قال الله عز وجل في سورة فاطر: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ [فاطر:9].
في هذه الآيات من سورة فاطر يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى بعظيم قدرته وبديع فعله في الرياح التي يخلقها ويسيرها كما يشاء، ويرسلها ويقبضها كما يشاء سبحانه وتعالى، فقال هنا عن إرسالها: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فالله يرسلها، وهو الذي يمسكها ويقبضها كما يقول سبحانه إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ [الشورى:33] فهي بيد الله سبحانه، إن شاء أرسلها نسيماً خفيفاً طيباً، أو ريحاً عاصفة شديدة، أو ريحاً قاصفة مغرقة، والله يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى، فهو يخبرنا في هذه الآية عن آية من آياته في هذه الرياح العجيبة التي يسخرها سبحانه وتعالى، والتي هي جند من جنده سبحانه، تأتي العباد برزق الله سبحانه وتعالى, وتتحرك كما يشاء الله، فتأتي من المشرق والمغرب والشمال والجنوب كما يشاء الله عز وجل، وتأتي بالروح والرحمة من الله، وتأتي برزق الله سبحانه وتعالى, فالرياح تثير السحاب، ثم تنزل من السحاب أمطاراً، فينزل منها البرد، وينزل منها ما يشاء الله سبحانه وتعالى, وقد يجعلها تأتي على مكان من جميع الأماكن، فتأتي الرياح في منطقة من المناطق فتحرك الأمواج من مكان إلى مكان، وقد تحركها في مكانها فتصير دوامة في المكان نفسه، والله يفعل ما يشاء سبحانه فهذه الرياح جند لله سبحانه يسخرها كما يشاء.
بأني قد لقيت الغول تهوي بسهب كالصحيفة صحصحان.
فأضربها بلا دهش فخرت صريعاً لليدين وللجران.
فيقول: إنه لقي الغول، والغول عفاريت، فهو يحدث عن شجاعته، وأنها وصلت إلى درجة عظيمة بالغة حيث أنه قابل الغول لوحده في الصحراء، وكان العرب يمرون في الصحراء فتتغول الغيلان والجن، وتستهزء وتلعب بهم، فيخافون ويرتعبون ثم يشركون بالله سبحانه فيقول أحدهم: أعوذ برب هذا الوادي، يعني: استعيذ بسيد الجن في هذا الوادي، فتفرح الجن؛ لأن العرب أشركوا بالله سبحانه وعبدوهم وتعوذوا بهم من دون الله سبحانه فتتركهم يمرون، فهذا يقول: أنا قابلت الجن وحدي في الصحراء، فقال: بأني قد لقيت الغول تهوي, أي: آتية تجري نحوي , بسهب في الصحيفة صحصحان، وسهب هو الفلاة، يعني: في صحراء واسعة منبسطة مثل الكتاب الواسع، صحصحان أي: أرض مستوية واسعة، فأضربها بلا دهش فخرت. فانتقل من بأني قد لقيت في الماضي إلى فأضربها بالمضارع، فكأنه يقول: استحضر الحال، وانظر إلي وأنا اضربها الآن ضربة شديدة، فيقول: فأضربها بلا دهش، أي: بلا خوف، فخرت صريعة لليدين وللجراني، يعني: لليدين وللفم أو للرقبة، بمعنى: سقطت على الأرض، فهذا من الأساليب البديعة عندهم أن يعبر بالماضي ثم يعبر بالمضارع, أو يعبر بضمير الغائب وبعد ذلك يعبر بضمير المتكلم أو ضمير المخاطب، وهنا ربنا سبحانه تبارك وتعالى يقول: (( وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ)) أي: أثارت السحاب وحركته، يقال: أثرت أرنباً من مكان، أي: أفزعته وحركته وجعلته يجري، فكذلك الريح تحرك السحاب من مكان إلى مكان.
وقوله تعالى: (فسقناه): رجع إلى لفظ الماضي مرة ثانية وهذا من التفنن في الخطاب، فكأنك تنظر إلى عظمة الله سبحانه بالتدبر في آياته ومخلوقاته في هذا الكون، فانظر إلى هذه الريح التي أرسلها الله، فأنت لم تر إرسال الريح ولكن ترى السحاب وهي تجتمع في السماء سحابة مع سحابة، ثم تساق السحاب بواسطة الرياح، فعندما ترى السحاب تخمن نزول المطر، فكأنه يحضر لك الحال أمامك.
قوله تعالى: فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ قرأها بَلَدٍ مَيِّتٍ المدنيان نافع ، وأبو جعفر ، وحفص عن عاصم ، وحمزة والكسائي ، وخلف ، وباقي القراء يقرأون إِلَى بَلَدٍ مَيْتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ [فاطر:9] والمعنى: جاءت الحياة إلى هذه الأرض الميتة من عند الله سبحانه وتعالى، وأراد أن يريكم حاجتكم إليه سبحانه، فكل إنسان محتاج إلى ربه سبحانه، ومحتاج إلى هذه الرياح ومحتاج إلى المطر، ومحتاج إلى الماء، ومحتاج إلى الثمار والحبوب، ومحتاج إلى هذه الأرض، ومحتاج إلى رحمة الله سبحانه.
وقد اكتشف العلماء بأنه يصعد من البحار والمحيطات ثلاثمائة وثمانون ألف كيلو، والذي ينزل على البحار والمحيطات مائتان وأربعة وثمانون ألف كيلو، والباقي يتوجه إلى اليابسة وينزل فيها، فتنبت الحقول والبساتين كما يشاء الله سبحانه وتعالى، فنلاحظ أن الذي صعد من سطح اليابسة ستون ألف كيلو، والذي ينزل على اليابسة ستة وتسعون ألف كيلو، فالذي ينزل على الأرض من الماء أكثر مما يتبخر منها، فالقدر الذي يرتفع يحركه الله عز وجل كما يشاء لينبت للعباد الحبوب والثمار وما يشاء سبحانه، وينزل عليهم الأمطار يستقون منها ويسقون دوابهم منها والله يفعل ما يشاء.
فالله عز وجل يخيف هؤلاء بحده سبحانه، فمثل هذا الإنسان الذي يقطع الطريق على الناس بالسيف، ويقطع الطريق على الناس بالتخويف والتهديد، ويأخذ أموالهم ويقتلهم، فالله عز وجل جعل الحكم عليه أن يقتل أو يصلب أو تقطع يداه ورجلاه من خلاف أو ينفى من الأرض، فهذا جزاؤه في هذه الحياة الدنيا، فإذا رأى الناس قاطع الطريق الذي كان يقطع على الناس الطريق، ويخيف الناس ويفزعهم، ويأخذ أموالهم ويقتلهم، قد قتل وصلب أمامهم فإنهم سيخافون من ذلك، وإذا رأوا فلاناً الذي أخذ أموال الناس كرهاً قطعت يده ورجله فإن الشخص سيخاف أن يفعل به مثل هذا الشيء، فيأمن الناس في بلادهم، وينزل الله البركات من السماء، ويخرج البركات من الأرض، ففعلاً حد واحد يقام في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحاً.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على شكره وذكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم, وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر