراقية من الهند أو غير الهند الذي حول الإسلام في نظر كثير من الناس إلى بعض الحركات السلبية التي لا تؤثر في الحياة ولا تحاول أن تصل الناس بربهم؟ من منا ينكر الإسرائيليات التي دخلت في التفسير؟ من ينكر الوضع في الحديث؟ هذا كله وجد، لكن كانت المناعة لدى الأمة المسلمة قوية، فما فتكت بها هذه الأمراض ولا هذه الميكروبات كما فتكت فيها في القرون المتأخرة.
كما يقول الأطباء: الجراثيم والميكروبات موجودة في الهواء وفي كل مكان، لكن ليس كل إنسان يصاب بالمرض، إنما الجسم الذي تضعف مناعته وقوته هو الذي يصاب بالمرض، وهذا الذي حصل لأمتنا في القرون المتأخرة، فأضيف إلى ما تعرضت له من غزو فكري عقائدي صورة جديدة من هذا الغزو، فكان التغريب، والاستشراق، والتبشير، ونتج عن ذلك القومية ، والعلمانية والشيوعية والحداثية ، وما شئت أن تقول من مذاهب وأفكار شتى.
وجرفت الأجيال عن دين الله سبحانه وتعالى بعيداً، ونفذته وسائل شتى، نفذت من خلال التعليم وتأثر المسلمون بغيرهم، من خلال البعثات والإعلام والصحافة والمجلات والكتب والتأليف ومراكز الأبحاث، صور شتى، بل حتى من خلال العلاج، والدواء والمستشفيات، ودور الأيتام، كان هذا الغزو الذي جرف أجيالاً من الأمة، نتذكر كلنا بعض الأمثلة:
طه حسين الذي درس في الأزهر، وفشل في دراسته، وذهب إلى فرنسا ، وعاد من فرنسا بشهادة الدكتوراة من جامعة استربون وبزوجة فرنسية، وعاد كما يقول: يفكر بالفرنسية ويكتب بالعربية، وينصب من خلال مراكز التأثير الفكري عميداً للأدب العربي، وتنشأ أجيالنا جيلاً بعد جيل، وهي تردد عميد الأدب العربي، وإذا كان هذا عميد الأدب العربي، فهو الأستاذ والقدوة، وهو الذي يجب أن يُقتدى به، وتدرج الأجيال على طريقه وفي أثره.
ويفاجئنا بقوله: إن القرآن كتاب بشري من تأليف رجل فيه الصدق وفيه الكذب، ويفاجئنا بقوله: إن دعوى محمد صلى الله عليه وسلم أن إبراهيم كان في مكة ، وأنهم أجداد العرب دعوى ليست بصحيحة، إنما هي مناورة سياسية من أجل أن يكسب محمد اليهود، ويفاجئنا بقوله: إن النحو العربي هو الذي عقد الحياة الثقافية، وحال بيننا وبين طريق الرقي، والأمثلة كثيرة، هذا كان من بدايات التغريب، فما بالك بما حصل بعد ذلك، والأمر ازداد سوءاً حتى وصل إلى من يحاربون الله جهاراً نهاراً، ويعلنون الحرب على دين الله سبحانه وتعالى.
هذه القضايا -أيها الأحبة في الله- هي التي تجعل الناس يتعجبون من هذا الإقبال وهذه العودة إلى دين الله سبحانه وتعالى، وإلا فهي -كما ذكرنا قبل قليل- أمر طبيعي تحدث عنه كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأكدته السوابق التاريخية في حياة أمتنا.
أيها الأحبة! ما أردت أن أفصل كثيراً في الجهود التي بذلت ضد الإسلام والمسلمين، الجهود الجبارة الهائلة التي تقف وراءها، أحلاف دولية، ومنظمات عالمية، وقوى رهيبة تقف ضد الإسلام، الذي يرى هذه الجهود الهائلة والإمكانيات العظيمة ثم يرى النتائج العكسية يعلم أن ذلك تحقيق لوعد الله سبحانه وتعالى.
كنت أقرأ قبل يومين في إحدى المجلات الإسلامية وثيقة تنشر من مركز في أحد الأبحاث في فرنسا وتقول: إن أمريكا وروسيا قد فشلتا في مواجهة التيار الإسلامي في العالم، وإنهم يشعرون أن هذا التيار هو العدو الرئيسي لهم، وهو الذي يكتسح الساحة أمامهم، مع أن المسلمين لا يملكون القوة الذرية، ولا القنابل النيترونية، ولا الأسلحة الكيماوية، ولا القذائف الجرثومية، ولكن بشيء من العودة إلى دين الله سبحانه وتعالى أصبحت هذه القوى كلها تشعر بالعجز أمام المسلمين الصادقين.
وإذا بهذه الفئة المؤمنة القليلة بمقاييس البشر، الكثيرة بمقاييس الإيمان، تقلب المعادلة، وتغير المفاهيم، وتعلن أن المؤمن الذي وقف في سالف الدهر أمام فارس والروم ، يمكن أن يقف مرة أخرى أمام أمريكا وروسيا، ويذلها ويرغمها، ويعلن أنَّ لا إله إلا الله أعلى من كل شيء؛ وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
وتأتي صورة أخرى أشد عجباً داخل فلسطين عندما تخرج فئات من المؤمنين، لا تملك السلاح البسيط الذي هزم به الأفغان الشيوعية ، إنما تملك حجراً، وقد بذلت ما تستطيع، وتردد معه الله أكبر، الله أكبر، ولا إله إلا الله، فيرتعد العالم كله، ويعلن العالم كله استعداده لحضور المؤتمر الدولي الذي كان العرب قبل ذلك يستنجدون العالم ويرفض العالم أن يحضر هذا المؤتمر، وأقيم هذا المؤتمر، كلها من أجل أن الحجر صاحبه الله أكبر، ولا إله إلا الله، هذه مظاهر من العودة إلى دين الله سبحانه وتعالى.
ثم مظهر آخر، حين جاء الناس في الغرب إلى دين خرافي محرف، وبدأت بوادر النهضة العلمية في العلوم الطبيعية والمادية المعاصرة، وقع الصدام بين الدين الخرافي المحرف وبين هذا العلم، وانتصر في النهاية العلم، وقضى على الكنيسة وعلى دينها، وجاء كثير من الناس وأرادوا أن ينقلوا التجربة إلى بلاد المسلمين، وما علموا أن ديننا غير الدين الذي كان في بلاد الغرب، إنه دين لا يحظ على العلم فقط، بل يوجبه ويفرضه على أتباعه فرضاً، وأمر به في أول آية وفي أول سورة وفي أول كلمة نزلت على نبينا صلى الله عليه وسلم.
فجاءوا لكي يقيسوا قياساً فاسداً، يختلف فيه الأصل عن الفرع والعلة، وبالتالي سيختلف الحكم، وإذا بكثير من أصحاب التخصصات العلمية النادرة سواءً في ديار المسلمين أو في غير ديار المسلمين يعودون إلى دين الله سبحانه وتعالى، ويفيئون إلى دين الله، ويعلنون أن هذا الدين هو المنهج الحق الذي توصلوا إليه بعد طول عناء ومشقة، وبعد طول بحث واستقصاء.
بعد ذلك نرى الفتيات المؤمنات يلتزمن بالحجاب الإسلامي مظهراً من مظاهر التزامهن بدين الله، ويحاربن وفي كثير من الجامعات في كثير من ديار الإسلام، ويعلن استعدادهن على التخلي عن الدراسة، بل عن الحياة كلها، ولن يتخلين عن شرف المرأة المسلمة بالحجاب الإسلامي.
أيها الأحبة! إن امتلاء المساجد بالشباب المسلم في كل مكان مثلما هو حاصل في هذه الليلة المباركة هو مظهر ورد عملي حقيقي على كل من ينكر هذه العودة وهذا الإقبال وهذه الصحوة الإسلامية الصادقة بإذن الله سبحانه وتعالى.
ومن هذه المظاهر: محاولة إقامة نماذج عصرية لكثير من المؤسسات والنظم الإسلامية، الاقتصاد الإسلامي، محاولة أسلمة كثير من العلوم في أكثر من موقع وجامعة، هذه كلها والحمد لله أمور تؤكد لنا وجود هذا الإقبال، ووجود هذه الصحوة والعودة إلى دين الله سبحانه وتعالى، ونقول بعد ذلك لمن ينكر هذه الحقيقة، وييئس الأجيال المسلمة التي هي في حاجة إلى من يشد أزرها، ويشد على عضدها، ويفتح أمامهم الآمال، نقول لمن ييئسهم بعد ذلك، ويصر على أن ليس هناك صحوة:
وهل يصح في الأذهان شـيء إذا احتاج النهار إلى دليل |
السبب الأول: هو أنها تحقيق لوعد الله سبحانه وتعالى بحفظ دينه الذي سبق الإشارة إليه، والذي يمكن أن نضيف أيضاً بعض الآيات، الذي يقول فيها سبحانه وتعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [غافر:51] هذا الوعد الإلهي -أيها الأحبة- لن تستطيع أن تقف أمامه قوى الأرض كلها، بل سيحققه الله سبحانه وتعالى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بعز عزيز أو بذل ذليل) وعد إلهي رباني يقطعه ويحدثنا عنه، ويخبرنا به من يقلب الليل والنهار، ويقدر الأقدار، من بيده الملك وهو على كل شيء قدير، وسمعنا الآيات التي كنا نتلوها قبل قليل التي تؤكد لنا هذا الأمر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل قرن من يجدد لها أمر دينها) هذا تأكيد على ما دلت عليه الآيات السابقة.
إذاً أيها الأحبة! فالإقبال على دين الله، أو العودة إليه، أو ما اصطلح على تسميته بالصحوة الإسلامية هو سنة كونية ربانية، وأمر قدري إلهي لا يغالب، وهذا -والحمد لله- ما يشد أزر الأجيال المؤمنة المسلمة أن القضية ليست قضيتنا وحدنا، بل هي قضية رب العالمين أولاً وأخيراً، وإنما نحن أدوات لتنفيذ أقدار الله، ورغبة وطمعاً في تحقيق الأجر الذي وعد الله به العاملين لدينه، وإسقاطاً لتبعة الإثم والوزر الذي توعد الله به من لا يعملون لدينه سبحانه وتعالى، هذا الأمر الأول.
والأمر الآخر -أيها الأحبة- هو: أن الإسلام هو الاستجابة الحقيقة للفطرة الإنسانية، والانسجام الكامل مع قوانين الكون كله، فالبعد عنه شذوذ، والعودة له أمر طبيعي.
أيها الأحبة! إن كل ما في هذا الكون يسبح الله ويعبد الله سبحانه وتعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44] والذي يشذ من هذه القاعدة العريضة الواسعة هم عصاة الإنس والجن، في بعض مجالات حياتهم يشذون هذا الشذوذ فيصبحون في صراع مع فطرتهم التي فطرهم الله سبحانه وتعالى عليها (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يمجسانه أو يهودانه أو ينصرانه) ولم يقل صلى الله عليه وسلم: أو يؤسلمانه؛ لأنه هو الفطرة التي تحدث عنها في بداية الحديث.
فأقول: الإنسان -أيها الأحبة- عندما يعود إلى دين الله فرداً أو جماعة قليلاً أو كثيراً، فإنما يستجيب لأمر فطري فطره الله سبحانه وتعالى عليه، وإنما يتفق مع كل ما في هذا الكون مما يسبح الله ويعبده سبحانه وتعالى، وحين يبتعد عن منهج الله يقع في الشقاء وفي الضنك الذي تحدث عنه الحق سبحانه وتعالى بقوله: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طـه:124] .
الأمر الثالث -أيها الأحبة- الذي أرى أنه من الأسباب التي أقبل الناس بها على دين الله هو: أن أمتنا جربت جميع الأفكار والمبادئ المستوردة، وأن هذه الأفكار والمبادئ المستوردة لم نجن منها إلا التمزق والشتات والضياع والخسران، بل إن هذه الأفكار ثبت فشلها في منابتها التي نبتت فيها ثم صدرت إلينا منها، فهذه روسيا تعلن تخليها عن الشيوعية، وهذا الغرب مجتمعاته يمنياً ويساراً تبحث عن النجاة وعن الخروج من الشقاء الذي وصل إليه الإنسان في ذلك المكان، وماذا جنت أمتنا من دعاوى القومية ؟ وماذا جنت من دعاوى الاشتراكية؟ وماذا جنت من دعاوى الحرية؟ لقد ذهبت الأرض، وفقد العرض، وزاد الفقر في الشعوب المسلمة في شرق الدنيا وغربها، ولم يعد هناك إلا العودة الصادقة إلى دين الله سبحانه وتعالى، هذه في نظري أهم ثلاثة أسباب هي الأسباب في الإقبال والعودة إلى دين الله سبحانه وتعالى.
ولو أردنا أن نفتش عمن وراء هذه الشعارات لرأينا إما اليهود وإما النصارى، وإما الذين تتلمذوا على موائد اليهود أو النصارى أو الشيوعيين في بلاد المسلمين، من تتلمذوا عليهم ويرددون أفكارهم، أن يأتي كاتب أو صحفي علماني أو شيوعي، ثم يعلن نفسه مفتياً في دين الله، فيقول: هذا متطرف وهذا ليس بمتطرف، وهذا رجعي وهذا ليس برجعي، أمر مرفوض، ولا يمكن أن تنطلي هذه الألاعيب على الأمة المسلمة.
وأشير إلى مقالة أعجبتني قبل حوالي شهرين قرأتها في مجلة اليمامة لرجل لم أعرفه، لكنني أحببته عندما قرأت هذه المقالة اسمه على ما أظن الدكتور وليد الطويرقي تحدث عن هذه القضية حديثاً رائعاً، ويقول: هل يأتي مثل أنيس منصور الماسوني، أو نجيب محفوظ العلماني، أو ذاك الشيوعي، فيردد أن الشباب المسلم الذين يعلنون العودة الصادقة إلى دين الله، ويبذلون أوقاتهم كلها لرفع دين الله، ويريدون أن يرفعوا وطأة هذا التغريب والتجهيل عن أمتنا، فيسميهم بالرجعيين والمتطرفين والأصوليين وما إلى ذلك من النعوت، ويتلقفها صحفيون وكتاب مسلمون في كل مكان، يرددونها بدون وعي منهم، أقول -أيها الأحبة-: هذا أمر خطير يجب أن نتنبه له، وألا نقع فيه.
أهم هذه الضوابط في نظري هي:
أيها الأحبة! لا يكفي أن تكون صحوتنا وعودتنا عودة عواطف متأججة، العواطف والحماس لأمر الإسلام عبادة يؤجر عليها الإنسان، لكن ليس بالحماس وحده ولا بالعواطف وحدها يمكن أن نحمل دين الله في هذه الأرض، إننا أمة يقوم دينها على العلم والدليل والبرهان، فيجب -أيها الأحبة- أن ننير دروب طريقنا بالفقه الشرعي في دين الله سبحانه وتعالى، ونتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) ونعلم أن هذا الدين قائم على الاتباع لا على الابتداع، وقائم على العلم لا على العواطف، ولا أريد أن أطيل حتى أنتقل إلى هذه الضوابط ضابطاً ضابطاً.
ويكون هذا الفقه من خلال العودة للمنابع الأولى -الكتاب والسنة- وما كان عليه سلف هذه الأمة.
الله سبحانه وتعالى يحدثنا عن أن الهداية للمتقين هي في كتابه الكريم: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2] ثم وصف الله سبحانه وتعالى أولئك المتقين، ويقول صلى الله عليه وسلم: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك) ونردد مع الفاروق رضي الله عنه وأرضاه تلك المقولة: [لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها] .
إذاً أيها الأحبة في الله! نحن في حاجة إلى أن نعود إلى تلك المنابع، منها نستمد التصورات، ونتعلم العبادات والأخلاق والسلوك، ونظم الحياة، وكل شيء نحتاجه في حياتنا نعود فيه إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد تكفل الله لنا بكمال هذا الدين: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً [المائدة:3] .
أيها الأحبة! إننا في حاجة إلى أن نقدم لأجيال أمتنا نماذج يُقتدى بها، غير النماذج التي ألفت الأمة في هذا الزمن سماع سيرها وحياتها، ونتذكر قصة النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة بيعة العقبة، كيف كان يعد أصحابه؟ وعلى ماذا كان يربيهم، عندما قالوا له: (يا رسول الله! إن نحن وفينا لك ببيعتنا؟ وفي بعض الروايات قالوا: يا رسول الله! إن نحن وفينا لك، فقتل الرجال، ويتم الأطفال، ورملت النساء، وذهبت الأموال، ورمتنا العرب عن قوس واحدة، فمالنا يا رسول الله؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: إن وفيتم فلكم الجنة).
هذه هي التربية الإيمانية الصادقة الحقيقية التي تنشئ أجيالاً مؤمنة، لا نربطهم بأهداف دنيوية محدودة، قد تتحقق على أيديهم، وقد لا يكتب الله ذلك، وليست تلك هي غاية المؤمن، أما كان يقول ربعي بن عامر عندما كان يهدده رستم بالقتل: [إن هي إلا إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة، والشهادة أحب إلى أنفسنا] أما وصف الله المؤمنين فقال: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111] ؟!
إذاً أيها الأحبة! نحن في حاجة إلى أن نربط كل شيء في هذه الحياة بالآخرة وبالجنة، ومن أراد أن يعمر الدنيا من غير طريق الآخرة فقد حاول محالاً، ولن يؤدي ذلك إلا إلى خراب الدنيا وضياع الآخرة، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
أيضاً -أيها الأحبة- من أهم الضوابط التي يجب أن تعيها الأجيال المؤمنة هو: إدراكها وفقهها لسنن الله في الكون والنفس والمجتمع، إن الله سبحانه وتعالى جعل سنناً كونية يجري عليها أمر هذا الكون وهذه الحياة، وإن الله سبحانه وتعالى كلفنا بأن نسير في الآفاق، وأن نكتشف هذه السنن، وأن نعمل على ضوئها، ونسخرها لخدمة دين الله، محمد صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق وأحبهم إلى الله سبحانه وتعالى، عندما حصل التفريط من بعض أصحابه في موقعة أحد كان ما كان كما تعلمون، وليس معنى أننا مؤمنون، وأننا مقبلون على الله، وأننا عائدون إلى الله سبحانه وتعالى أن نبطل عالم الأسباب، وعالم السنن الكونية التي أودعها الله في هذا الكون، بل يجب أن نكون أكثر فقهاً وإدراكاً لها من أعداء الإسلام؛ لأننا نستضيء في معرفتها بنور الله سبحانه وتعالى، ثم نسخرها بعد ذلك لخدمة دين الله سبحانه وتعالى.
هذا هو الاستيعاب لعصره الذي يعيشه صلى الله عليه وسلم، وللمعرفة الدقيقة بذلك العصر وجه أصحابه صلى الله عليه وسلم هناك، وكذلك مراسلته للملوك بعد غزوة الحديبية ، ومخاطبته كل ملك بخطاب خاص يعلم من دقائق أمر ذلك الملك وتلك البلاد مالا تشاركها فيه البلاد الأخرى، أما كان صلى الله عليه وسلم في موقعة بدر دليل على علمه بالناس الذين يعيشون حوله، وعلى القوة التي تتحرك على هذه الأرض من أجل أن يواجه أهل الباطل، ومن أجل أن يقود أهل الحق إلى دين الله، فيقول: (إن يكن في القوم خير، ففي صاحب الجمل الأحمر) ألف رجل من قريش، ويعلمهم صلى الله عليه وسلم واحداً واحداً، ويقول: إن كان فيهم خير ففي ذلك الرجل؟!
إذاً أيها الأحبة! لابد أن نعرف عصرنا، وأن نستوعب واقعنا، وأن ندرك ما هي القوى والأفكار والنظريات والعلوم التي تدور في هذه الحياة، من أجل أن نستغل ما كان صالحاً فيها لخدمة دين الله، ومن أجل أن نقف عن علم وبصيرة أمام ما كان ضالاً فيها.
يتحدث الإمام ابن القيم عليه رحمة الله عن قوله سبحانه وتعالى: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55] فيقول: إن الناس على أربعة أقسام: قسم استبانوا سبيل المؤمنين، واستبان لهم سبيل المجرمين، فأمروا بهذا عن بينة، وحضوا عليه، ونهوا عن هذا ووقفوا ضده عن بينة، وقسم عرفوا سبيل المؤمنين ولم يعرفوا سبيل المجرمين، فهؤلاء -كما يقول- أهل لأن يدعوا إلى ما عرفوا من سبيل المؤمنين، لكنهم ليسوا مؤهلين لأن يقفوا ضد سبيل المجرمين؛ لأنهم لا يعرفونه، ومعرفة الشيء فرع عن تصوره، كما تقول القاعدة الأصولية.
قال: وقسم ثالث لا يعرفون سبيل المؤمنين ولا يعرفون سبيل المجرمين، وهم أشبه بالأنعام -كما قال- أتباع كل ناعق، وقسم رابع: الذين عرفوا سبيل المجرمين ولم يعرفوا سبيل المؤمنين، وهم المفسدون في الأرض.
إذاً - أيها الأحبة- لابد أن نكون على دراية بواقعنا الذي نعيشه وبعصرنا.
أيها الأحبة! إن جميع جنبات الحياة كلفنا الله بأن نوصل دين الله إليها، ولا يجوز للأمة المسلمة أن تلتفت إلى جانب فقط من جوانب الحياة، وتهمل الجوانب الأخرى، وتجعلها في أيدي أعداء دين الله سبحانه وتعالى، إنني أعتب على بعض الشباب المسلم الذي أراه يدرس أربع أو خمس سنوات في كلية الطب، ثم يترك الدراسة ويأتي ويقول: أريد أن أتخصص في العلوم الشرعية، إنني أعلم أن الأمة الإسلامية غزيت من جانب الطب، ولم تغز من جانب الشرع، هذه حقيقة -أيها الأحبة- لماذا لا يكون المؤمن الصادق الملتزم بدينه طبيباً ومهندساً وضابطاً ومفتياً ووزيراً وأميراً ومديراً ومعلماً؟ لابد أن يصل دين الله إلى جميع جوانب هذه الحياة.
وعندما تقرءون تراجم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تجدون من كان فيهم حداداً، وجزاراً، وتاجراً، وسائساً للخيل، وراعياً للإبل، وفلاحاً، كانوا في جميع جنبات الحياة، لكن الجميع كان يجمعهم أمر واحد وهو الدعوة إلى دين الله، والجهاد في سبيل الله، وحمل راية لا إله إلا الله.
إذاً أيها الأحبة! من مهام النبي صلى الله عليه وسلم، ومن معالم رسالته التي جاء بها إلى هذه الحياة هي: أن يعلمنا الحكمة في حمل هذا الدين كما علمنا هذا الدين، فمن تعلم الدين، وحازه علماً وثقافة في قلبه وعقله ورأسه، ولم يتعلم طريقة هذا الدين والدعوة إليه، فإن فيه جزءاً من الضلال الذي تحدثت عنه الآية، يقول المفسرون عندما يتحدثون ويعلمهم الحكمة، قالوا: الحكمة هي سنة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، بمعنى: هي طريقته في نقل هذا الدين، وأسلوبه في تبليغ هذه الرسالة إلى الناس جميعاً، يقول الحق سبحانه وتعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108] .
إذاً لا يكفي أن أدعو إلى الله، بل لابد من شرط آخر وهو: أن تكون دعوتي إلى الله سبحانه وتعالى على بصيرة، كما أخبرتنا عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه) الحكمة: أن تضع الأمور في مواضعها، نحن -أيها الأحبة- دعاة إلى أعظم مبدأ وأقوم سبيل، فلا نكون بأساليبنا الخاطئة ممن يصرفون الناس عن دين الله.
أيها الأحبة! ليست وظيفتنا أن نحمل الدين إلى أنفسنا فقط، ولا إلى مجتمعنا هذا فقط، بل نحن مكلفون تكليفاً ربانياً، بأن نحمل هذا الدين للبشرية كلها في جنبات الأرض كلها: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110] .
فلابد أيها الأحبة في الله! من أن نتحلى بالحكمة ونحن نعرض دين الله سبحانه وتعالى، ولا أريد أن أطيل في هذه النقطة على الرغم من أنها تستحق الإطالة.
أيها الأحبة! إن هذا الدين كله قام على أمرين وهما: جلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، وكثير من الناس لعدم الفقه في دين الله -الذي تحدثنا عنه قبل قليل- لا يدركون هذه القاعدة المهمة التي هي جماع أمر الدين كله، لذلك يقول علماؤنا عليهم رحمة الله: إذا تعارضت مصلحتان ليس أمامك إلا أن تهدر إحدى هاتين المصلحتين، فالواجب عليك وجوباً شرعياً أن تهدر المصلحة الصغرى من أجل تحصيل المصلحة الكبرى، يقول بعض الناس: أمر شرعي ومصلحة شرعية، كيف أهدرها؟ من أجل تحقيق أمر أعظم منها، مصلحة شرعية كبرى.
يقول علماؤنا: من شروط إنكار المنكر ألا يؤدي إنكارك إلى الوقوع في منكر أعظم، أو إلى الوقوع في مفسدة أكبر.
إذاً لابد -أيها الأحبة- أن نرتب الأمور كما رتبها دين الله، وأن نعطي كل أمر من الأهمية بمقدار ما أعطاه الله سبحانه وتعالى، فمثلاً الأخوة بين المؤمنين -كما سنرى بعد قليل- هذه الأخوة -أيها الأحبة- من المعلوم من الدين بالضرورة أن كثيراً من الناس يهدر هذا الأمر الواجب من أجل أمر مسنون مندوب، صحيح أمر شرعي، لكن مسنون ومندوب من أجله يهدر الواجب.
وهناك أمور جعل الله فيها سعة، وجعل في الخلاف فيها بين المسلمين سعة، ووقع الخلاف بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه القضايا، فلا يجوز لنا أن نهدر الأخوة الإيمانية التي هي من ضروريات الدين كما يقول الشاطبي عليه رحمة الله، يقول: بالأخوة والائتلاف والتعاون يحفظ الدين، وبالتفرق والتخاصم والتنابز والتدابر يضاع الدين، وحفظ الدين أول مقاصد هذا التشريع.
وجعل الله للاختلاف بين المسلمين آداباً، النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال لأصحابه: (من كان سامعاً مطيعاً -في غزوة الخندق - فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة) فأدركهم وقت الصلاة في الطريق بعد الحصار الطويل، وقد غابوا رضي الله عنهم عن أزواجهم وأموالهم وأولادهم، وكانوا لا يخرجون للخلاء حتى يستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم؛ بسبب شدة طاعتهم لله، وحين انفض العدو سارع كل منهم إلى أهله، فبلغهم النداء وقد تفاوتوا في عوالي المدينة وأطرافها، فأدرك وقت الصلاة بعضهم في الطريق، فقالوا: (ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم منا أن نؤخر الصلاة، إنما أراد استعجالنا فلنصلي، وقال البعض الآخر: بل نحن لا نخالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا نصلي إلا في بني قريظة، فصلى بعضهم في الطريق، وصلى بعضهم في بني قريظة بعد غروب الشمس) وكما يقول الإمام ابن القيم : ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على هؤلاء ولا على هؤلاء.
أيها الأحبة! هذه الحادثة لو وقعت بين المسلمين في زماننا هذا لسالت من أجلها الدماء، وسلت من أجلها السيوف، أين نحن من هذا الأدب الرباني العظيم الرفيع الذي يعلمنا به النبي صلى الله عليه وسلم؟ بل وقع الخلاف بعد ذلك في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يتناظرون، وكان بعضهم يرد على بعض، وكان بعضهم يبين لبعض، وكان بعضهم يناقش بعضاً، وكان بعضهم يحاور بعضاً، لكن ما كانوا يهدرون هذه الأخوة الإيمانية التي بدونها لن نحفظ ديننا ولا أنفسنا ولا ذواتنا، وإن أعلى وأعظم ما يطمع فيه أعداء الإسلام هو: أن يكفي المسلمون الأعداء بعضهم في بعض مئونة المخاصمة والمدابرة والمقاتلة.
إن الله سبحانه وتعالى جعل التعاون بين المؤمنين واجباً، أما يقول سبحانه وتعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2] ؟ إن التعاون على الإثم والعدوان محرم، والتعاون على البر والتقوى واجب شرعي.
إذاً أيها الأحبة! التقصير في التعاون على أمر الله، وعلى حمل دين الله، وعلى التكاتف في ذلك، يوقع الإنسان في الإثم والمعصية؛ لأنه خالف أمراً أوجبه الله سبحانه وتعالى، ولأنه تخلف عن أمر أوجبه الله سبحانه وتعالى، فلابد كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد ....) وكما وصفهم الله سبحانه وتعالى كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً.
إذاً أيها الأحبة! لابد أن يكون هذا الأدب الإيماني الذي كان بين أسلافنا رضي الله عنهم وعليهم رحمة الله، أن يكون ظاهراً في مجتمعات أجيال العودة إلى الله سبحانه وتعالى.
لكنني أتحدث عن هذا من جانبين:
الجانب الأول: نحن لأمور دنيانا نخطط أعظم التخطيط، فالإنسان إذا أراد أن يبني بيتاً يذهب إلى أفضل المهندسين تخطيطاً وتنفيذاً، ويجلب أفضل المواد، ويحدد قبل أن يبدأ التنفيذ مكان الضوء، ومكان مفتاح هذا الضوء، ومكان الثلاجة والمجلس والمكتبة، بل الإنسان منا إذا أراد أن يشتري ثوباً يخطط لهذا الثوب، أريد طوله كذا وعرضه كذا، فهل دين الله سبحانه وتعالى أهون على أنفسنا من أمر ثيابنا أو بيوتنا التي نبنيها؟ هذا أمر.
الأمر الثاني: أن الله سبحانه وتعالى جعل أمر هذه الحياة لا يقوم إلا على التخطيط، والمسلمون يريدون أن يعبدوا هذه الحياة لدين الله سبحانه وتعالى، فليسلكوا الطريق الذي سنه الله في الحياة، لكي ينجحوا في هذه الغاية.
الأمر الثالث: أنه سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وخذوا الهجرة مثالاً على ما نقول، النبي صلى الله عليه وسلم عندما هاجر أصحابه ثم انطلق مع أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، فترك علياً رضي الله عنه في فراشه لكي يوهم القوم الذين كانوا يحيطون بداره أنه لازال في مكانه صلى الله عليه وسلم، وتقول عائشة : [دخل علينا في ساعة ما كان يدخل علينا فيها] وتقول: [دخل من مكان ما كان يدخل منه] والمدينة في شمال مكة ، ويتجه النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر إلى جنوب مكة إلى غار ثور ، والنبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يكلفان عبد الله بن أبي بكر أن يأتيهم بأخبار القوم في الليل، ويكلفان أسماء بأن تأتيهم بالطعام، ويكلفان الراعي أن يمر بالغنم على آثار عبد الله وأسماء حتى يخفي عن القوم، وتجهز الرواحل وينطلقون عليها من طريق غير مسلوك، أليست هذه أدلة قطعية على وجوب التخطيط في أمر الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى؟
كذلك أيها الأحبة! قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما يقول له الحباب بن المنذر في يوم بدر: [يا رسول الله! أهو منزل أنزلك إياه الله، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟] إن كانت القضية قضية وحي إلهي -هذا معنى كلام الحباب - فليس لنا إلا أن نقول: سمعنا وأطعنا، أما إن كانت القضية أن الله كلفنا بالأمر، وجعل إلينا أمر التنفيذ، وجعل لنا الحرية في ذلك، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بل هو الحرب والرأي والمكيدة) فيقول: [يا رسول الله! أرى أن نغور المياه، ونكون على أدنى ماء من القوم، فنبني عليه حوضاً ثم نجعل فيه ماء فنشرب ولا يشرب القوم] أليس هذا هو التخطيط أيها الأحبة؟
أليس النبي صلى الله عليه وسلم -كما اتفق جميع أهل السير- إذا خرج إلى غزوة ورّى بغيرها؟
أليس هذا هو التخطيط الذي نسميه في زمننا التخطيط؟
إذاً أقول: أيها الأحبة! يجب على المعنيين بالدعوة إلى الله وكل مسلم معني بالدعوة إلى الله بحسبه أن يخططوا لأمر هذه الأمة المسلمة، وأن يبذلوا الجهد في ذلك.
هذه أيها الأحبة في نظري باختصار شديد أهم ضوابط العودة والإقبال إلى الله سبحانه وتعالى، أو ضوابط الصحوة الإسلامية المعاصرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، حقيقة ماذا نقول في هذه العجالة بالنسبة لهذا الموضوع؟ ربما الجميع تابعوا ما دار في بعض الأشرطة وفي بعض الكتابات حول هذا الموضوع، لكن الحداثة باختصار شديد في نظري والذي أملك الأدلة على ذلك، وما أظن أحداً يستطيع أن ينفيه من الحداثيين أنفسهم: إنها مذهب فكري هدام، جمع كل ما في المذاهب التي سبقته من شر، واجتنب إن كان في هذه المذاهب شيء من الخير اجتنب ذلك الخير، أو هو في الحقيقة جبهة توحدت فيها المذاهب الفكرية المتشتتة حين عجزت منفردة عن مواجهة المسلمين، فأرادت أن تظللهم عن دينهم تحت راية واحدة، فاتحد تحت راية الحداثة الوجودي والعلماني والشيوعي، وأفكار شتى يتفق فيها الجميع على قضية واحدة، وهي تحطيم الثوابت في العقائد والتصورات والأخلاق والسلوك والنظم، وأشكال التعبير وهي: اللغة والآداب، وأظن بعض الأمثلة من إنتاجهم التي نشرت وأشير إليها، وحذر منهم، تدل دلالة واضحة على توجههم ومنهجهم، هذا باختصار.
أما ردة الفعل، فقد خفت الحدة، حدة الحداثيين والوضوح الذي كانوا يكتبون به خاصة هنا، وربما بعض الكتابات في خارج هذه البلاد كان رد الفعل مختلفاً تماماً خاصة هناك مجلة شيوعية تصدر في لندن اسمها الناقد، هذه المجلة كتبت مقالاً مطولاً عما يدور بـالحداثة، ويقولون: المتعصبون يعلنون الجهاد على الحداثة في السعودية، وربما كان هناك كثير ممن انساقوا وراء الحداثة على اعتبار أنها موجة أدبية تحقق لصاحبها شيء من الشهرة، وربما استيقظوا إلى خطورتها فعادوا وتركوها، ولازالت الأمور في مراحلها الأولى.
الجواب: يتمتعون بأموال هذا صحيح، أما بالسعادة فليس صحيح، بل الأموال عليهم ضنك وشقاء، والأولاد عليهم ضنك وشقاء، والصحة عليهم ضنك وشقاء، عذاب في الدنيا قبل عذاب الآخرة، هذه هي حقيقة لا يمارى فيها، ومن جرب الحياتين يدرك ذلك إدراكاً حقيقياً واسألوا.
السؤال: يقول الله سبحانه وتعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2-3] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) فمن أراد هذه السلعة الغالية يحتاج إلى أن يقدم لها ثمناً، ولا يقدم أيضاً هذا الثمن وهو متضجر ومتشكي، بل وهو آمن مطمئن فرح مستبشر، هذه حقيقة المؤمنين في هذه الحياة، ولنا أسوة فيما لقيه النبي صلى الله عليه وسلم عندما قيل له: ساحر وكاهن ومجنون، واستهزئ به، وأوذي إيذاءً شديداً، وكان عندما يعرض نفسه على القبائل في المواسم والحج والأسواق، كان يلازمه رجل من أقرب الناس إليه، بعدما يفرغ النبي صلى الله عليه وسلم من دعوته يقول عمه أبو لهب : هذا ابن أخي وأنا عمه، ونحن قومه وأعلم الناس به، ولو كان فيما يدعو إليه خير لكنا أولى الناس بذلك، وكانت قريش تضع على كل طريق من طرق مكة رجالاً يتناوبون، فلا يدخل داخل إلى مكة إلا ويحذرونه من النبي صلى الله عليه وسلم، في هذا كله لنا أسوة وقدوة أن نصبر ونحتمل.
أيضاً عندما ندعو الناس، فالداعي كالطبيب الذي يعالج المرضى، لا يشتد عليهم -ونحن تحدثنا عن ذلك قبل قليل- ولا يغلظ، ولا يقسو، لو جاء الطبيب بشيء من الشدة والغلظة والقسوة إلى المرضى لأهلكهم وصرفهم عن العلاج، فتسبب في هلاكهم، النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤذيه قومه ويرجمونه بالحجارة، ويقول: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون) أوصي كل من يلتزم بدين الله بالصبر والمصابرة والحكمة والرفق في دعوته إلى الله سبحانه وتعالى، وليستعن على ذلك بصحبة صالحة يعيش معها، وليستعن على ذلك بصلته بكتاب الله سبحانه وتعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وليستعن على ذلك بالإكثار من العبادات؛ فهي الزاد الذي أرشد الله إليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المرحلة المبكرة الأولى التي نالوا فيها الاستهزاء الشديد، الإكثار من القيام والصيام والذكر والإنفاق، هذه كلها زاد يستعين بها الإنسان في طريقه.
الجواب: أطرف موقف لا أستحضره الآن قد تختلف، أما أحزن موقف حقيقة أيها الأحبة أنا سافرت أكثر من مرة إلى أفغانستان هناك بعض المواقف التي عندما يراها المؤمن تحز في نفسه، أذكر لكم موقفاً واحداً كان أحد قادة المجاهدين الذي يجاهد من سنوات طويلة، استأذن من الشيخ سياف قبل أربع سنوات بأن يخرج أيام عيد الأضحى إلى أهله في مخيم في باكستان، فطلب منه الشيخ أن يستمر في داخل أفغانستان، حتى يعود الشيخ من الحج، ثم يخرج هو ويبقى الشيخ هناك، وفي اليوم الثالث عشر من ذي الحجة وكنا في باكستان، إذا بأحد قادة المجاهدين ربما تعرفونه جميعاً اسمه محمد ياسر، قبل صلاة الفجر يوقظنا ويقول: هل تريدون أن تحضروا دفن أحد الشهداء؟ قلنا: نعم. وفي الطريق سألت من؟ قال: فلان، وكنا نعرف هذا الشخص قبل خروجنا.
ورأينا بعض ما أكرم الله به ذلك الشهيد بعد ثلاثة أيام من استشهاده فجسمه لم يتغير وتفوح منه رائحة طيبة، لكن الموقف الذي هزني جداً وقد تكرر في أكثر من مكان في تلك الأرض، أنه بعد دفنه مررنا بالمخيم فرأيت أسرته: زوجته وطفل عمره سنتان وبنت عمرها ثلاثة أشهر في خيمة لا يملكون فيها إلا بطانية مقطعة وبعض الأدوات المكسرة، وقد ذهب شهيداً في الدفاع عن دين الله سبحانه وتعالى، وأنتم تعلمون النعيم الذي نحن نتقلب فيه، هذا حقيقة كما تذكرته، ومواقف أمثاله تحز في نفسي جداً، أما القصيدة فأنا لست بشاعر.
الجواب: الناس -أيها الأحبة- ينقسمون إلى قسمين: من يظن أن قصده حسن لكنه أخطأ في العمل، ومن ليس هناك أي قرينة على حسن قصده ولا حسن عمله، يجب أن نفرق بين هذا وهذا، أنا حقيقة رغم المآخذ التي على محمد عبده وجمال الدين ، لا أرى أن يوضعوا في منـزلة مع طه حسين وأشباه طه حسين ، هذا شيء وهذا شيء آخر، والحديث عن رموز التغريب والعلمانية في بلاد المسلمين حديث طويل نجيب الآن عن أسئلة مختصرة.
الجواب: هذه -أيها الأحبة- تحدث فيها كثير من علماء المسلمين، ذكروا أن للتوبة ثلاثة شروط: إن كانت فيما بين العبد وبين ربه حتى تكون توبة صادقة نصوحاً، فالشرط الأول: أن يقلع عن الذنب فوراً، والتوبة واجبة من كل ذنب وفي كل لحظة وزمن ومكان.
الشرط الثاني: أن يندم على ما فات، هذه حقيقة التوبة -أيها الأحبة في الله- كان السلف إذا أخطأ الواحد منهم خطيئة صغيرة في مقاييسنا يبكي عليها السنين الطوال، وكان الإنسان إذا أصيب بأمر قال: علمت من أين أوتيت من ذنب كذا وكذا؛ لقلة ذنوبهم، أما نحن فكثرت فما علمنا من أين نؤتى، وكما ورد عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إنكم لتعملون أعمالاً في نظركم أصغر من القذى في العيون، كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يرونها من الموبقات] إذاً فالأمر الثاني الندم، وأن يطيل الحزن على ما فات، وما يدريه هل الله قبل التوبة أو لم يقبلها.
الأمر الثالث: أن يعزم عزماً صادقاً على ألا يعود إلى هذا الذنب أبداً حتى يلقى الله سبحانه وتعالى.
فإن كان الأمر له علاقة بالعباد فليضف له أمراً رابعاً وهو: أن يتحلل من الناس في الدنيا قبل ألا يكون درهم ولا دينار إنما هي الحسنات والسيئات، وتعلمون حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من تعدون المفلس فيكم؟ قالوا: من لا درهم له ولا دينار يا رسول الله! قال: المفلس من يأتي بحسنات -في رواية- أمثال جبال تهامة، ويأتي وقد ظلم هذا وسفك دم هذا وأخذ مال هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، ويعطى هذا من حسناته، ويعطى هذا من حسناته، فتفنى حسناته ولم يقض ما عليه، فيؤخذ من سيئاتهم فتطرح عليه فيطرح في نار جنهم) أعاذنا الله وإياكم. هذه هي شروط التوبة.
الجواب: فيها وفيها، لكن حقيقة أصل التوجه في الكتابة خاصة بدايات كتاباته، وحتى الكتابات الإسلامية لم تتناول تناولاً إسلامياً واضحاً وصريحاً ونقياً، وإنما جرى فيها على مناهج الغربيين، بحديثه عن عبقرية محمد صلى الله عليه وسلم، أن القضية قضية عبقرية وذكاء كما يقول المستشرقون، ليست قضية وحي ونبوة ورسالة، حتى المستشرقين يعترفون بعبقرية محمد صلى الله عليه وسلم، وقدرته على القيادة، لكنهم لا يقرون بنبوته، فحقيقة إنها لا تمثل التوجه الإسلامي الصافي النقي.
الجواب: حقيقة السمة العامة للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى -كما تحدثنا قبل قليل- هي: الرفق والحكمة والبصيرة، لكن كل حادثة لها وضعها الخاص التي يجب أن تدرس وتعطى حكماً خاصاً لها لا تعطى حكماً عاماً، شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: يجب على الداعية ثلاثة أمور: الأمر الأول: أن يكون عالماً بما يدعو إليه قبل أن يدعو، الأمر الثاني: أن يكون رفيقاً فيما يدعو إليه حين يدعو -أي حكيماً- الأمر الثالث: أن يكون صابراً على نتائج الدعوة بعد الدعوة، العلم والحكمة والصبر، فأقول: إعطاء وصفة عامة لكل حالة لا تصلح، لكن المهم بصفة عامة أن يكون حكيماً في دعوته رفيقاً، وأن يبدأ يرتب الأمور حسب الأولويات، يبدأ بالأسس؛ لأنه لو بدأ بفرع قبل أساس فلا يستجاب له، بل الأمر الطبيعي أن يبدأ بالأساس، يبني بعد ذلك عليه الفروع.
الجواب: أولاً: الإكثار من طاعات السر هذه تعالج القلب من هذا الجانب، إذا كان الإنسان ممن يكثرون العبادات بينه وبين ربه سبحانه وتعالى فهذا دليل على أن ما يخافه هو من أوهام الشيطان، قيام الليل، وصدقة السر، والذكر، والقراءة الخاصة دون أن يعلم أحد، كذلك الإنفاق في سبيل الله، والصيام دون أن يعلم أحد، هذه كلها علاج لهذا الجانب.
الأمر الثاني: الخوف من الرياء هو بإذن الله دليل على عدم وجود الرياء، الأمر الثالث: أن تكثر من الاستعاذة بالله تعالى من الشيطان الرجيم، فهذه من وساوس الشيطان.
الجواب: لاشك أن الإدمان على الذنب وإن كان صغيراً يحوله إلى أن يصبح من الكبائر، الإقامة عليه كما ذكر ذلك السلف عليهم رحمة الله، ونحن لو نستشعر رقابة الله سبحانه وتعالى استشعاراً حقيقياً، وندرك عظمة الله سبحانه وتعالى لا أقول: لن نقع في الأخطاء، لكن لن نستمرَّ على الأخطاء والذنوب والمعاصي؛ لأن الإنسان لا يقيم على هذا الأمر إلا وقد استهانه في نفسه حتى وإن لم يقل ذلك برقابة الله سبحانه وتعالى؛ لأن هذا الإنسان لو كان أمام الناس لما فعل هذه الذنوب ولخجل، فكيف يبارز الله سبحانه وتعالى بهذه الذنوب وهذه المعاصي؟
وكان السلف يقولون: لا تنظر إلى صغر المعصية، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت سبحانه وتعالى، والإنسان يخاف أن يفتح عليه الباب وهو على معصية ولا يخاف من نظر الله سبحانه وتعالى إليه! ثم يحاول كلما همت نفسه بمعصية أن يتذكر يوم العرض الأكبر على الله سبحانه، الذي يقول فيه سبحانه وتعالى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18] الأجسام عارية، والأعمال مكشوفة ومفضوحة على رءوس الأشهاد، ذلك اليوم -أيها الأحبة- الذي أجهد الإنسان نفسه في ستر الحياة الماضية، ثم تكشف على رءوس الأشهاد.
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18] ليس الأجسام العارية فقط كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، بل حتى الأعمال والتاريخ الماضي كله مكشوف وعارٍ، يستشعر دائماً ذلك اليوم، يوم العرض الأكبر، يوم الجمع الذي يجتمع فيه الخلائق كلهم بين يدي الله سبحانه وتعالى، ويستشعر عظم غضب الله سبحانه وتعالى، وخوف الناس حتى من الأنبياء وألي العزم من الرسل يقول كل منهم في ذلك اليوم: نفسي نفسي!
ثم أمر آخر أحب أن أنبه عليه وهو: أن الله سبحانه وتعالى قد جعل في الحلال ما يغني عن الحرام، فالإنسان إما أن يتزوج، وإما أن يصوم ويكثر من العبادات.
أيها الأحبة! الإسلام في أشد الحاجة إلى طاقاتنا هذه نبذلها في أمر الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيل الله، وفعل العبادات والطاعات، النبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى الصيام، والصيام مثال وغيره من الطاعات والعبادات التي تستنفذ الجهود والنشاط الكثير، وترفع همة المسلم من أن تتدنى إلى هذه الأمور البسيطة الوضيعة التي لا يجوز أن يقيم المسلم عليها إقامة دائمة.
الجواب: لا يجوز للمسلم بأي حال من الأحوال أن يشارك النصارى أو غير النصارى في أعيادهم، فإن كانت مشاركته لهم في هذه الأعياد استجازة لها، وتحبيذاً لها، وحباً لها فقد يقع والعياذ بالله في الكفر، وإن كانت مشاركة من باب تزجية الوقت وقضاء الفراغ مع كرهه لها، فقد وقع في البدعة، فلا يجوز بحال من الأحوال أن يقع المسلم فيهما، هما أمران أهونهما شر، نسأل الله العافية.
الجواب: العوائق من خارج الأمة المسلمة مهما عظمت فلن تضر، المهم هو أن نخلي أنفسنا نحن من العوائق الداخلية، يقول الله سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11] والله سبحانه وتعالى تحدث عن المسلمين في يوم أحد فقال: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [آل عمران:152] يقول ابن مسعود : [ما كنت أعلم أن في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من يريد الآخرة] بسبب هذا التوجه القلبي، توجه قلبي داخلي لا أحد يعلم به، كانت الهزيمة في واقع الحياة، إذا أصلحنا ما بيننا وبين الله سبحانه وتعالى، فسيغفر الله لنا الحياة كلها: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً [آل عمران:120]
فالكيد موجود، لكن المهم أن يوجد لدينا الصبر على مواجهة هذا الكيد، وتوجد لدينا التقوى التي تؤهلنا إلى أن نكون أهلاً لفضل الله ونصره، فلن تضرنا بعد ذلك العوائق الخارجية مهما عظمت، المهم أن نتغلب على العوائق في أنفسنا وذواتنا.
الجواب: التوجه للعلوم الشرعية أمر محمود وطيب ويؤجر صاحبه، لكن أن نفرط في الجوانب الأخرى -كما أسلفت في حديثي السابق- قد تقع الأمة في الإثم بسبب ذلك، بل قد تغزى من ذلك الجانب، فالواجب أن نضع على كل ثغرة من يحمي أمرها ويقوم بشأنها.
الجواب: هذا الكتاب فيه بعض العبارات البليغة، لكن كما تعلمون المؤرخون ينسبونه إلى الشيعي المعروف ابن أبي الحديد، وألفه ونسبه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وفيه كثير من الأمور التي يستحيل قطعاً أن تكون صدرت من علي رضي الله عنه.
الجواب: كتب التراجم، وأنا لا أعلم إن كان هناك أحد ألف عنه في العصر الحديث، لكن كتب التراجم القديمة. والأخ إبراهيم يقول: هناك كتاب عن العز بن عبد السلام موجود في المكتبات بالإمكان البحث عنه.
الجواب: الإقبال على الله سبحانه وتعالى في الشدائد، والإعراض عنه في أيام الرخاء هذه كانت من صفات العرب في الجاهلية، ولا ينبغي أن يتصف بها المسلم، بل تعرف على الله في الرخاء تجده في الشدة كما ورد، وأعظم عبرة يمكن أن يخرج بها الإنسان من هذه الامتحانات البسيطة والاستنفارات التي تعلن في البيوت والجهود، أن يتذكر يوم الامتحان العظيم بين يدي الله سبحانه وتعالى، الامتحان الطويل في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، لا تزول قدما العبد فيه حتى يسأل عن حياته وعن شبابه وعن ماله وعن علمه، المفترض فينا من خلال تتجدد الامتحانات في حياتنا البسيطة التي الإنسان يستطيع أن يتجاوزها، بعضهم يغش ويتجاوز أن نتذكر الامتحان الأعظم بين يدي الله سبحانه وتعالى.
الجواب: ما أظن القضية قضية محاربة، قد تكون إبداء وجهة نظر من بعض المسلمين، المسلم إذا رأى أمراً فله الحق أن يبدي وجهة نظره، لكن مادام لغيره رأي سائغ، وهي من الأمور الاجتهادية التي يجوز فيها الاجتهاد بين علماء المسلمين، فالأمر والحمد لله فيه سعة، ونحن ذكرنا قبل قليل أدب الخلاف بين المسلمين عندما يختلفون الخلاف الشرعي السائغ، وأرشد إلى كتيب صغير يتحدث عن الخلاف بين الصحابة اسمه: الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف ، لولي الله الدهلوي وغيره من الكتب، نرى كيف أن الاختلاف في هذه الأمور الفرعية وقع من قديم، لكن الذي لم يقع من قديم هو التعامل الفض الغليظ بين المسلمين عندما يختلفون، بل كان آداباً شرعية يفيئون إليها إذا اختلفوا.
الجواب: تجاه نفسك أولاً: حلها بدين الله، وفرعها من كل ما يضاد هذا الدين، وابذل جهدك في ذلك باستمرار، والأمر الثاني: حاول ألا تعلم شيئاً من دين الله وتلتزم به إلا دعوت غيرك إليه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية) آية واحدة تعلمها فبلغها لدين الله سبحانه وتعالى، وبذلك تكون قد عملت بالإسلام، وعملت للإسلام، وذلك هو ما أوجبه الله سبحانه وتعالى عليك.
الجواب: أكثر من مجالسة الصالحين -هذه مقويات الإيمان- والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل) الآيات: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67] والآيات والأحاديث في هذا كثيرة، والآثار عن السلف.
الأمر الثاني: أكثر من تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] .
الأمر الثالث: أكثر من تذكر الموت، والانتقال من هذه الدار إلى الدار الآخرة، وتذكر القبر، وزر المقابر الزيارة الشرعية، واحضر دفن الجنائز وحملها والعزاء، هذه كلها مما تقوي الإيمان، أيضاً التفكر في آيات الله في هذا الكون وفي هذه الحياة سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190-191] .
تقول عائشة : [قمت وإذا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو هذه الآيات ويبكي حتى بل لحيته صلى الله عليه وسلم] فالتفكر في آيات الله الكونية، كما تتلو آياته القرآنية هذه مما يقوي الإيمان بإذن الله سبحانه وتعالى.
الجواب: معنى هذه الآية -أيها الأحبة- كما ترون واضح وهو: أن المسلم كما ذكرنا: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [التوبة:111] حياة المسلم كلها محتكمة إلى شرع الله سبحانه وتعالى، لا يجوز له أن يجعل هواه أو شهوته أو رأيه أو ما يستحسنه مواجهاً لشرع الله سبحانه وتعالى، فيرد شيئاً من دين الله أو من شرع الله، إنما دوره هو فقط أن يبحث عن هذا الشرع لكي يطبقه في هذه الحياة، في أخلاقه وسلوكه وعباداته ومعاملاته واعتقاداته وكلامه ونظره وسمعه وقوله وحبه وبغضه، وفي حياته الخاصة، وحياته الأسرية، وحياته الاجتماعية، أي: أن تكون الحياة كلها منصبغة بشرع الله سبحانه وتعالى.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر