الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، أحمده سبحانه وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واستمسك بهديه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن نعم الله جل وعلا على هذه الأمة -أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم- نعماً عظيمة متنوعة متعددة لا حصر لها، ولا يمكن للإنسان أن يحيط بها في مجلس أو مجالس، إلا أن أعظم ما أنعم الله جل وعلا به على هذه الأمة خاصة وعلى الناس عامة الكتاب الحكيم، إنزال هذا القرآن العظيم الذي امتن الله جل وعلا بإنزاله على الناس أجمعين، فإن الله سبحانه وتعالى أنزل هذا الكتاب خاتمةً للكتب، وجعله حجةً على الخلق، فهو أعظم آيات الأنبياء، وأعظم ما جاءت به الأنبياء؛ لأنه المعجزة العظيمة الباقية التي لا يحد أثرها زمان ولا مكان، بل هي آية ما تعاقب الليل والنهار، حتى إذا حيل بين الناس وبين القبول، وصرفت قلوبهم عن الإقبال على الكتاب، وتعطل الانتفاع به؛ فإن الله جل وعلا يرفعه، وذلك في آخر الزمان، فإن من تعظيم الله لكتابه وحينئذٍ أن يرفعه من المصاحف والصدور.
أيها الإخوة الكرام! بشر الله جل وعلا الناس عامة بإنزال هذا الكتاب الحكيم، فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس:57] ، ثم قال سبحانه وتعالى بعد هذه البشارة والبيان لما جاء به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58] هذه البشارة -أيها المؤمنون- تلقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفرح، فكان فرحاً بكتاب الله جل وعلا، فرحاً بنعمه سبحانه وتعالى، وما خصه الله به من هذا الفضل العظيم، وفرحت به الأمة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الكتاب من أعظم النعم عليهم، وكان انقطاع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم ما أصيبوا به؛ لما في ذلك من انقطاع المدد من السماء، وانقطاع هذا الخير.
هذا الكتاب فرح به التابعون ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ لما فيه من الأوصاف العظيمة التي تكفل للناس سعادة الدارين، سعادة الدنيا وفوز الآخرة، فإن هذا الكتاب لا يقتصر نفعه على دار القرار -الدار الآخرة- بل يجني المؤمن ثماره في الدنيا قبل الآخرة، فهو الكتاب الذي تصلح به أمور الناس، وتستقيم به أحوالهم في الدنيا وفي الآخرة؛ ولذلك بشر الله به الناس عامة، فهو رحمة وهدى وشفاء، قال الله جل وعلا: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82] وإنما خص المؤمنين بهذا؛ لكونهم المنتفعين من هذا القرآن، وإلا فإن القرآن رحمة لكل أحد، ففيه الهدى والنور، وفيه ترتيب شئون حياة الناس، وإصلاح دنياهم وآخرتهم؛ ولذلك فإن هذا الكتاب بهر عقول كثير من الناس حتى الذين لم يؤمنوا به، فإن ما فيه من البيان، وما فيه من الاعجاز، وما فيه من الأسرار التي لا يحيط بها عقل، ولا يدركها بيان، ولا يحيط بوصفها لسان؛ أمر يفوق الوصف، أمر يتجاوز التصور؛ وذلك لأنه كلام رب العالمين، والله جل وعلا قد قال في محكم التنزيل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فليس كمثل ربنا شيء: لا في صفاته، ولا في ذاته، ولا في أفعاله، ولا فيما يجب له سبحانه وتعالى.
ومن جملة ما وصف الله به نفسه الكلام، فكلام الرب جل وعلا لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، كما أن صفاته سبحانه وتعالى ليس كمثلها شيء، وكما أن سائر ما يتعلق به جل وعلا ليس له نظير.
فهذه الأمة التي هي: خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110] إنما خرجت من بين دفتي المصحف الكريم، من بين هذا القرآن الحكيم، خرجت على ضوء توجيهات هذه الآيات المبينات، وهذا القرآن العظيم، قال الله جل وعلا في وصف هذه الأمة -وأول من يدخل فيها الصحابة رضي الله عنهم-: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110] ، وإنما كانت هذه الأمة على هذه الصفة وعلى هذا النحو بتمسكها بالقرآن الكريم، ولا عجب بعد هذا أن تنقل السير والسنن والكتب والدواوين عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن التابعين وتابعيهم العجائب في التعامل مع القرآن الحكيم.
أيها الإخوة! الشاهد من هذه القصة ومن هذا الحديث أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يتقبلون القرآن ويتلقونه على أنه شيء يتلى، وتستنبط منه الأحكام، ويعرف ما فيه من المعاني فقط، بل قرءوه رضي الله عنهم على أنهم هم المخاطبون، وهم المعنيون بما فيه من المعاني؛ ولذلك شق عليهم، فراجعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذي شق عليهم من هذا القرآن، وهذه القصة ليست الفريدة، وليست الوحيدة التي حفظتها كتب السنة من أفعال الصحابة رضي الله عنهم عندما أنزل الله جل وعلا ما وجدوا فيه مشقة وعسراً وصعوبة.
أيها الإخوة! إن صحابة رسول الله صلى الله وعليه وسلم لما نزلت عليهم هذه الآية أتوا إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم -وقد شق عليهم الأمر- (فقالوا: يا رسول الله! أينا لم يظلم نفسه؟!) يعني: مَنْ منا لم يقع في الظلم؟! كلنا واقع في الظلم، وهذه الآية تدل على عدم حصول الأمن والاهتداء إلا بالإيمان الذي لم يخلط فيه الإنسان ظلماً، فشرط حصول الأمن والاهتداء ألا يقع الإنسان في الظلم، ففهم الصحابة أن هذا يشمل كل ظلم: الدقيق والجليل، الصغير والكبير، الشرك فما دونه، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكوا إليه؛ لأنه لا سلامة من الظلم، بل كل إنسان ظالم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) ، وكما قال الله جل وعلا -قبل ذلك- في شأن الإنسان: إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72] حيث حمل الأمانة وقد أعرضت عن حملها السموات، والأرض، والجبال: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]، وهذا الوصف لا يختص بفرد من الناس، ولا بجنس منهم، بل هو لعموم الناس، فكلهم ظالم جهول، ولا يسلم الإنسان من هذين الوصفين إلا بالاهتداء بكتاب الله وما جاءت به الرسل عن الله سبحانه وتعالى.
أيها الإخوة الكرام! لما جاء الصحابة رضي الله عنهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكون ما في هذه الآية من مشقة قال لهم: (ليس الذي تظنون -أي: ليس الظلم هو الذي ذهبتم إليه- إنما هو الشرك، كما قال الله جل وعلا في وصية لقمان لابنه وهو يعظه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]) ، فالظلم الذي في الآية هو الشرك، فهان الأمر على الصحابة رضي الله عنهم.
والشاهد -أيها الإخوة- أن الصحابة رضي الله عنهم لم يتلقوا القرآن تلقياً بارداً، بل تلقوه للعمل، وأخذوا به على أنهم هم المعنيون، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: إذا سمعت الله جل وعلا يقول في كتابه: (يا أيها الذين آمنوا) فأرعها سمعك -يعني: أصغ إليها، وأعطها أذنك- فهي إما خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه. وهذا لكونهم أخذوا القرآن للتلقي والعمل، وأن كل ما فيه خطاب لكل من سمعه، وخطاب لكل من بلغه، وليس المخاطب به قوم مضوا ولم يبق لنا منه إلا أن نتعبد ونتقرب إلى الله جل وعلا بما فيه من الألفاظ، وما فيه من الكلام الذي جرد عن معناه، ولم يقصد ما تضمنه، لا؛ بل إن الصحابة رضي الله عنهم ضربوا في هذا أمثلة رائعة، وانقادوا لما في كتاب الله جل وعلا انقياداً تاماً، فهذا أبو بكر رضي الله عنه تتهم ابنته عائشة في عرضها! ويبرأها الله جل علا في سورة النور في قصة الإفك، وتبين أن من جملة من رمى عائشة وتكلم فيها: مسطح بن أثاثة ، وهو قريب لـأبي بكر رضي الله عنه، وكان أبو بكر يصله ويعينه، وكان فقيراً، ثم لما تبين الأمر وتبينت براءة عائشة رضي الله عنها حلف ألا يصله -بعد أن فعل ما فعل- شيئاً من عطاياه، فأنزل الله جل وعلا قوله سبحانه وتعالى: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22] فقال أبو بكر رضي الله عنه: بلى بلى، فانتهى عن الامتناع مما جرت به يده رضي الله عنه من الصدقة والإحسان على مسطح بسبب ما كان منه من إساءة لـعائشة رضي الله عن الجميع.
إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يكثرون من قراءة القرآن في مجالسهم.. في طرقهم.. في كل شأنهم، فهذا عثمان رضي الله عنه كان ليلة مقتله تالياً لكتاب الله جل وعلا، حتى ذكر أن الذي قتله -عليه من الله ما يستحق- قتله وكان في يديه كتاب الله جل وعلا.
أيها الإخوة الكرام! سار السلف الصالح: التابعون ومن بعدهم على منوال أولئك في قراءة الكتاب الحكيم، وفي الأخذ به رضي الله عنهم، فهذا عفان يقول: قد رأيت من هو أعبد من حماد بن سلمة ، لكن ما رأيت أشد مواظبةً على الخير وقراءة القرآن والعمل لله تعالى منه رضي الله عنه. وقال آخر: ما رأيت أحسن انتزاعاً لما أراد من آي القرآن من أبي سهيل بن زياد ، وكان جارنا، وكان يديم صلاة الليل والتلاوة، فلكثرة درسه صار القرآن كأنه بين عينيه. يعني: في الاستشهاد والاستفادة مما في هذا القرآن من الأحكام، ويقول آخر في وصف ما كان عليه مالك بن أنس إمام دار الهجرة: قيل لأخت مالك بن أنس : ما كان شغل مالك بن أنس في بيته؟ -بماذا يشتغل في بيته؟ وماذا كان يعمل في بيته؟- قالت: المصحف والتلاوة. هذا شغل الإمام مالك رحمه الله في بيته، المصحف والتلاوة.
والآثار في ذلك كثيرة، ومن العجيب! أن بعض السلف كان إذا اجتمع إليه أصحابه أوصاهم عند التفرق بألا يجتمعوا في سيرهم، بل يمشي كل واحد منهم بمفرده، قال لهم: إذا خرجتم من عندي فتفرقوا؛ لعل أحدكم يقرأ القرآن في طريقه، ومتى اجتمعتم تحدثتم فانشغلتم عن القرآن.
وقد أمر الله جل وعلا رسوله صلى الله عليه وسلم في أول البعثة بقيام الليل، فقال الله جل وعلا لرسوله صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل:1-4] أي: رتله في قراءته وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل:4-5] وهو القرآن، فالقرآن قول ثقيل يحتاج إلى تهيئة إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل:5-6]، أمره بقيام الليل وعلل ذلك بقوله: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا [المزمل:6] يعني: يتفق فيها قول اللسان مع تدبر القلب ونظره وتأمله وتفكره، وناشئة الليل قيل في تفسيرها: أوقات الليل، وقيل: عمل الليل، وكلا القولين يؤيد ما استشهدنا به من أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره الله عز وجل بما أمره، ووجهه إلى أن يكون ذلك في الليل قياماً؛ لكونه أدعى لمواطأة القلب للسان بالتدبر، وقد امتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم توجيه الله جل وعلا وأمره، ففي صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةً فقرأ: البقرة وآل عمران والنساء في ركعة!) كل هذا في ركعة في ليلة، وما هي صفة هذه القراءة؟ هل هي قراءة الهذ والنثر التي لا يعقل معها معنى، ولا يعرف معها مقصود؟! لا والله، يقول حذيفة رضي الله عنه في وصف قراءته صلى الله عليه وسلم: (وكان إذا مر بآية فيها تسبيح سبّح، أو سؤال سأل، أو تعوذ تعوذ) هكذا كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: قراءة تدبر ونظر وتفكر، ليست قراءة هذٍ كما قال ابن مسعود رضي الله عنه في وصف القراءة التي ينبغي أن يكون عليه المؤمن، قال: (لا تنثروه نثر الدقل، ولا تهذوه هذ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب).
هذا القرآن فيه من العجائب والأسرار ما لا ينفتح للذي يقرؤه قراءةً لا تدبر فيها ولا نظر، فإن الله جل وعلا يمنع من امتهن القرآن ولم يعطه حقه من أن يقف على أسراره وعجائبه.
والترديد للآية ليس أمراً مشروعاً في الفرائض؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يفعل ذلك ولم ينقل عنه، إنما هو في النوافل كما جاء ذلك في حديث أبي ذر الذي رواه النسائي وغيره، وهذا الترداد للآيات دليل على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتدبرون القرآن؛ لأن الترداد والتكرار لهذه الآية إنما هو للنظر في معانيها.
هذان مثالان فقط، وإلا فإن البكاء من هديه صلى الله عليه وسلم، فإنه كان كثير البكاء والتأثر بالقرآن؛ لما تضمنه من الحكم والعبر والآيات.
أيها الإخوة! إن الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم في البكاء والتأثر بتلاوة القرآن عديدة وكثيرة، لكن هذه وقفة مع حال السلف في التأثر والبكاء عند قراءة القرآن.
النوع الأول: يأتي بلا طلب، وبدون تكلف، وهو ما يكون من تأثر طبيعي لا يطلبه الإنسان، وإنما هو ناتج عن تدبره وتأمله لما في هذه الآيات من الترغيب أو الترهيب، أو عظيم صنع الله جل وعلا، أو عظيم وصفه، وهذا هو الذي كان عليه السلف رضي الله عنهم، وهو دال على سلامة القلب ولينه وصحته وحياته.
النوع الثاني: هو البكاء الذي يكون بطلب، فينظر الإنسان ويحث نفسه على النظر في معاني الكتاب؛ ليتأثر، ومنه قول عمر رضي الله عنه لنبي الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر لما رآهما يبكيان فقال لهما رضي الله عنه: (يا رسول الله! أخبرني ما يبكيك وصاحبك، فإن وجدت بكاءًَ بكيت معكما، وإن لم أجد تباكيت) ، وليس المقصود أنه يتكلف البكاء، وإنما يطلب أسباب البكاء التي من أجلها حصل للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وعليه يحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا القرآن نزل في حزن، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا) فهذا الحديث يدل على مشروعية التباكي، لكنه التباكي الذي ليس فيه تكلف، وليس فيه طلب رياء ولا سمعة، إنما فيه طلب التأثر بالكتاب، وإذا كان القلب قد منعه مانع، أو عرض وحال دون حصول البكاء منه حائل، فينبغي لنا أن نطهر قلوبنا، وأن نطيبها؛ ليحصل لها التأثر بالقرآن دون تكلف.
والواقع في حياة الناس اليوم أنك تجد في بعض الصلوات من يبكي عند قراءة القرآن بكاءً خاشعاً، إلا أن هذا لا يتجاوز حدود المسجد الذي حصل فيه التأثر، وحصل فيه البكاء، فليس لهذا البكاء أثر في العمل، ولا أثر في السلوك، ولا أثر في الأخلاق، ولا أثر في ترك المعصية، ولا أثر في الإقبال على الطاعة، ولا شك أن هذا قصور وتقصير فيما ينبغي أن يكون عليه المسلم المتأثر بالقرآن، قال الله جل وعلا في بيان أثر القرآن على من اتبعه وأخذ به: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123]، لا يضل في عمله، ولا يشقى في مآله، ولا في حاله، فهو سالم من الضلال، وسالم من الشقاء.
وقد ورد مثل هذا التوجيه -وبيان أثر القرآن على حامله وعلى القارئ له- في عدة أقوال من أقوال الصحابة رضي الله عنهم، منها ما ورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (يا حملة القرآن! -أو قال: يا حملة العلم!- اعملوا به، فإنما العالم من عمل بما علم، ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم). أي: لا يجاوز حناجرهم، بل هو مجرد قول على اللسان ليس له أثر في القلب، ولا شك أن هذا الحاجز وهذا المانع يمنع من التأثر بالقرآن والانتفاع به.
أيها الإخوة الكرام! إن القرآن نزل معالجاً لأمراض ووقائع كانت في زمن الصحابة رضي الله عنهم؛ ولذلك كانوا يرقبون ويخافون أن ينزل شيء من القرآن يبين شيئاً من عوراتهم، أو يكشف شيئاً مما يكرهونه، أو يكون سبباً لهلاك بعضهم، فكانوا رضي الله عنهم على غاية الحذر والوجل عند نزول القرآن وتلقيه؛ ولذلك كانت أحوالهم مستقيمة رضي الله عنهم.
الصحابة رضي الله عنهم اقتدوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في قراءة القرآن وفي تلاوته وفي العمل به وفي جعله منهجاً للحياة، وفي الصحيح أن عائشة رضي الله عنها سئلت عن خلق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ما خلقه؟ -فقالت للذي سألها مستغربة ومنبهة-: أولست تقرأ القرآن؟ قال: بلى)، فقالت جملة مختصرة تجمل مسلك النبي صلى الله عليه وسلم وهديه وخلقه، فقالت: (كان خلقه القرآن) يعمل به في نهاره، ويقوم به في ليله، فهو قائم به، عامل به آناء الليل وآناء النهار، لا يتركه لحظة من اللحظات، بل كان يترجم القرآن ويبينه للناس بقوله وعمله وسائر شأنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
والصحابة رضي الله عنهم ساروا على هذا المنوال، فكانوا ينظرون إلى القرآن في كل أفعالهم وفي كل أعمالهم، ولذلك لما سئل ابن عمر رضي الله عنه عن مسألة من مسائل الحج قال لهم: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، ولما طلبوه عن دليل فعل من الأفعال لم يجبهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل أو ترك، وإنما لفت أنظارهم إلى الدليل الأكبر الذي فيه الحث على الالتزام بكل فعلٍ فعله صلى الله عليه وسلم وكل قول قاله، فقال لهم: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].
فالصحابة رضي الله عنهم كانوا لا يعدلون بالقرآن شيئاً، والناظر في أحوال كثيرٍ مِن من يشتغلون بالعلم في هذه الأزمنة يجدهم عن القرآن معرضين، والإعراض ليس إعراض هجر وبعد، وإنما هو إعراض ترتيب في أولويات طالب العلم، إن أولى وأعظم ما اشتغل به من أراد العلم أن يشتغل بالقرآن العظيم حفظاً وتلاوةً وتدبراً وفهماً للمعنى، وإقبالاً على ما قاله أهل العلم في هذا الكتاب الحكيم، وقد سار على هذا السلف الصالح، فكانوا يقدمون القرآن على كل شيء.
استمع إلى ما جرى لـابن خزيمة رحمه الله وهو الملقب بإمام الأئمة، يقول ابن خزيمة : استأذنت أبي في الخروج إلى قتيبة -ليتلقى عنه- فقال: اقرأ القرآن أولاً حتى آذن لك، فاستظهرت القرآن -أي: حفظته- فقال: أمسك حتى تصلي بالختمة -يعني: حتى تصلي بنا وتختم القرآن- يقول: ففعلت، فلما عيدنا -أي: انتهى رمضان- وختمت بهم القرآن أذن لي، فخرجت إلى مرو -ليطلب هذا المحدث ليتلقى عنه- وسمعت بمرو من فلان وفلان فنعي إلينا قتيبة -أي: أنه لم يدركه ولم يتلق عنه- .
والشاهد من هذا: أن السلف رحمهم الله، ومن سلك سبيلهم وسار على طريقهم، كانوا يجعلون القرآن في المرتبة الأولى في التعلم، وحال الناس اليوم أنهم يشتغلون بعلوم الآلة وبالعلوم الأخرى عن القرآن، فليس لهم نصيب من التفسير، وليس لهم نصيب من علم القرآن وما فيه من الأحكام، بل حتى الذين يشتغلون بالقرآن تفسيراً ليس لهم نصيب من القرآن في استنباط الأحكام، فالقرآن مشتمل على أحكام وحكم كثيرة تحتاج إلى استنباط، وتحتاج إلى نظر، ولا يمكن أن تستنبط ولا أن تحصّل ولا أن تدرك إلا بإمعان النظر والتأمل والقراءة في كلام العلماء، وجمع ما تفرق من كلام أهل العلم في آيات الكتاب الحكيم، فيحصل للإنسان الخير، ويحصل له الفقه بكتاب الله عز وجل، والمعرفة بالقرآن الحكيم.
فالتعليم للقرآن العظيم من خير الأعمال؛ لأنه به تحفظ الشريعة، وليس فقط -كما ذكرنا- التعليم للفظ بل التعليم للفظ والمعنى، والعجيب! أنك إذا نظرت إلى سير العلماء على اختلاف أزمانهم ودرجاتهم في العلم ونفعهم الأمة تجد أنهم في آخر أعمارهم يتحسرون أو يندمون على عدم الاشتغال بالقرآن، وودوا لو أنهم أعطوا القرآن من النظر والبحث والتأليف والقراءة ما لم يعطوه لغيره من العلوم؛ وذلك لما وجدوا في القرآن من الأثر والنفع والبقاء، فإن في القرآن من العلم ما ليس في غيره، ويكفي في ذلك قول الله جل وعلا: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49] ، وقد طلب الكفار من النبي صلى الله عليه وسلم الآيات والمعجزات فجاءهم الجواب في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ [العنكبوت:51]، فالكتاب أعظم آيات الأنبياء، وأعظم حجة، وأعظم برهان، لكنه حجة وبرهان لمن تدبره وتأمله وأقبل عليه.
فالقرآن: (يرفع الله به أقواماً ويضع به آخرين) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أدل ولا أصدق من وقوع هذا الحديث في واقع الأمة، فقد رفع الله جل وعلا سلف الأمة لأخذهم القرآن، ورفع الله القرون المفضلة؛ لما كانوا عليه من الإقبال على هذا القرآن: قراءةً وعلماً وعملاً وتعليماً ودعوةً وغير ذلك من أوجه الانتفاع بالقرآن الحكيم.
نسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، فهم أهل الله؛ لإقبالهم على صفة من صفاته، وخاصته؛ لأنهم عظموا ما عظمه، وأقبلوا على كتابه.
أسال الله جل وعلا أن يجعلنا مِمن تعلم القرآن وعلمه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر