اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
من مسائل النية في الصوم ما ذكرنا وأشرنا إليه قبل ذلك، لو انقطع دم الحائض والنفساء في الليل فنوتا صوم الغد صح صومهما، سواء اغتسلتا أو لم تغتسلا، فلا تعلق للصيام بالاغتسال، إنما الصلاة هي التي لها تعلق بالاغتسال، فلو أن المرأة طهرت من حيضها أو من نفاسها بالليل ونوت الصيام ونامت وهي على هذا الحال، وأصبحت بعد الفجر فالصوم صحيح، وإن كان التي طهرت من الليل يلزمها أن تغتسل لتصلي ما عليها من صلاة الوقت.
قال الله عز وجل: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187]، فذكر الله عز وجل المباشرة وأنها تكون حتى يتبين الفجر، فإذا جازت المباشرة وهي الجماع إلى قبيل الفجر، فمعناه: أن هذا الإنسان سواء كان رجلاً أو امرأة سيطلع عليه الفجر وهو على جنابة من الجماع، ومع ذلك إذا صام فصومه صحيح، طالما أنه نوى من الليل.
فإذا كان يجوز الجماع إلى قبيل الفجر، فطلع الفجر ولم يغتسل ونوى الصوم صومه صحيح، فيقاس على ذلك الحيض والنفاس.
وفي الصحيحين من حديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: (كنت أنا وأبي فذهبت معه حتى دخلنا على
كذلك جاء في صحيح مسلم عن عائشة : (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه فقال: يا رسول الله! تدركني الصلاة وأنا جنب أفأصوم؟) يعني: يكون نائماً على جنابة حتى أذان الفجر، فتدركه صلاة الفجر وهو على جنابة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم)، هنا القياس، إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم هو أتقى خلق الله صلوات الله وسلامه عليه يفعل ذلك، فدل هذا على أنه جائز، فقال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (لست مثلنا يا رسول الله! قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال صلى الله عليه وسلم: والله إني أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي) يعني: الأمر ليس أن الله غفر له، فإن له أن يفعل ما يشاء، لا، وإنما النبي صلى الله عليه وسلم مع أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فقد كان أشد اجتهاداً في العبادة يقول: (أفلا أكون عبداً شكوراً) صلوات الله وسلامه عليه.
إذاً: طالما أنه شك حتى ولو أذن المؤذن فله أن يشرب هذا إذا كان يرى أن المؤذن أذن قبل الفجر، أما إذا استيقن أن الفجر قد طلع فليس له أن يشرب، بل إذا كان الطعام في فمه لزمه أن يلفظه، وإذا كان مجامعاً أهله لزمه أن ينزع وإلا يلزمه القضاء.
وقال الله عز وجل: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [البقرة:187]، هذا بالليل، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187] يعني: يمتنع الصائم عن الطعام والشراب في النهار إلى الليل.
فإذا أكل أو شرب في النهار وهو ذاكر للصوم عالم بالتحريم، فيلزمه أن يمسك بقية ذلك اليوم ويلزمه القضاء ويأثم بذلك؛ لأنه أبطل صومه متعمداً.
ويحرم عليه مع الطعام والشراب ما يلحق بهما مثل السجائر، فلو شربها يحرم عليه ويفطر بها؛ لأن الدخان يتجمع في جوفه فيفطر بذلك، كذلك إذا كان يتعاطى المخدرات والعياذ بالله يشمها أو يأكلها أو يجعلها في جسده، يحرم عليه هذا كله، والمسكرات بأشكالها كل هذا إذا وصل إلى جوف الإنسان أو أدخله إلى جسده يحرم عليه؛ لأنه يذهب عقله الذي أمر أن يحافظ عليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (من شرب الخمر ولم ينتش لم تقبل له صلاة ما دام في جوفه أو عروقه منها شيء، وإن مات مات كافراً) والخمر هو ما خامر العقل وخالطه، سواء سميناه خمراً أو مخدرات أو حشيشاً أو أفيوناً، أو غيرها من الأسماء، كلما خامر العقل وخالطه فهو خمر.
فالذي يشرب شيئاً من ذلك قليلاً أو كثيراً فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لم تقبل له صلاة ما دام في جوفه) يعني: إذا وصل الخمر إلى جوفه، فإنه يحتاج إلى أيام حتى يخرج؛ لأنه قد امتزج بطعامه وشرابه ودمه وعروقه، فخلال هذه المدة لا يقبل الله له صلاة ما دام في جوفه أو عروقه منها شيء، وإن مات مات كافراً، إن كان مستحلاً لها، مات كافراً كفراً أكبر، وإن كان مرتكباً للمعصية متعمداً لذلك فهو من أفعال الكفر، كفر العمل.
الصورة الأولى: أنه لم يذهب عقله، ولم ينتش.
أما إذا انتشى وذهب عقله بشرب الخمر والمخدرات واختلط فقال: (وإن انتشى لم تقبل له صلاة أربعين ليلة، وإن مات مات كافراً)، والعياذ بالله.
قس على ذلك القطرة التي تجعل في العين، فلو وضع قطرة أثناء الصيام فإن القطرة لا تفطر صاحبها، وإذا نزلت القطرة إلى حلق الإنسان وطعم مرارة القطرة فيلزمه أن يتفل القطرة، بحيث إنه لا يبقى أثرها في فمه، لكن لو تعمد أن يبتلع القطرة فإنه يفطر.
كذلك الجائفة، يعني: إنسان بطنه مفتوحة ومخيطة، فجعل أدوية فيها فإنه لا يفطر بذلك.
أيضاً الحقنة في العضل أو في الوريد وكذلك الأقماع المهبلية هذه كلها لا تفطر؛ لأنها ليست طعاماً ولا شراباً وإنما يتداوى بها وتدخل من غير مجاري الطعام والشراب.
أما حقن التغذية، إذا كان الشخص يعيش على حقن التغذية بحيث تصير حياته عادية ويحس بشبع فهذا يفطر بذلك.
إذاً: هناك فرق بين الحقنة للتداوي والعلاج التي ليس فيها تغذية، وبين أن تكون الحقنة فيها مكونات من محلول السكر أو غيره من الأمور المغذية، فإذا كان الإنسان يأخذ الحقن للعلاج وليس للتغذية فالراجح أن هذه الحقن لا تفطر، أما الحقن المغذية فهي تفطر.
وقس على ذلك أيضاً إذا كان إنسان يعمل غسيل كلى بالنهار، إذا كان مجرد ما يخرج الدم يتفلتر ويرجع إلى الإنسان، أو يوضع عليه بعض أملاح ونحو ذلك مما يحتاج إليه إلى (اكترونيات) الدم ونحو ذلك، فالراجح أن هذا لا يفطر، لكن إذا وضعت له مواد تغذية معها محلول للتغذية بحيث إنه يعيش على هذا المحلول ويقوم مقام الطعام والشراب، فهنا نرجع إلى مسألة التفرقة بين التغذية وبين غيرها.
كذلك يباح للمريض الذي عنده أزمة كمريض القلب مثلاً الذي يستعمل البخاخ المحتوى على غاز يستنشقه بحيث إنه ينزل على القصبة الهوائية وعلى الرئة، ولا ينزل على المريء وعلى المعدة، وإنما ينزل على القصبة الهوائية وعلى الرئة، والأفضل أن يجتنب ذلك، لكن لو احتاج إليه استخدمه؛ وذلك بأن يطرأ له المرض في وسط النهار فله أن يستخدم ذلك، ولا يفطره في النهار هذا الغاز، أما إذا كانت بودرة، فأخذها وجعل يستنشقها بحيث تنزل على لسانه ويبتلعها وهذا يفطر بها، لكن إذا كان مجرد غاز يستنشقه وينزل على القصبة الهوائية فالراجح أن هذا لا يفطره.
لذلك هذه المسألة تكون عند الضرورة فقط ولا يبتلع منها شيئاً، وإنما يتركها تذوب تحت اللسان بحيث إنها تمتص من الأغشية المخاطية الموجودة في اللسان، فلا تفطر في هذه الصورة.
ويفطر الصائم بأكله الطعام والشراب ذاكراً ومتعمداً، وكذلك لو أكل شيئاً غير معتاد أكله، كأن أخذ حبة تراب فأكلها، فإنه يفطر بذلك، كذلك لو ابتلع خمسة ريالات، فهذا شيء لا يؤكل، ولكن لو حدث متعمداً فإنه يفطر بذلك، أما لو أنه حصل عن غير قصد فلا شيء عليه.
أما لو اختلط ريقه بما يمكن التحرز منه بتفله فإنه يفطر بابتلاعه، مثل الإنسان الذي يتوضأ ويتمضمض فيبقى الماء في فمه فيبتلعه؛ فإنه يفطر بذلك، لكن إذا تفل مرة واحدة فلا يلزمه أن يستمر في التفل كما يفعل البعض، وتأتي له حالة وسوسة، حتى إن بعضهم يقول: أحاول أن أحافظ على وضوئي من أجل ما أتوضأ وأنا صائم؛ لأني حين آتي إلى المضمضة ما أتمضمض، خشية أن أفطر بسبب ذلك! فهذه وسوسة من الشيطان، ليس هذا الشيء مطلوباً، وإنما تتمضمض كما تتمضمض وتتفل مرة واحدة وليس أكثر من ذلك، وبعد ذلك الماء الذي كان موجوداً في فمك يبقى له رطوبة، وأثر برودة في ريقك، وتظنه أنه ماء، ولا يلزمك أن تتفله.
بعض الصائمين قد يخلع ضرسه في نهار رمضان ويظل يتمضمض من أجل أن يوقف الدم، نقول: لن يقف الدم، بل سيزيد خروج الدم، وتشق على نفسك بذلك، لكن ضع عليه قطنة وعض عليها بقوة حتى يقف الدم بذلك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر