يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
ما زلنا مع حديث الشفاعة، وفي الكلام عن المقام المحمود العظيم الذي شرف الله به نبيه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، في حين أن كل نبي يقول: نفسي نفسي، ويحيلها على غيره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا لها، أنا لها)، وفي بعض الروايات يقول: (أمتي أمتي)، وذلك رحمة وشفقة منه صلى الله عليه وسلم كما سنبين، ومن الأحاديث التي أوردها المصنف: ما جاء في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لكل نبي دعوة يدعو بها، فأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة).
إن من الفوائد العظيمة في حديث الشفاعة: حكم أهل الكبائر، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)، وفي بعض الروايات: (أنه يستأذن على ربه كثيراً، وكلما دخل على الله استأذن عليه، فسجد فحمد الله بمحامد يعلمه الله إياها ما كان يعلمها وهو في الدنيا، فيحمد الله بها، ويثني عليه بها، فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطى، واشفع تشفع، فيقول صلى الله عليه وسلم: أمتي أمتي، ثم يأمره الله أن يذهب فيخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، أو من في قلبه مثقال ذرة من إيمان)، يعني: من أصحاب الكبائر وغيرهم، لكن الأصرح منه قوله عليه الصلاة والسلام: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي).
فهذه الآية تبين لنا المعتقد الصحيح لأهل السنة والجماعة، الذين يعتقدون أن أهل المعاصي والكبائر ليسوا كفاراً، وأنهم ليسوا مخلدين في نار جهنم أبداً، بل هم في مشيئة الله جل في علاه، إن شاء غفر لهم، وإن شاء عذبهم بذنوبهم، ثم مآلهم بعد ذلك إلى الخلود في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أكد كفر صاحب المعصية، فنزع عنه اسم الإيمان.
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم جزم بأن صاحب المعصية من أصحاب النار.
ومنها: تأكيد رسول الله أن صاحب المعصية لا يدخل الجنة.
فهذه أربعة من الأدلة التي إذا نظر إليها الغر الذي لا يعرف دقائق العلوم قال: إن هؤلاء القوم عندهم من الكتاب والسنة ما لا يستطيع أحد أن يواجههم به.
ونأتي هنا إلى أدلتهم التي استدلوا بها على كفر من فعل المعصية، فحديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين قال فيه: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، يعني: أن من رفع السلاح على أخيه، أو أشهره عليه وقاتله، فإنه كافر؛ لتصريح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وآكد من ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، قالوا: الفسوق هنا قرين للكفر، محتجين بالآية: فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [آل عمران:82]، يعني: الكافرون.
فالفسوق هنا كفر عندهم، وقالوا: المذكور في الحديث ليس من الصغائر ولا المخالفات فقط بل من الكفر، وكل واحدة أشد من الأخرى، فهذا تصريح من النبي صلى الله عليه وسلم بكفر فاعل هذه المعصية.
واستدلوا أيضاً بما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثنتان في أمتي هما بهم كفر، منها: النياحة على الميت)، وفي رواية (الاستسقاء بالنجوم)، وفي رواية أخرى: (الطعن في الأنساب).
وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم سمى هذا الفعل كفراً، وهو اللطم على الخدود، أو النياحة على الميت، أو الطعن في الأنساب.
أما الصنف الثاني من أدلتهم: فهو تأكيد رسول الله بأن فاعل المعصية كافر، فنزع عنه اسم الإيمان، وإذا نزع عنه اسم الإيمان فقد حل محل الإيمان الكفر، وذلك في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، أي: أنه لا يزني الزاني حين يزني إلا وهو كافر، فقالوا: وكذلك لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، وغير ذلك من المعاصي.
وأيضاً قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم نزع الإيمان عن أكثر من واحد فعل هذه المعاصي، ومن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا إيمان لمن لا أمانة له)، فإن قلت: إنه ليس بمؤمن فهو كافر -هذا على حد قولهم-، قالوا: وقد سماه أولاً كافراً، وأكد ذلك بأن فاعل المعصية لا يسمى مؤمناً.
والصنف الثالث من أدلتهم: أنهم قالوا: لقد جزم النبي صلى الله عليه وسلم بدخول فاعل المعصية النار، والأدلة قد صرحت بأنه من أهل النار، قال الله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ [النساء:93]، ثم أكد أنه من أهل النار بقوله: خَالِدًا فِيهَا [النساء:93].
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من تحسى سماً فهو في نار جهنم يتحساه خالداً مخلداً فيها)، وقال: (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالداً مخلداً فيها).
وأيضاً: قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10].
والصنف الرابع من الأدلة: تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم بأن فاعل المعصية لا يدخل الجنة، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يدخل الجنة قاطع رحم)، وأيضاً قال: (لا يدخل الجنة قتات)، وقال: (لا يدخل الجنة ديوث)، فكل هذه الأحاديث تثبت عدم دخوله الجنة، وهي أدلة متواترة تعضد القول بأن صاحب المعصية يدخل النار ولا يدخل الجنة، وإذا قلنا: إنه يدخل النار ولا يدخل الجنة، فهو خالد مخلد في نار جهنم.
فهذه هي أصناف الأدلة الأربعة التي استدل بها هؤلاء على كفر صاحب المعصية كفراً يخرجه من الملة، فيستحق بذلك الخلود في نار جهنم.
وأهل الحق عندما يذكرون الفرق بين الإسلام والإيمان والإحسان يقولون: كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمن؛ لأن الإسلام أقل مرتبة من الإيمان، فالمسلمون كثر، ولكن أهل الإيمان أقل، فالإيمان أعم من جهة أنه إسلام وزيادة، فيترقى المرء في سلم القرب إلى الله بالإسلام أولاً، ثم بالإيمان، فالذي يسقط عن مرتبة الإيمان لا ينزل إلى الكفر مباشرة؛ لأن هناك مرتبة تحت الإيمان وهي الإسلام، وفوق درجة الإيمان والإسلام درجة الإحسان، والإسلام أعم من جهة أنه يدخل تحته من الناس أكثر مما يدخل تحت الإيمان، فإذا كان المسلمون كثراً، فإن المؤمنين أقل منهم.
ولكننا نتكلم أولاً عن المقدمة وأدلتها: قال تعالى عن الكفار: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:48]، وقال على لسانهم: فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء:100-101]، وجاء في سورة البقرة في أكثر من آية قوله تعالى: وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:48]، فالكفرة لا شفاعة لهم، ولا شفاعة تنفعهم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يثبت أن أهل الكبائر تنفعهم الشفاعة، فالمقدمة الأولى: أن الشفاعة ملغاة عن الكفار، والمقدمة الثانية: أن أهل الكبائر لهم شفاعة، وليست ملغاة عنهم، ونتيجة المقدمتين: أن أهل المعاصي من أهل القبلة مؤمنون وليسوا من الكفار.
وأول دليل في ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)، ووجه الدلالة في الحديث أمران: الأمر الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (شفاعتي لأهل الكبائر)، إذ سماهم: أهل الكبائر، وجعل لهم الشفاعة، والثاني قوله: (من أمتي)، فجعلهم من أمة الإسلام، وأنا أقول ذلك؛ لأنه جاء حديث في مسند أحمد بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أمة إلا وفيهم أهل الجنة، وأهل النار)، أو قال: (ما من أمة إلا وبعضهم في الجنة، وبعضهم في النار)، أي: أن بعضهم اتبعوا الرسل، وبعضهم كفروا بالرسل، ونهاية الحديث: (ما من أمة إلا وبعضهم في الجنة، وبعضهم في النار، إلا أمتي فكلهم في الجنة)، وهذا الإشكال في حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ويحتاج إلى حل، إذ أن معناه: أن كل أمته في الجنة؛ لعموم قوله: (أمتي) والجواب أن المقصود بقوله: (أمتي) هنا: أمة التوحيد الذين أجابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد يكون هناك من اسمه مسلم، ولكنه من الكفر بمكان، فهذا ليس من أمة محمد حقيقة، وإن أكل مع المسلمين، وتزوج من المسلمين، وإن ورث المسلمين، لكنه ليس من أهل الإسلام حقيقة، فقول النبي صلى الله عليه وسلم (وأمتي كلهم في الجنة)، يعني: الذين استجابوا لي، فهم من أهل الجنة.
وهذا يعضد القول بأن الشفاعة تقع لأهل الكبائر، وأن أهل الكبائر ليسوا من الكافرين.
ومن الأدلة على ذلك أيضاً: إخبار الله جل في علاه أن كل ذنب كائن من سرقة، أو كذب، أو ربا، أو عقوق الوالدين، وغير ذلك من الكبائر، فكله تحت مشيئة الله، وأن الله قد يغفره إلا الشرك، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48]، ثم قال: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].
فما دون الشرك من كل الذنوب والكبائر فهو تحت مشيئة الله جل في علاه.
وكذلك: إن أسعد الناس بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم الذين قالوا لا إله إلا الله، وهناك أدلة كثيرة جداً تثبت أن من قال: لا إله إلا الله، فإنه من أهل الجنة، إما من أول وهلة، وإما أن يعذب ثم يدخل الجنة، وفي ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة، ولو كان يوماً من الدهر).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ بن جبل : (وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله الله خالصاً من قلبه دخل الجنة)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: (من قال أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق، دخل الجنة على ما كان من عمل)، أي: على أي عمل أتى به؛ لأنه أتى بالتوحيد، فهذه الأدلة قاضية بأن من أتى بالتوحيد ولو كان من أهل الكبائر، فإنه من أهل الجنة، وإن كان مآله الأول إلى النار فإن آخر مآله هو الجنة.
ومن الأدلة التي تثبت أن أهل الكبائر ليسوا من الكفار: تنصيص النبي صلى الله عليه وسلم على أن من أهل الكبائر من يكون من أهل الجنة، وذلك في حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بشرني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد! من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، فتعجب
ومعلوم أن الزنا والسرقة كبيرتان، لكن النص يؤكد هنا أن المرء وإن زنى وإن سرق فهو من أهل الجنة، وفي الحديث: (قال: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، وإن رغم أنف
ثم قد جاء أن فعل السيئات غفرانها داخل في المشيئة؛ لقول الله تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا [التوبة:102]، ثم قال الله تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [التوبة:102]، إذاً: هم في مشيئة الله جل في علاه.
وفي حديث عبادة في الصحيحين قال: (بايعنا النبي صلى الله عليه وسلم على ألا تشركوا بالله شيئاً، ولا تزنوا ولا تسرقوا، ثم قال: فمن ارتكب من ذلك شيئاً فعوقب به، فهو كفارة له، وإن ستره الله فأمره إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له).
فأهل الكبائر تحت مشيئة الله، ورحمة الله قد سبقت غضبه، فهم إلى رحمة الله أقرب منهم إلى عقابه جل في علاه، وهذا يستدل به على أن الحدود كفارات، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فعوقب به فهو كفارة له) أي: من عوقب على الزنا، أو على السرقة، بأن جلد مائة جلدة، أو قطعت يده بالسرقة، فهذه الحدود كفارة له، وفي هذا دلالة على أن فاعل الكبيرة ليس بكافر، ووجه الدلالة: أن الكفر لا كفارة له، ولا شيء يكفره أبداً، بل لا بد على صاحبه أن يتوب من الكفر، فإذا رأينا أن الله قد جعل للرجل كفارة للمعصية، فإننا نعلم بذلك أن تلك المعصية ليست بكفر، وأن صاحبها ليس بكافر.
والذي يوضح لنا هذا جلياً حديثان:
الحديث الأول: حديث المرأة الغامدية التي زنت، فقد جاءت إلى رسول الله وقالت: (يا رسول الله! طهرني، فإني حبلى من الزنا، فأرجعها النبي صلى الله عليه وسلم حتى تلد، ثم أرجعها حتى ترضع، وبعد أن انتهت من الرضاعة أخذها النبي صلى الله عليه وسلم فأقام عليها الحد ، فكان
وفي هذه القصة دلالة على أنها كانت عاصية بزناها، وأن الرجم كان لها كفارة، فليست بكافرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس -يعني: صاحب ربا- لقبلت منه)، وهذه دلالة على عظم إثم صاحب المكس.
الحديث الثاني: حديث الغامدي : (عندما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم واعترف بالزنا، فرجمه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما قال: لا ترجموني وخذوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأنه يريد أن يرجع عن قوله، فألقموه الحجارة حتى قتل رضي الله عنه وأرضاه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو تركتموه لتاب وتاب الله عليه)، ثم بعد ذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه في أنهار الجنة يسبح فيها، مع أنه قد فعل كبيرة وهي الزنا؛ وذلك لأن القتل أو الرجم حتى الموت قد نحى عنه هذا الزنا، فلا يسأل عنه أمام ربه جل في علاه.
وهذه دلالة قاطعة دامغة على أن صاحب الكبيرة ليس بكافر، وأنه من أهل الإيمان، لكنه مؤمن ناقص الإيمان، وهو في دائرة الإسلام لا في دائرة الإيمان، فإذا اعتقدنا هذا الاعتقاد الصحيح وجب علينا أن نرد على الشبه التي قالها أهل الضلالة من الخوارج والمعتزلة.
وإن قيل لهم: أين هو في الآخرة؟ قالوا: في النار خالداً مخلداً فيها، فيقال لهم: إذاً: قولكم هذا هو قول الخوارج.
فنحن قلنا: إن صاحب الكبيرة لا يكفر بحال من الأحوال إلا من قتل نبياً، فهذه المسألة فيها كلام آخر عند العلماء.
فلو أتى الرجل بأكبر الكبائر دون الشرك فهو ليس بكافر، وعلى ذلك نرد على هؤلاء الذين ابتدعوا هذه البدعة الشديدة، فإن كلامهم قد يشوش على العقل الذي لا يعلم الأدلة، ويجعل صاحبه في حيرة من أمره، وأدلتهم كما سبق هي عدة أحاديث منها: حديث: (ثنتان في أمتي هما بهم كفر، وذكر منها: النياحة على الميت ...)، وحديث: (لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض)، وحديث: (ليس منا من لطم الخدود)، وحديث: (من غشنا فليس منا)، وحديث: (برئت الذمة ممن جلس بين أظهر المشركين).
فأما الحديث الأول: فقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم فعل الكبيرة كفراً، والقاعدة عند أهل السنة والجماعة: أن كل كفر جاء نكرة فالمقصود به كفر دون كفر، وهذا ثبت بالاستقراء والتتبع، فإن أبى علينا أهل البدعة والضلالة وقالوا: الأصل في الكفر هو الكفر الأكبر، فنقول: تعالوا لننظر هل هناك قرائن صرفت هذا الكفر الأكبر أم لا؟ وعندها نظهر لهم القرائن الكثيرة التي دلتنا على عدم إرادة الكفر الأكبر، فحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وما حدث بين علي ومعاوية : هي فتنة ظهرت، فقال الخوارج: هؤلاء كفرة؛ لأنهم حكموا الرجال وما حكموا الله جل في علاه، فهل معاوية وعلي ينطبق عليهم هذا الحديث؟ الجواب: لا؛ بدون أي شك، فقد قال الله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات:9]، ولم يقل: وإن طائفتان من الكفار، بل سماهم مؤمنين، فسمى الطائفة الأولى طائفة مؤمنة، وسمى الطائفة الثانية طائفة مؤمنة، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً)، يعني: كفراً دون كفر؛ لأن الله جل وعلا قد سماهم في القرآن مؤمنين.
وكذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم أثبت صرف الكفر إلى الكفر الأصغر، وذلك الحديث هو: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ابني هذا سيد سيصلح الله به بين طائفتين من المسلمين)، والابن المراد هنا: هو الحسن بن علي ، وسماهم مسلمين، والنبي صلى الله عليه وسلم هو نفسه الذي قال: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وسماهم كفاراً في هذا الحديث، وفي الحديث الآخر سماهم بالمؤمنين، فهذه دلالة على أن الكفر هنا غير مراد به الكفر الأكبر، ولكنه الكفر الأصغر فهو معصية وكبيرة ولا يصل إلى الكفر، ولو أتينا بهذا مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)، فيكون المراد: الكفر الأصغر، وليس الكفر الأكبر.
إذاً: فقد سمى الله المتقاتلين مؤمنين، فكيف نكفرهم نحن؟ فإن الله تعالى يقول: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9].
وأما استدلالهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم تبرأ من فاعل المعصية، والتبرؤ لا يكون إلا من الكفار، وذلك حيث قال: (من غشنا فليس منا)، وقال: (برئت الذمة ممن جلس بين أظهر المشركين).
فالرد على هؤلاء أن نقول: إن البراءة براءتان: براءة مطلقة، وبراءة مقيدة، فالبراءة المطلقة: تكون من الكفر، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يتبرأ من أحد مطلقاً إلا إذا كان كافراً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تراءى نارهما)، يعني: الكافر والمسلم.
وأما البراءة المقيدة: فإنها تكون براءة من عمل هذا الفعل، لكن صاحب العمل ليس بكافر، وإن كنا نبغض هذا العمل منه، ودليل ذلك من الكتاب والسنة، أما من الكتاب: فقد قال الله تعالى: فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [الشعراء:216]، والبراءة هنا من العمل وليست من نفس الشخص المسلم، وأيضاً: عندما قتل خالد الذين قالوا: صبأنا، ولم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع
فالبراءة هنا براءة مقيدة، وليست براءة مطلقة، يعني: أن البراءة من شخص براءة مقيدة لا تدل على أنه كافر حتى وإن أتى بالمعصية، فإننا نتبرأ من هذه المعصية، وقد نحب المرء ونبغضه، أي: نحب المرء لتوحيده ولإسلامه، ولطاعته ولصلاته ولزكاته، ونبغضه لزناه ولشربه الخمر، ونبغضه لفجره، ونبغضه لفعله الفاحشة، فقد نبغضه من وجه، ونحبه من وجه آخر، فالبراءة منه هنا تكون براءة مقيدة بالعمل فقط، وليست براءة كلية مطلقة.
أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثنتان من أمتي هما بهم كفر، فذكر النياحة على الميت ...) فالمراد هنا بالكفر: كفر دون كفر؛ لأن النائحة اللاطمة على وجهها ليست بكافرة، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم وضح أنه في عرصات القيامة تأتي ... النائحة ثم ينظر سبيلها إلى الجنة أو إلى النار، والكافر لا ينظر سبيله إلى الجنة أو إلى النار، بل سبيل الكافر إلى النار خالداً مخلداً فيها، فهذه دلالة من النبي صلى الله عليه وسلم على أن الأحاديث التي قالها واستدل بها المبتدعة محتملة، وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث أخرى، فنرد المشتبه أو المحتمل إلى المقطوع به، فيدلنا ذلك على أن كل مؤمن وحد وقال: لا إله إلا الله، وسجد لله سجدة، فإنه لا يكفر بحال من الأحوال، ولو أتى بكل الكبائر، بل هو عاصٍ، وحكمه تحت المشيئة، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، وإن عذبه الله جل وعلا فإنما يعذبه بهذه المعصية حتى يصير حمماً، ثم يلقى في نهر الحياة، وبعد ذلك يدخل الجنة خالداً مخلداً فيها، فهذه أول الفوائد من هذا الحديث.
فانظروا إلى رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأهل الكفر، وذلك أنه قال لملك الجبال: (لا، لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً، أو من يوحد الله جل في علاه).
وأروع من ذلك: عندما مكن الله جل وعلا لرسوله من رقاب أهل الكفر جميعاً، حين دخل مكة متواضعاً مطأطأً رأسه؛ إرضاء لله جل في علاه، وذلك أنه دخل مكة فاتحاً، فقاموا جميعاً في صعيد واحد، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذهبوا فأنتم الطلقاء)، وذلك رحمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل الكفر.
وكذلك ورد أنه جاءه بعض المسلمين وقالوا: (يا رسول الله! ألا تدعو على المشركين؟ فقال: ما بعثت لعاناً، ولكني بعثت رحمة)، فأبى أن يدعو على المشركين رحمة منه صلى الله عليه وسلم، وهذا حديث صحيح.
ومن شفقة النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأمة: أنه كان إذا وجد الأمر الشديد ينزل بهذه الأمة يقول: (أبشروا أنتم ثلث أهل الجنة)، ثم قال: (أبشروا أنتم ثلثي أهل الجنة)، حتى كبر عمر رضي الله عنه وأرضاه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم مبشراً زيادة بأن الله سيحثو حثوات بيده سبحانه وتعالى فيدخلهم الجنة، فكبر عمر رضي الله عنه وأرضاه، وكبر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
ومن رحمة النبي بأمته: تذللـه وتضرعه وخضوعه لله إذ يقول: (أمتي أمتي)، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
وقد ظهرت رحمته بالجاهل قبل المتعلم: فهذا الرجل الذي قام يبول في ناحية المسجد، والمسجد يذكر فيه الله جل في علاه، ويذكر فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ويصلى فيه لله، ولكن هذا الأعرابي بال أمام الناس في المسجد، كاشفاً عن عورته، فقام الصحابة وأرادوا أن يفتكوا به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزرموه)، وهذا هو وجه الشاهد في رحمة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الرجل يبول وتنتشر نجاسته في المسجد، ومع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تزرموه)، أي: لا تقطعوا عليه بوله، ثم علمه النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه المساجد ما بنيت إلا لذكر الله، فقال الرجل بعدما رأى النبي صلى الله عليه وسلم لم ينهره: (اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لقد حجرت واسعاً).
ومن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأمة: (أن الأعرابي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ بمجامع ثوبه حتى أثر في صفحة عنق النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أعطني، ليس من مالك ولا من مال أبيك)، يقول ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم بكل شدة وجفاء، والنبي صلى الله عليه وسلم يبتسم له، ويأمر له بعطاء، فيقول للناس: أنا كالذي يربي الإبل ويعرف كيف يسيرها في معنى قوله صلى الله عليه وسلم.
وقد جاءه رجل يريد عطية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أعطيتك ورضيت فقل: رضيت)، لأنه تكلم مع النبي صلى الله عليه وسلم بشدة وبغلظة، وكاد الصحابة أن يفتكوا به، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أرضيت؟ قال: رضيت، قال: إن أصحابي ينظرون إليك نظرة أخرى)، أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: (سأقوم في الناس، وأقول لك أرضيت؟ فقل: رضيت)، يعني: حتى لا ينتهره الصحابة رضوان الله عليهم فقال: رضيت، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال للرجل: (أرضيت؟ قال: ما رضيت -أمام الصحابة- ومع ذلك رحمه النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاه مرة ثانية وثالثة وبعد أن أعطاه قال: أرضيت؟ قال: رضيت، قال: إذا قلت لك أمام أصحابي: رضيت تقول رضيت؟ قال: نعم، فقام أصحابه فقال: أعطيت الرجل فرضي، أرضيت؟ فقال: رضيت، فسكت الصحابة عنه).
ومن أروع ما يدل على رحمته: قوله الذي يستحق أن يكتب بماء الذهب: (اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي، وكلما سجد قال: يا رب! أمتي أمتي)، حتى إن الله جل وعلا بعث له من يبشره ويسليه ويقول له: (إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك)، هذه آخر فائدة من هذا الحديث العظيم، وهو حديث الشفاعة، أسأل الله جل في علاه أن يديم علينا هذا الخير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر