إسلام ويب

شرح صحيح مسلم - كتاب الصيام - فضل شهر رمضانللشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • شهر رمضان شهر عظيم، فضله الله تعالى على سائر الشهور؛ فهو شهر القرآن، وشهر الرحمة، وشهر المغفرة، وشهر العتق من النيران، وفيه تفتح أبواب الجنان، وتغلق أبواب النيران، وتصفد الشياطين، ويقبل الناس فيه على طاعة الله عز وجل، وهو شهر الصدقات، والإحسان إلى الفقراء والمساكين وذوي الحاجات، وفيه ليلة هي خير من ألف شهر، وفضائله كثيرة، وهذا فضل من الله تعالى ورحمة بهذه الأمة.

    1.   

    معنى الصيام لغة وشرعاً

    إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده رسوله.

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    مع كتاب جديد وهو كتاب الصيام، أما لفظ (كتاب) فقد شرحناه مراراً، وهو الذي يضم عدة مسائل متشابهة، أو يخدم قضية واحدة، كما لو قلنا: كتاب الزكاة، كتاب الصيام، كتاب الحج، فكل كتاب من هذه الكتب إنما يتكلم عن الموضوع العام الذي خط لأجله، فكل مسألة من هذه المسائل التي تندرج تحت هذا الكتاب إنما تخدم قضية واحدة وهي قضية الزكاة، أو قضية الحج، أو قضية النكاح، أو الصلاة.. أو غيرها.

    إذاً: فمعنى كتاب أنه الذي يضم عدة مسائل متشابهة في داخله، كما لو قلت: كتيبة، فالكتيبة هي التي تضم عدة أفراد ومعدات متشابهة، فالذي في كتيبة المشاة غير الذي في كتيبة المدرعات، فالمدرعات إنما تضم عدة معدات وأفراد، وتهتم بجانب من الجوانب يختلف عن غيره، وكما تقول: كتابة، فلو أنك أخذت ورقة فيها كلام لقلت.. فيها كتابة، فالكتابة هي التي ضمت عدة أحرف، فكونت كلمة أدت معنىً معيناً، فإذا قلنا: كتاب الصيام، فقد بدأنا في كتاب عام يتكلم في فرعيات موضوع واحد وهو موضوع الصيام.

    وأما الأبواب فهي تلك الأبواب المختلفة التي عالج كل باب منها فرعاً معيناً من فروع هذا الكتاب.

    فالباب: هو ما يدخل منه إلى غيره.

    وأما الصيام فمعناه في اللغة: الإمساك، ولذلك لا يشترط أن يكون الإمساك عن الطعام والشراب، بل يمكن أن يكون الإمساك عن الكلام؛ لأنك إذا أمسكت عن أي شيء فأنت صائم، ولذلك قالت مريم عليها السلام: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا [مريم:26]، فهي نذرت لله إمساكاً عن الكلام، وتعبدت إلى الله عز وجل بهذا الإمساك، فالصيام في اللغة يطلق على الإمساك: الإمساك عن الكلام، عن الطعام، عن الشراب، عن الشهوة.

    أما الإمساك في الشرع: فإنه الإمساك عن الطعام والشراب والشهوة في وقت معين من شخص معين بنية.

    ويكون هذا الإمساك من شخص معين وهو المسلم؛ لأن الصيام من غيره لا يصح ولا يقبل، فمهما صام اليهود ومهما صام النصارى، فإن دينهم وشرعهم منسوخ، وإن الله تبارك وتعالى لا يقبل من أحد ديناً إلا دين الإسلام، فمهما صام غير المسلم فإنه لا يقبل منه، ولذلك الصيام واجب في حق المسلم البالغ القادر المقيم.

    من شخص معين، في وقت معين معلوم، وهو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

    1.   

    حكم النية في صيام الفرض والنفل

    الركن الأعظم في هذا الصيام: النية؛ لأن النية هي التي تحدد عبادة العازم، سواء كانت هذه العبادة فرضاً أم نفلاً، سواء كانت عادة أو عبادة، ولذلك لو امتنع رجل عن الطعام والشراب لا بنية العبادة وإنما بنية الانتحار هل يقبل منه هذا الصوم؟ هو قد امتنع وأمسك عن الطعام والشراب، ولكنه لم يتقرب بهذا الامتناع وهذا الإمساك وهذا الصيام إلى الله عز وجل، وإنما أراد أن ينتحر وأن يموت من شدة الجوع، وأمسك عن الطعام والشراب حتى هلك، فهل يعد هذا عند الله أو عند الناس صائماً؟ لا؛ لأنه لم ينو بهذا الإمساك وجه الله عز وجل، مثل من أراد أن يعمل إضراباً، فقال: أنا مضرب عن الطعام والشراب إلى أن تعملوا لي كيت وكيت وكيت، فقيل له: لن نفعل، واستمر هو في صومه وفي إضرابه عن الطعام والشراب حتى مات.

    لغة يقال له: ممسك؛ لأن الإمساك هو: الامتناع، وقد امتنع بالفعل، يعني: صام، لكن لا نقول أبداً: إن هذا الرجل الذي امتنع عن الطعام والشراب مضرب صائم، لا يمكن أن يصح هذا في الاصطلاح الشرعي وإن كان صحيحاً من جهة اللغة؛ لأن الاصطلاح الشرعي تلزم فيه النية، وهي نية القربة ونية العبادة، وهذا لم يفعل ذلك بنية القربة ولا العبادة، وإنما فعلها لأجل مصلحته الشخصية أو تحقيق غرضه الذاتي.

    النية في صوم الفرض لازمة من الليل، بخلاف النية في صوم النفل؛ ولذلك أجمع العلماء على وجوب إرفاق النية في الفرض، ولا فرض غير شهر رمضان، فتكون من أول شهر رمضان.

    واختلفوا في وجوب تجدد هذه النية في كل ليلة من ليالي الشهر، فمنهم من قال: إنما يكفي نية واحدة للشهر كله، ومنهم من قال: لا بد من تجديد النية في كل ليلة من طلوع الفجر لليوم الذي بعد هذه الليلة، والذي يترجح لدي أن النية الواحدة في أول الشهر كافية في إتمام هذا الشهر بهذه النية، إلا أن يحدث حدث، فالنية تكفيك في أول الشهر، ما إن تسمع أن رمضان سيدخل غداً تفرح وتسعد وتنعقد نيتك على صيام هذا الشهر من أوله إلى آخره، وهذه النية كافية ولا يلزم تجددها في كل ليلة، ولكن قد يطرأ على هذا الناوي وهذا الصائم ما يعكر عليه هذه النية، كأن يطرأ عليه سفر، والسنة في السفر الإفطار، ومن كان يقدر أن يصوم في سفره فهو مخير بين الإفطار والصوم؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم سافروا وغزوا مع النبي عليه الصلاة والسلام، فمنهم من صام ومنهم من أفطر، لا يعيب أحدهما على الآخر.

    أما قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس من البر الصوم في السفر) فهذا لغير القادر، لما وجد النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه يصبون الماء على رجل قال: (ما باله؟ قالوا: يا رسول الله! إنه صائم، فقال: ليس من البر الصيام في السفر)؛ لأنه غير قادر على الصيام فكاد أن يهلك، ولكنه أصر على أن يصوم مع عدم قدرته، بل النبي عليه الصلاة والسلام نفسه صام هو وعبد الله بن رواحة في أثناء السفر.

    فأقول: إن السفر علة قاطعة للنية، والصيام ليس مفروضاً ولا واجباً إلا على المقيم، فإذا سافر المرء جاز له أن يفطر، فإذا أفطر انقطعت نيته التي عقدها في أول الشهر، فإذا رفعت هذه العلة وهي علة السفر يلزمه أن يجدد النية مرة أخرى، من أجل ذلك نقول: إن النية تلزمك مرة واحدة إذا كانت الظروف مواتية ومستقرة من أول الشهر إلى آخره دون انقطاع، لكن إذا انقطعت هذه النية بأحد الأعذار الشرعية كالسفر وكالمرض، كشخص في أثناء الشهر مرض مرضاً عجز معه عن مواصلة الصوم فأفطر، وفطره قربة لله عز وجل، فنيته قد انقطعت، فإذا شفي من علته وزال عذر المرض وأراد أن يصوم مرة أخرى فإنه يلزمه تجديد النية مرة أخرى.

    أما النافلة من الصيام فإن النية لا تلزم الصائم من الليل، وإنما بإمكانه أن يعقد النية ولو في أثناء النهار قبل الزوال، والدليل أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا دخل بيته وقدم إليه الطعام أكل، وإذا اعتذر إليه بأنه لا يوجد طعام قال: إني صائم، وسيأتي هذا معنا بإذن الله تعالى.

    1.   

    باب فضل شهر رمضان

    قال المصنف رحمه الله: [ باب فضل شهر رمضان ].

    إن لرمضان فضلاً وللصيام فضلاً آخر، فهو هنا يتكلم عن فضل شهر رمضان، وفضائله كثيرة لا تكاد تحصى.

    فذكر الإمام مسلم تحت هذا الباب الذي بوبه النووي عليه رحمة الله بعض فضائل شهر رمضان، فهذا الشهر فضائله متعددة وكثيرة، ولكن الإمام مسلماً عليه رحمة الله لم يقع إليه على شرطه إلا بضعة أحاديث في هذا الموضوع.

    شرح حديث: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار...)

    قال: [ حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر قالوا: حدثنا إسماعيل ، وهو ابن جعفر ].

    الإمام مسلم سمع من الثلاثة جميعاً قالوا: حدثنا إسماعيل ، فلما كان إسماعيل في هذه الطبقة كثيرين، خشي الإمام مسلم عليه رحمة الله أن يختلط إسماعيل بن جعفر بغيره، فقال: وهو ابن جعفر ؛ تمييزاً له عن غيره.

    قال: [ عن أبي سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين) ].

    قوله: (إذا جاء رمضان) هذا يدل على جواز إطلاق هذا الاسم على الشهر دون أن تقول: شهر رمضان، وبعض أهل العلم كرهوا أن يقال: رمضان هكذا بغير إضافة، قالوا: ولا يصح إلا أن يقال: شهر رمضان.

    والصواب الذي أيدته الأدلة: أن إطلاق رمضان على الشهر دون إضافة أمر صحيح، وإنما القول بعدم جواز ذلك غير صحيح؛ لأنه اتكأ على دليل ضعيف، وهذا الدليل الضعيف هو أن رمضان اسم من أسماء الله عز وجل، فإذا قلت: إذا جاء رمضان، يعني: إذا جاء الله عز وجل، فقالوا: مخافة أن يقترن هذا الشهر بالخالق؛ لأن الشهر اسمه رمضان، والله عز وجل من أسمائه رمضان، ولذلك كرهوا أن يقال في الشهر: رمضان، دون أن تقول: شهر رمضان، لكن الدليل الذي قضى بأن من أسماء الله عز وجل رمضان دليل ضعيف جداً، وأسماء الله عز وجل توقيفية لا يجوز فيها الاتكال على دليل غير صحيح؛ لأن الدليل الضعيف لا يعمل به في أرجح أقوال أهل العلم في فضائل الأعمال فضلاً عن الأحكام، فضلاً عن العقيدة، فضلاً عن الباب الذي هو بيت القصيد في الاعتقاد في أسماء الله تعالى وصفاته، فإذا سقطت حجة هذا الفريق القائل بأن من أسماء الله تعالى رمضان، فيبقى لنا أصل الجواز، هذا من جهة الحجة العقلية، وأما من جهة النقل فالنبي عليه الصلاة والسلام هو أعلم الناس بربه، وهو الذي قال: (إذا جاء رمضان)، ولم يقل: إذا جاء شهر رمضان.

    قوله: (فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين).

    أما فتح أبواب الجنة وإغلاق أبواب النار فهو من رحمة الله عز وجل وفضله لهذه الأمة، فلما كثرت طاعة المسلمين وإقبالهم على الله عز وجل في هذا الشهر بادر الله عز وجل بفتح أبواب الجنة، ولذلك لم يقل النبي عليه الصلاة والسلام: فُتِحَت أبواب الجنة وهو الفتح الطبيعي، وإنما قال: (فُتِّحَتْ) وهي صيغة مبالغة في فتح هذه الأبواب، أي: كل باب يفتح على مصراعيه، ومصراع الباب الواحد من أبواب الجنة كما بين المشرق والمغرب.

    فهذه الأبواب تفتح عن آخرها استقبالاً لأهل الله عز وجل، للصائمين والقائمين والذاكرين والتالين.. وغير ذلك من أقسام الطاعة.

    ومن مزيد فضله عز وجل على هذه الأمة أن يغلق أبواب النيران في هذا الشهر العظيم، يعني: توصد تمام الإيصاد، وتغلق تمام الإغلاق.

    أسباب ارتكاب الناس للمعاصي في رمضان رغم تقييد الشياطين فيه

    هناك إشكال يدور في رءوس كثير من الناس من قوله عليه الصلاة والسلام: (وصفدت الشياطين)، يعني: سلسلت وقيدت وربطت، فالشبهة عند الناس: رؤيتهم لسائر أنواع المعاصي والذنوب في رمضان، فيقولون: إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين)، فإذا كانت الشياطين هي المصدر لهذه الذنوب والمعاصي والآثام، وأن الله تعالى صفدها وأغلها وربطها فمع ذلك نرى هذه المعاصي؟

    قبل أن نبدأ لابد أن يعتقد المسلم بقلبه أن النبي عليه الصلاة والسلام لما أخبرنا بهذا الخبر كان صادقاً، وهذه الشبهة محلها عندي لا عند النبي عليه الصلاة والسلام، فلا نرد على النبي قوله، ولا نشك في خبر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، فإذا صح وحاك في نفسي معنى هذا الكلام، فإنما شفاء العي السؤال.

    لكن كثيراً من الجهال في هذا الزمان إذا لم يستقم النص مع عقله القاصر يبادر بتكذيب الله عز وجل، ويبادر بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس هو المنهج العلمي الصحيح عند السلف، وإنما المنهج العلمي الصحيح عند السلف هو التلقي وسؤال العلماء عما لا يعلمونه، أما مبادرتهم بالتكذيب والجحود والإنكار.. وغير ذلك، فهذا ليس مذهباً صحيحاً لطلب العلم، وإنما إذا أشكل عليك أمر فيجب عليك أن تسأل فيه حتى تعلمه.

    أما كون الله عز وجل قد صفد الشياطين وغلها وسلسلها فما بالنا نرى هذه المعاصي؟ فهناك عدة أجوبة:

    الجواب الأول: أن المردة وهم العتاة من الشياطين هم الذين يسلسلون ويصفدون ويغلون في شهر رمضان، دون غيرهم من سائر الشياطين.

    الجواب الثاني: أن المعاصي ليس مصدرها فقط الشياطين، وإنما لها مصادر أخرى وهي: النفس الأمارة بالسوء، والهوى أي: اتباع الهوى، والغفلة.. وغير ذلك من الأسباب الباعثة والحاضة على ارتكاب الذنوب والآفات والمعاصي.

    الجواب الثالث في أسباب وقوع المعاصي: أن الله عز وجل إذا كان قدر وقوع هذه المعاصي في شهر رمضان ومصدرها الشياطين؛ فإنما قوله عليه الصلاة والسلام: (وصفدت الشياطين) إنما أراد أن يبين أن معظم المعاصي التي تقع في غير رمضان لا تقع في رمضان، ولذلك لو نظرنا مثلاً: إلى الزناة أو إلى السارقين أو إلى قطاع الطرق وأصحاب هذه الكبائر تجد الواحد منهم يقول في شهر شعبان: هيا بنا نخرج ونعمل المعاصي والذنوب.. وغير ذلك، فيقول: نعملها قبل أن يهجم علينا رمضان! فيقول له قائل: وما المضرة في رمضان؟ فيقول: لا، إن رمضان له فضله، يعني: حتى قاطع الطريق يعلم أن رمضان له حرمة، فالذي يشرب سجائر وحشيشاً وخمراً.. وغيرها من البلايا يكثر منه قبل رمضان؛ من أجل أن يكون عنده رصيد يكفيه طوال رمضان، وإن أحب ارتكاب المعصية يجعلها في ليل رمضان، مع أن الأصل أن العاصي لله عز وجل يستوي أن تقع المعصية في رمضان أو في غيره، في ليل رمضان أو في نهاره.

    وإذا أتيت إلى شخص مدمن على السجائر تجده يشعل سيجارة بعد سيجارة بعد سيجارة بعد سيجارة يشرب في النهار عشرين أو ثلاثين سيجارة، فتأتي لتنصحه بعدم التدخين، فيقول لك: لا أستطيع أن أمتنع عنها، إنني أشرب سجائر وأنا ابن عشر سنوات، والآن أنا ابن سبعين أو ثمانين سنة لا أستطيع تركها، وقد جربت وفشلت مراراً، وهذا الشخص في رمضان لا يحتاج إلى وصاية تراه يمتنع مباشرة عن التدخين في نهار رمضان، وبالتالي يقول: لا أستطيع أن أتركها ساعة في غير رمضان، لكن في نهار رمضان يتركها ساعات؛ لأن الوازع الإيماني في قلبه دفعه إلى لزوم الطاعة في الوقت الذي أمر الله عز وجل فيه بطاعته، لكن في الليل يعود إلى شرب هذا الخبيث.

    كذلك الذي لا يملك شهوته أمام هذا البهرج النسوي يستطيع أن يكبح جماحه في نهار رمضان، وإن فكر في الزنا ليلاً، أريد أن أقول لك: إن المعاصي عند أصحابها مرفوضة في رمضان.

    إذاً: الجواب الثالث في تفسير قوله عليه الصلاة والسلام: (وصفدت الشياطين) أي: قلت المعاصي وحُجِّمت لا أنها انعدمت بالكلية؛ لأن هذا نتيجة تصفيد الشياطين وقلة إغوائهم وغوايتهم لأصحاب المعاصي.

    شرح حديث: (إذا كان رمضان فتحت أبواب الرحمة وغلقت أبواب جهنم..)

    قال: [ وحدثني حرملة بن يحيى التجيبي المصري أخبرنا ابن وهب أخبرنا يونس عن ابن شهاب ].

    إذا جاء بين ابن وهب وابن شهاب الزهري يونس فإنما هو يونس بن يزيد الأيلي .

    قال: [ عن ابن أبي أنس أن أباه حدثه أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان رمضان) ].

    (كان) بمعنى: صار كائناً وموجوداً، وهو بمعنى الرواية الأولى: (إذا جاء رمضان).

    أي: إذا جاء رمضان وصار كائناً.

    قال: [ (فتحت أبواب الرحمة) ]، وفي الرواية الأولى: (فتحت أبواب الجنة) وما الرحمة إلا ثمرة من ثمار الجنة.

    قال: [ (وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين) ] أما كيفية سلسلة الشياطين فلا يعلمها إلا الله عز وجل.

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حضر رمضان قال: قد جاءكم شهر مبارك) يعني: كله بركة.

    ثم قال: (افترض عليكم صيامه)، أي: فرض الله عز وجل علينا صيام هذا الشهر، إلا من كان صاحب عذر.

    ثم قال: (تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر -هي ليلة القدر، وهي أفضل عند الله عز وجل من ألف شهر- من حرم خيرها فقد حرم)، أي: من حرم خير هذه الليلة -وهي ليلة القدر- فهو المحروم حقاً، وهذا الحديث صحيح لغيره.

    وعن عرفجة قال: (كنت عند عتبة بن فرقد وهو يحدث عن رمضان، قال: فدخل علينا رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه عتبة هابه واستعظمه فسكت الرجل -أي: فسكت عتبة- قال: فحدث عن رمضان -أي: فحدث هذا الرجل عن رمضان- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول)، إذاً: هذا الرجل الذي لم يذكر اسمه في هذه الرواية صحابي؛ لأنه قال: سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام، والصحابي لا تضر جهالة عينه؛ لأن الصحابة كلهم عدول، ولذلك عدم ذكر اسم الصحابي في الرواية لا يؤثر على الصحة ألبتة.

    قال: (فحدث هذا الرجل عن رمضان، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في رمضان -أي: يقول في حق رمضان وفي فضل رمضان- تغلق أبواب النار، وتفتح أبواب الجنة، وتصفد الشياطين).

    أنا أريد أن أؤكد على معنى (تصفيد الشياطين)؛ لأنني سمعت سنة (1990م) أحد المشايخ على منبر الجمعة يقول: هذا الحديث وإن كان متفقاً عليه إلا أنه منكر جداً عندي، ونكارته في إثبات الوضاعين لهذه الجملة: (وتصفد الشياطين)؛ فإذا كانت الشياطين تصفد في رمضان فما بالنا نرى المعاصي؟ ثم قال: والواقع يشهد على تكذيب هذا الجزء من الحديث.

    أقول: للأسف الشديد إن الذي قال هذا الكلام هو رجل منسوب إلى العلم، ويتكلم بألسنتنا، ويدين بديننا، ويصعد المنابر ويعظ الناس.

    فلما فرغ من خطبته قلت: يا عبد الله! أما يجدر بك أن تسأل أهل العلم إذ لم تعرف، فإنما شفاء العي السؤال؟ قال: أنت العليم؟ قلت: هذا لا يضرني، إنما الذي يضرك أن تهجم على النبي عليه الصلاة والسلام بعد مماته، لو أنك في مجلس النبي عليه الصلاة والسلام وقال هذا الكلام أكنت تجرؤ أن ترد عليه؟ قال: لا، لو قال ذلك ما كنت أجرؤ على الرد عليه، قلت: بلى والله قد قاله، وهذا الكلام ثابت في الصحيحين.. وغيرهما، فإذا به يهجم على الصحيحين وعلى أصحاب الصحيحين، فقلت: يكفي، لا يحاسبك الله عز وجل على ما تقول؛ لأنك مجنون، والقلم مرفوع عنك، ثم تركته.

    قال صلى الله عليه وسلم: (تغلق أبواب النار، وتفتح أبواب الجنة، وتصفد فيه الشياطين، قال: وينادي فيه ملك: يا باغي الخير أبشر، -وفي رواية-: أقبل) يعني: يا مريداً لفعل الخير أقبل، فإن هذا هو موسم الطاعة، مع أنك مأمور بالطاعة في كل وقت وحين، ولكن هذا الموسم المتعارف عليه الذي هو منحة الله عز وجل لعباده.

    ثم قال: (ويا باغي الشر أقصر)، يعني: ارجع عن شرك؛ مخافة أن تقبض في هذا الشهر الذي هو محل الطاعة وأنت على هذا الشر وهذه المعصية.

    قال: (ويا باغي الشر أقصر، حتى ينقضي رمضان)، يعني: تصور أن الله عز وجل يسخر لك ملكاً ينادي عليك من أول يوم في رمضان إلى آخر يوم: يا باغي الخير أقبل وأبشر، ويا باغي الشر أقصر، من أول رمضان إلى أن تسمع أن غداً العيد، وقد يسأل امرؤ نفسه، فيقول: من أنا حتى يسخر الله عز وجل لي هذا الملك ينادي عليّ شهراً كاملاً، وأنا أحياناً أعصي الله وأحياناً أعرض وأجهل.. وغير ذلك؟

    لو عرفت من أنت لكنت طائعاً، إذا كنت طائعاً لله عز وجل فأنت خير من هذا الملك الذي ينادي عليك، ولذلك اختلف أهل العلم عليهم جميعاً رحمة الله عز وجل أيهما أفضل: الملائكة أو البشر؟

    ولقد حقق شيخ الإسلام ابن تيمية هذه المسألة وقال كلاماً ممتعاً جداً، قال: إذا كان البشر كفاراً أو عصاة فإن الملائكة خير منهم، وإذا كان البشر من أهل الطاعة والإيمان والتوحيد فإنهم خير من الملائكة؛ لأن الله عز وجل إنما يجعل الملائكة خدماً لأهل الإيمان والطاعة في الجنة.

    فأهل الطاعة خير من الملائكة في الدنيا والآخرة، والملائكة خير من الكفار والعصاة في الدنيا والآخرة.

    وجاء في الحديث: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان) يعني: في اليوم الواحد، وفي الأسبوع، وفي السنة. (مكفرات -يعني: غافرات- لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر).

    فمن فضائل هذا الشهر أنه يكفر ذنوب سنة، فأنت تدركك مغفرة الله عز وجل في كل يوم، وفي كل أسبوع، وفي كل عام، فحين تظهر منك الهفوة بعد الصلاة، يأتيك الوضوء فيُكفر، وتأتيك الصلاة الثانية فتكفر، إذا لم تكفر هذه الصلوات هذه الذنوب والمعاصي، تأتيك الجمعة فتكفر، إذا لم تكفر، أتاك رمضان، أتاك الحج، أتتك العمرة، وكل هذه مكفرات لما بينها، بشرط اجتناب الكبائر، وهذا الشرط اختلف فيه أهل العلم على تأولين:

    الأول: قالوا: هذه المكفرات والطاعات مكفرات لما يقع بينها من الذنوب الصغائر دون الكبائر.

    الثاني: أن اجتنابك للكبائر يجعل هذه الطاعات مكفرات للصغائر، أما إذا وقعت منك الكبائر فهذه الطاعات لا تكفر لا الكبائر ولا الصغائر.

    إذاً: اجتناب الكبائر شرط في مغفرة الذنوب الصغائر.

    هذه تأويلات وترجيحات لأهل العلم، وربما يكون الرأي الأول هو الصحيح، لكن الاحتياط يجعلنا نقول: إن الرأي الثاني أولى بالاحترام.

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر الله له ما تقدم من ذنبه، -وفي رواية-: وما تأخر) يعني: الصيام الذي يحقق الفائدة المنشودة هو الذي يصومه المرء إيماناً بالله، وتصديقاً بوعده، واحتساباً للأجر عنده، هذا هو الصيام الذي أراده الله عز وجل من الخلق.

    قوله: (غفر الله له ما تقدم من ذنبه) أي: ما تقدم خلال العام.

    هذه مقدمة خفيفة في أهمية شهر رمضان، وفضل شهر رمضان.

    وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

    1.   

    الأسئلة

    الحكم على حديث: (أتدرون من اليهودي من أمتي... من سمع الأذان ولم يأت)

    السؤال: ما صحة هذا الحديث: (أتدرون من اليهودي من أمتي؟ قالوا: أفي أمتك يهود يا رسول الله؟ قال: اليهودي من أمتي من سمع الأذان ولم يأت

    الجواب: لو صح هذا الحديث لكان أقوى حجة لمن يقول: إن الجماعة واجبة، والذين يقولون بوجوب صلاة الجماعة لم يجرءوا على أن يحتجوا بهذا الحديث؛ لأنه موضوع ومختلق ومصنوع غير صحيح، لم يقله النبي عليه الصلاة والسلام، ولم نسمع به.

    حكم أخذ الأجرة على الإمامة والخطابة

    السؤال: أنا شاب في حاجة شديدة إلى المال، وقد عرض علي خادم أحد المساجد أن أتولى إمامة هذا المسجد في الخمس الصلوات مع خطبة الجمعة، مقابل مرتب أو مكافأة شهرية، فهل المرتب حلال أم حرام، مع العلم بأنني في حاجة إلى هذا المال ولا أعمل أي عمل آخر، أفتونا أثابكم الله؟

    الجواب: أخذ الأجرة على العلم جائز بشروط، فإذا اختلت هذه الشروط فالحكم يدور بين الحرمة والكراهة.

    الشرط الأول: ألا يكون عندك ما يغنيك، وقد تحقق هذا الشرط فيك، أن تكون فقيراً وفي حاجة شديدة إلى المال، وإذا كان عندك ما يغنيك فيحرم أو يكره لك أخذ الأجرة على قال الله وقال رسوله.

    الشرط الثاني: أن يكون أخذك لهذه الأجرة بنية التفرغ لتعليم الناس، وإخراجهم من ظلمات الجهالة إلى دين الله، لا شك أنك لا تأخذ هذه الأجرة مقابل العلم أو ثمناً للعلم؛ لأن العلم أعظم من كل ثمن، وإنما تأخذ الأجرة؛ لأنك حبست نفسك على تعليم الناس، ولولا ذلك لسلكت الأرض يميناً ويساراً لتحصيل معاشك.

    الشرط الثالث: أن يتعين عليك هذا العلم، بحيث يكون في حقك واجباً لا مهرب منه، إذا لم تقم به أنت لا يقوم به أحد غيرك، وبالتالي يأثم الجميع، أضرب لذلك مثلاً: هب أنك في قرية أو في نجع، وهذا المكان بعيد عن أهل العلم وليس فيه إلا أنت مؤهل لأن تعلم الناس الكتاب والسنة، وأن تعلمهم أمور دينهم، وأن تفتيهم فيما ينزل بهم، فإنك كل يوم يأتيك عشرات: الذي طلق، والذي تزوج، والذي ضربه، والذي خبطه، فهؤلاء الناس يريدون من يفهمهم ويعلمهم ويوعيهم، فإذا قلت: لا، أنا ليس لي علاقة بكم، أنا صحيح رجل عالم، ولكن ليس لي علاقة بكم؛ لأنني مشغول بمعاشي، أنا أخرج الصبح وأرجع نصف الليل، فليس عندي استعداد أن يأتي شخص بعد نصف الليل ويقول: والله إنني طلقت.. أنا تزوجت.. أنا قتلت.. أنا عملت، لكن اذهبوا إلى غيري فليس لي دخل في هذا، نقول: لا، واجب على أهل القرية أن ينفقوا على هذا العالم، وأن يفرغوه تماماً لهذه الأمة العظيمة، ولذلك يقول الله تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122]، ففي هذه الحالة لو أن هذا العالم منعته ظروفه المعيشية من أن يتصدر لتعليم الناس ويفتي؛ فله أن يقول لأهل القرية: أنفقوا علي وعلى أولادي قدر الكفاف، وقدر الحاجة وقدر الضرورة.

    الشرط الرابع: ألا يشترط أجراً معيناً لهذا العلم.

    وبالمناسبة أذكر من حوالي عشر سنوات أو أقل أن شخصاً جاء ليؤم قوماً في أحد المساجد، فلما انتهى الشهر انتظر يريد نوالاً وأجرة من الناس على إمامته فلم يعطه أحد، وفي الأسبوع الثاني جاء إلى المسجد فلم يصعد على المنبر يوم الجمعة، فقالوا له: هذه الخمسين جنيهاً أجرة الشهر الماضي، والخمسين جنيهاً أجرة هذا الشهر سنجمعها لك فيما بعد، فقال: لن أصعد إلا بمائة جنيه، فقالوا له: اصعد ونحن نعطيك، قال: أبداً ادفعوا المائة أولاً، فما عملتم بي قبل ذلك كفيل بأنني أخشى أنني أهضم في كل مرة، والله العظيم لن أصعد المنبر حتى تدفعوا المائة جنيه.

    أقول: لو لم يكن هذا حراماً فهو من أعظم الأمور المخلة بالمروءة، كان عليه أن يصعد المنبر ويخطب ولا يشترط مبلغاً معيناً، بدلاً من أن يضيع صلاة الجمعة على الناس.

    إذاً: هذا الفعل وإن لم يكن حراماً فهو من أعظم الأمور خسة وإخلالاً بالمروءة.

    أدلة أخذ الأجرة على التعليم أو على التفرغ للولايات العامة:

    الدليل الأول: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه هو أول خليفة للمؤمنين في الإسلام، كان يأخذ على الخلافة -وهي أعظم الأمور العامة في الإسلام- أجراً من بيت المال، وكان يعمل بالتجارة في زمن النبوة وقبل زمن البعثة، فلما تولى الخلافة اقتطعوا له مبلغاً من بيت المال، وذلك عندما لقيه عمر بن الخطاب في الطريق فقال: إلى أين يا خليفة رسول الله؟ قال: إلى السوق لأكتسب، قال: ألا تشغلك الإمارة والخلافة عن هذا؟ قال: وهل أضيع أولادي؟ قال: إنا سنجعل لك ثلاثمائة درهم من بيت المال، قال أبو بكر : لا تكفيني، وانتبه إلى قوله: لا تكفيني، هو لم يقل: لا تغنيني، يعني: هو يريد أن يأكل الكفاف، قال: لا تكفيني، وأنتم تعلمون أن أبا بكر الذي يقول هذا الكلام هو الذي قدم جميع ماله لله عز وجل ولرسوله عليه الصلاة والسلام، لكنه في موقف الضياع لا يضيع أولاده؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) فإعالة هؤلاء في حق أبي بكر واجبة، فلم يتحرج أبو بكر أو يخزى أن يقول مثلاً: ثلاثمائة لا تكفيني؛ لأنه يعلم أنه سوف يضيع أولاده.

    إذاً: ما الفرق بين أبي بكر الصديق رضي الله عنه الذي يأخذ هذا الراتب من بيت المال؛ ليطعم به هو وأهل بيته، وبين هذا الذي يعلم الناس ويلقي لهم دروساً، ويخطب بهم الجمعات، ويصلي بهم الصلوات؟ فهو أخذ هذا المال في مقابل حبس نفسه على هذه الأعمال، وسار على هذا جميع الخلفاء.

    الدليل الثاني: قصة المرأة التي وهبت نفسها للنبي عليه الصلاة والسلام فلم يردها، فقام رجل فقال: (يا رسول الله! إن لم يكن لك بها حاجة فأنكحنيها، قال: هل معك شيء؟ قال: لا، قال: اذهب فالتمس ولو خاتماً من حديد، فذهب الرجل ولم يأت بخاتم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أمعك شيء من القرآن؟ قال: نعم، معي سورة كذا وكذا، قال النبي عليه الصلاة والسلام: أنكحتكها بما معك من القرآن)، فجعل تعليم القرآن عوضاً عن الصداق، وهذا يدل على أن التعليم يصح أن يمول ويصرف عليه من المال.

    وقال عليه الصلاة والسلام: (خير ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله تعالى)، فأعظم الأجر هو العمل الذي تتقرب به إلى الله عز وجل، لكن بالشروط التي ذكرتها قبل قليل، فلا يقل شخص: أنا رجل عالم ومعي إجازة أعلِّم الناس القرآن، وبعد ذلك يقوم بعمل جدول لنفسه، مثل ما رأينا من بعض الناس يكتب لافتة عليها: القرآن كله بأربعة آلاف جنيه، والجزء الواحد بمائة جنيه، وربع الجزء بخمسة جنيهات، ويعلق اللافتة على باب مدرسته، فيدخل عليه الداخل، فيقول له: ماذا تريد؟ فيقول: أريد أن أتعلم القرآن، فيقول: أتريد أن تتعلم القرآن كله، فإن له ثمناً معيناً، والجزء الواحد له ثمن، والسورة الواحدة لها ثمن.. وهكذا، فإذا وافق المتعلم على ذلك المبلغ وقال له علمني، قال له: أحضر أولاً مائة جنيه ثم تعال أعلمك.

    فمثل هذه الطريقة لا تجوز، لكن من حبس نفسه على تعليم الناس له أن يأخذ قدر الكفاف دون أن يشترط مبلغاً معيناً، والله تعالى أعلم.

    وهذه المسألة صنفت فيها رسائل، رسالة بعنوان: (جواز أخذ الأجرة على القرآن الكريم) وهناك كتاب آخر بعنوان: (جواز أخذ الأجرة على التعليم).

    سبحان الله! عندما تأتي الناس عند القرآن والسنة بالذات تتوقف، نقول: ما الفرق بين تعليم الناس اللغة العربية مثلاً والتفسير وتعليم القرآن؟ لا فرق، اللغة العربية تخدم العلوم الشرعية جميعاً، وتخدم اللسان العربي بصفة عامة.

    فالناس لا تتكلم عن حكم أخذ المدرس للعلوم العربية والعلوم الشرعية أجرة، مثل التربية الدينية في المدارس، مع أن كلمة (التربية الدينية) كلمة سخيفة جداً؛ لأن التربية قد تكون يهودية أو مسيحية أو وثنية.. كلها تدخل في تسمية التربية الدينية، لكن الصحيح أن اسمها التربية الشرعية؛ لأن كلمة (الدينية) تشمل الإسلام وغيره، أما الشرعية فلا تشمل إلا الإسلام.

    فالمدرس الذي يدرس اللغة العربية والدين والشريعة يأخذ راتباً رأس كل شهر، ولم يكن محل إنكار، بينما مدرس القرآن محل إنكار! هذا غير صحيح.

    حكم التوظيف بشهادة جاءت عن طريق الغش

    السؤال: موظف تقدم للوظيفة التي يعمل بها بشهادة الإعدادية العامة، وأثناء عمله حصل على شهادة الثانوية العامة، ولكنه غش في الامتحان، فهل يجوز تقديم هذه الشهادة إلى الجهة التي يعمل بها، مع اعتبار أنه ربما يرتفع مرتبه بسببها؟

    الجواب: الذي أراه من أقوال أهل العلم الحرمة، والشيخ ابن عثيمين قال بحرمة الراتب الذي هو نتاج شهادة جاءت من غش في الامتحان، وهذه البلية عمت وطمت، لكن ينبغي أن يفرق في هذا بين طالب مجتهد في طلبه للعلم، وطالب آخر على العكس من ذلك غير مجتهد في ذلك، ولا يخطر على باله، فالطالب الأول يريد فقط أن يفتح عليه أحد ولو بكلمة، مثل الذي يحفظ قصيدة شعرية مطلوبة منه في الامتحان، والقصيدة كلها يستطيع قولها، لكن أول كلمة في أول بيت أغلقت عليه تماماً، هو حافظ حفظاً جيداً، لكن يريد من يفتح عليه بكلمة واحدة، ثم يقرؤها، فهذا لا يسوى بينه وبين الطالب الذي لم يحفظ القصيدة قط، ويريد أن يغش بالغصب، وإذا لم يغش فسوف يعمل كيت وكيت بالمراقبين.

    أما الأول فالفتح عليه أمر مشروع، وأما الثاني فلا يعمل معه ذلك إلا من باب الغش.

    واعلم أنه لا يمكن لمثل هذا الطالب الذي يغش أن ينجح في حياته أبداً، ولا أن يكون من الأوائل، ولا حتى من غير الأوائل؛ لأن الطالب الذكي الذي بذل كل وسعه يفتح الله عز وجل عليه، بما لا يفتح الله عز وجل به على رجل لا يعلم من العلم شيئاً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755911834