اللهم إنا نسألك السداد في القول والعمل، وأن تجعل عملنا خالصاً لوجهك الكريم، وأن تجعل سرائرنا خيراً من علانيتنا، وأن تجعل أعمالنا خيراً من أقوالنا، اللهم ما كان من صواب فمنك ومن فضلك، وما كان من خطأ فإنا نستغفرك منه ونتوب إليك من قبل أن نتلفظ به أو نقوله.
أيها الإخوة! الاعتدال في المنهج مطلب في زمن عز فيه الاعتدال، وتكاثر الناس ما بين غال وجاف، وخلى أوسط الطريق، وحين طلب مني الإخوة الحديث في هذا الموضوع، وقفت حائراً عن أي جوانبه أتحدث، أأتحدث عن الاعتدال الذي جعله الله سبحانه وتعالى سمة وعلامة وصفة وفارقة لدينه وعباده المتقين، أم أتحدث عن الاعتدال في تناول أمور الحياة، لكي يحقق الإنسان ما يصبو إليه منطلقاً من عقيدته التي اقتنع بها؟
أأتحدث عن الاعتدال بمعنى التوسط، أم أتحدث عن العدل وهو أحد لوازم الاعتدال، عن الاعتدال في القول، أو عن الاعتدال في الحوار، أو عن الاعتدال في المعتقد، أو عن الاعتدال في العبادة، أو عن الاعتدال في الأخلاق، أو عن الاعتدال في السلوك، أو عن الاعتدال في التربية؟ فوجدت أننا بحاجة إلى الاعتدال في كل جانب من جوانب حياتنا، وخلصت إلى أن أتحدث عن هذا الموضوع المهم الخطير في النقاط التالية:
أولاً: بيان منهج الاعتدال بين المناهج المغايرة.
ثانياً:الإشارة السريعة الموجزة إلى حديث القرآن عن الاعتدال.
ثم المرور بعد ذلك إلى نظرة المصطفى صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً وموقفاً من الاعتدال.
ثم أشير بعد ذلك إلى أن الاعتدال صفة للأمة المسلمة في جميع جوانبها المختلفة بين الأمم الأخرى.
ثم أبين إن شاء الله أن الاعتدال شعار أهل السنة والجماعة بشكل أخص بين الفرق والنحل الأخرى، ثم أشير بعد ذلك إلى بعض الآفاق والتطبيقات العصرية في مجال الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى التي نحن في حاجة إلى الاعتدال فيها.
ثم بعد ذلك أختم حديثي بالتنبيه على بعض صور الانحراف عن منهج الاعتدال. وكما ترون أن كل صورة من هذه الصور أو كل نقطة من هذه النقاط قد تستغرق حديثاً طويلاً، لكننا إذا أشرنا إلى رءوس الأقلام وإلى العناوين العامة، كان في ذلك بإذن الله ما يذكر بما وراءها، وبعض الفقرات ستكون مقتبسة كاملاً من بعض كتابات شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله، وسأعقب في النهاية بقراءة نموذج تطبيقي من مناهج الاعتدال في فتاوى شيخ الإسلام عليه رحمة الله.
كنت أقرأ قبل لحظات في إحدى الصحف، وإذا بهذه الصحيفة تتحدث عن المتطرفين في الجزائر، ثم تتحدث عن المتطرفين في تونس ، ثم تتحدث عن المتطرفين في مصر ، ثم تتحدث عن المتطرفين والأصوليين في أفغانستان، وأتأمل وإذا هم أصحاب الأيدي المتوضئة الذين يقولون: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً.
والذي يتأمل في كتابات فرج فودة، وجابر عصفور، وغالي شكري، وفؤاد زكريا ، يجد هذا المنهج واضح السمات، معلناً عن قسمات منهج التفريط.
تأملوا في مقابلة اطلعت عليها في إحدى الصحف مع راقصة ممثلة، فتقول هذه الراقصة الممثلة مهاجمة لدعاة الإسلام وشبابه: إن هؤلاء الشباب المتطرفين يريدون أن يردونا إلى العصور الوسطى، عصور الظلام، ثم تقول: إنني أعمل -الرقص والتمثيل عمل- إنني أعمل والعمل عبادة، وأخشى أحياناً أن أكون متطرفة في فهمي للدين.
والذي يتتبع كتابات هؤلاء وأضرب لكم مثالاً لبعض الكتابات: كتب جابر عصفور في مجلة إبداع وكتب في كتاب الإسلام والحداثة ، يتهجم على الشيخ عبد العزيز بن باز ، ويعتبره من رموز التخلف في العالم العربي؛ لأنه قدم لكتاب الحداثة ، ويقول: إن هؤلاء كل شيء عندهم حرام، الرقص حرام، والغناء حرام، والبارات حرام، والاختلاط حرام، وحرية المرأة حرام، ثم يقول في النهاية: هؤلاء هم المتزمتون، الظلاميون، الذين يريدون أن يردونا إلى عصور الظلام. هذا منهج التفريط وهو مع الأسف الشديد منهج قد شاع في الإعلام على امتداد الساحة الإسلامية في الصحافة والإذاعة والتلفاز، إلا ما رحم ربي.
تحت ضغط هذا الواقع المنحرف من أصحاب الشهوات ومرضى القلوب، الذين يحاربون الله ورسوله، ويحاربون الفضيلة، ويحاربون الهدى والتقى، خرجت مجموعات من شباب الأمة المسلمة ينظرون إلى الحياة بمنظار أسود، ويقولون: ليس في الوجود من هو على الحق إلا نحن، فيكفرون ويفسقون ويضللون ويبدعون بالجملة، وقد كان أسلافنا رضوان الله عليهم يتحرجون في تكفير وتبديع المعين، وهؤلاء يبدعون شعوباً بأكملها، ويكفرون طوائفاً بأكملها، ليس ممن وقفوا ضد دين الله سبحانه وتعالى وفرطوا فيه، بل من دعاته وممن حملوا لواء الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وأذكر في هذه المقام حادثة وقعت لي قبل سنوات في بيشاور ، علم بي بعض الشباب هناك فكانوا يزوروني ويلتقون بي من مشارب مختلفة، وزارني أربعة شبان من أحد البلدان العربية وجلسوا معي ومنذ رأيتهم تذكرت الحديث الذي ورد عن ذي الخويصرة ، الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد! اعدل فهذه قسمة ما أريد بها وجه الله. لقد وصفه أصحاب السير ورواة الحديث كما تعلمون، وصفوه فقالوا: كان مقطب الجبين، ناتئ الوجنتين، غائر العينين، كث اللحية، مشمر الإزار، عابس الوجه، فحين رأيت هؤلاء وفي سلامهم عليَّ فضاضة وغلظة تذكرت هذا الحديث، ولم أحكم على هؤلاء قبل أن يتحدثوا معي وابتسمت وهششت لهم، وبششت في وجوههم وبدءوا يتحدثون معي، ثم صارحوني وقالوا: نحن أتينا ندعوك للدخول في دين الله!! فقلت لهم: وهل رأيتموني على غير دين الله؟ قالوا: نحن نعتقد أنه ليس على دين الله في الأرض إلا نحن -هؤلاء الأربعة- وأن البقية كلهم قد خرجوا من دين الله! فقلت: فالعلماء؟ قالوا: هم الذين أضلوا الناس! قادة المجاهدين؟ قالوا: قد كفروا وخرجوا من الإسلام! كذا وكذا، هذا نموذج لا أزعم أن أصحاب منهج الإفراط كلهم بهذه الكيفية، لكنهم يتفقون جميعاً في الغلو والإفراط، والتشدد وتجاوز الاعتدال مع اختلاف مقدار ذلك ونسبته، فطرحت عليهم بعض الأسئلة، فتناقشوا وتحاوروا، فانقسموا إلى طائفتين، كل طائفة مكونة من اثنين، وكل اثنين يكفران الآخرين، فتذكرت أحاديث الخوارج وقصصهم ولعلي أذكر بعض ذلك بعد قليل.
إذاً الحق وسط بين طرفين: بين الغالي وبين الجافي، والشيطان يسعى لإيقاع الإنسان إن كان من أصحاب الشهوات في التفريط ويسله من دين الله سلاً بالمعاصي والشهوات والأهواء، كما نسمع الآن كثيراً من الناس، عندما يلتزم الإنسان، تجدهم يقولون: هذا متشدد هذا متزمت، لماذا؟ قالوا: يقصر إزاره فوق كعبيه، سبحان الله! هذه سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
قالوا: لا يستمع إلى الغناء، هذه سنة محمد صلى الله عليه وسلم.
قالوا: لا يسلم على بنات عمه وبنات خاله، هذه سنة محمد صلى الله عليه وسلم.
إذاً أصحاب الشهوات الذين يريدون أن نميل ميلاً عظيماً، إن رأى الشيطان أن هذا الصنف من الناس هم من أصحاب الشهوات جرهم إليها، وإن رأى أنهم من أصحاب التدين وأصحاب التوجه إلى الله سبحانه وتعالى جعلهم يتجاوزون المنهج الوسط المعتدل، فيصبحون كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم مثل الخوارج يمرقون من الإسلام -يعني يتجاوزونه- ويظنون بعد ذلك أن أهل الحق في تقصير.
أولاً: أن الله سبحانه وتعالى وصف أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأنها أمة وسط، قال سبحانه وتعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة:143] فتأمل أن هذه الأمة -كما سنبين بعد قليل- ما نالت منزلة القيادة والريادة والشهادة على البشرية إلا لأنها الأمة الوسط، الأمة المعتدلة، عدول ولا يستحق أن يكون شاهداً في قضية بسيطة جزئية إلا رجل عدل، إذا كان مجروحاً ردت شهادته، فأمة الإسلام لا تتأهل لتؤدي الشهادة غداً بين يدي الله عندما يستشهد بها الأنبياء والمرسلون لا تتأهل بذلك إلا عندما تكون أمة عدل، لا إفراط ولا تفريط، لا تغلو ولا تجفو، ولا تحمل الناس ما ليس فيهم، ولا تتملق عواطفهم وشهواتهم على حساب دين الله سبحانه وتعالى.
وقد بين سبحانه وتعالى أن طائفة من قوم موسى أهل حق وعدل، فقال سبحانه وتعالى: وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف:159] وهذا مدح لهم وثناء، وكأن الآية الكريمة تقول لنا: لا يتأهل للدعوة إلى الله وللهداية إلى الحق، ولا يتأهل لحمل رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلا من كانت صفة العدل من أخص صفاته، حين يفقد العدل ويصبح مائلاً يميناً أو يساراً، يكون غير مؤهل إلى أن يهدي إلى الحق، بل إن الله سبحانه وتعالى قد عمم ذلك في آية أخرى وتجاوز به بني إسرائيل، فقال سبحانه وتعالى: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف:181] .
إذاً الذين يهدون بالحق ويعدلون به في الأرض هم أصحاب العدل والإنصاف الذين توسطوا بين الغلاة والجفاة، الذين لا تجعلهم العداوات يميلون على من عاداهم بغير الحق، ولا تجعلهم الموالاة والمحبة يحكمون لمن والاهم بغير الحق الذي هو لهم، وقد أمر سبحانه وتعالى المؤمنين بأن يعدلوا مع أعدائهم فقال سبحانه وتعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8] يأمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي كل زمن، إذا حكموا وإذا تصدوا لقضية مع أعدائهم الذين يبغضونهم ويكرهونهم أن يعدلوا في الحكم، وألا يجحفوا، وألا يتجاوزوا الحق ولا يقصروا دون الحق، وهذا مع أعدائهم.
وهذه الصفة -أيها الأحبة- هي التي نالت بها الأمة المسلمة ما نالت، وأذكر لكم حادثة واحدة لتروا كيف أن أخذ المسلمين بمنهج الاعتدال كان سبباً في التمكين لهم في الأرض.
يذكر أهل السير أن قتيبة بن مسلم الباهلي القائد الفاتح الشهيد عليه رحمة الله حين فتح أرض سمرقند -البلاد الإسلامية في آسيا الوسطى- لم يتبع تعاليم النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة الناس إلى الإسلام، أو إلى الجزية، أو يمهلهم ثلاثاً ثم يقاتلهم، وحين علم أهل سمرقند في زمن عمر بن عبد العزيز بأن هذا حكم شرعي ورأوا التزام المسلمين بشرع الله سبحانه وتعالى، أرسلوا مبعوثاً لهم يشتكي إلى عمر بن عبد العزيز ، فيتحدث هذا المبعوث وقد أسلم بعد ذلك يقول: استمر من أرض سمرقند إلى دمشق قرابة سبعة أشهر وهو يمشي على قدميه، فلما وصل إلى أرض دمشق أراد أن يسأل عن السلطان.
يقول: فخشيت إذا نطقت باسمه أن يؤخذ رأسي، قال: فبقيت أياماً ثم نظرت إلى أكبر مبنى في المدينة فولجت إليه، فإذا هو المسجد وإذا الناس حلقات فيه.
قال: فقلت لأحدهم: هل هذا دار السلطان؟
قال: فقال لي: أأنت مسلم؟
قلت: لا.
قال: فجلس معي فحدثني بالإسلام، فما قام إلا وقد اعتنقت دين الله.
قال: ثم خرج معي، فدخل بي في إحدى طرقات المدينة بقرب المسجد، ثم أشار إلى بيت من طين.
قال: فعدت إليه وقلت: رحمك الله، أتهزأ بي وأنا رجل غريب؟
فقال لي: أتسأل عن دار أمير المؤمنين؟
قلت: نعم. قال: تلك دار أمير المؤمنين.
قال: فأتيت البيت فإذا برجل يسد ثلمة في جدار الدار وإذا بصوت امرأة من ورائه تناوله طيناً. قال: فلما رآني انصرفت المرأة، ونزل إلي وغسل يديه، وإذا بأولاده قد أتوا بطفل يجرونه وقد شج أحدهم. قال: فغسل الدم عن وجه المشجوج وضمد جرحه، ثم أعطى الغلام الذي كانوا يجرونه حبة فاكهة، قال: ثم أتت أمه تقول: إنه يتيم.
فقال لها: أله في بيت المال رزق؟
قالت: لا.
قال: ائتنا غداً نفرض له في بيت المال.
هذا الذي كان يسد الثلمة خليفة المسلمين وأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ، الذي يحكم من حدود فرنسا إلى حدود الصين ، والمرأة هي فاطمة بنت عبد الملك التي كان جدها خليفة وأبوها خليفة، وإخوانها الأربعة خلفاء، وزوجها خليفة، وأبناء إخوانها خلفاء.
يقول: ثم قال لي: ما شأنك؟
فقلت: رسالة من أهل سمرقند.
قال: فأخذها فقرأها ثم قلبها فكتب في ظهرها: من عبد الله أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز إلى محمد بن واسع أو رجل آخر، احكم بين المسلمين وأهل سمرقند.
قال: ثم وضع عليها الختم وناولني إياها.
قال: فانطلقت بها، وأنا أكاد ألقيها في كل يوم مرات.
وأقول: ما تفعل هذه الورقة بتلك الجيوش الجرارة؟!
قال: فلما وصلت، واجتمع كهنة سمرقند وعظماؤها، وأهل بيت النار فيها، وسدنة الأصنام، فناولتهم الورقة، قالوا: ما أغنيت عنا شيئاً.
فقلت: اذهبوا بها، فاسألوا عن محمد بن واسع .
قال: فإذا بشيخ كبير في حلقة في المسجد، لا يكاد يسمع صوته.
قال: فناوله الورقة.
فقال: موعدكم غداً في هذا المكان.
قال: وفي اليوم الآخر أتى عظماء أهل سمرقند ، وأتى قائد جيوش المسلمين، ثم جلسوا بين يدي محمد بن واسع ، ثم قال: من صاحب الدعوة؟
فقال كاهن أهل سمرقند : أنا.
قال ما دعواك؟
قال: كذا وكذا.
فقال لقائد المسلمين -وأظنه أسد بن عبد الله القسري - قال: ما قولك؟
قال: صدق فيما قال، كانت مدينتهم حصينة، وأرضهم واسعة، وخيراتهم وافرة، وخشي قتيبة إن هو أنذرهم أن تمتنع عليه، فداهمهم وافتتح أرضهم.
فقال: إن الله بعث محمداً هادياً ولم يبعثه جابياً، قد حكمت بأن يخرج المسلمون من أرض سمرقند ، ثم يدعى أهل سمرقند إلى الإسلام، فإن هم استجابوا لذلك وإلا فالجزية، فإن هم أبوا فيمهلوهم ثلاثاً ثم يقاتلوهم.
قال: ثم قام فإذا المسلمون يحملون أثقالهم ويقودون دوابهم، ويجمعون أسلحتهم، ويتركون ما في أيديهم ويخرجون زرافات ووحداناً، حتى أصبحوا خارج المدينة، ثم أرسلوا لأهل سمرقند فلما وصلتهم الرسالة، دخل أهل سمرقند كافة في دين الله، ولم يبت تلك الليلة في سمرقند رجل على غير دين الإسلام ولا امرأة.
يقول أحد العلماء: والله لو كانت هذه الحادثة لإحدى الأمم الأوروبية لكان إعلامنا لا إعلامهم هم شغلنا بها صباح مساء، كما شغلنا بذاك وذاك وذاك.
أيضاً يقول الله سبحانه وتعالى وهو يحدثنا عن قضية من قضايا الحياة، يحدثنا في قضايا الاقتصاد والمال والنفقة في آيتين فيقول سبحانه وتعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً [الإسراء:29] رأيت كيف أن الاعتدال بين البسط -الاعتدال في الإنفاق- والإسراف والتبذير، وبين القبض والشح والبخل، ويقول سبحانه وتعالى عن نفس هذا المعنى في آية أخرى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً [الفرقان:67] .
هذه الآيات الكريمة تؤكد لنا أن الاعتدال منهج قرآني أصيل، لكن كيف نعرف الاعتدال؟ نعرفه على ضوء كتاب الله سبحانه تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ليس على ضوء أصحاب الأهواء والشهوات والشبهات.
أيضاً في هذا الحديث: (فأوغلوا فيه برفق) وهكذا كان منهج النبي صلى الله عليه وسلم ومنهج أصحابه، وفيما يروى عنه صلى الله عليه وسلم: (إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى) المنبت: الذي في مسيره يستعجل ويبذل جهده يريد أن يقطع المسافة الطويلة في وقت قصير، فلا ظهراً أبقى، الدابة أهلكها، ولا أرضاً قطع، بسبب إهلاكه لدابته انقطع وما استطاع أن يواصل بعد ذلك سفره، نعم قد يكون في لحظات، أو في يوم قطع ما لم يقطعه غيره في ثلاثة أيام أو أربعة، لكنه بعد ذلك قد يتعطل سنوات أو يهلك.
وهكذا حال أهل الغلو يأتونك باندفاع شديد لكن يعقبه بعد ذلك فتور أو انقلاب أو نكوص على الأعقاب نسأل الله الثبات.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال أيضاً صلى الله عليه وسلم (إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على سواه) ويقول صلى الله عليه وسلم: (عليكم من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا) الإنسان لا يحمل نفسه ما لا يطيق؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد جعل هذا الدين متلائماً مع الفطرة، وجعل سبحانه وتعالى التكليف بوسع النفس ومقدورها، وقال صلى الله عليه وسلم: (ليصل أحدكم نشاطه، فإذا تعب فلينم).
وانظروا إلى بعض مواقف النبي صلى الله عليه وسلم التي فيها عدل وإنصاف، واعتدال ووسطية، حين عاد صلى الله عليه وسلم من غزوة بدر، ولقيه الأنصار، وما ظن الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم سيلقى كيداً ولا قتالاً، ولذلك قال له سعد بن معاذ حين خطب: [وإن وراءنا قوم يا رسول الله، لو يعلمون أنك تلقى كيداً لما تخلفوا عنك، هم أشد حباً وطاعة لك منا] انظر أول إنصافه لإخوانه الذين تخلفوا وتأخروا ما قال: هؤلاء الذين فيهم وفيهم وفيهم، وقصروا وفعلوا، فلما عاد النبي صلى الله عليه وسلم لقيه الأنصار وكان منهم أسيد بن حضير يهنئونه، فقال سلامة بن وقش من الأنصار -شاب من الصحابة الذين حضروا بدر - قال: على ماذا تهنئونا! إن لقينا إلا عجائز صلعاً كالإبل المعقلة فقتلناهم، أو فنحرناهم، هؤلاء قريش الذين آذوا النبي صلى الله عليه وسلم وقاتلوه ونالوا منه، استمع هل النبي صلى الله عليه وسلم سيتشفى الآن منهم مثلما يكون الآن في الحرب الإعلامية بين الدول والسياسيين، الحرب الإعلامية الكاذبة الفاجرة في هذه العصر، لا، التفت إليه وقال: يا ابن أخي! أولئك الملأ من الناس الذين قتلت وإن كانوا أعداؤنا وإن كانوا أهل الشرك والجاهلية، لكنهم رءوس الناس وأسياد الناس.
أيضاً في بدر قبل أن يعودوا، عندما رأى النبي صلى الله عليه وسلم القوم، ورأى عتبة بن ربيعة وهو من قاداتهم وأول من قتل مبارزة عن الشرك، لكن انظر إلى الإنصاف قال صلى الله عليه وسلم: (إن يكن في القوم خير ففي صاحب الجمل الأحمر وقد أشار عليهم بما لو اتبعوه لكان خيراً لهم، لكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً).
قال عتبة بن ربيعة لـعامر بن الحضرمي في ذلك اليوم -انظروا إنصاف النبي صلى الله عليه وسلم- الذي كان مخرجهم في البداية من أجله، قال: أنا أحمل دم أخيك في مالي، وتعود بالقوم ونحجز بين الناس في هذا اليوم، لكن أبا جهل أشار عليهم بما كان فيه استئصال صناديد الكفر، والفرقة بين الحق والباطل، وأصر على القتال.
كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة في مكة يستقرئ أحوال الجزيرة العربية وأحوال الأمم المجاورة -استمع إلى كلمة الإنصاف- قال: (عليكم بأرض الحبشة ، فإن بها أو فيها ملكاً لا يظلم عنده أحد) رجل نصراني في قارة أفريقيا من جنس آخر، لكنه العدل والإنصاف الذي أمر الله سبحانه وتعالى به، ولذلك هذا العدل والإنصاف كان خيراً وبركة على الدعوة، عندما علم المسلمون هذه الخاصية فاستغلوها لمصلحة الدعوة، دخل النجاشي في الإسلام، وآواهم حتى جعل الله لهم فرجاً.
أيضاً النبي صلى الله عليه وسلم في يوم حنين عندما وزع الغنائم على المؤلفة قلوبهم، فقال قائل الأنصار: النبي صلى الله عليه وسلم وجد قومه فنفلهم وتركنا، أتى سعد بن عبادة أو أسيد بن حضير إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! قال الأنصار: كذا وكذا.
فقال: أين أنت عنهم؟
قال: إنما أنا رجل من قومي.
قال: اجمعهم لي.
فلما جمعهم له، قام النبي صلى الله عليه وسلم وخطب فيهم الخطبة الشهيرة وقال: (ألا ترضون أن يعود الناس بالشاء والبعير وتعودون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟) وما زال يخطبهم حتى بكوا رضي الله عنهم وأرضاهم وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد كنتم ضلالاً فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فجمعكم بي) أي: يذكر ما من الله به عليهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلما هدأت نفوسهم، وبكوا وتأثروا، قال: (ومع ذلك لو شئتم لقلتم: يا رسول الله! أتيتنا شريداً فآويناك -انظر العدل والإنصاف- وأتيتنا خائفاً فأمناك، وأتيتنا فقيراً فأغنيناك وأتيتنا ... إلخ) يذكر أيضاً ما لهم وهو في ساعة الانتصار صلى الله عليه وسلم، ليس مثل الزعماء الذين إذا انتصروا سحقوا شعوبهم بأقدامهم، وإذا انهزموا لجأوا وعادوا إليهم، وأصبحوا يجعلون كل قضية بين أيديهم، بل هذا منهج محمد صلى الله عليه وسلم، منهج العدل والاعتدال.
أيضاً الرسول صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة عندما بعث حاطب بالرسالة إلى قريش، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم من يأتي بالرسالة وأتى بها الزبير وعلي فلما كشفوا الرسالة واستدعى النبي صلى الله عليه وسلم حاطباً، قال له عمر : دعني أضرب عنقه يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه من أهل بدر ) إن تكن له هذه السيئة وقد تجسس للمشركين فإنه له حسنة وسابقة لا تنسى بدر : (وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) انظر العدل والإنصاف!
أيضاً النبي صلى الله عليه وسلم حين أوتي إليه بشارب الخمر وقد شربه مرات وقاموا يجلدونه، قال أحد الصحابة: عليه لعنة الله، ما أكثر ما يؤتى به شارباً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقل هذا، إنني ما علمته إلا محباً لله ورسوله) يشرب الخمر ويجلد ويجلد ويجلد، لكنه رجل يحب الله ورسوله، فالعدل والإنصاف يقتضي أن يذكر هذا له، وأن يشاد به في هذا الجانب.
ومن المواقف مواقف النبي صلى الله عليه وسلم مع الوفود والأمثلة كثيرة جداً، عندما أتاه بنو الحارث بن كعب من نجران ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أرسل إليهم خالد بن الوليد وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام، ثم أتى بوفدهم معه، فلما وصلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ورآهم قال: (من هؤلاء الذين كأنهم من رجال الهند ؟ قالوا: هؤلاء وفد بني الحارث بن كعب، فلما سلموا رد السلام صلى الله عليه وسلم، ثم قال لهم: أنتم الذين إذا زجرتم قدمتم - في الجاهلية كانوا مشهورين بالشجاعة- فسكتوا فكررها ثلاثاً، فقال أحدهم -كان يسمى يزيد بن قصة - قال: نعم يا رسول الله! نحن الذين إذا زجرنا قدمنا، نحن الذين إذا زجرنا قدمنا، ثلاثاً) طبعاً هم الآن نفوسهم منتشية ولازالوا في حمية الجاهلية، وهم أصحاب الانتصارات، وكأنهم يمنون بإسلامهم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الله سبحانه وتعالى، فأراد الرسول أن يكسر صورة الجاهلية في أنفسهم، فقال: (أما إنه لو لم يكتب لي
ثم قال صلى الله عليه وسلم -انظر إلى العدل والإنصاف- قال: (بماذا كنتم تغلبون الناس؟ قالوا: ما كنا نغلبهم يا رسول الله، قال: بلى كنتم تغلبون الناس! فقالوا: كنا نغلبهم بأمرين: ما كنا نبدأ أحداً بظلم، وكنا نجتمع ولا نتفرق) انظر إلى هذه القضية الفطرية البسيطة التي علمها الناس قبل الرسالة فانتصروا (ما كنا نبدأ أحداً بظلم) أصحاب عدل وإنصاف، يقفون عند الحق ولا يتجاوزونه، ولذلك كانوا ينتصرون على من سواهم، هذه بعض الأمثلة -أيها الأحبة- من سنة وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ولا جفوا -يعني المسلمين- ولا جفوا عنهم، كما جفت اليهود، فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس: كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ [المائدة:70] .
فالمسلمون لم يؤلهوا الأنبياء والرسل والصالحين ولم يقتلوهم ولم يؤذوهم فهم وسط بين اليهود والنصارى، قال: بل المؤمنون آمنوا برسل الله، وعزروهم ونصروهم، ووقروهم، وأحبوهم، وأطاعوهم، ولم يعبدوهم ولم يتخذوهم أرباباً من دون الله، ومن ذلك أن المؤمنين توسطوا في المسيح، فلم يقولوا: هو الله، ولا ابن الله، ولا ثالث ثلاثة كما تقول النصارى، ولا كفروا به، وقالوا على مريم بهتاناً عظيماً، حتى جعلوه ولد بغي، كما زعمت اليهود.
انظر أولئك ألهوه، وهؤلاء جعلوه ولد زنا، والمسلمون توسطوا، فقالوا: نبي من أنبياء الله، بل قالوا -يعني المسلمين-: هذا عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول وروح منه.
فاليهود يحرمون النسخ، ولا يجوز المسلمون لأكابر علمائهم وعبادهم أن يغيروا دين الله، فيأمرون بما شاءوا وينهون عما شاءوا، كما يفعله النصارى، كما ذكر الله عنهم بقوله: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] قال عدي بن حاتم رضي الله عنه: قلت: (يا رسول الله! ما عبدوهم! قال: ما عبدوهم، ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحرام فأطاعوهم) ثم قال: والمؤمنون قالوا: لله الخلق والأمر أي: في قضايا القدر، فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره، وقالوا: سمعنا وأطعنا، فأطاعوا كل ما أمر الله به، وقالوا: إن الله يحكم ما يريد، وأما المخلوق فليس له أن يبدل أمر الخالق ولو كان عظيماً.
والنصارى وصفوا المخلوق بصفات الخالق المختصة به، فقالوا: إن عيسى يخلق ويرزق ويغفر ويرحم ويتوب على الخلق ويثيب ويعاقب، فالمسلمون وسط، والمؤمنون آمنوا بالله سبحانه وتعالى، ليس له سمي ولا ند، ولم يكن له كفواً أحد، وليس كمثله شيء، فإنه رب العالمين، وخالق كل شيء، وكل ما سواه عباد له، فقراء إليه.
وأما النصارى فاستحلوا الخبائث وجميع المحرمات وباشروا جميع النجاسات، وإنما قال لهم المسيح: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران:50] ولهذا قال تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29] .
وأما المؤمنون فكما نعتهم الله في قوله: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:156-157] هذه وسطية الأمة المسلمة بين أهل الكتاب.
وهي وسط في الجوانب الاجتماعية فكما أن هناك أناس يسحقون الفرد ويدمرونه في المذاهب الاشتراكية عموماً من أجل مصلحة المجتمع كما يزعمون، وهناك أناس تنتهك جميع قيم وحقوق المجتمع من أجل حرية الفرد، فالمسلمون وسط بين ذلك، فللفرد حقه، وله حريته، وله كرامته، لكن التي لا تتجاوز إلى أن تؤذي المجتمع وتنتهك حدوده وحرماته وقيمه، المسلمون وسط بين ذاك وذا.
وهم في باب القدر وسط بين المكذبين بقدرة الله، أنتم تعرفون في باب القدر أناس قالوا: إن العبد حر يفعل ما يشاء، وأن الله لا يخلق أفعال العباد، وأناس آخرون قالوا: إن العبد مجبور على كل ما يفعل، وأهل السنة والجماعة وسط بين الفريقين.
وهم أيضاً في باب القدر وسط بين المكذبين بقدرة الله الذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة، ومشيئته الشاملة وخلقه لكل شيء، وبين المفسدين لدين الله الذين يجعلون العبد ليس له مشيئة ولا قدرة ولا عمل، فيعطلون الأمر والنهي والثواب والعقاب، فيؤمن أهل السنة بأن الله على كل شيء قدير، فيقدر أن يهدي العباد، ويقلب قلوبهم، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في ملكه ما لا يريد، ولا يعجز عن إنفاذ مراده، وأنه خالق كل شيء من الأعيان والصفات والحركات، ويؤمنون أن العبد له قدرة ومشيئة وعمل وأنه مختار، ولا يسمونه مجبوراً، إذ المجبور من أكره على اختلاف اختياره.
وهم في باب الوعد والوعيد وسط بين الوعيدية الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين المخلدين في النار، الخوارج قالوا: كل من وقع منه ذنب فهو خالد مخلد في النار، والمرجئة قالوا: مهما فعل من الذنوب وارتكب من المعاصي، فهو مؤمن كامل الإيمان، فـأهل السنة والجماعة وسط بين الفريقين، بين الوعيدية الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار، ويخرجونهم من الإيمان بالكلية، ويكذبون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وبين المرجئة الذين يقولون: إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء، والأعمال الصالحة ليست من الدين والإيمان، ويكذبون بالوعيد والعقاب بالكلية، فيؤمن أهل السنة والجماعة بأن فساق المسلمين معهم بعض الإيمان وأصله -وليس معهم جميع الإيمان- الذي يستوجبون به الجنة، وأنهم لا يخلدون في النار، بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، أو مثقال خردلة من إيمان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ادخر شفاعته لأهل الكبائر من أمته.
وهم أيضاً في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم وسط بين الرافضة الغالية، الذين يغالون في علي رضي الله عنه، ويفضلونه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهم، ويعتقدون أنه الإمام المعصوم، وأن الصحابة ظلموا وفسقوا وكّفروا الأمة بعدهم كذلك، وربما جعلوه نبياً أو إلهاً، وبين الجافية النواصب الذين يعتقدون كفر علي والعياذ بالله وكفر عثمان وهم الخوارج وبعضهم يستحلون دماءهما، ودماء من تولاهما، ويستحلون سب علي وعثمان ويقدحون في خلافة علي رضي الله عنه.
وكذلك في سائر الأبواب أهل السنة وسط لأنهم متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله، وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان.
هذه وسطية أهل السنة في باب العقائد، وسأقرأ بعض الكلمات بعد انتهاء الحديث إن شاء الله لـشيخ الإسلام التي تتحدث عن هذه الوسطية بشكل أوسع.
وأيضاً هم في الفتوى وسط يتبعون الحق والعدل فليسوا ممن يتشددون في كل شيء، تجد بعض الناس إذا كان أمامه قولين أو رأيين اختار أعسرهما والعياذ الله، والنبي صلى الله وعليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وتجد بعض الناس يبحثون عن الرخص ويبحثون عن الشواذ، حتى يصبحون كما قال قائل السلف: من تتبع رخص العلماء تزندق، والعياذ بالله.
فأهل السنة وسط بين ذاك وذا، يبحثون عما كان معه الدليل، واقتضته المصلحة، وكان الأقوم بحال المسلمين فأفتوا به.
وكذلك أيضاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فبعض الناس يبالغ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لو ترتب على ذلك من المنكرات ما هو أعظم مما يريد أن يزيل من حياة المسلمين، وبعض الناس يستكين للباطل ويخشى من الناس، ويجعل فتنة الناس كعذاب الله، ويسكت على المنكرات ويصطلح معها، وتشيع في حياة المسلمين، فـأهل السنة والجماعة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بضوابطه وقواعده الشرعية، التي منها أن يكونوا أهل علم وصبر، والتي منها ألا يكون أمرهم بالمعروف سبب في إزالة معروف أكبر منه، أو نهيهم عن المنكر سبب في وقوع منكر أعظم منه.
كذلك في الأخلاق والسلوك، هم وسط بين الغالي والجافي، فمثلاً الشجاعة عند أهل السنة وسط بين المتهورين الذين لا يحسبون للعواقب حساباً، والذين يركبون كل صعب ذلول، ومن لا يضع يده في أيديهم ويجري معهم، ويجعل الدماء في الأرض أنهاراً، فهو الجبان وبين الجبناء، الذين يخشون الناس أشد من خشيتهم لله، فـأهل السنة والجماعة وسط بين هذا وذاك، فهم لا يخشون إلا الله ولا يقدمون إلا في طريق قد تبينت لهم حكمته، واستبان لهم نهجه، وعلموا أنه يترتب عليه الأعم الأغلب وفي غالب الظن المصالح الشرعية المتوقعة.
وكذلك أيضاً الكرم هم وسط بين الإسراف وبين البخل، بين التبذير وبين التقتير.
وكذلك التواضع عند أهل السنة ، هم وسط بين الذلة والاستكانة لطواغيت الأرض وظلمتها وفجارها وبين الكبرياء على عباد الله سبحانه وتعالى، وهكذا جميع الأخلاقيات والسلوك، تجدهم فيها وسط بين الغالي والجافي، وحينئذٍ يمكننا أن نقول: إن الاعتدال هو شعار أهل السنة والجماعة في جميع جوانب حياتهم.
إذاً أيها الأحبة: من مقتضيات منهج الاعتدال أن نجمع بين الأصالة والمعاصرة، لا نفرط في ثوابتنا ونحمل ديننا للعالمين، وأن نستوعب العصر وما فيه من متغيرات، وألا نقول للناس هذا دين الله في كفة -كما يفعل بعض الجهلة- وهذه إمكانيات الحضارة والمدنية في كفة، واختاروا بينهما، فكأننا نلجئ الناس إلجاءً إلى أن نقول: اختاروا المدنية والحضارة واتركوا دين الله، لكن أقول للناس: هذا دين الله سبحانه وتعالى، وهذه الحضارة والمدنية تنضوي تحت هذا الدين وتصهر في بوتقته، وتصبح خادمة له، ويدخل الحق والهدى والإيمان في جميع تفاصيلها، كذلك أيضاً لا نرضى أن نتخلى عن ديننا وعن ثوابتنا وعن قيمنا بحجة العصرية والعصرانية والدخول في المدنية، ونتلصص بديننا بل نتمسك بهذا الدين باستعلاء وقوة.
كذلك بعض الناس بحجة العالمية يفرط في بعض الخصائص المحلية، كل بلد له خصائصه ويجب مراعاتها، فتقع الدعوة في مزالق عظيمة، حين يأخذون ثياباً جهزت على مستوى عالمي، مشكلات عالمية، أو مشكلات في تركيا ، أو مشكلات في أفغانستان ، فيأتي بعض الناس يريد أن ينزلها في الطائف أو في أبها أو في الرياض ، ويحل مشاكل الناس على ضوء تلك الحلول التي قدمت للمشكلات المختلفة، لا، منهج الاعتدال أن نراعي الخصائص المحلية، وأن نقدم لهذه الخصائص ما يكفؤها من حلول شرعية، وألا ننكفئ أيضاً على هذه الآفاق المحلية، وأن ننطلق في الآفاق العالمية، وأن نلغي كل عصبية، ونحطم كل حواجز إقليمية لنعلن للناس كافة أن أمة الإسلام ودعوة الإسلام هي أمة عامة.
نعم يا أحبة! نحن لا بد أن يكون هدفنا وغايتنا ومقصدنا الدار الآخرة عند الله سبحانه وتعالى، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم عندما بايعه الأنصار في العقبة وقالوا: ما الثمن على الوفاء بالبيعة؟ قال: (إن وفيتم فلكم الجنة) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111] .
لكن طريق الجنة من هنا من الدنيا، فمن أرادها فهنا يبني، هنا يزرع، هنا يبذر، ليكون الحصاد هناك.
أما الذي يريد أن ينال الجنة بترك الدنيا والابتعاد عنها فقد أخطأ، والذي يريد أيضاً أن ينسى الآخرة بحجة تقوية المسلمين وعمارة الدنيا وينسى الآخرة تماماً، وتستغرقه الدنيا بجميع جزئياتها، فقد شط عن منهج الاعتدال الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
عبد الرحمن بن عوف وعثمان رضي الله عنهما كانا من أعظم التجار، وكان خالد بن الوليد من أعظم القادة، وكان عثمان التاجر الكبير العظيم يقوم في ليلة واحدة بكتاب الله كاملاً رضي الله عنه وأرضاه.
ولقد وجدت بعض الناس منذ سنوات ومجالسهم فيها نيل من أعراض الدعاة، ووقوع في أعراض العلماء، وتهكم بالجماعات الإسلامية، وتهوين من شأنهم وهجوم عليهم، وتشويه لصورتهم، وعندما تسأل هذا الإنسان هل وقف في وجه الشيوعيين أو البعثيين أو الحداثيين أو العلمانيين أو اللبراليين أو سم ما شئت، فلا تجد في سجله يوماً يلقى الله فيها بكلمة واحدة واجه بها أهل الباطل إنما يقع في أهل الحق، ولو كان أتى عند أهل الحق فنصحهم وبين أخطاءهم ليقومها، وشد أزرهم، وأشاد بحسناتهم لينشر هذا الخير لكان ذاك الأولى والأجدى.
وأيضاً بعض الناس عندما يحب عالماً أو داعية تجده لا يقبل أن يناقش له قول ولا فكر، وكأن هذا الداعية والعالم معصوم من الخطأ وهذا أيضاً خطأ، نحبه ونتولاه، ونثني عليه وندافع عنه، لكن نعلم أنه بشر يصيب ويخطئ، ونقول: هذا أخطأ فيه شيخنا الفاضل وداعيتنا الكبير وأستاذنا الجليل، والحق أحق أن يتبع.
والبعض غالى في اعتبار ظواهر النصوص، دون النظر في علل الأحكام ومقاصد التشريع، والحكم التي تدور معها النصوص الشرعية.
غفل عن تزكية نفسه عن قيام الليل عن ذكر الله عن قراءة القرآن عن التزود بالعلم عن صيام النوافل ...إلخ، فأصبح جافاً مثل الذي يبذر في الأرض الجافة، بذرة ولا تنبت منها حبة واحدة.
وهناك أناس آخرون أغرقوا في تزكية النفوس وفرطوا في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومجاهدة الباطل، تجده بلغ ثلاثين سنة أو أربعين سنة وأخذ شهادة الدكتوراه وحفظ كتاب الله وإذا قلت له: انزل لميدان الدعوة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، وبين للناس الحق، قال: حتى أكون نفسي. إلى متى؟ إلى ما بعد الممات؟! إذا مات بعث من القبر مرة أخرى يدعو الناس ويعلم الناس ويقضي على الجهل! هذه أيضاً صورة أخرى من صور الانحراف هذه نراها بأعيننا.
أيها الأحبة! هذه بعض النقاط السريعة التي أشرت إليها إشارات في منهج الاعتدال، وكان هناك بعض التطبيقات والربط بالواقع التي كنت أريد أن أذكرها أثناء ذكري لصور الانحراف والتطبيقات العصرية لكن الوقت داهمنا وهنا بعض المقالات لـشيخ الإسلام إن بقي في الوقت متسع قرأتها عليكم بعد ذلك إن شاء الله.
الجواب: الكتاب جمعت مادته وقد أحلته على الشباب من أجل إخراجه، وعنوانه الذي كان في ذهني وقد يتغير: الحداثيون قرامطة العصر، لكن قد تكون الآن هناك قضايا أكبر إلحاحاً الآن من قضية الحداثة، أرجو أن يخرج لي قريب إن شاء الله كتيب في بعض القضايا الملحة في الدعوة عنوانه من معالم الدعوة الراشدة.
الجواب: الواقع أن فيما كنت أريد أن أقرأه من كلام شيخ الإسلام إجابة على هذا، يعني: على قضايا التكفير والتفسيق والتبديع وهي في المجلد الثالث في الصفحة ( 352) إلى الصفحة ( 358) كلام نفيس جداً.
المهم الذي أريد أن أقوله في هذا الاختصار: إن أمر التكفير والتبديع والتفسيق أمر خطير، ولا ينبغي أن يلجه الإنسان إلا بدليل وبرهان، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : إن الإمام أحمد بن حنبل كان يصلي خلف أئمة الجهمية الذين قالوا بخلق القرآن ولم يكفرهم بأعيانهم، وكان يدعو لهم، مع أمر آخر -انظروا إلى الاعتدال- مع مجاهدته لباطلهم بحسب الإمكان، فهو لم يكفرهم وهو يجاهدهم ويجاهد باطلهم بحسب الإمكان، ويدعو إلى الحق ويبين الباطل، يعني: هذا هو الاعتدال الذي كنت أريد أن أقوله من خلال هذه القراءة، فلا ينبغي ذلك أيها الأحبة، وهذا مع الأسف الشديد المنهج الذي قلته قبل قليل: إن منهج الخوارج يكرس الآن في الساحة تحت لافتات أخرى فيكفر الناس وينال منهم، لا ينبغي أن يكون هذا.
الجواب: أمر الدعوة أو وسائل الدعوة أو أسلوب الدعوة أمور اجتهادية لها ضوابط توقيفية، هذا المكبر الآن أسلوب من أساليب الدعوة اجتهادي، هل النبي صلى الله عليه وسلم قال: خذ مكبر صوت؟! تأليف الكتب، ما كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، بل جمع المصحف ما كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، كتابة الحديث ما كتبه إلا عبد الله بن عمرو بن العاص في زمن النبي صلى الله وعليه وسلم، يعني: مبدأ الكتابة، استخدام الإنارة، استخدام الإذاعة، استخدام التلفاز، ركوب الطائرات، عمل هذه الماسة، هذه كلها وسائل للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فوسائل الدعوة من الأمور الاجتهادية لكن لها ضوابط شرعية، مثل أي قضية أخرى من القضايا المتجددة في هذه الحياة، ومن زعم أنها توقيفية فقد ضيق أمراً واسعاً، وهو أول من يخالف ذلك، والذي يقول: إن أمور الدعوة توقيفية هو يؤلف الآن كتباً، فليعطنا دليلاً من الكتاب والسنة على تأليف الكتب، هل ورد هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم أو ورد في كتاب الله؟ ما ورد ذلك، بل النبي صلى الله عليه وسلم كان أمياً من أمة أمية.
الجواب: المنهج الحق -مثلما ذكرت قبل قليل- ألا نقع نحن في الغلو في الإفراط أو في التفريط عند معالجتنا لهذه الظاهرة، المنهج الحق أن نأتي بهؤلاء الناس فنقول: غلوكم في كذا، أو تفريطكم في كذا، ولكن لهم من الحسنات كذا وكذا، أي: نزنهم بميزان العدل، وهذه لها جذور عقدية، أهل السنة والجماعة يقولون: يجتمع في الإنسان حق وباطل، وصواب وخطأ، وهدى وضلال، فنتولاه في الحق والهدى والصواب ونبرأ مما فيه من خطأ وباطل وضلال، ثم الحكم العام للأغلب منهما، إن كان الأغلب الحق والهدى والصواب توليناه في الجملة، مع براءتنا مما فيه من الباطل، وإن كان الأعم والأغلب الضلال والباطل، تبرأنا منه بالجملة مع عدم ردنا لما لديه من حق، هذا منهج أهل السنة والجماعة أما الخوارج فيقولون: من وقع في خطأ تبرأنا منه براءة كاملة، والمرجئة يقولون: مهما كانت أخطاؤه نتوله ولاية كاملة، فالمنهج الحق العدل هو المنهج الوسط.
الجواب: المراكز -أيها الأحبة- من أهم منابر الدعوة وتربية الشباب والقضاء على الفراغ، فلا ينبغي أن يخلط هذا العمل الصالح بآخر سيئ، إذ في الطائف الآن مركزين أو ثلاثة أو أربعة أتوقع ما تتجاوز هذه، أظن أنه لو كانت هناك عشرة مراكز ما استوعبت شباب الطائف ، كم شباب الطائف؟ أربعون ألفاً؟ خمسون ألفاً؟ كم في المركزين؟ ألفان من الطلاب أو ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف، ينبغي أن تنصرفوا إلى البناء، وأن تنصرفوا إلى استنقاذ الناس من براثن الضلال، ووسائل الضلال والإفساد أكثر من أن تحصر، ووسائلكم محدودة قاصرة، ولا ينشغل بعضكم ببعض، واعلموا أن الكارثة التي تحيق بالأمة المسلمة عندما ينشغل بعضها ببعض، الأعداء في خارجهم ينالون منهم ويخططون، وهم ينشغل بعضهم ببعض.
فالواجب أيها الإخوة: أن نترفع عن هذه الأمور وأن نعلم أن حرمة المسلم حرمة عرضه، كحرمة دمه وماله، بعض الناس يتورع عن أخذ درهم حرام، ويتورع عن إراقة كأس دم حرام، لكنه يقع في أعراض أفاضل الأمة وخيارها من الدعاة والشباب الملتزمين، ثم عندما تنفر من مركز من المراكز، فتتلقف وسائل الإفساد الشباب، ألا تعلم أنك قد ساهمت في إضلال هؤلاء الشباب، وصديتهم عن الخير وحلت بينهم وبين الخير.
الواجب -أيها الأحبة- أن نتكامل، وأن نتناصح وأن نتعاضد، وأن نتآزر، وأن نكون مثلما وصف الله سبحانه وتعالى صفاً واحداً كالبنيان المرصوص، كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر