أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة القصص المكية المباركة الميمونة، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوة هذه الآيات ثم نتدارسها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع، قال تعالى: وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ * وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا [القصص:22-25].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا تعالى: وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ [القصص:22]، اذكروا ما تقدم في الآيات السابقة من أن القبطي الذي سمع من موسى: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ [القصص:18]، فهم أن موسى هو الذي قتل القبطي الأول، ومن ثم ذهب إلى قصر فرعون وأطلعهم على أن موسى هو الذي قتل القبطي الذي يبحثون عن قاتله من أيام، إذ قال تعالى في هذه الحادثة: فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا [القصص:19]، أي: فلما أن أراد موسى أن يبطش، بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا [القصص:19]، وهو القبطي الذي كان يقاتل الإسرائيلي، قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ [القصص:19]؟ وقائل هذا الكلام هو الإسرائيلي، أما القبطي فما علم بعد أن موسى قد قتل قبل هذا، وإن وجد في بعض التفاسير فهو من باب الخطأ.
إذاً: لما عرف القبطي الحادثة السابقة ذهب رأساً إلى قصر الملك وأعلمهم أن موسى هو الذي قتل القبطي، ومن ثم: وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى [القصص:20]، وهذا الرجل هو من رجالات فرعون في قصره وملكه، وهو مؤمن آل فرعون، وكان مؤمناً يكتم إيمانه، وقد آمن لما شاهد المعجزات التي قد تقدمت، لكن بقي في القصر، فجاء مسرعاً وأطلع موسى على أن فرعون يطلبه ليقتله، وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ [القصص:20]، لما تبين لهم أنه قد قتل، وبالتالي فليقتل، فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ [القصص:20]، أي: اخرج من هذه الديار المصرية، من أرض فرعون ومملكته.
فاستجاب موسى عليه السلام فخرج من مصر، فقال تعالى مصوراً ذلك: فَخَرَجَ مِنْهَا [القصص:21]، أي: من ديار المصرية، خَائِفًا [القصص:21]، أن يدرك ويلحق به فيؤخذ ليقتل أو يذبح، قال رب [القصص:21]، أي: يا رب! نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص:21]، فلجأ إلى الله في صدق وطلب منه أن ينجيه من فرعون وملئه، وذلك حتى لا يلقوا عليه القبض فيقتلوه أو يعذبوه، وفعلاً استجاب الله له.
إذاً: كان هناك حجاب، وكان هناك عفة في ذلك الزمن، لكن الآن للأسف أنتم تعملون على أن تخلطوا النساء بالرجال في الدوائر الحكومية وفي الدارس بل وفي كل شيء، وهذا من صنيع بني عمكم اليهود، إذ هم الذين مسخوا البشرية، بل حتى ما أصبحت للمرأة قيمة لا في أوروبا ولا أمريكا أبداً، وإنما صعلوكة كالصعاليك، فتعمل الليل والنهار من أجل قوتها، وبالتالي تركت بيتها وهجرت منزلها، وهم بذلك يريدون أن يعود هذا إلينا، فيخرجونها لكي تعمل خارج البيت حتى يخرب البيت والعياذ بالله، ويحدث عند الخروج ما لا نتصور من الفتن والشر العظيم.
قَالَ مَا خَطْبُكُمَا [القصص:23]، لماذا سألهما موسى هذا السؤال؟ لأنه رسول وأمين، ثم ماذا نقول فيه عليه السلام؟ لقد تعجب عليه السلام من بقاء فتاتين بهذه الطريقة، وكان هذا من الرغبة في الإصلاح وعمل الخير، قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ [القصص:23]، والرعاء جمع: راعي، وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ [القصص:23]، فعللتا سبب مجيئهما لسقي الغنم، أي: أن العلة في خروجنا من البيت هي أن أبانا شيخ كبير، وما عنده ولد سوانا، وحينئذ فَسَقَى لَهُمَا [القصص:24]، أي: أبعد الحجر عن فم البئر واستخرج الماء وملأ الحياض وسقتا غنمهما وعادتا إلى أبيهما.
وسيأتي معنا أنه لما مشت معه كانت الريح تكشف عن ساقها وعن ما وراءها، فقال لها موسى عليه السلام: امشي ورائي وارمي أمامي بحصىً نحو الطريق لأعرفها، وهذا هو الذي ذكرته لوالدها وتعجب منه، أي: من صلاحه واستقامته، إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26]، أي: قوي في بدنه، أمين في رعايته.
قال: [ فقال تعالى مخبراً عنه: وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ [القصص:22]، أي: ولما توجه موسى عملاً بنصيحة مؤمن آل فرعون، تِلْقَاءَ مَدْيَنَ [القصص:22]، وجهه أن يتجه تلقاء مدين، أي: نحوها.. وجهتها، ولم يكن له علم بالطريق الصحراوي، والمسافة مسيرة ثمانية أيام، قال: عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ [القصص:22]، أي: ترجَّى ربه سبحانه وتعالى أن يهديه الطريق السوي حتى لا يضل فيهلك، واستجاب الله له فهداه الطريق حتى وصل إلى بلاد مدين.
وقوله تعالى في الآية الثانية من هذا السياق: وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ [القصص:23]، أي: وحين ورد ماء مدين وهو بئر يسقي منها الناس مواشيهم، وَجَدَ عَلَيْهِ [القصص:23]، أي: على الماء، أُمَّةً مِنَ النَّاسِ [القصص:23]، أي: جماعة كبيرة يسقون أنعامهم ومواشيهم، وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ [القصص:23]، وهما بنتا شعيب عليه السلام، تَذُودَانِ [القصص:23]، أي: تمنعان ماشيتهما من الاختلاط بمواشي الناس، فسألهما لا تطفلاً وإنما حالهما دعاه إلى سؤالهما؛ لأنه رأى الناس يسقون مواشيهم ويصدرون فوجاً بعد فوج والمرأتان قائمتان على ماشيتهما تذودانها عن الحوض حتى لا تختلط ولا تشرب، فسألهما لذلك قائلاً: مَا خَطْبُكُمَا [القصص:23]؟ أي: ما شأنكما؟ فأجابتاه قائلتين: لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ [القصص:23]، وذلك لضعفنا وعدم رغبتنا في الاختلاط بالرجال، وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ [القصص:23]، لا يقوى على سقي هذه الماشية بنفسه، فنحن نسقيها ولكن بعد أن يصدر الرعاء ويبقى في الحوض ماء نسقي به.
فلما علم عذرهما سقى لهما ماشيتهما، ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ [القصص:24]، الذي كان جالساً تحته، وهو ظل شجرة، وهو شجر صحراوي معروف يقال له: السمر، ولما تولى إلى الظل سأل ربه الطعام لشدة جوعه، إذ خرج من مصر بلا زاد ولا دليل، ولولا حسن ظنه في ربه لما خرج هذا الخروج، فقال: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ [القصص:24]، أي: طعام، فَقِيرٌ [القصص:24]، أي: محتاج إليه شدة الاحتياج.
وفي أقرب ساعة وصلت البنتان إلى والدهما فسألهما عن سبب عودتهما بسرعة فأخبرتاه، فقال لإحداهما: اذهبي إليه وقولي له: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا [القصص:25]، وهو معنى قوله تعالى: فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا [القصص:25]، استجابة الله له، تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ [القصص:25]، واضعة كم درعها على وجهها حياء.
وقد قال فيها عمر رضي الله عنه: إنها ليست سلفعاً من النساء خرّاجة ولاّجة، وبلغت الرسالة المختصرة وكأنها برقية ونصها ما أخبر الله تعالى به في قوله: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا [القصص:25]، لا كلمة أخرى، إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا [القصص:25]، وقد ورد أنها لما كانت تمشي أمامه تدله على الطريق هبت الريح فكشفت ساقيها فقال لها موسى: امشي ورائي ودليني على الطريق بحصى ترمينها نحو الطريق وهذا الذي دلها على أمانته لما وصفته لأبيها بأنه: لَقَوِيٌّ أَمِينٌ [النمل:39]، كما سيأتي بيانه فيما بعد إن شاء الله ].
قال: [ ثانياً: بيان فضل الحياء وشرف المؤمنات اللائي يتعففن عن الاختلاط بالرجال ]، والحياء أيها المؤمنون هو صفة ذاتية أو صفة روحية قلبية يستحي صاحبها أن يفتح عينيه في الشيء وينظر إليه، يستحي صاحبها أن يقول كلمة سوء، يستحي أن يظهر في مظهر سوء، وأخذنا هذا من هذه المؤمنة التي جاءت وهي تمشي على استحياء واضعة كمها على وجهها حتى لا يراها موسى وهي في الصحراء معه، فهيا نتعلم الحياء، وهيا نعلم نساءنا وأبناءنا، إذ إن أولادنا ينطقون بالبذيء من القول والسيئ من الكلام، وكأنهم صعاليك في المغابر والبساتين والعياذ بالله.
قال: [ ثالثاً: بيان مروءة موسى في سقيه للمرأتين ]، والمروءة كمال إنساني قلَّ من يظفر به، وقد تجلت هذه المروءة في سقيه للمرأتين الحييتين، إذ تولى عليه السلام إزالة الحجر عن البئر، ثم ملأ الحِيَض بالماء، ثم سقى لهما صلى الله عليه وسلم.
قال: [ رابعاً: فضل الدعاء وسؤال الله تعالى ما العبد في حاجة إليه ]، فلهذا لا نترك دعاء الله ولا سؤاله ولا التضرع إليه، وذلك في كل شئون حياتنا في الليل والنهار، إذ الدعاء مخ العبادة، والدعاء هو العبادة، فهذا موسى قد سمعناه وهو يدعو ويذكر احتياجه إلى ربه فيقول: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24]، وأكثر الغافلين لا يرفعون أيديهم إلى الله ولا يسألونه؛ لأنهم شباع ما هم في حاجة إلى الدعاء والعياذ بالله تعالى، والدعاء في السجود أقرب إلى الإجابة، أما في الركوع فعظموا فيه الرب، والذي يبكي بين يدي الله ويتضرع لن يحرمه الله الخير أبداً، ولن يبعده عن الكمال أبداً، لكن الشعور بالغنى عن الله هي المحنة العظيمة.
قال: [ خامساً: ستر الوجه عن الأجانب ]، أي: تغطية الوجه عن الأجانب، [ سنة المؤمنات من عهد موسى ]، لا من عهد نزول القرآن في المدينة، وإنما من عهد موسى عليه السلام، بل من قبله، أي: من عهد آدم عليه السلام، [ وليس كما يقول المبطلون: هو عادة جاهلية ]، المبطلون والممزقون والهالكون والعلمانيون والشيوعيون الهابطون يقولون: إن ستر الوجه عادة جاهلية، ولذا لا يحل لمؤمنة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تكشف عن وجهها لأجنبي أبداً إلا في حال الضرورة القصوى، وذلك كالعلاج أو المرض أو الإنقاذ، أما أن تخرج في الشارع سافرة جسمها وكاشفة عن وجهها وتنظر هنا وهنا، فوالله ما يجوز هذا ولا يحل لها، إلا إذا عجَّزت وشاخت وأصبحت عجوزاً، وقد رأينا بمدينة الرسول قبل زمن عجائز في الثمانين بل في المائة والعشرين ما تكشف إحداهن عن وجهها أبداً، والآن تشاهد في الشوارع كشف النساء لوجوههن، بمعنى: أن كشف الوجه ليس بمحرم أبداً، وهذا من البلاء الذي أصبنا به، ثم قال: [ فبنتا شعيب نشأتا في دار النبوة والطهر والعفاف، وغطت إحداهما وجهها عن موسى حياءً وتقوى ].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر