وبعد:
أما موضوع البشارة: فإن البِشارة يعرفها العلماء بأنها ما يُبِشِر به الإنسان غيره من أمر، وهي بكسر الباء (البِشارة) والبُشارة بضم الباء ما يُعطاه المُبشِّر بالأمر, أي: إذا بشرك إنسان فأعطيته شيئاً فهذه العطية تسمى: بُشارة, والأمر الذي بشرك به يسمى: بِشارة.
قال ابن الأثير رحمه الله: البُشارة بالضم ما يعطى البشير, وبالكسر الاسم، وسميت بذلك من البشر وهو السرور؛ لأنها تظهر طلاقة وجه الإنسان، وهم يتباشرون بذلك الأمر، أي: يبشر بعضهم بعضاً, والبِشارة إذا أطلقت فهي للبشارة بخير, هذا هو الأصل, ويجوز استعمالها مقيدة في الشر, كقوله تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران:21] وقد جاء في الحديث الصحيح في صحيح البخاري قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولكن المؤمن إذا حضره الموت بُشر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه, وإن الكافر إذا حضره الموت بُشر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه ...).
فالآيات التي فيها التبشير أو البشارة بالعذاب الأليم للكفار كثيرة, واستعمال البشارة في الخير هو الأصل, وقد ورد في القرآن في مواضع كثيرة، كقوله تعالى: فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [الصافات:101] وقال سبحانه: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71] وبشرت مريم بكلمة من الله, والبشارات التي ذكرت في القرآن كثيرة.
إذاً: إذا استعملت البِشارة في الشر فلا بد من استعمالها مقيدة، مثلاً: بشر بعذاب ونحو ذلك, ولا يقال: بشر فقط بدون أن يذكر المبشر به.
والبشارة تكون من المخبر الأول بخلاف الخبر, فإنه قد يكون من الأول والثاني والثالث وكلهم مخبرون, أما البشارة فهي من المخبر الأول, فإذا جاء واحد وكررها فلا تكون بشارة, وكذلك الخبر قد يكون صادقاً أو كاذباً، أما البشارة فإنها تختص بالخبر الصادق السار غالباً.
والبُشارة ما يعطى المبشر، وهي تشبه الجعل الذي يعطى على عمل معين, لكن الجعل قبل العمل, فهو يقول: من فعل لي كذا أعطيته كذا.. والبُشارة تعطى بعد الإخبار بالأمر السار ولو لم يقل: من بشّرني بكذا أعطيته.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يبشر بالأمور الدينية كثيراً، فليس فقط لمن جاءه ولد أو مال أو هدايا أو نحو ذلك, بل كان صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يبشر بالأمور الدينية, وقد جاءه أعرابي كما في صحيح البخاري في كتاب المغازي فقال: (ألا تنجز لي ما وعدتني؟ -قيل: إنه وعده وعداً خاصاً، أو إنه وعده أن يعجل له نصيبه من الغنيمة- فقال له: أبشر، فقال: قد أكثرت من أبشر -الأعرابي لم يقبل أبشر أبشر كلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم- فأقبل الرسول صلى الله عليه وسلم على
والنبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه بنو تميم قال: (يا بني تميم! أبشروا، قالوا: بشرتنا فأعطنا) هؤلاء أيضاً أعراب لا يفهمون البشرى إلا في الأمور المادية, والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اقبلوا البشرى) يريد أن يعلمهم شيئاً ينفعهم في معادهم وآخرتهم: (فتغير وجه النبي صلى الله عليه وسلم, فجاءه أهل اليمن فقال: يا أهل اليمن ! اقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم, قالوا: قبلنا، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يحدثهم عن بدء الخلق والعرش..) إلى آخر الحديث.
وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم بشر أصحابه بأن صلاة العشاء عند نصف الليل خير عظيم، قال: (أبشروا أن من نعمة الله عليكم أنه ليس أحد من الناس يصلي هذه الساعة غيركم).
فهذه كلها بشارات دينية عامة، وهناك بشارات دينية خاصة لبعض الصحابة, مثل قصة ثابت بن قيس لما غاب عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل: (يا رسول الله! أنا أعلم لك علمه, فأتاه فوجده جالساً في بيته منكساً رأسه فقال: ما شأنك؟ فقال: شر, كنت أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم فقد حبط عملي، فأتى الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال: كذا وكذا.. -فقال
والبشرى تكون في مناسبات كثيرة منها:
المريض, فقد عاد النبي صلى الله عليه وسلم أم العلاء , قالت: (عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريضة، فقال: أبشري يا
إذاً يبشر طالب العلم بالأجر إذا رئي أنه يطلب به وجه الله تعالى.
وينبغي أن تكون نفسية التبشير للآخرين والفأل الحسن وانشراح الصدر والوجه الطلق هي سمة المؤمن, فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً وأبا موسى إلى اليمن قال: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا).
ولذلك يجب على الخطيب ألا يكون حديثه ووعظه للناس في صفة النار وحال أهلها فقط دون أن يخبرهم بصفة الجنة, وما أعد الله لأهلها وما فيها من النعيم المقيم وأنواعه, بل عليه أن يجمع بين الترغيب والترهيب، وينبغي أن نراعي حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه: (إن رحمتي سبقت غضبي).
وكذلك ولد عمرو بن العاص عند وفاة عمرو بن العاص قال له: ألم يقل لك النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا..؟ ألم يبشرك بكذا وكذا..؟
إذاً: فالبشرى بموت طاغوت أو طاغية من آداب هذه الشريعة.
وقد عنون له أبو داود: باب في إعطاء البشير.
وكذلك وردت رواية أخرى في صحيح البخاري, في كتاب تفسير القرآن، يقول كعب رضي الله عنه: أنه في هذه الواقعة لم يكن من شيء أهم إليّ من أن أموت فلا يصلي علي النبي صلى الله عليه وسلم, يعني كان همه الذي أهمه وقت هجره ومنع النبي صلى الله عليه وسلم الناس من كلامه, يقول: كان الهم الذي أهمني وأقلقني أن أموت في هذه الليالي التي أنا مهجور فيها، فلا يصلي علي النبي صلى الله عليه وسلم، أو يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكون من الناس بتلك المنزلة، فلا يكلمني أحد منهم ولا يصلي ولا يسلم علي, فكلاهما بالنسبة له مزعج جداً, فأنزل الله توبته على نبيه صلى الله عليه وسلم حين بقي الثلث الآخر من الليل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة، وكانت أم سلمة محسنة في شأني معنية في أمري, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا
إذاً: الصحابة كانوا مهتمين بتبشير كعب.
وفي القصة المعروفة المشهورة لما جاء البشير كعباً أعطاه ثوبيه, قال ابن القيم رحمه الله: "وفي نزع كعب لثوبيه وإعطائهما للبشير دليل على أن إعطاء المبشرين من مكارم الأخلاق والشيم, وعادات الأشراف, وقد أعتق العباس غلامه لما بشره أن عند الحجاج بن علاط من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يسره, قال: وفيه دليل على جواز إعطاء البشير جميع ثيابه" طبعاً بدون كشف عورته أمام الناس، لكن يجوز أن يعطيه جميع ثيابه, وكذلك قول بعض الناس: هات البشارة, فهذا له إشارة في كلام أهل العلم أنه يعطى.
والبشارة سواء كانت في الأمر الطيب الديني أو الأمر الطيب الدنيوي مثل الولد أو المال فلا شك أنها مما يثاب عليها, ويعطى فيها, والحديث يدل على التسابق في تبشير المسلم بالخبر السار, وأن المسلم إذا صار له شيء طيب من باب المشاركة الشعورية له أن يتسابق إخوانه في تبليغه, لذلك لما أرسل عمر ابنه عبد الله إلى عائشة يستأذنها أن يدخل مع صاحبيه، ثم أقبل عبد الله قال عمر : ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين! أذنت, فقال: الحمد لله، ما كان شيء أهم إلي من ذلك.
وذكر البشارة للناس أو تبشير من يريد من الناس, لو جاء أحد وقال: أعطني كذا أو أريد منك خدمة فتقول له: أبشر، فهذا لا شك أنه من الأمور الطيبة التي جاءت بها السنة, فإن الناس لما سمعوا في المدينة أن مالاً جاء به أبو عبيدة من البحرين، جاءوا النبي عليه الصلاة والسلام بعد صلاة الفجر, فقال: (أظنكم سمعتم أن
إذا أتى إليك شخص يريد شيئاً بمقدورك أن تعمله له فقل له: أبشر, كأن يريد منك مالاً أو مساعدة أو يريد أن تعينه بأمر من الأمور فتقول له: أبشر, فهذا مما ورد في السنة.
إذاً: من آداب المبشر أنه يسجد شاكراً لله, وأنه يعطي من بشره.
كذلك المرأة إذا جاء من يخطبها من أهل الصلاح فإنه يقال لها: أبشري, كما جاء عند أبي داود والحديث صحيح أن زينب لما انقضت عدتها أرسل النبي عليه الصلاة والسلام زيداً ليذكره عندها, فقال زيد: (يا
وكذلك من الأحكام الشرعية المتعلقة بلفظة البشارة: أن المرأة التي توفي عنها زوجها لا يجوز أن تخطب في العدة إلا تعريضاً, ولا تخطب تصريحاً بل تلميحاً, ومن الكلمات التي أوردها العلماء في التلميح للمرأة إذا مات زوجها وهي في العدة لمن أراد أن يخطبها أن يقال لها: أبشري, كما جاء في صحيح البخاري في كتاب النكاح, عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ [البقرة:235] قال: يقول: إني أريد التزوج، ولوددت أنه تيسر لي امرأة صالحة, وقال القاسم: يقول: إنك علي كريمة، وإني فيك لراغب, وإن الله لسائق إليك خيراً أو نحو هذا, وقال عطاء : يعرِّض ولا يبوح، يقول: إن لي حاجة وأبشري وأنت بحمد الله نافقة, وتقول هي: قد أسمع ما تقول، ولا تعد شيئاً ولا يواعد وليها.. إلخ.
إذاً: كلمة أبشري من الكلمات التي يجوز لمن يخطب امرأة في عدة الوفاة أن يقولها فتكون من التلميح لا من التصريح, وبعض الفقهاء قال: عبارة: لا تسبقيني بنفسك, يجوز أن يقولها لها، ومن الطرائق قالوا: إن رجلاً مات فخرجت امرأته -طبعاً المرأة لا تتبع الجنازة- في جنازة، فاقترب منها رجل فقال لها: لا تسبقيني بنفسك, فقالت: قد سبقت, أي: في واحد جاء قبلك وخطب.
فهذا بعض ما يتعلق بآداب البشارة، وهي من الأخلاق الإسلامية الجميلة التي ينبغي المحافظة عليها ونشرها وإشاعتها في مجتمع المسلمين.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يبشرون عند موتهم بجنات النعيم، وأن يختم أعمالنا بالصالحات, والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر