أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) .
وها نحن مع سورة يوسف الكريم ابن الكريم ابن الكريم، وها نحن مع هذه الآيات، فهيا بنا لنصغي مستمعين تلاوتها مجودة مرتلة ونتدبر ونتفكر ثم نتدارسها إن شاء الله.
قال تعالى: قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ * فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ [يوسف:83-88].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يوسف:83]، من القائل؟ هذا نبي الله يعقوب، هذا صفي الله يعقوب عليه السلام.
لم قال هذا؟ رداً على قولهم الذي تضمنته هذه الآيات، إذ قالوا: ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [يوسف:81-82].
رد عليهم قائلاً: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا [يوسف:18]، ليست القضية كما عرضتموها علي، بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ [يوسف:83]، أي: زينت وحسنت لكم أمراً لا أعلمه.
فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يوسف:83] إذاً: فحالي.. فشأني.. فواقعي هو صبر جميل، والصبر الجميل هو الذي لا جزع معه.
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا [يوسف:83]، أي: بيوسف وبنيامين وروبيل الثلاثة، إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [يوسف:83]، العليم بحالي، الحكيم في تدبيره لي، فلهذا أنا أرجو من الله أن يأتيني بهم جميعاً.
وهنا تجلت له الرؤيا التي رآها ابنه، وعرف أنهم لا بد أن يأتوا كلهم وأن يخروا ساجدين له كما رأى الكواكب والشمس والقمر ساجدة له، انكشفت الحال له وتجلت هذه الحقيقة إما بإلهام أو بوحي من الله، فصرح فقال: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا [يوسف:83] لا بنيامين وحده، بل يوسف، وبنيامين، وروبيل الذي قال: أنا لا أبرح حتى يأذن لي أبي، وبقي في مصر.
يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ [يوسف:84]، مملوء بالآلام والكروب والحزن.
قال أهل العلم من السلف: ما كان في كتاب يعقوب وإبراهيم وإسحاق من قبل الاسترجاع، أي: قول (إنا لله وإنا إليه راجعون)، فهذه أنزلها الله في كتابه القرآن الكريم، وأصبحت من نصيب هذه الأمة.
فبدلاً من أن يقول: يا أسفي على يوسف يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، لكن ما كانت نزلت في الكتب السابقة ولا عرفوها، وإلا فالموقف هذا كان الأفضل فيه أن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، وفي القرآن الكريم: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:155-156].
وفي الحديث: ( ما من مؤمن يصاب بمصيبة فيقول: اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها إلا عوضه الله خيراً منها )، فهذه ثمرة طيبة لهذه الأمة إن لم تنسها وتتركها وتعرض عنها.
ما من مؤمن يصاب بمصيبة في ماله، في بدنه، في أي جزء من حياته ويسترجع فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها؛ إلا عوضه الله وآجره الله.
هنا يروي القرطبي في تفسيره الرواية التالية، ونحن لا نجزم بصحتها ولا نجزم بعدم ذلك؛ إذ هذا مروي عن علماء بني إسرائيل الذين دخلوا في الإسلام وأسلموا، إليكموها:
يقول: [ روي أن يعقوب كان يصلي ويوسف معترض بين يديه وهو طفل صغير، فغط الغلام في نومه فالتفت يعقوب إليه، ثم غط ثانية] والغطيط معروف: حركة النائم وصوته، [ فالتفت إليه يعقوب، ثم غط ثالثة فالتفت إليه سروراً به وبغطيطه] فرحاً به وبغطيطه، هذا أيام كان يوسف طفلاً في ديار فلسطين.
قال: [ فأوحى الله تعالى إلى ملائكته] أي: أعلمهم: [ انظروا إلى صفيي وابن خليلي].
انظروا إلى صفيي أي: يعقوب اصطفاه، وابن خليلي أي: ابن إبراهيم عليه السلام.
[انظروا إلى صفيي وابن خليلي قائماً في مناجاتي يلتفت إلى غيري!]
ولهذا عرفنا الآن أنه ليس هناك أبشع من أن تلتفت ببصرك أو برأسك وأنت تصلي، تترك الله ينظر إليك وتنظر إلى غيره! ولهذا كره الالتفات في الصلاة بالإجماع، وإن لم يبطلها لكنه ينقص الأجر وتقل به درجتها.
وانظر ماذا حصل ليعقوب في التفاتته ثلاث مرات.
قال: [ انظروا إلى صفيي وابن خليلي قائماً في مناجاتي يلتفت إلى غيري! وعزتي وجلالي! لأنزعن الحدقتين اللتين التفت بهما]، وبالفعل أصابه العمى، [ ولأفرقن بينه وبين من التفت إليه ثمانين سنة] وتم هذا، [ ليعلم العاملون أن من قام بين يدي يجب عليه مراقبة نظري إليه] كما أنظر إليه ينظر إلي لا يلتفت إلى غيري.
وجاء النهي عن الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا، إلا أن الالتفات إن كان بالبدن كله بطلت الصلاة، وإن كان برأسه أثم ولم يكتب له الأجر بكامله.
ويبقى الالتفات بالقلب، فقل من يسلم منه، إذا كان الله مقبلاً عليك بوجهه فكيف تلتفت وتنظر إلى غيره؟!
وإذا كان معك يصغي ويسمع ما تقول فكيف تتركه وتذهب بقلبك إلى السوق وإلى المنزل وإلى كذا؟
فلهذا إلى الله نشكو ضعفنا في هذه القضية!
كيف وأنت مقبل على الله والله معك وأنت تناجيه وتتكلم معه وبعد ذلك تتركه وتذهب هنا وهناك؟! أوما تستحي فتنظر إلى غيره؟!
نسأل الله أن يتوب علينا من ساعتنا هذه، وألا نلتفت ولا ننظر في صلاتنا إلى شيء.
ونعود إلى الآية الكريمة: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا [يوسف:83] كم هم؟ ثلاثة إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ [يوسف:83] أي: بأحوالي، وحاجتي، وفقري، وضعفي، الْحَكِيمُ [يوسف:83] في تدبيره لي وقضائه علي.
قَالُوا تَاللَّهِ [يوسف:85] أي: والله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ [يوسف:85] أي: لا تفتأ تذكر يوسف حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا [يوسف:85] أي: مشرفاً على الهلاك، الحرض: الإشراف على الموت، أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ [يوسف:85] أي: الموتى.
قالوا لوالدهم يعقوب عليه السلام، وحلفوا له بالله: تَاللَّهِ [يوسف:85] أي: والله تَفْتَأُ [يوسف:85] والأصل: لا تفتأ؛ لأن اللام هنا لا معنى لها؛ إذا الكلام يدل على وجودها بدونها، لا تفتأ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ [يوسف:85] حتى تشرف على الموت أو تموت.
قالوا هذا حزناً وكرباً وألماً على أبيهم، وما قالوه نقداً أو طعناً، بل قالوه بكاءً وتأسفاً وألماً إذ أبوهم يبكي ويتأسف ويتألم، تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ [يوسف:85].
وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [يوسف:86] قال لهم: إني أعلم من الله ما لا تعلمون، وهنا تجلت حقيقة أنه علم أن الله سيجمع له أبناءه وأنهم سيسجدون بين يدي يوسف وهو على سرير الملك كما سيأتي.
يَا بَنِيَ [يوسف:87]، أي: يا أولادي اذْهَبُوا [يوسف:87] إلى الديار المصرية، وهم الآن في فلسطين، اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ [يوسف:87] والتحسس كالتجسس، وهو التعرف في خفاء.
وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [يوسف:87] لا تقولوا: مستحيل أن يكون يوسف موجوداً، مستحيل أن يقع كذا وكذا، انزعوا هذا من أذهانكم ولا تيئسوا من روح الله، أي: من رحمة الله.
إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87] وهنا اليأس محرم، وهو من الكفر، فلو قال امرؤ: لن يتحقق لي كذا، أنا آيس من وقوع هذا؛ خرج من الإسلام؛ إذ لا ييأس من رحمة الله إلا القوم الكافرون، فمهما كان البلاء، ومهما اشتد الشقاء فالقلب مع الله، إن شاء أذهب ذلك البلاء وأبعده وحل محله النجاة والطهر والرحمة.
إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [يوسف:87] أي: من رحمته وشفقته بعباده إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87] الكافر ميت كما عرفنا، فلا إيمان له ولا حياة له، فلهذا ييأس ويقنط ولا يبالي؛ إذ قلبه ميت.
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ [يوسف:88] أي: ذهبوا إلى مصر في شهر.. في شهرين حتى وصلوا على الإبل، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ [يوسف:88] أي: على يوسف الذي هو الملقب بالعزيز ملك مصر، قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ [يوسف:88] أي: الحاكم.. السلطان.. الملك، مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ [يوسف:88] أصابنا وأهلنا الضر من الجوع والقحط والبلاء الذي نزل بنا.
وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ [يوسف:88] والبضاعة: النقود التي يشترون بها، أو المادة التي يشترون بها، بضاعة مزجاة مدفوعة لا تقبل، أكثر الناس والتجار لا يقبلونها لعدم صلاحيتها.
إذاً: فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ [يوسف:88] أنت بهذه البضاعة وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ [يوسف:88]، بعنا ببضاعة وإن كانت لا تصلح ومدفوعة من غيرنا، وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا [يوسف:88] أيضاً من فضلك إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ [يوسف:88].
والمتصدق: من يعطي الطعام أو الشراب أو المال إلى محتاج إليه، وسميت الصدقة صدقة؛ لأنها تدل على صدق إيمان صاحبها.
فرد عليهم قائلاً: إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف:85] لا إلى غيره، وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [يوسف:86].
وهنا أشار إلى أنه قد عرف أن الله سيجمع له أبناءه وتتم الرؤية كما رآها يوسف عليه السلام، ويخرون له ساجدين ولا يتخلف منهم أحد.
وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [يوسف:86] وقد أراه ولده تلك الرؤيا وعبرناها وقلنا: إنها حق، وهي لا بد أن تقع كما رويت.
يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ [يوسف:87] أي: اذهبوا إلى الديار المصرية وتحسسوا من يوسف؛ لأنه أصبح موقناً أن يوسف حي وموجود، واذهبوا إلى الديار المصرية لأنه بيع هناك.
فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ [يوسف:87] يعني: بنيامين، وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [يوسف:87] أي: من رحمة الله عز وجل، إِنَّهُ [يوسف:87] هذا تعليل، إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87] وأنتم مؤمنون، إذاً: فتحسسوا وتطلعوا علكم تعثرون على أخيكم؛ لأنه موجود وحي ما في ذلك شك عندي، وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87].
وذهبوا واستجابوا لأمر والدهم، ورحلوا من ديار فلسطين إلى الديار المصرية، ووصلوا ودخلوا على العزيز في قصره.. في مكان ملكه وحكمه، فقالوا: يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ [يوسف:88] يعني: مس نساءنا وأطفالنا الجوع والفقر، سنين جدب وقحط، وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ [يوسف:88] غير مقبولة، مدفوعة عند الناس لعدم صلاحيتها.
إذاً: فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ [يوسف:88] بها، كل لنا بها وأوف وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ [يوسف:88].
هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ [يوسف:89]؟ أما كذبتم على والده وأخذتموه للصحراء ثم رميتموه في البئر، ثم بعتموه عبداً رقيقاً؟! تذكرون هذا أو لا؟ ولا شك أن قلوبهم كادت تتمزق!
هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ [يوسف:89]؟ فلو كنتم عالمين لما تورطتم في هذه الورطة، ولا وقعتم في هذه الفتنة، ولكنه الجهل!
وهذا الذي نكرره دائماً ونقول: والله! ما أصابنا ولا يصيبنا من بلاء وشقاء وفتن وعذاب إلا من جهلنا، فلو كنا عالمين عارفين بربنا فوالله! لا كرب ولا حزن، والله يقول: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، فالفسق والفجور والظلم والشرك والباطل وكل ما نشكوه هو نتيجة الجهل!
لو علمنا ما فعلنا هذا، هذا يوسف عليه السلام يقرر هذه الحقيقة ويقول: إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ [يوسف:89]، لو كنتم عالمين فوالله! لن تفعلوا ذاك الفعل، ولن تأخذوا أخاكم وترموه في بئر، ثم حين يستخرج تبيعونه على أنه رقيق.
هذه الآية لنا: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ [يوسف:90] يجمع بين هاتين الفضيلتين أو بين أداء هذين الواجبين: أولاً: يتقي الله عز وجل، فلا يخرج عن طاعته لا في نظرة ولا في كلمة، ولا في لقمة، ولا يفجر ولا يخرج عن الطاعة بحال، ويصبر على ذلك صبر الكرام، فلا يرتكب ذنباً بترك واجب ولا بفعل محرم، ويصبر على ما قد يصيبه امتحاناً له وابتلاء.
فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90] الذين أحسنوا إيمانهم فآمنوا حق الإيمان، وأحسنوا طاعتهم فعبدوا الله بما شرع وأخلصوا له العبادة، هؤلاء لا يضيع الله أجرهم، ولهذا حصل الذي حصل.
ما زال السياق في الحديث عن قصة يوسف وإخوته.
إنه بعد أن أخذ يوسف أخاه بالسرقة ولم يقبل استرحامهم له بأخذ غيره بدلاً عنه انحازوا ناحية يفكرون في أمرهم، وهو ما أخبر تعالى عنه في قوله: فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا [يوسف:80] أي: اعتزلوا يتناجون في قضيتهم، قَالَ كَبِيرُهُمْ [يوسف:80] روبيل مخاطباً إياهم أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا [يوسف:80]؟ يذكرهم الميثاق الذي أخذه يعقوب عليهم لما طلبوا منه أن يرسل معهم بنيامين؛ لأن عزيز مصر طلبه، وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ [يوسف:80] أي: وذكرهم بتفريطهم في يوسف يوم ألقوه في غيابة الجب، وباعوه بعد خروجه من الجب. ومن هنا قال لهم ما أخبر تعالى به: فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ [يوسف:80] أي: أرض مصر حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي [يوسف:80] بالرجوع إليه أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي [يوسف:80] بما هو خير وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [يوسف:80].
ولما أقنعهم بتخلفه عنهم أخذ يرشدهم إلى ما يقولونه لوالدهم، وهو ما أخبر تعالى به في قوله عنهم: ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا [يوسف:81] أي: حيث رأينا الصواع يستخرج من رحل أخينا، وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ [يوسف:81] أي: ولو كنا نعلم أن أخانا يحدث له هذا الذي حدث ما أخذناه معنا أبداً، كما أننا ما شهدنا بأن السارق يؤخذ بالسرقة إلا بما علمنا منك يا والدنا ]، كما بينا حكم يعقوب وإبراهيم أن السارق يسترق.
وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا [يوسف:82] وهي عاصمة مصر وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا [يوسف:82] إذ فيها كنعانيون من جيرانك وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [يوسف:82] في كل ما أخبرناك به. هذا ما أرشد به روبيل إخوته.
ولما ذهبوا به واجتمعوا بأبيهم وحدثوه بما علمهم روبيل أن يقولوه، فقالوا لأبيهم؛ رد عليهم يعقوب عليه السلام بما أخبر تعالى به في قوله: قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا [يوسف:83] أي: زينت لكم أنفسكم أمراً ففعلتموه، فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يوسف:83] أي: فصبري على ما أصابني صبر جميل لا جزع فيه ولا شكاية لأحد غير الله، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا [يوسف:83] أي: بيوسف وبنيامين وروبيل إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ [يوسف:83] بفقري إليه وحاجتي عنده الْحَكِيمُ [يوسف:83] في تدبيره لأوليائه وصالح عباده.
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ [يوسف:84] أي: أعرض عن مخاطبتهم وَقَالَ يَا أَسَفَى [يوسف:84] أي: يا أسفي وشدة حزني احضر فهذا أوان حضورك عَلَى يُوسُفَ [يوسف:84].
قال تعالى مخبراً عن حاله بعد ذلك: وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ [يوسف:84] فغلب بياضهما على سوادهما، ومعنى هذا: أنه فقد الإبصار بما أصاب عينيه من البياض، فَهُوَ كَظِيمٌ [يوسف:84] أي: ممتلئ من الهم والكرب والحزن، مكظوم لا يبثه لأحد ولا يشكوه لغير ربه تعالى ].
والآن مع معنى الآيات التي درسناها الليلة أيضاً.
قال المؤلف: [ معنى الآيات:
ما زال السياق فيما جرى من حديث بين يعقوب عليه السلام وبنيه.
إنه بعدما ذكروا له ما جرى لهم في مصر أعرض عنهم وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ [يوسف:84].
فقالوا له ما أخبر تعالى به في قوله: قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ [يوسف:85] أي: والله! لا تزال تذكر يوسف حتى تصبح حرضاً مشرفاً على الموت أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ [يوسف:85] أي: الميتين.
فأجابهم بما أخبر تعالى به عنه: قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي [يوسف:86] أي: همي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [يوسف:86] يريد أن رجاءه في الله كبير، وأن الله لا يخيب رجاءه، وأن رؤيا يوسف صادقة، وأن الله سيجمع شمله به ويسجد له كما رأى.
ومن هنا قال لهم ما أخبر تعالى به: يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ [يوسف:87] أي: التمسوا أخبارهما بحواسكم، بالسؤال عنهما والنظر إليهما، وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [يوسف:87] أي: لا تقنطوا من فرج الله ورحمته، وعلل للنهي فقال: إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [يوسف:87] أي: من فرجه ورحمته إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87].
وامتثل الأبناء أمر الوالد وذهبوا إلى مصر وانتهوا إليها، ونزلوا بها، وأتوا إلى دار العزيز، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ [يوسف:88] قالوا ما أخبر تعالى به عنهم: قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ [يوسف:88] أي: من الجدب والقحط والمجاعة وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ [يوسف:88] أي: دراهم رديئة مدفوعة لا تقبل كما تقبل الجيدة منها، فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ [يوسف:88] بها وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا [يوسف:88] بقبولها على رداءتها إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ [يوسف:88] أي: يثيبهم على إحسانهم ويجزيهم به خيراً ].
من هداية الآيات:
أولاً: شدة الحزن تعرض صاحبها للحرض أو الموت ]، سنة ماضية في الخلق: شدة الحزن تعرض صاحبها للحرض أو للموت، للإشراف على الموت أو الموت، فلهذا يجب ألا يكرب المؤمن ولا يحزن أكثر مما ينبغي، بل يسترجع ويذهب ذلك من نفسه.
[ ثانياً: تحريم الشكوى لغير الله عز وجل ]، حيث قال يعقوب عليه السلام: أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف:86] أما الشكوى إلى فلان وفلان فلا تجدي ولا تنفع، بل لا تنبغي، فاشك يا عبد الله إلى ربك، اطرح بين يديه واذكر آلامك ومصابك، فالله يفرج.
[ ثالثاً: حرمة اليأس من الفرج عند الشدة والرحمة عند العذاب ] فقد عرفنا قوله تعالى: إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87]، فلا يحل لمؤمن أبداً أن ييأس من فرج عند شدة، أو رحمة عند عذاب.
مهما اشتد البلاء واشتد العذاب فلا ييأس المؤمن، يبقى في رجاء مع ربه عز وجل، أما الكافر فلا يلام لأنه كافر ما آمن بالله ولا عرفه.
من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87].
[ رابعاً: جواز الشكوى إذا كان المراد بها الكشف عن الحال للإصلاح أو العلاج ].
قلنا قبل هذا: لا يحل لمؤمن أن يشكو إلى غير الله، لكن هناك موطن يجوز فيه الشكوى: إذا كان المراد بها الكشف عن الحال للإصلاح أو العلاج، كأن يقول المحتاج: إني جائع، وهو جائع بالفعل، فيجوز، أو يقول: إني عار وهو عار وما هو بمستور فيجوز، وكأن يقول المريض للطبيب: أشكو ألماً في عيني أو في رأسي أو في قلبي، فهذا يجوز.
[ خامساً: فضل الصدقة وثواب المتصدقين ]، من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ [يوسف:88] بصدقة خير مما تصدقوا به.
والله نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر