إسلام ويب

غياب الاعتدالللشيخ : محمد الدويش

  •  التفريغ النصي الكامل
  • التوازن والاعتدال والوسطية سمة الشريعة الإسلامية، ومطلب ينشد في حياة المكلفين بها في عدة مجالات وميادين يصحبها في الغالب الغلو يمنة أو يسرة، كمجال العبادة والسلوك الشخصي وتقويم الأشخاص والهيئات، ومجال الظواهر الاجتماعية، والأحداث السياسية، والحياد عن هذا المطلب مصير إلى الغلو الذي ينشأ عن جملة من الأسباب والعوامل المؤدية إليه.

    1.   

    الاعتدال سنة الله في خلقه

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فأسأل الله تبارك وتعالى في هذه الليلة المباركة أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال ويجعلنا وإياكم ممن وفق لصيام هذا الشهر وقيامه إيماناً واحتساباً؛ إنه سميع مجيب.

    أيها الإخوة الكرام! الاعتدال هو سنة الله تعالى في خلقه، إن هذا الخلق كله قائم على هذه السنة، على سنة الاعتدال، ولو تأملت هذه الظاهرة في مظاهر هذا الخلق وسعيت إلى أن تحصي أفرادها وأمثلتها لضاق بك المقام.

    إن هذه الشمس التي تضيء للناس لو اقتربت من الأرض أكثر مما هي عليه لأحرقت الناس، وأحرقت هذه الأرض، ولو ابتعدت لتحولت الأرض إلى جليد، والقمر الذي يضيء في الليالي المقمرة ويتغزل الشعراء به ويهتفون، ويشبهون به من يصفونه بالجمال، لو زاد ضوؤه وصار كضوء الشمس لتحول الليل إلى نهار، ولغابت هذه الحكمة، فالله تبارك وتعالى جعل الليل سكناً، وجعل النهار معاشاً، وهكذا لو تأملت في كل مظاهر خلق الله عز وجل لرأيت أن ذلك كله قائم على الاعتدال، حتى ما يحبه الناس ويسعون إليه ويفرحون به له قدر إذا جاوزه صار منفراً، إن الناس يحبون الجمال ويسعون إليه وربما أنفقوا عليه مبالغ باهضة، لكن هذا الجمال له قدر إذا جاوزه صار مذموماً، فاللوحة الجميلة التي يعتني بها الرسام لو زاد فيها في نسبة الألوان أو في بعض العناصر التي يعتبر الناس أنها منطلق الجمال لتحولت إلى منظر قبيح.

    وبياض البشرة يعده الناس جمالاً لمن أوتوا هذه الصفة، لكنه إذا زاد تحول إلى برص ولون منفر، ولا يصلح الناس طعامهم إلا بالملح أو بالسكر فيما اعتادوا أن يتناولوه حلواً، وبدونه لا يصلح الطعام، لكن هذا أيضاً حين يزيد عن قدره يصبح ممجوجاً.

    والناس في شدة الحر يلجئون إلى التبريد ويسعون إليه، وإذا زاد عن قدره أصبح مؤذياً، ويشربون الماء البارد، وإذا زاد عن قدره صار مؤذياً، وفي شدة البرد يلجئون إلى أجهزة التدفئة يغتسلون ويستحمون بالماء الدافئ، وحين يزيد عن قدره يصبح مؤذياً.

    وهكذا -أيها الإخوة- لو بقينا نتحدث عن مظاهر الاعتدال في هذا الخلق لضاق بنا المقام، فكل ما يحبه الناس ويسعون إليه ويريدونه، بل ربما يدفعون فيه المبالغ الباهضة ينبغي أن يبقى بقدر، فإذا جاوز هذا القدر تحول إلى أمر ينفر الناس منه، بل يسعون إلى الاستشفاء منه.

    1.   

    الوسطية والاعتدال سمة التشريع الإسلامي

    وجاء شرع الله تبارك وتعالى على وفق سنة هذه الحياة؛ لأن هذا الشرع جاء ليصلح حياة الناس، والناس لا تصلح حياتهم إلا بالاعتدال، ولهذا كان من سمات هذا الشرع الوسطية والاعتدال، ولو تأملت ذلك في كافة أحكام الشريعة لرأيت هذه السمة ظاهرة واضحة بارزة، وامتن الله عز وجل على هذه الأمة بأنها أمة الوسط، وجمعت معاني الوسطية: الخيرية والاعتدال، فقد حماها الله عز وجل من الغلو الذي وقع فيه من سلف من الأمم السابقة، وحماها تبارك وتعالى من الغلو في الطرف الآخر، إن هذه الأمة تعظم نبيها صلى الله عليه وسلم وتجله وتحبه وتطيعه، بل لا يتم إيمان عبد حتى يكون صلى الله عليه وسلم أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين، كما أخبر صلى الله عليه وسلم، لكنها لا تغلوا فتفعل كما يفعل النصارى الذين ألهوا نبيهم وجعلوه رباً من دون الله، ولا تجفو كما يجفو إخوان القردة والخنازير الذين كانوا يؤذون الأنبياء، بل يقتلونهم بغير حق، وهكذا شأن هذه الأمة في الشرع والأخلاق والدين.

    فالاعتدال -أيها الإخوة- هو سنة الله في الحياة، وهو سمة هذا الشرع، وهو صفة هذه الأمة، ومن هنا كنا بحاجة إلى أن نتصف بهذه الصفة، كنا بحاجة إلى أن نتجنب طرفي الأمور، فكلا الطرفين مجانبة للاعتدال.

    1.   

    مجالات يغيب فيها الاعتدال في حياة بعض الناس

    الاعتقاد والتوحيد

    إن هناك مجالات يغيب فيها الاعتدال في حياة الناس، وحين يغيب قد يؤدي إلى غلو مذموم ممقوت يعتقد صاحبه أنه يحسن صنعاً، وقد يؤدي إلى جفاء وإفراط.

    فالاعتقاد والتوحيد مبناه على الاعتدال، ولهذا أنكر الله عز وجل على أهل الكتاب: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ [المائدة:77]، وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [النساء:171].

    وأضرب لكم مثلاً في محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي من أمور الإيمان، بل مما لا يتم الإيمان إلا به، فمحبته وتعظيمه صلى الله عليه وسلم من الإيمان، لكن هذا التعظيم له قدره، فإذا جاوزه قد يؤدي بصاحبه إلى الشرك بالله تبارك وتعالى، كما نرى ممن يغلون في النبي صلى الله عليه وسلم وينزلونه فوق منزلته التي أنزله الله إياها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر).

    كذلك في إثبات ما أثبت الله عز وجل لنفسه ونفي ما نفاه عن نفسه تبارك وتعالى، فمن الناس من غالى في إثبات الصفات والأسماء التي وصف الله عز وجل بها نفسه وسمى بها نفسه، فغالى في ذلك، فأدى به ذلك إلى التشبيه والتجسيم وغير ذلك مما يقع فيه هؤلاء الغلاة، ومنهم من غالى في الطرف الآخر ففر من أن يشبه الله عز وجل بخلقه فغالى في نفيها وإنكارها.

    العبادة

    وكذلك العبادة، فإنما خلق الإنسان لعبادة الله تبارك وتعالى، ولا يلام الإنسان على العبادة أبداً، تلاوة القرآن، الصلاة، الصيام، قيام الليل، الإنفاق، وغير ذلك من الأعمال الصالحة، من الذي يقول: إن العبادة شر أو: إن فيها شراً؟ لكن هذه العبادة أيضاً لها قدر محدود إذا جاوزه الإنسان فشق على نفسه فقد خالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهاهو النبي صلى الله عليه وسلم يبين ذلك حين جاء طائفة من أصحابه، فسألوا عن عبادته فتقالوها، فشعروا أنها قليلة، وقالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه؟ فقال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فأصلي ولا أنام، وقال الآخر: لا أتزوج النساء، فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا المسلك وقال: (أنا أتقاكم لله وأخشاكم له)، وحين تزوج عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه امرأة من قريش وكان قد عمر ليله بالقيام ونهاره بالصيام أتى والده عمرو رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشتكي حاله، فدعاه صلى الله عليه وسلم فسأله: (كيف تختم القرآن؟ قال: كل ليلة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بحسبك أن تختم كل أربعين، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: كل ثلاثين يوماً، كل جمعة، إلى أن قال: في كل ثلاث، ثم سأله عن صيامه، فكان يصوم كل يوم، فقال: بحسبك أن تصوم ثلاثة أيام من كل شهر) إلى أن أوصله إلى أن يصوم يوماً ويفطر آخر، ثم قال له صلى الله عليه وسلم: (إن لنفسك عليك حقاً، ولزورك -أي: ضيفك- عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه)، وحين رأى صلى الله عليه وسلم حبلاً ممدوداً بين ساريتين، قال: (لمن هذا؟ قالوا: لـزينب ، تصلي فإذا فترت تعلقت به، فقال: مه، ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد)، وحين حدثته عائشة رضي الله عنها عن امرأة رآها عندها، فكانت تذكر من صلاتها، قال صلى الله عليه وسلم: (عليكم من الأعمال ما تطيقون)، والشواهد على ذلك كثيرة.

    إن العبادة والصلاة وتلاوة القرآن -أيها الإخوة الكرام- من أفضل ما يتقرب به العبد إلى ربه، لكن تحتاج إلى اعتدال، فلا يشق الإنسان على نفسه ولا يشق المرء على نفسه، وإذا شق على نفسه جاوز القدر المشروع وخالف سنة أعبد الناس وأتقاهم لربه صلى الله عليه وسلم.

    ومن المجالات التي قد يشدد بعض الناس ويبالغ فيها في العبادة: مبالغة بعض الناس في الحديث عن شروط العبادة، وشروط أعمال القلوب والتشديد فيها، إنك حين تسمع بعض من يتحدث عن الصلاة وعن الخشوع فيها، فيتحدث ويشدد هذا الأمر حتى كأن المصلي نادر، فيقول: إن هؤلاء الذين يصلون يندر فيهم من يخشع في صلاته، يندر فيهم من تقبل صلاته، يندر فيهم من يصلي كما أمر الله عز وجل.. إلى آخره، كأن الناس هؤلاء كلهم لا يؤدون هذه الصلاة وهذه الفريضة، والبعض حين يتحدث عن بعض أعمال القلوب قد يكلف الناس ما لا يطيقون، قد يتحدث البعض عن الإخلاص، وهو أمر عزيز، لكن يتحدث عنه بأنه نادر جداً، ومن النادر أن تجد الإنسان المخلص.

    إذاً: وما شأن بقية الناس؟! وهل هذا هو الدين الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الدين يسر)؟! أين هذا من نصوص القرآن المحكمة الواضحة ونصوص النبي صلى الله عليه وسلم؟

    إذاً -أيها الإخوة-: التشديد والمبالغة ومجاوزة القدر حتى ولو كان في عبادة الله عز وجل؛ إذا جاوز الإنسان القدر الشرعي القدر الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وجاء في كتاب الله، فإنه يصبح أمراً مذموماً.

    السلوك الشخصي

    وهذان المجالان من أكثر ما يقع فيه الغلو في الدين، وليس حديثي عن هذا، ليس حديثي عن الغلو في العبادة وما يتعلق بها، فإن غالب حالنا اليوم هو التفريط والله المستعان، وإن وجدت حالات من الغلو والشطط -سواء في الاعتقاد أو في العمل والسلوك- فإنها حالات قليلة، لكن الظاهرة التي أعتقد أننا نشتكي منها كثيراً، هي أن الاعتدال يغيب كثيراً في تفكيرنا، يغيب كثيراً في حديثنا، في آرائنا، في مواقفنا، في وزننا للأمور، وهذا ما أريد أن أركز الحديث حوله.

    ولهذا أنتقل إلى المجال الثالث من مجالات الاعتدال: السلوك الشخصي.

    ثمة صفات محمودة يحبها الناس، لكنها بقدر، فالشجاعة إنما تطلب بقدر، وقد تنقلب تهوراً، ويعتقد الإنسان أنه كلما ازداد فيها أصبح الأمر محموداً، والحلم مطلوب، لكنه قد ينقلب عند بعض الناس إلى ضعف وخور، فلا يغضب لما ينبغي أن يغضب المسلم من أجله، وهكذا سائر الصفات.

    والغيرة على حرمات الله عز وجل قد تتحول عند البعض إلى جفاء في التعامل مع أهل المعصية، جفاء في التعامل مع الناس.

    وحسن الخلق واللطافة قد تتحول أحياناً بالإنسان إلى أن يترك الحزم في المواطن التي ينبغي أن يحزم فيها.

    السلوك الشخصي سلوك الإنسان في حياته، في تعامله مع وقته، في تعامله مع نفسه، في تعامله مع الآخرين، ينبغي أن يقوم على الاعتدال، والصفة المطلوبة أياً كانت، إنما تطلب بقدر كالملح في الطعام، كالبرودة في الماء الذي لا يستسيغه الناس إلا بارداً، إنما تطلب بقدر، فإذا جاوزت هذا القدر أصبحت قد جاوزت الاعتدال، سواء أكانت في هذا الطرف أو في الطرف الآخر.

    تقويم الأشخاص والمشروعات والهيئات والجماعات

    المجال الرابع: التقويم، في تقويم الأشخاص كثيراً ما نفتقد الاعتدال، فنحن في الغالب ندور بين مديح مبالغ فيه وثناء مفرط فيه، أو ذم مبالغ فيه، وقلما نعتدل في تقويمنا للأشخاص، فحين يعجبنا شخص نسعى إلى أن نبرر أخطاءه، ونسعى إلى أن نبرر مواقفه، قد يعجبنا إنسان في علمه وتقواه وورعه، قد تجد إنساناً عالماً تقياً ورعاً صالحاً، لكن هذا الإنسان لا يجيد التعامل مع الآخرين ويجفو مع الآخرين؛ بطبيعته وببشريته، فالناس بشر ولا يمكن أن تجد في كل إنسان كل ما تريده، والذي يعتدل في تقويمه لا يحول هذه السمة والسلوك الشخصي إلى حسنة، فيرى أن هذا الجفاء وهذه الغلظة أمر مطلوب حتى يأخذ الناس بالحزم والعزم والجد.. إلى آخره.

    وقد يوجد نموذج آخر، قد يوجد إنسان فيه نوع من الضعف البشري، وإن كان أعطاه الله عز وجل علماً ورأياً وحكمة، فيستسلم للناس ويغير الناس مواقفه وتتغير آراءه ويستجيب لكل من طلب منه موقفاً أو رأياً فيعده الناس وحسن الخلق، نعم هو حسن الخلق، لكنه قد جاوز الاعتدال.

    المقصود -أيها الإخوة- أن البشر مهما كانوا ستبقى فيهم سمات البشر، سيبقى في كل إنسان جانب من جوانب القصور، وإذا أخذنا الناس بهذا الأمر وافترضنا البشرية في الناس؛ فإننا لن ننتظر منهم الكمال ولن نحاسبهم على الكمال، وفي المقابل سنضع أخطاءهم في إطارها الطبيعي، وسنضع شخصياتهم في إطارها الطبيعي.

    إننا اليوم على مستوى الشخصيات الدعوية أصحبنا نعرف مصطلحاً واحداً هو مصطلح ما نسميه (الشيخ)، فمن يستطيع أن يتحدث أمام الناس، يستطيع أن يكتب للناس، هذا الإنسان نطلق عليه لقب (الشيخ)، وحين يستحق هذا اللقب وهذا الوصف؛ يصبح مؤهلاً لكل شيء، أن يتحدث في كل موضوع، أن يفتي، أن يستشار، أن يتحدث في كل قضية، أن يستشار في كل أمر يعرفه ولا يعرفه، يحسنه أو لا يحسنه، فهذا الأمر ليس صحيحاً، فقد ينبغ إنسان في جانب من الجوانب، قد ينبغ إنسان في ميدان الفقه والفتوى، قد ينبغ إنسان في ميدان الوعظ والتأثير على الناس، قد ينبغ إنسان في ميدان الإصلاح، قد ينبغ إنسان في ميدان الرأي والحكمة، فينبغي أن نضعه في إطاره، ولن يعيبه أن يفقد أمراً آخر مما يملكه الآخرون، وقل مثل ذلك في النقد، فإنك ستجد عند الناس عيوباً، لابد أن تجد عند الناس عيوباً، إما تلك العيوب التي هي من طبيعة البشر، فمن الناس من يكون متعجلاً، ومن الناس من يكون شديد الغضب، فالناس لهم صفات ولهم سمات، وهذه الصفات تترك أثراً على شخصياتهم، وإما تلك العيوب التي هي نتيجة خطأ أنسيه، نتيجة اجتهاد، نتيجة أمر لا يسلم منه البشر، فحين نجد خطأً أو أخطاء عند فلان من الناس فإن هذا لا يعني أن يصبح مثل الشيطان الرجيم لا نذكره إلا بالسوء ولا نتحدث عنه إلا بالسوء.

    المقصود -أيها الإخوة- أننا بحاجة إلى الاعتدال في تقويمنا للأشخاص.

    أيضاً: في تقويمنا للمشروعات والأعمال كثيراً ما يغيب الاعتدال عنا، فنحن إما أن نقف مع هذا المشروع وهذا العمل مائة في المائة وندافع عن كل جزئية فيه، وإما أن نقف ضده تماماً ونعتبره سوءاً وشراً وأمراً مخالفاً، سمعنا من يتحدث عن تفطير الصائمين في هذا الشهر الذي هو ظاهرة نراها من خير الظواهر في مثل هذا المجتمع، يتحدث عن هذا بأنه إضاعة للمال وأن هذا الأمر لا يجوز .. إلى غير ذلك، إنه صورة من صور المبالغة، نعم قد يكون للإنسان وجهة نظر في بعض أساليب هذه الأعمال، قد يكون له تحفظ على بعض ما يصاحبها، والناس سيختلفون في الرأي في مثل هذه الأعمال، لكن بهذه الصورة المتطرفة التي تجعلها إضاعة للمال مع أنها تفطير للصائم، والكبد الرطبة فيها أجر؟! والإسلام قد شرع أن يعطى الكفار من الزكاة تأليفاً لهم على الإسلام، فكيف بغيرهم من الناس؟! إنها صور من مجانبة الاعتدال.

    وكذلك تقويم الهيئات والجماعات والجهات الدعوية:

    فاليوم انتشر في الساحة الإسلامية هيئات إسلامية، جمعيات، جماعات، أحزاب، منظمات، ومعظمها يريد الخير، يريد الدعوة، معظمها يغلب عليه الخير، لكنها تتأثر بواقع مجتمعاتها، تتأثر بواقع أولئك الذين يقودونها، فيكون فيها من الضعف والقصور ما يكون فيها، تقويمنا لواقع هذه الهيئات والجماعات لا يكاد يخلو من الغلو، لا يكاد يخلو من المبالغة مدحاً أو قدحاً، وقلما تجد التقويم المعتدل الوسط، فإما أن تجد من يتصيد الأخطاء فيبحث عنها ويصور لك هؤلاء الدعاة إلى الله عز وجل على أنهم جيش من المفسدين الضالين التائهين، وإما أن تجد في الطرف الآخر من يبرر الخطأ ويفسره تفسيراً آخر، فلا هذا ولا ذاك.

    إن الاعتدال -أيها الإخوة- كثيراً ما يغيب في تقويمنا، تقويمنا للناس، تقويمنا للأعمال، للمشروعات، للهيئات، للجمعيات وغيرها، والتقويم يحتاج إلى أن يكون معتدلاً فينظر إلى الأمور من كافة جوانبها.

    الأفكار والمشروعات

    المجال الخامس: الأفكار والمشروعات:

    نقدم أفكاراً ونطرح مشروعات قد نتبناها وقد نعمل بها وقد نقدمها للناس، وقد تكون أفكاراً فيها فرص للنجاح، فيها فرص لأن يتحقق منها فائدة، لكننا كثيراً ما نبالغ ونجاوز الاعتدال في حديثنا عن أفكارناً، في حديثنا عن مشروعاتنا، فحين يقدم الإنسان فكرة يعتقد أنها ستؤدي إلى حل مشكلة أو علاج ظاهرة، فإنه يبالغ في وصفها، يبالغ في فرص النجاح التي يتوقعها منها، بل ربما أدى به ذلك إلى أن يسفه أولئك الذين لا يشاركونه الغلو نفسه في الحماس لهذه الفكرة.

    أقول: قد يقدم أفكاراً جميلة ومشروعات، وليس من العيب أن نتحمس لمشروعاتنا، وأن نتحمس لأفكارنا، لكن ينبغي أن نضعها في إطارها الطبيعي، انظر إلى أولئك الذين يتحدثون عن أفكارهم، عن مشروعاتهم، عما يقترحون، تجد أن نسبة كبيرة من هؤلاء، يبالغون في تصورهم للأثر الذي ستتركه هذه الأفكار والمشروعات، يندفعون بحماس لها، وأيضاً يزيدون على ذلك أن يتضايقوا من أولئك الذين لا يشاركونهم الغلو نفسه في الحماس لأفكارهم، إنك تجد من الناس من يريد الجميع في هذا القالب، يريد الجميع أن يتحمسوا لهذه الفكرة كما يتحمس لها وكما يعمل لها، لا نعيب على إنسان أن يتفرغ لمشروع، أن يهتم بأمر وأن يفرغ وقته وجهده له، لكن هذا شيء والغلو والمبالغة في وصفه والثناء عليه وافتراض النجاح فيه شيء آخر.

    الآراء الشخصية

    الجانب السادس: الآراء الشخصية:

    قد تكون لنا آراء شخصية، وستكون لنا آراء في أمور كثيرة، خاصة أن هناك مساحة واسعة جداً تتسع للآراء من المشروعات الدعوية، والوسائل الإصلاحية، والأفكار التي يمكن أن يكون لها دور في إصلاح المجتمع وغير ذلك، جانب كبير منها هو رأي شخصي، حينما أقدم رأياً حول أسلوب دعوة النساء في الأسواق؛ إذ النساء اليوم ينتشر بينهن التبرج في الأسواق، حينما أقدم فكرة حول دعوة الطالبات في الجامعات والمدارس مثلاً، تبقى رأياً شخصياً يحتمل النجاح والفشل، يحتمل الخطأ والصواب، وكثير من الخلافات والمخترعات التي تدور هي في هذه الدائرة، فحديثنا عن هذه الآراء الشخصية يتجاوز القدر الطبيعي، فنبالغ في حديثنا عن الآراء الشخصية مدحاً وذماً وقدحاً وحماساً إلى غير ذلك.

    الاختيارات الفقهية

    الجانب السابع: الاختيارات الفقهية:

    هناك مسائل جاءت فيها نصوص واضحة، ولهذا فإنك ترى الأمة لم تختلف فيه، أو ترى جمهور الأمة قد اتفقوا عليها، لكن هناك مسائل هي محل خلاف بين أهل الفقه، ولا يزال أهل العلم يختلفون فيها، وسيبقون مختلفين إلى أن تقوم الساعة، فإذا كان هذا الاختلاف وسع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وحصل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فكيف بمن بعده؟!

    قد يترجح عند الإنسان رأي في مسألة فقهية فيغلو في ترجيح هذا الرأي له، ويأخذ الأدلة الكثيرة جداً على تحريم هذا الأمر أو على وجوبه أو على استحبابه أياً كان، ويخيل للناس أن هذا البحث الذي قام به أو هذا التقرير الذي قرره سيضع النقاط على الحروف وسيغلق الباب في مثل هذه المسألة إلى غير ذلك، ويتحدث في المسألة على أن هذا الحديث حق لا يقبل النقاش، وعلى أن أولئك الذين يرفضونه يرفضون الحق، يرفضون الدليل، نعم كثيراً ما يترجح رأي لطالب في مسألة اجتهادية، ويرى أنه قد لا يسوغه أن يقول بغيرها، لكن هذا شيء والقطع والمبالغة في الرأي فيها شيء آخر.

    دعوني أضرب على ذلك مثلاً: تعلمون أن حلي المرأة اختلف أهل العلم في وجوب الزكاة فيه، فالجمهور على أنه لا تجب فيه الزكاة، ومعظم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نقل عنهم الفتوى بعدم وجوبه، وهناك رأي آخر -وله أدلته- أن الزكاة واجبة في الحلي، لا نريد أن نقرر هذه المسألة الفقهية، لكن هذا خطيب يخطب أمام الناس ويتحدث عن أولئك الذين لا يؤدون زكاة الحلي، ويقول: إن هؤلاء من حطب جهنم .. إلى غير ذلك، وهناك فرق بين من يمتنع عن الزكاة، ولا يؤدي الزكاة، وبين من يرى أنه لا يجب عليه أن يخرج الزكاة في هذا المال، وقد وسع هذا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكيف لا يسع غيرهم؟! نعم كثيراً ما يشعر طالب العلم أنه لا يسعه إلا هذا، قد يشعر أنه لا يسعه إلا أن يخرج الزكاة في هذا، لا يسعه إلا أن يعمل بهذا القول وذاك، لكن هذا شيء وأن يلزم الناس به شيء آخر، وأن يرتب عليه الأحكام شيء آخر.

    وهاهنا نقطة مهمة ينبغي أن نشير إليها: ففي المسائل الاجتهادية كثيراً ما تجد رأياً يميل إلى الحزم والتشديد ورأياً يميل إلى التيسير، لا يعني ذلك أن الذي يختار رأياً فيه تشديد -كالذي يختار إيجاب الزكاة في هذا المال أو ذاك، وكالذي يختار بطلان الصلاة والوضوء بهذا العمل- لا يعني أنه غال، إذا تحقق فيه شرطان: إذا كان هذا الرأي عن اجتهاد وهو من أهل الاجتهاد أو قلد من هو أهل أن يقلد في ذلك، ولم يشدد على الناس في هذا الأمر، ولم يتجاوز هذا القدر، فإن اختياره لهذا الرأي الأحوط والأشد لا يعني الغلو، ولا ينبغي للطرف الآخر أن يتهم هذا الإنسان بالغلو؛ لأنه اختار هذا الرأي الأحوط والأشد، بل إن الناس يختلفون ويتفاوتون كما سيأتي في الحديث، فقد تجد من الناس من يغلب عليه أنه يأخذ بالعزيمة في آرائه وفتاواه حتى في حلفه للناس، وبعض الناس يغلب عليه الأخذ بالتيسير، وهذا الأمر منذ سلف الأمة وإلى قيام الساعة.

    المقصود: أن من يختار هذا الاجتهاد لا يعني ذلك أنه قد غلا، إنما الغلو هو أن يجاوز القدر، حين يقرر هذه المسألة يجعل من خالفها مبتدعاً، ويجعل من خالفها فاعلاً للمعصية، ويجعل من خالفها فيه كذا وكذا، إلى غير ذلك.

    الظواهر الاجتماعية

    الجانب الثامن: الظواهر الاجتماعية:

    حديثنا عن الظواهر الاجتماعية تكثر فيه المبالغة، في حديثنا عن حجم الظاهرة، حين نتحدث عن أي ظاهرة في المجتمع أياً كانت هذه الظاهرة، وكان المتحدث عنده حماس لهذا الموضوع أقلقه أزعجه، فإنه لا يفرق بين خطورة الشيء وبين حجمه في المجتمع، وبينهما فرق كبير.

    فنحن نعلم -مثلاً- أن المخدرات خطيرة، وانتشارها خطير، لكن هذا شيء، وحجم انتشارها في المجتمع شيء آخر، الفساد الخلقي خطير والفواحش، ويكفي أن الله عز وجل عاقب أقواماً وأمماً أعلنوا بهذه الفواحش وأظهروها، لكن هذا شيء وانتشارها في المجتمع شيء آخر، فقد يغلب علينا النظر إلى خطورة الظاهرة فنعممها في المجتمع، ونبالغ في الحديث عن حجمها ونكسيها أكبر من حجمها، وفرق بين أن تكون الظاهرة خطيرة وبين أن تكون الظاهرة منتشرة، نعم هناك من الظواهر ما لو لم توجد إلا بنسبة قليلة ينبغي أن نتحدث عنها ونحذر منها، لكن فرق بين أن نحذر منها ونتحدث عنها وبين أن نقول: إنها انتشرت وعمت وطمت، ولهذا تسمع هذه الكلمة كثيراً، فكثير من الذين يتحدثون عن المشكلات يقولون: عمت وطمت، إلا من رحم ربك، ودائماً تسمع هذه الكلمة في الحديث عن أي ظاهرة، فعلى أي أساس نقول هذا الكلام؟!

    وكذلك الحديث عن تفسير الظاهرة، تفسير الظاهرة قد يكون فيه نوع من الغلو، فنفسرها من خلال سبب واحد، نفسر هذه الظاهرة بهذا السبب، كالطلاق، فقد زادت نسبة الطلاق، وأعتقد أنكم توافقونني على أنه نسبة زائدة، نسبة أعلى من قبل، قد لا نملك أرقاماً دقيقة، لكن الظاهرة منتشرة وموجودة ومزعجة، بعض الناس يقول: إن السبب في هذه الظاهرة هو النظر الحرام، فإن الرجل إذا نظر إلى النساء زهد في زوجته وتطلع إلى الحرام، ثم نشأت المشاكل ... إلى غير ذلك، نعم النظر الحرام لا شك أنه قد يؤدي إلى مثل هذا الأمر، لكن هل يعني هذا أن هذه الظاهرة كلها تعود إلى هذا السبب؟ هل يعني أن معظم حالات الطلاق تعود إلى هذا السبب؟ فرق بين أن يكون الأمر محرماً ومخالفة، وبين أن نفسر الظاهرة من خلاله، فعندنا رغبة جامحة في محاولة تفسير كل ظاهرة من خلال عامل واحد، من خلال سبب واحد.

    كذلك اقتراح العلاج والحل، فالعلاج يتمثل في حل واحد دائماً عندنا، حينما نتحدث عن الطلاق، نقول: إن المشكلة تأتي من فساد دين الناس، إذا صلح الزوجان واتقيا الله عز وجل انحلت المشكلات، أعتقد أن هذا الكلام فيه اختزال، ألسنا نجد عدداً من الصالحين يطلقون ويحصل عندهم الطلاق؟! نعم، الله عز وجل أمر عباده بالتقوى وأكد على التقوى عند الحديث عن آيات الطلاق، ولها صلة بذلك، لكن الصلاح والتقوى كثير من الناس يفهمه فهماً خاطئاً، فمن الصالحين من يسيء العشرة، وأحياناً يكون هناك نوع من عدم التوافق بين الزوجين، وهناك عوامل كثيرة ينبغي أن تؤخذ بالاعتبار.

    المقصود -أيها الإخوة- أن حديثنا عن الظواهر الاجتماعية كثيراً ما يغيب فيه الاعتدال، إما في حجم ظاهرة أو في تفسيرها، أو في علاجها.

    الظواهر والأحداث السياسية

    المجال التاسع: الظواهر والأحداث السياسية:

    الأحداث السياسية نجنح إلى المبالغة في تفسيرها، وخذ على سبيل المثال الحديث عن المؤامرات، أي حدث يحصل نجنح إلى تفسيره بأنه مؤامرة، فنرى أن الحدث كله تمثيلية من أوله إلى آخره، نعم هناك مؤامرات، هناك أشياء لا تكتشف إلا بعد وقت، لكن لا يعني أن كل حدث يحصل هو -بالضرورة- مؤامرة، وهذا التبسيط المذهل للأحداث، التبسيط المذهل للقضايا لا يعني فطنة ووعياً، الوعي أن نعي الأسباب الحقيقة للظواهر، والأحداث والظواهر السياسية في الغالب ظواهر معقدة، تنشأ من خلال عوامل عديدة لا يمكن أن نفسرها من خلال موقف واحد وعامل واحد.

    قد أقول لكم مثالاً وإن كان متطرفاً، لكن يبين لنا الصورة في ذلك: إمام أحد المساجد انزعج من رنين الجوال أثناء صلاة التراويح، وهذا يحصل كثيراً؛ أن الإنسان ينسى أن يطفئ جواله، فقال: إن هذه الجوالات أتى بها الأعداء ليشغلونا، وبدأ يتحدث عن مكر الأعداء وكيدهم في هذا الجهات. قد تكون هذه الصورة شاذة، لكنها تمثل نمطاً من التفكير موجوداً، إنما الخلاف في قدر الشذوذ وفي مستوى التطرف، وإلا فالتطرف موجود، وقد كان يمكنه أن يقول: إن الجوال له فائدة يحسن بالإنسان أن يطفئه، قد ينسى الإنسان إطفاءه إذا أتى إلى المسجد، فليطفئه، والأمر لا يحتاج إلى مثل هذا الضجيج والإزعاج، والذي يحدثني يقول: كنت نسيت جهازي فلم أطفئه، فخشيت أن أطفئه أمام الناس، فوجدت حرجاً، خشيت أن يسيء الناس الظن بي، والناس بشر.

    فشخص يتحدث يقول: كنا نتحدث عن المشروبات الغازية، فقال أحدنا: إن هذه المشروبات الغازية يحرص أعداؤنا على تصديرها لنا؛ لأنها ضارة صحياً؛ لأنها غير نافعة، قلت: يا أخي! المشروبات الغازية تتناول في أمريكا وأوربا أكثر بكثير مما عندنا، قال: الكميات التي عندهم، تصنع بطريقة خاصة، والتي عندنا النسب فيها زائدة.

    المقصود: أن عندنا جنوحاً لأن نفسر كل شيء بأنه مؤامرة، والأحداث السياسية الضخمة نحاول أن نختزلها، هناك من يقول: إن سقوط الاتحاد السوفيتي سببه الجهاد الأفغاني، أعتقد أن هذا اختزال للقضية، هناك عوامل كثيرة، نعم قد يكون الجهاد الأفغاني له دور، لكن ليس هو وحده، ومن يقرأ ويعرف طبيعة النظام الشيوعي وآلياته، ويعرف العوامل التي أدت إليه يعتبر أنه لا يمكن أن نختزل مثل هذا الحدث بأن نفسره بأن السبب هو الجهاد، وإذا قلنا: إن الجهاد الأفغاني ليس هو السبب في سقوط الاتحاد السوفيتي لا يعني أننا نهمش دور الجهاد الأفغاني، لكن -أيضاً- لا نغلو ونبالغ، فالجهاد الأفغاني كان عمل بشر، هو جهاد دعمته الأمة وكان يستحق أن يدعم، لكنه عمل بشر لا يخلو من الضعف والقصور، وقد رأينا ما حصل بعده من الصراع والنزاع والشقاق، فعندنا جنوح إلى المبالغة في الحديث عن القضايا السياسية والأحداث السياسية، ونبالغ في الأرقام، نبالغ في المعلومات، نبالغ في التآمر، في تبسيط الأحداث.

    التعامل مع المخالف

    المجال العاشر: التعامل مع المخالف:

    فتعاملنا مع المخالف قد نفتقد معه الاعتدال، وأهل السنة يرحمون الخلق ويحبون الحق، ومهما كان المسلم يبقى له حق، المسلم الذي وقع في بدعة من البدع له حق الإسلام، والبدعة تسلب من الولاء بقدر ما تلبس يه، ليس صحيحاً أن نحول هذا الإنسان إلى رجل أشد من الكفار، ونلغي ونسقط حق الإسلام؛ لأنه لابس ووقع في هذه البدعة، وقد يكون وقع فيها عن اجتهاد وعن حسن نية، وقد يكون معذوراً فيها، وقع في هذا الأمر عن عذر، وقل مثل ذلك في أصحاب المعاصي، في أصحاب الفسوق، قل مثل ذلك فيمن يخالفنا في الرأي، كثيراً ما نغلو ونفتقد الاعتدال في حكمنا على المخالف، سواء أكان ممن يلابس بدعة، أو كان -وهذا هو الأكثر- ممن لا يصل إلى هذا الحد، إنما هو من إخواننا، فنضخم الأخطاء ونحاول أن نربطها بأصل البدعة، حين يقع في خطأ من الأخطاء نربطه بأصل من أصول البدع، ونسعى إلى إبراز صورة مشوهة عن هذا الشخص، كيف يتعامل اليوم المسلمون مع من يخالفهم في الرأي؟! أعتقد أن هناك غلواً واضحاً بارزاً في تعاملنا مع من يخالفنا.

    وعلى المستوى النظري نتحدث جميعاً عن حسن التعامل مع المخالف، وعن حسن التعامل مع من يخالفنا في الرأي، لكن في الواقع هناك ثغرات كبيرة، وكم تجد من الجفاء والغلظة وتفسير النوايا.. إلى آخره؛ لأن هذا الإنسان يخالف في الرأي فقط، وربما يتضح لهذا الإنسان بعد سنوات خطأ ما كان عليه، فيميل إلى ذاك الذي يعمله هذا الإنسان الذي يخالفه وكان يتهمه قبل بالتساهل، وكان يتهمه بالابتداع.

    أنتقل بعد الإشارة إلى هذه المجالات التي يغيب فيها الاعتدال، وأعتقد أنها كلها يمكن أن نردها إلى عامل واحد، فالمشكلة في الاعتدال في تفكيرنا وفي رؤيتنا للأمور، وما ذكرناه إنما هو أمثلة ومجالات لهذا الغلو، وهذا التطرف إن صحت العبارة، ما ذكرناه هو ألفٌ وباء، ونحن نعيش في حياتنا الفكرية، وحياتنا الاجتماعية، نعيش قدراً من الغلو وقدراً من المجاوزة، لا أقصد الغلو في الدين، والغلو في العقيدة. وفي العبادة، فهذا الأمر -كما قلت في المقدمة- آثرت ألا أتحدث عنه؛ لأنه قد لا يعنينا كثيراً، وأمره معروف، لكن الغلو والمبالغة في تفكيرنا وفي مواقفنا سمة نعاني منها كثيراً، ولعل ما ذكرناه من أمثلة يدل على ذلك.

    1.   

    عوامل وأسباب نشأة الغلو وفقد الاعتدال

    لماذا ينشأ هذا الغلو؟ لماذا نفتقد الاعتدال في مواقفنا؟

    هناك عوامل كثيرة، من العوامل: ضعف ثقافة الإنسان، الإنسان كلما كان ضعيف الثقافة كان إدراكه محدوداً، والثقافة تجعل الإنسان يتسع إدراكه، تجعله يشعر أن للظاهرة أكثر من وجه، يشعر أن لهذه الظاهرة أكثر من سبب، يشعر أن لهذا الحدث أكثر من تفسير، كلما اتسعت ثقافة الإنسان زادت رؤيته للأمور، وإذا كانت هذه الثقافة محدودة، صار إنساناً صارماً، لا يستوعب أن يفهم فهماً شمولياً، لا يستوعب أن يفهم أن يخالفه الآخرون، يصبح لا يعرف إلا أسود وأبيض، وحقاً وباطلاً، كل الأمور عنده على هذا المقياس والميزان الصارم، وأحياناً يؤتى الإنسان من ضعف ثقافته على المستوى الأفقي، قد يكون الإنسان على المستوى الرأسي مطلعاً، يعني: قد يكون عنده اطلاع واسع، لكن اطلاع في إطار معين، وتخصص معين، وهذا قد يؤدي به إلى أن يكون شخصاً مبالغ في آرائه ومواقفه، والذي يجعل الإنسان أكثر اعتدالاً إذا اتسعت ثقافته على المستوى الرأسي، وتنوعت مصادر الثقافة، وتنوع اطلاعه، يجعله يشعر أن كثيراً من الأمور التي كان يعتقد أنها محسومة هي أمور نسبية، هي أمور تحتمل الرأي، تحتمل وجهات النظر.

    الإيغال في التخصص

    العامل الثاني: الإيغال في التخصص، سواء أكان تخصصاً علمياً أو عملياً، قد يؤدي بالإنسان إلى أن يبالغ ويغلو، فبعض الناس يهتم بتخصص أياً كان هذا التخصص؛ كتخصص علمي مثلاً، ويفرغ وقته له، وليس هذا عيباً أبداً، لكن ينبغي أن يوغل، فيؤدي به ذلك إلى الغلو في هذا التخصص، أو الغلو فيما يتعلق به، وقل مثل ذلك في التخصص العملي، وهو يقع أكثر من النوع الأول، فبعض الناس قد يتصدى لميدان من الميادين يعمل فيها أياً كان هذا الميدان، من الناس مثلاً من تصدى لدعوة غير المسلمين للإسلام، من الناس من تصدى لتعليم أهل البادية والعامة الجهلة، من الناس من تصدى لدعوة المرأة، وتخصص فيه واعتنى به، فكثيراً ما يصاب أمثال هؤلاء بالمبالغة والغلو، باعتبار أنه عاش هذا الأمر واهتم له، ليس عيباً أنه تخصص، بل نحن بحاجة إلى التخصص، ونحن بحاجة إلى تعميق هذا الأمر، لكن بحاجة مع التخصص إلى إن يتسع أفقنا، أن نستوعب ما يعمله الآخرون، أن نقدر ما يعمله الآخرون، أن نعلم أن المجالات العاملة ومجالات اليوم تستوعب أنواعاً كثيرة ومجالات كثيرة من العمل، وكونك تنجح في هذا العمل أو ترى مجالات النجاح في هذا العمل أكثر وأولى لا يعني أن ما عليه الآخرون هو إضاعة للوقت، وإهدار للجهود.

    التكوين الشخصي

    السبب الثالث: التكوين الشخصي:

    بعض الناس -بطبيعته الشخصية- طبيعته النفسية متطرفة أصلاً، تكوينه الشخصي لا يجيد الاعتدال، ولهذا قد تجده في حال الانحراف والضلال متطرفاً، وحين يستقيم ويصلح قد تجده يسير على نفس الخط، وتجد أمثال هؤلاء في مواقفهم الشخصية دائماً متطرفين، إذا أحب إنساناً مثلاً بالغ في محبته وتجاوز القدر، ثم بعد ذلك تحصل مشكلة فيبالغ في كراهيته والنفور منه، تراه يسلك طريقاً فيغلو فيه ويبالغ فيه، ثم يتجه إلى الطرف الآخر، ونلحظ في الساحة الفكرية أشخاصاً يتقلبون بين اليمين واليسار، وجزء من هذا يعود إلى تكوينهم الشخصي، لا يجيدون الاعتدال، فإما أن يقع في هذا الطرف أو يقع في الطرف الآخر، فبعض الناس أحادي العقلية حاد في مواقفه، في تصرفاته، صارم دائماً، وهؤلاء يصعب عليهم أن يعتدلوا، وكثيراً ما ينتقلون من تطرف إلى تطرف آخر، وينتقلون من غلو إلى غلو آخر.

    البيئة الاجتماعية

    العامل الرابع: البيئة الاجتماعية:

    هناك بيئات بطبيعتها فيها حدة ومبالغة، بعض البيئات -مثلاً- عنيفة نوعاً ما، وبعض البيئات رقيقة، البيئات تختلف، البيئات الاجتماعية لها أثر، ولهذا إذا قرأت تفسير العلماء السابقين وتراجمهم الشخصية تقرأ في نشأة أحدهم وأسرته وظروف نشأته، فتجد أن هذا ترك أثراً على شخصيته، فبعض البيئات بطبيعتها بيئات حادة، ولهذا تجد أصحابها آراؤهم حادة، آراؤهم تميل إلى مواقفهم، تفسيرهم يميل إلى نوع من الحدة ويصعب عليهم أن يعتدلوا، حتى في حياتهم الشخصية، حتى في علاقاتهم الاجتماعية، في حياتهم الزوجية، في علاقاتهم مع الآخرين، هو التطرف والغلو سمة تطبع تفكير الإنسان، تطبع سلوكه فتستطيع أن تجد أمثلتها ومظاهرها في كافة جوانب الحياة، حتى في رؤيته وفهمه للدين، الدين في حقيقته ليس فيه تطرف، الدين ليس فيه غلو، الدين وسط، لكن كيف يفهمه الناس؟ كيف يطبقونه؟ كيف ينظرون إليه؟ فالإنسان من تكوينه الشخصي يفهم النصوص بناءً على طبيعته الشخصية وعلى تكوينه الشخصي، ولهذا تجده يلجأ دائماً إلى النصوص والمواقف التي تتلاءم مع شخصيته، إذا كان شخصاً عنيفاً يلجأ إلى هذه النصوص دائماً يرددها، يعتقد أنها تدعم موقفه، والعكس، فإذا كان في الطرف الآخر تجده يلجأ إلى تلك النصوص التي يعتقد أنها تؤيد ما يسير عليه.

    غياب منهج التفكير الموضوعي

    الأمر الخامس: غياب منهج التفكير:

    غياب التفكير الموضوعي، التفكير الذي يسعى إلى إعادة الظواهر إلى أسباب وعوامل موضوعية، فنحن يصعب علينا أن نفرق في موقفنا من الشيء بين حبنا له وبين تفسيرنا له، ودعوني أضرب على ذلك مثالاً سبق أن أشرت إليه في حديث سابق: في أحداث أمريكا التي حصلت قبل أحداث سبتمبر كان كثير من الناس يكره أن يكون وراء هذا الحدث المسلمون؛ لأنه يعلم ما سيترتب عليه، فيسعى في نظرته للحدث وفهم الحدث إلى أن يعلق الحدث بأشخاص آخرين، يتعلق بأي طرف في القضية، بأي دليل، بأي موقف يفسر فيه هذا الحدث تفسيراً يختلف عن رؤيته ويلغي هذه الرؤية، ولهذا تجد الإنسان في نظرته للأحداث أياً كانت يفرح دائماً إذا وجد أي دليل يؤيد الشيء الذي يحبه.

    وفرق -أيها الإخوة- بين أن يحب الشيء وبين ما حدث، فرق بين موقفنا من الشيء وبين الواقع، إن من مصلحتنا أن نعرف الواقع كما هو، بغض النظر عن موقفنا منه، مثل الأب الذي يذهب إلى المدرسة، استدعته المدرسة لضعف تحصيل ابنه الدراسي، فجاء وقابل مجموعة من المعلمين، أحد المعلمين أثنى على ولده، تجده يتمسك بهذا الموقف ويفرح به؛ لأنه يؤيد الخلفية التي في ذهنه، نفتقد نحن منهج التفكير العلمي، نفتقد التفسير الموضوعي الذي يفصل بين الآراء الذاتية والموضوعية، يفصل بين ما نحب وبين موقفنا، وبين حقيقة الأشياء، من مصلحتنا أن نرى الأشياء كما هي، أن نراها على حقيقتها، بغض النظر عن موقفنا منها، أن نفصل بين عاطفتنا الشخصية وبين رؤيتنا لها.

    ومن ذلك الغلو في الأخبار، الأخبار التي تتفق مع ما نحب نصدقها ولو كانت غير منطقية، والأخبار التي لا تتفق مع ما نحب نضع عليها علامة استفهام دائماً دون دليل علمي، فالصراع الذي دار في أفغانستان كلنا لا شك نتمنى أن يزيد فيه الضحايا من الصليبيين ونستبشر ونفرح بذلك، ولكنا نتضايق ونتألم حين يصاب إخواننا المسلمون، وأياً كانوا -حتى من يقع منهم في خطأ- فهم أحب إلينا وأقرب إلينا من أولئك الكفار المعتدين، لكن هذا شيء، وتصديقنا للأخبار شيء آخر، هذه العاطفة تؤثر علينا، كان بعض الناس يأتي بأخبار غير منطقية أصلاً، وإذا ناقشته في ذلك قال: أنت ضد الجهاد، أنت تشكك في قدرة الله! يا أخي! فرق بين القضيتين، هذا الخبر ليس فيه ما يدعونا إلى تصدقيه، فرق بين أن أحب ذلك وأتمنى ذلك، وبين أن يكون هذا الخبر صدقاً وحقيقة، نحن نعاني -أيها الإخوة- من غياب التفكير الموضوعي، التفكير العلمي، التفكير المنطقي، فنخلط بين عواطفنا وبين آرائنا، وتسهم عواطفنا ومواقفنا في صناعة آرائنا بدرجة كبيرة، ولهذا نجنح إلى الغلو، إذا كنا نملك منهج تفكير سليم، تفكير موضوعي؛ سننظر إلى الأمور نظرة شمولية، سننظر إليها من كافة جوانبها، سنعطي كل اعتبار قدره الطبيعي، سنصل إلى مواقف معتدلة، نقطع في مواقف القطع، ونضع احتمالاً في مواقف الاحتمال، وتزداد نسبة الاحتمال وتضعف حسب قوة وضعف الأدلة التي نستند إليها في موقفنا هذا.

    الرؤية الجزئية

    الأمر السادس والسبب السادس: الرؤية الجزئية:

    قد ننظر للأمر من زاوية جزئية، الأمر قد يكون له عدة زوايا، فإذا نظرت إليه نظرة جزئية لن ترى الصورة المتكاملة، الآن لو نظرتم من خلال هذه الدائرة في هذه الزجاجة، فكل من ينظر إليها سيقول: هذه ورقة أو منظر طبيعي حين ينظر إلى جزء منها، لكن حين ينظر إليه نظرة كاملة يعرف أنها زجاجة ماء عليها ورقة.

    فكثير من الأمور تختلط فيها المصالح والمفاسد، تختلط فيها الاعتبارات، فيأتي الإنسان ينظر إلى زاوية واحدة، إلى المصالح التي فيها، ويغفل عن المفاسد، أو العكس، قد ينظر الإنسان إلى المفاسد ويغفل عن المصالح التي فيها، مثل إنسان تقدم لخطبة امرأة يريد أن يتزوج بها، وهذه المرأة فيها صفة من الصفات التي يحبها، هب أنها جميلة، أو فيها دين، أو من أسرة يحب أن يرتبط بها، أو موظفة، أو تخصصها يوافق تخصصه، أياً كان هذه المرأة ففيها صفة يحبها، لكن فيها صفات أخرى، هذا الإنسان إذا نظر إلى هذه الصفة وحدها سيهمل الصفات الأخرى، وقد يقع في مشكلات كبيرة، وقد يؤدي به ذلك إلى أن يفشل في حياته الزوجية، قد يجد امرأة ذات جمال، لكنها ليست ذات خلق، ليست ذات دين، لا تتواءم معه، لا تتفق معه، حين يريد الإنسان الزواج عليه أن يسأل أو ينظر نظرة كاملة في هذه المرأة، والمرأة حين يتقدم إليها من يخطبها تنظر إليه نظرة كاملة، لا تنظر إلى جانب واحد، أو مجال واحد، وفي النهاية تتخذ قراراً بناء على هذه الرؤية الكاملة.

    والذي ينظر برؤية كاملة يندر أن يتطرف؛ لماذا؟ لأن أي شيء غالباً تجد فيه جوانب إيجابية وجوانب سلبية، تجد فيه جوانب ضعف وجوانب قوة، فهذا الجهاز -جهاز التسجيل- فيه مزايا: خفيف الحمل، فيه مزية في تسجيله، لكن فيه عيوب، حينما أنظر إلى المزايا فقط سأبالغ فيه، وحينما أنظر إلى العيوب سأبالغ في ذمه، لكن إذا نظرت نظرة متكاملة سأنظر نظرة معتدلة، وهكذا قل مثل ذلك في الوسائل الدعوية، في البرامج الدعوية، في المشروعات، في الآراء، في الأفكار، حين ننظر برؤية متكاملة وننظر إلى الأمر من جميع جوانبه فالغالب أن تكون مواقفنا معتدلة، أن نقول: نتوق إلى النجاح في هذا المشروع بنسبة (80%)، نتوقع النجاح في هذا المشروع بنسبة (70%)، لكن هناك احتمالات فشل، هناك نقاط ضعف، هذا الشيء فيه من المزايا كذا وكذا، وفيه من العيوب كذا وكذا.

    إن أولئك الذين ينظرون نظرة جزئية قد يمارسون هذا السلوك في التعامل مع النصوص الشرعية، فالذي ينظر -مثلاً- إلى نصوص الوعيد وحدها يؤدي به الحال إلى أن يقنط ويقنط الناس، والذي ينظر إلى نصوص الرجاء وحدها، قد يؤدي به الحال إلى أن يؤمن الناس من مكر الله تبارك وتعالى.

    التربية

    الأمر السابع، والسبب السابع: التربية:

    وأعتقد أنها من أكبر الأسباب، قد نكون تربينا على خطاب فيه مبالغة واعتدنا أن نسمع الحديث المبالغ فيه دائماً في كل شيء، في الوعظ نبالغ وقد نتجاوز القدر الشرعي، في ترجيح الأحكام الفقهية قد نبالغ ونتجاوز، في حديثنا عن الظواهر الاجتماعية، عن الأوضاع، ستكون هذه الطريقة في التفكير، هذه التربية التي تعودنا عليها من خلال حواراتنا ومن خلال حديثنا، ومن خلال الخطب، ومن خلال الحوار الذي نسمعه، والخطاب والحديث الدعوي فيه نفس من المبالغة نتيجة غيرة الإنسان وحماسته، فهو حينما يرى الحضور أمامه والناس حوله يتحمس ويؤدي به هذا إلى أن يتجاوز القدر الطبيعي، وحينما يتكرر عند الناس استماع هذه الآراء يتشكل تفكيرهم بهذه الطريقة التي دائماً تتعود على المبالغة، ولهذا حينما يبدأ الإنسان يتحدث يقول: وهذا الموضوع من الأهمية بمكان -أي موضع يتحدث عنه- وهذا من أهم ما يعنى به.. إلى آخره، وحينما يختم تجد المبالغة سمة، إن وعظ بالغ، إن رجح مسألة فقهية استطرد وذهب يسرد لك الأدلة الطويلة التي ترجح هذا القول، إن تحدث عن ظاهرة اجتماعية، تحدث عن قضية دعوية، هذا النوع له أثره، فيربي الناس على هذا النمط من التفكير.

    طغيان العاطفة

    الأمر الثامن: طغيان العاطفة:

    الإنسان عنده عواطف، والعاطفة هي عدو المنطق والعقل، كثيراً ما تقود العاطفة الإنسان إلى مواقف يندم عليها، ودعوني أضرب على ذلك مثالاً بالطلاق، فلو ذهبت تتساءل عن الحالات التي تحصل، سواء المرأة التي تطلب الطلاق، أو الزوج الذي يطلق زوجته، تجد كثيراً من هذه الحالات كانت نتيجة موقف عاطفي، تجد أنه غضب هذا الرجل لموقف تافه، فطلق زوجته، وقد يطلقها ثلاثاً، وقد يحرمها، والزوجة كذلك قد تغضب من موقف فتطلب الطلاق من زوجها فيطلقها، ثم حينما تهدأ الأمور يندمون، كم هم الذين يأتون إلى المحاكم، ويأتون إلى المشايخ يبحثون عن شيخ يترخص في فتاوى الطلاق حتى يفتيهم! انظر كيف أدت العاطفة أثرها.

    دعني أضرب على ذلك مثلاً قد يكون أقرب إلى الفهم: لو أخطأ أحد أولادك خطأً استفزك وأثارك، فكيف ستعمل في الموقفين الآتيين: الموقف الأول: إذا رأيته بعد الخطأ مباشرة؟ الموقف الثاني: أتيت إلى المنزل وقيل لك: إن فلاناً فعل كذا فغضبت، لكن لم تجده، ذهبت إلى الصلاة أو العمل، ثم أتيت بعد ساعة أو ساعتين، هل تعتقد أن تعاملك في الموقفين سيكون واحداً، كلا، لماذا؟

    إن الموقف الأول كنت فيه في ثورة العاطفة، فالعاطفة تجعل الإنسان يصعب عليه أن يستقر، وأن يتوازن، أليس الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يقضي القاضي وهو غضبان)؟! لماذا؟ إذا كان الإنسان غضبان فإنه لا يفكر بطريقة هادئة، لا يستطيع أن يتحرى الحق، فيأتيه الشهود فلا يستطيع أن يتبين صدقهم من عدم صدقهم، لا يتبين صدق البينة، ولهذا ألحق الفقهاء بذلك العطش الشديد، والجوع، والذي يدافعه الأخبثان.. إلى غير ذلك، ألحقوها بحالة الغضب، فقالوا: لا يقضي القاضي في هذه الحالات؛ لأن هذا يشغله عن أن يفكر بطريقة تعينه على الوصول إلى الحق، وهكذا حماس الإنسان لشيء ومحبته لشيء، العاطفة تقود الإنسان إلى المبالغة يمنة ويسرة.

    إن الخطاب العاطفي يسيطر علينا بدرجة كبيرة جداً، ويؤثر علينا كثيراً، وابحث عن مصداق ذلك: فلو قام رجلان بعد الصلاة يتحدثون أمام الناس والمسجد فيه جمع كثير، الشخص الأول يتحدث بصوت قوي وألفاظ جزلة، يذكر بعض القصص والشواهد المزعجة والمؤلمة، والشخص الثاني يتحدث بهدوء، يتحدث حديثاً منطقياً عقلانياً، فكم نسبة الذين يصغون للأول والذين يصغون للثاني؟! كم نسبة الذين يتأثرون بالأول والذين يتأثرون بالثاني؟ الناس كثيراً ما تؤثر عليهم المواقف العاطفية والحديث العاطفي، نعم لا نلغي ذلك، فالله عز وجل لم يخلق العاطفة عبثاً، لابد من استثارة العواطف في المواقف التي تحتاج إلى ذلك، والعواطف تعمل عملها في النفوس، وقد تقود الناس إلى الحق، خذوا على سبيل المثال غزوة مؤتة، كان المسلمون ثلاثة آلاف، وقابلوا الروم وهم يزيدون عن مائتي ألف، ثم ترددوا: هل نعود؟ فتحدث الناس، فقام عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وحدث الناس، وكان حين خرج من بيته حينما ودعوه وقالوا: حفظكم الله وردكم إلينا، قال: لا ردنا الله إليكم:

    لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرع تقذف الزبدا

    فكان يتشوف للقاء الله، يتشوف للشهادة، وكان معه زيد بن أرقم رضي الله عنه، يقول: فكان ينشد يقول:

    إذا أديتني وحملت رحلي مسيرة أربع بعد الحساء

    فشأنك أنعم وخلاك ذم ولا أرجع إلى أهلي ورائي

    وجاء المسلمون وخلفوني بأرض الشام مشتهر الثواء

    هنالك لا أبالي طلع بعل ولا نخل أسافلها رواء

    قال زيد بن أرقم : فبكيت، فنخزني وقال: لا عليك -يا لكع- أن يرزقنا الله الشهادة وتعود على ظهر الدابة.

    المقصود: حينما جلس الناس يناقشون ماذا يصنعون، قام عبد الله بن رواحة فقال: أيها الناس! إن التي تكرهون للتي خرجتم لها تطلبون، إنها الشهادة، والله لا نقاتل القوم بعدد ولا عدة، إنما نقاتلهم بهذا الإيمان.. إلى آخره، قال الراوي: فحمس عبد الله الناس، فتحمس الناس، وقابلوا الروم، وكان ما كان من شأنهم رضوان الله عليهم.

    المقصود: أن الخطاب العاطفي ليس سلبياً وحده، لا يسوغ أن نلغيه، لكن ينبغي أن يكون بقدر، فالواقع أن الخطاب الدعوي تزيد فيه مساحة العاطفة بشكل كبير، الحديث الذي ينصت له الناس أكثر، الشريط الذي ينتشر، الحديث الذي يعجب الناس، هو الحديث الذي تزيد فيه الشحنة العاطفية، وهذا يزيد من مستوى تأثير العاطفة على الناس، والعاطفة إذا زادت لا تقود الناس إلى الاتزان، لا تقود الناس إلى الاعتدال، لا ينبغي أن نلغي العاطفة، لكن ينبغي أن نضعها في إطارها الطبيعي، وينبغي في مقابل استثارة عواطف الناس أن نخاطب الناس بخطاب عقلاني منطقي يحترم تفكير الناس، فيخاطب الناس بالأدلة الشرعية، بالأدلة المقنعة، بالحوار المقنع، هذا سيجعل مواقف الناس أكثر اعتدالاً وأكثر اتزاناً.

    غياب الرأي الآخر

    الأمر التاسع: غياب الرأي الآخر:

    عدم وجود رأي آخر سيؤدي إلى المبالغة؛ لأن الرأي الآخر هو الذي يجعل الإنسان يتوازن، فإذا وجدت رأياً آخر في أي موقف، وصار صاحبه يعبر عنه ويتحدث عنه، ستعرف أن رأيك هناك من يخالفه، وأن الآخرين عندهم منطلقات وعندهم مسوغات، سيؤدي ذلك بك ولو لم تغير قناعتك إلى أن تغير من حماسك لرأيك، أن تغير من جزمك وقطعك بصواب ما أنت عليه، وترى أن القضية تحتمل الرأي وتحتمل النقاش.

    غياب الحوار

    العاشر: غياب الحوار:

    الحوار يعود الناس على الاعتدال، الحوار العلمي، الحوار الموضوعي، إننا نتحدث كثيراً -أيها الإخوة- عن أدب الحوار، ولو ذهبت إلى المكتبات ستجد أشرطة كثيرة وستجد كتباً كثيرة تتكلم عن أدب الحوار، لكن في الواقع لا نمارس الحوار في واقعنا وحياتنا بشكل جيد، تجد أننا حينما نتناقش تعلو أصواتنا، ونتناقش نقاشاً غير موضوعي، ونتناقش نقاشاً فيه اتهام للنوايا .. إلى آخره، إنه إذا ساد الحوار سيجعلنا نتوازن في مواقفنا، سيجعلنا نعتدل في حماسنا لرأينا، حتى ولو لم نرجع عن هذا الرأي، الحوار سيهيئ بيئة تقلل من الاندفاع، تقلل من التطرف في الآراء والمواقف.

    ردة الفعل

    الأمر الحادي عشر: ردة الفعل:

    ردة الفعل دائماً تؤدي إلى الغلو، وردة الفعل قد تكون من خطأ شخصي، بعض الناس الذين كانوا على معصية، كانوا في ضلال وانحراف، إذا تاب بعضهم قد يجنح إلى الغلو كردة فعل لواقعه السابق، بعض الناس الذين كانوا في أيام انحرافهم يقعون في فساد خلقي -مثلاً- تجده يبالغ في اتهام الناس في القضايا الخلقية، والذي كان في فساد مالي أياً كان التقصير الذي يقع فيه، قد يقع في ردة الفعل، إما أن يقسو على نفسه في هذا الأمر أو يتهم الآخرين به، كذلك من يقصر في شيء، كشاب يقصر في عنايته بطلب العلم واهتمامه به، ثم يفيق بعد ذلك ويشعر أنه ضعيف في هذا الأمر، قد تجده يبالغ ويغلو في هذا الأمر على حساب أمور أخرى مهمة وضرورية، وقل مثل ذلك في أي أمر وأي جانب من جوانب حياته وجوانب شخصيته، وكذلك ردة الفعل من سوء الواقع، الواقع السيئ يولد ردة فعل، حينما يرى الإنسان منكرات، يرى واقعاً سيئاً، يرى سوءاً، يرى فساداً، وليس كل الناس يجيدون التوازن في ردة فعلهم تجاه هذا الواقع، فقد يجنح الإنسان إلى نوع من الغلو كما نلحظ، قد يغلو في التكفير، قد يغلو في الحكم على المجتمع، قد يغلو في رؤيته للإصلاح.. إلى غير ذلك؛ نتيجة هذا الواقع السيئ الذي عايشه، وهي ردة الفعل تجاه الغلو السابق، ولهذا تجد من يغلو في مقابل هذا الغلو، قد يوجد -مثلاً- شخص يجتهد في تطبيق السنة ويحرص عليها فيبالغ في ذلك، فيسيء أو يغلو في هذا الأمر، فتجد بالطرف الآخر من يغلو في هذا الأمر ويسخر ممن يطبق السنة، ويجعل هذه الأمور أموراً هامشية، هذا الغلو والتطرف نشأ كردة فعل لذلك التطرف الآخر، ولو تأملت في الفرق الضالة التي نشأت لوجدت أن كثيراً منها نشأ ردة فعل لتلك الطائفة الأخرى.

    وكذلك اليوم حين يوجد من يتصرف تصرفات باسم أي موقف شرعي، باسم إنكار المنكر مثلاً، باسم الجهاد، قد يتصرف الإنسان تصرفاً غير مشروع، ويعتقد أن هذا العمل هو من الجهاد في سبيل الله، قد يقابله ردة فعل، ولمسنا شيئاً من هذا ممن يهمش موضوع الجهاد، ممن يكون عنده انقباض من إطلاق كلمة الجهاد أصلاً، مع أنك حينما تقرأ القرآن لا تكاد تجد سورة من سور القرآن تخلو من الحديث عن هذا الأمر العظيم الذي هو ذروة سنام الإسلام، تجد من يفسر الجهاد بأنه رد العدوان فقط، وأن الأمة أمة لا تبدأ بالعدوان.. إلى غير ذلك من تهميش هذه القضية، وهي ردة فعل لتصرف شخص قد يكون اجتهد اجتهاداً خاطئاً في أمر من الأمور، وهذا لا يعني أن نعالج هذا الخطأ -إذا كان خطأً- بخطأ في الطرف الآخر، وقل مثل ذلك في كثير مما تراه في الساحة من مواقف كثير منها يكون منشؤه ردة فعل من خطأ الآخرين، ومن هنا يجب حينما نعالج موقفاً أن نتوقف كثيراً، ففرق بين موقف ننشئه ابتداء في ظروف طبيعية، وبين موقف ننشئه كردة فعل من خطأ آخر، وكون الآخرين يخطئون لا يعني أن موقفنا صحيح، لا يعني أن موقفنا سليم، قد يخطئ الآخرون فنخطئ نحن في الطرف المقابل، ولهذا يجب أن يكون عندنا حذر من ردة الفعل في نقدنا للآخرين، وهذا كثيراً ما تلمسه في الردود، إذا رأيت من يرد بعضهم على بعض تجد أن كلاً منهم يجنح إلى التطرف في جانب ومجال آخر.

    غياب النسبية

    الأمر الأخير: غياب النسبية:

    هناك أمور هي حق أو باطل، واضحة؛ ما جاء في الكتاب والسنة، فالأمور الظاهرة المشتهرة ليس فيها مجال لأن يناقشها الناس، لكن هناك أمور فيها نسبية، هناك مسائل اجتهادية ليس فيها نص، وهي محل اجتهاد، هناك أمور تتعلق بالتعامل مع الواقع؛ الأفكار الدعوية، المشروعات، تقويم الواقع، المشروعات الإصلاحية، كثير من القضايا التي هي محل حوار وجدل اليوم بين المصلحين والغيورين هي في ضمن هذه الدائرة، هذه الدائرة فيها نسبية كبيرة، فحينما أدعو إلى مشروع، حينما أدعو إلى برنامج، وأعتقد أن هذا الموقف صحيح، قد يكون موقفاً صحيحاً بنسبة معينة في مثل هذه الحالات، ليست القضية إما صواب وإما خطأ، إما حق وإما باطل، الحق ما وافق الكتاب والسنة صراحة، والباطل ما خالف الكتاب والسنة، وفيما سوى ذلك هناك أمور كثيرة تبقى مجال رأي، مجال اجتهاد، وهي قضايا نسبية، فالنسبية غائبة في تفكيرنا في هذه الدائرة، ولهذا نحن نريد أن نحسم القضية، فإما صواب وإما خطأ، إما حق وإما باطل.

    أذكر شخصاً كنت أتحدث معه حول موضوع عن تدريس القرآن الكريم ومشكلة ضعف الطلاب في دراسة القرآن، فيقول: غير صحيح أن تأتي وتضع استبانة وتسأل الناس: كم نحتاج من حصة للقرآن؟ هذا إن ساغ فلا يسوغ في العلوم الشرعية، العلوم الشرعية ما فيها إلا صواب أو خطأ، ما فيها إلا حق أو باطل!

    وهي قضية ليست قطعية، فحين نقول: كم ينبغي أن يدرس الطالب من حصة في القرآن الكريم؟ فليست هذه مسألة حق وباطل، يعني: حينما أقول أنا: يدرس حصة واحدة، وأنت تقول: يدرس حصتين، والآخر يقول: يدرس ثلاث حصص، هذه قضية نسبية ليست قضية حق وباطل، الحق ما وافق الكتاب والسنة، والباطل ما خالف الكتاب والسنة، أما ماذا ندرس الطالب؟ وكيف ندرس الطالب؟ فهذه قضية من الطبيعي أن تختلف فيها الآراء، ومن الطبيعي أن تختلف فيها المواقف.

    كنا نتناقش مع بعض الإخوة حول مناهج العلوم الشرعية، فكان شخص يقول: إن العلوم الشرعية ثابتة مستندة إلى الكتاب والسنة، قلت: يا أخي الكريم! لسنا نتحدث عن المحتوى العلمي الشرعي، نحن نتحدث: كيف نسوغ المنهج، كيف ننظم المحتوى، كيف نعد المنهج؟ هذه قضية ليست ثابتة، هذه قضية نسبية وتختلف فيها الآراء، حتى مناهج العلوم الشرعية، يمكن أن نراجعها ونعيد فيها النظر، ليست القضية في محتوى هذا العلم، ليست القضية في موقفنا من الجهاد، في موقوفنا من الولاء والبراء، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن كيف نقدم المادة للطالب باللغة التي يفهما؟ كيف ننظم محتوى المادة؟ هذا شيء والمحتوى شيء آخر.

    فغياب النسبية يؤدي إلى مبالغة ويؤدي إلى غلو، فيعتقد الإنسان أنه مادام يتحدث عن قضية شرعية بدافع شرعي، فإن موقفه صواب مائة في المائة وحق مائة في المائة، وحينئذ يرى أنه على الحق ومن يذمه يذم إنساناً يعمل بالحق ويدعو إلى الحق، مثل الإنسان الذي ينكر منكراً بطريقة غير صحيحة، حينما تنكر عليه، يقول لك: أنت ضد الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، أنت تقف مع أهل الفساد، وليس بالضرورة ذلك، لست أقف مع أهل الفساد ولست أقف ضدك، لكن هذه وجهة نظري أن هذا العمل الذي تقوم به لا يؤدي النتيجة، أن هذا الأمر لا يحقق المصلحة، فرق بين أن أعترض على أسلوبك أنت، بين أن أعترض على عملك، وبين أن أطرح رأياً آخر غير رأيك، ليس في ذات المنكر، إنما في طريقة تعاملنا معه، فموقفنا من المنكر وإنكاره قضية، وتلك قضية أخرى.

    أعتقد أن الوقت يضيق، ولعل هذا الحديث عن إبراز بعض مجالات وأسباب غياب الاعتدال لعله أن يفيدنا كثيراً في النزوع إلى الاعتدال والسعي دائماً إلى أن نراعي الاعتدال في مواقفنا وأن نعلم أن مجرد أن نعتقد أننا نقف موقف حق لا يسمح لنا أن نتجاوز إلى أقصى حد، وأننا حينما ننطلق من فهم لموقف شرعي لا يعني أن موقفنا كله صحيح وموقفنا كله سليم، فينبغي أن نتعامل دائماً بعلم وعدل، والأمور كلها بعدل حتى العبادة والطاعة كما قلنا، إذا جاوز فيها الإنسان القدر فإنها تتحول إلى غلو وتنطع مذموم.

    أعتقد أن الوقت يفرض علي أن أتوقف هنا، وإن كانت بقيت بعض القضايا والنقاط التي تحتاج إلى إشارة، لكن لعله أن يأتي في الأسئلة ما يمكن أن يجعلنا ننبه عليها.

    1.   

    الأسئلة

    الموقف من خطأ كثير الخير

    السؤال: ما قولكم في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم)، أليس هذا دلالة على تجاوز أخطاء من كثرت حسناته؟

    الجواب: لا شك بأن خطأ من غلبت حسناته وخيره ليس كخطأ غيره، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه حينما فعل ما فعل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).

    مكانة العلماء والموقف من زلاتهم

    السؤال: بعض الناس قد يفهم من الاعتدال في التعامل مع أخطاء العلماء التجاوز في بيانها، وعدم احترامهم وقلة الأدب معهم، كما يحصل من بعض الشباب، فما رأي فضيلتكم؟

    الجواب: وهذا من عدم الاعتدال، يعني: العلماء لهم مكانة وجلالة وقدر ومنزلة ينبغي أن نعرفها لهم، حينما يقف أحدهم موقفاً لا يعجبنا فلسنا بحاجة إلى الغلو فإما أن نقول كما قال أو أن نذمه ونعيبه، لا، بل لا يليق، يعني: ليس بالضرورة أن كل كلام لا نوافق عليه نتحدث عنه في المجالس يمنة ويسرة، هذا أمر.

    الأمر الثاني: حين يخالفنا إنسان في طريقة التفكير في نظرته للأمور فلا ينبغي أن نلغيه تماماً، ينبغي أن نفرق بين تحفظنا على كلام إنسان وموقفه، وبين شخصه، ولا شك أننا نجد ونسمع تطاولاً الآن من كثير من الشباب على أهل العلم؛ نتيجة مواقف وقفوها، أهل العلم بشر، نحن لا نقول: إنهم معصومون، لا نقول: إنهم لا يتكلمون إلا بالحق، لكن لو قال أحد من أهل العلم كلاماً نعتقد نحن أنه ليس حقاً، فينبغي ألا نتبعه في هذا، لكن نحفظ له مكانته وقدره وجلالته، ونبحث له عما نعذره به.

    غاية التحذير لا تبرر وسيلة المبالغة

    السؤال: هل يمكن استخدام المبالغة والتحجيم في تنفير الناس من أمر معين؟

    الجواب: لا، حين تنهى الناس انه الناس باعتدال، لا أعتقد أن المبالغة تسوغ أبداً؛ لأن معنى مبالغة ما هو؟ ما معنى الغلو؟ أن نجاوز القدر الشرعي والقدر الطبيعي.

    الوسطية المطلوبة في العلاقات الأخوية

    السؤال: هل لك أن توجهنا إلى كيفية الاعتدال في العلاقات الأخوية، حيث إنها بين إفراط يصل إلى حد التعلق، وتفريط يصل إلى حد الجفاء؟

    الجواب: وصلت إلى الإجابة، يعني: الأخ عرض لنا نموذجين: نموج المبالغة الذي يصل إلى حد التعلق والوله ونحوه، فهذا تجاوز للاعتدال، أو الجفاء الذي يلغي حقوق الأخوة، فالحق وسط بينهما، وكل إنسان لا يخلو من أن يبالغ، لا يخلو من أن يقع في الغلو، فحينما نقول هذا لا يعني أننا نريد أن يكون إنسان منا متميزاً في كل شيء معتدلاً في كل شيء، فيبقى الإنسان بشراً، يمكن أن يغلو في موقف، ويمكن أن يصلح في موقف آخر، لكن ينبغي أن يسعى الإنسان بقدر الإمكان إلى أن يقترب من الكمال.

    كيفية الاعتدال في جلب ما يحمل الخير والشر

    السؤال: هناك من الناس من يدخل في بيته الدش، وهناك من يمنع نفسه وأولاده من التلفزيون، فهل الاعتدال وضع التلفزيون دون إدخال الدش والإيريل؟

    الجواب: لا، أعتقد أن الاعتدال أنه لا يضع تلفزيوناً ولا دشاً، يمكن أن يضع فيديو فيه أفلام إسلامية، هذا الاعتدال، ليس الاعتدال قضية مصطلح، أن أقف عند خمسة عشر من ثلاثين، ليس هذا هو الاعتدال، هذه كلها أمور محرمة، إنما هي دركات، فليس الاعتدال أن يقف الإنسان في نقطة وسط فيها، إنما الاعتدال هنا: ألا يمنع الرجل أهل بيته وسائل الترفيه المباحة، وألا يضع عندهم وسائل الترفيه المحرمة.

    ضرر الحديث في مسائل الدين بغير علم

    السؤال: ما رأي فضيلتكم فيمن يجلسون يتحدثون في كثير من مسائل الفقه رغم أنهم غير مؤهلين في هذا العلم، وتجدهم كثيري الاختلاف فيما بينهم، بحيث لا يخرجون بأي فائدة، أرجو النصح؟

    الجواب: إذا تحدث الإنسان بشيء لا يعلمه لن يأتي بجديد، لو تحدثت الآن وإياكم عن قضية الكترونية، كنظام التكييف وما هو الأفضل للمسجد هذا التكييف المخفي أو غير المخفي؟ لن نصل إلى نتيجة؛ لأننا لسنا أهل علم بهذا الأمر، فالحديث دائماً ينبغي أن يكون بالعلم، الحديث في مسائل الدين، لا حرج في أن يتناقش الناس في مسائل الشرع دون أن يقولوا على الله ما لا يعلمون، فيرجعون إلى أهل العلم بالأدلة الشرعية، لكن يتناقشون بعلم وأدلة شرعية، أما الجدل واللجاج فلا، تجد بعض الناس -والله- لا يقرأ القرآن قراءة سليمة، يلحن حينما يقرأ القرآن، لا يجيد الصلاة، لو سألته عن أركان الصلاة أو مبطلات الوضوء فربما أخطأ فيها، ومع ذلك تجده يقول رأيه في قضايا كبار ويفتي وكأنه إمام من الأئمة، ويسفه الآخرين.

    حكم الإسراع بالصلاة في المسجد خشية الرياء

    السؤال: أنا رجل أصلي صلاتي غير الصلاة التي أصليها في البيت، وهي صلاة خاشعة، أما في المسجد فأسرع حتى لا يقول الناس عني: إنني مراء، وأنا -والله- أبتغي بها وجه الله، فهل أخشع أم لا؟

    الجواب: لا يجوز أن تسرع في صلاتك، إذا كنت أمام الناس فاعمل العمل الذي تعمله سواء كنت في المسجد أو في المنزل، فإذا أردت أن تصلي في المسجد فصل كما تصلي في المنزل، لا تتعمد أن تخل بهذه الصلاة بعداً عن الرياء.

    الوسطية في تقويم آراء الأشخاص

    السؤال: عند تقويم رأي أي شخص فإننا ننظر إلى الرأي وكأننا لا نعرف الشخص، مع أننا نعرف الشخص، فهل هذا القول صحيح، أم هناك وجهة أخرى نظر للتقويم؟

    الجواب: هذا تطرف وذاك تطرف، أن نلغي الأشخاص تماماً هذا تطرف، وأن نسلم بآرائهم هذا تطرف، ولهذا تجد -مثلاً- أهل العلم يحتجون يقولون: وبهذا القول قال فلان وفلان، يحتجون بأقوالهم، ويرون أن هذا القول له قيمة، فإلغاء آراء الأشخاص غير صحيح، هناك ناس معروفون من أهل الرأي في أي أمر من الأمور؛ في الفقه في السياسة في الإعلام في الاقتصاد، في أي مجال هناك أهل رأي وكلامهم له وزن، بل أنت أحياناً حينما تريد أن تبحث في مسألة وتطمئن لقول من الأقوال، فحينما تجد قول شخص آخر من الأئمة المعتبرين يخالف هذا القول لا ترتاح لما تقرر عندك، فهذا طبيعي، فإلغاء آراء الأشخاص مطلقاً غير طبيعي، وأيضاً التقليد المطلق غير طبيعي، أنا كنت أتناقش مع بعض الشباب المفتونين باللوثة العقلية والمناقشة فما أدري ما الذي أثار عنده القضية، فقلت: الذي يحكمنا هو الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح، فقال: لا، فهم السلف الصالح ما هو بملزم، ثم قال: يا أخي! إذا كان قول الصحابي ليس حجة، فكيف بفهم السلف الصالح؟! إلى هذا الحد من سوء الأدب مع السلف، ويتكلم بعضهم عن التابعين وعن الأئمة بكلام كأنه يتحدث عن أي إنسان عادي، هذا نوع من الغلو ونوع من سوء الأدب، وفي النهاية سيبقى الأئمة أئمة لهم وزنهم، لهم قيمتهم، آراؤهم لها قيمة، ولسنا مع العصمة والغلو، لكن هذا النموذج هو غلو، وقد نلمس هذه الظاهرة عند بعض الشباب الذين لا يقيمون وزناً لأحد، يعني: يتكلمون عن شيخ الإسلام ، عن الإمام أحمد ، عن محمد بن عبد الوهاب ، عن أي إمام آخر فيقولون: الناس سواء، والمسألة محل رأي واجتهاد، والسلف أخطئوا في تعاملهم مع الخوارج، وأخطئوا في تعاملهم مع أهل البدع.. إلى آخره، فأحياناً تسمع حديثاً أستغربه وجرأة غريبة، وهذا هو غلو وردة فعل.

    المراد بالاعتدال في المسائل الاجتهادية

    السؤال: هل الاعتدال معناه: التساهل في المسائل الخلافية؟

    الجواب: أولاً: هناك فرق بين المسائل الخلافية والمسائل الاجتهادية، هناك مسائل خلافية، لكن فيها نص واضح، أما المسائل الاجتهادية فليس فيها نص واضح، العلماء يجتهدون في فهم واحد، ليست القضية تساهلاً، أنا -مثلاً- قد يتقرر عندي وجوب هذا الأمر؛ قد يتقرر عندي وجوب زكاة الحلي فأخرجها وألزم أهلي بإخراجها، لكن حينما يأتي شخص يستقر عنده القول الآخر لا أذمه ولا أعيبه، لا أقول: إنه من حطب جهنم، بل هو لا يأثم عند الله مادام اقتنع بهذا الأمر ديانة، لا يأثم عند الله عز وجل، فهو بين أجر أو أجرين، هنا الاعتدال، يعني: نحن لا نلغي المسائل الاجتهادية، ونميعها، ليعمل الإنسان بما يحلو له، يقول: ما دامت المسألة محل اجتهاد فخذ ما يحلو لك، خذ بالأيسر، هذا غير صحيح، بل يأخذ بما يرى أنه يبرئه عند الله عز وجل، وقد يلزم نفسه بذلك، وقد يستقر عنده هذا القول، ويترجح عنده بنسبة عالية، لكنه يعذر الآخرين حين يخالفون هذا الرأي؛ لأن المسألة محل خلاف.

    ميزان الاعتدال

    السؤال: ما هو الميزان الحقيقي للاعتدال، وهل يختلف من مجتمع إلى آخر؟

    الجواب: عندنا ميزانان: ميزان الشرع، وميزان العقل الصحيح، فما وافق الشرع ليس فيه غلو، مع التفريق بين فهم الناس للشرع وبين نصوص الشرع؛ لأن بعض الناس -مثلاً- يستدل بقول الله عز وجل: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2] فيطبق هذا على أهل المعاصي، بينما نجد النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن الأمة: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب)، يعني: يجلدها الحد، لكن لا يلومها ولا يؤنبها، ولما قالوا في شارب الخمر: أخزاك الله، قال: (لا تعينوا الشيطان عليه)، فالشرع هو ميزان العدل، ما دل عليه الشرع فهو عدل وهو الوسط وهو الميزان، لكن أيضاً ينبغي أن نحذر أحياناً من فهمنا الخاطئ لنصوص الشرع، ثم ما سوى ذلك العقل والمنطق، هناك أمور كثيرة ليس فيها نص للشرع، إنما تركت للناس؛ كوسائل الدعوة، وتقويم واقع الناس، هناك أمور تركت لاجتهاد الناس وعمل الناس، أن يجتهدوا في البحث عما هو الأصلح في حياتهم في مثل هذا الأمر، فميزان الاعتدال في هذا العقل والمنطق، والرأي المبالغ فيه -حتى لو كان حقاً- قد تجاوز صاحبه في مبالغته في هذا الرأي.

    الموقف من اشتغال الدعاة بإخوانهم وترك ما هو أهم

    السؤال: بماذا تفسر ظاهرة الردود على بعضنا من خلال اختلاف الآراء واختلاف المناهج، وتربص بعضنا ببعض وترك الساحة خالية للعلمانيين والحداثيين المفسدين يعيثون في الأرض فساداً ولا يجدون من يرد عليهم، ويفضح منهجهم الخبيث؟

    الجواب: هذا نموذج من الاشتغال، لا أقول: بالمفضول عن الفاضل، إنما الاشتغال بالخطأ عما ينبغي أن نشتغل به ونعتني به، نعم ينبغي أن يبين الخطأ إذا حصل، لكن نبينه بحجمه، ثم لا يشغلنا مثل هذا الأمر عما هو أهم من ذلك.

    الفرق بين الغلو والتطرف

    السؤال: كيف يمكن لنا أن نفرق بين الغلو والتطرف في نظرك؟

    الجواب: التطرف مصطلح جاء في لغة العرب، ولهذا يقولون: تطرفت الناقة: إذا رعت من أقصى المرعى، تطرفت الشمس: إذا قربت من الغروب، لكن الشرع جاء بمعنى الغلو، فأنا أفضل أن نستخدم الغلو، لكن التطرف يشمل طرفين، ولهذا آثرت أن أعبر بـ (غياب الاعتدال)؛ لأنه يعني الاتجاه ذات اليمين وذات الشمال، والغلو غالباً يطلق على الزيادة عن القدر المشروع.

    صلة الاعتدال بالبحث عن النوايا حال تحليل المواقف

    السؤال: تحليل المواقف والبحث في النوايا للتثبت هل يعد من غياب الاعتدال؟

    الجواب: من الاعتدال أن نتحدث نحن عن المواقف بعيداً عن النوايا، أن نفسر بناء على أدلة واضحة، يعني: حينما أقول: إن الدافع لهذا العمل هو كذا، ينبغي أن يكون عندي أدلة، حينما أصل إلى نتيجة يكون عندي أدلة، ثم -أيضاً- أن أنظر في الأدلة الأخرى، وتكون درجة جزمي بالنتيجة التي أصل إليها مبنية على الأدلة التي تؤدي إلى ذلك.

    منزلة الجهاد

    السؤال: هل الجهاد في الوقت الحالي أصبح ظاهرة اجتماعية قد تكون شبه انتقامية، ولذلك أنكرت في المجتمعات الإسلامية؟

    الجواب: الجهاد فريضة إسلامية، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الجهاد ذروة سنام الإسلام، والله عز وجل أخبر أنه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، ولو قرأنا في القرآن الكريم الآيات التي تتحدث عن الجهاد ومنزلته لعلمنا عظم منزلة هذه الشعيرة العظيمة، بل النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بعثت بالسيف بين يدي الساعة)، وقال: (الجهاد ماض إلى اليوم القيامة)، ولا شك أن الأمة إنما أصيبت بما أصيبت به لما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم)، ولا شك أن جزءاً مما أصاب الأمة من هوان وضعف وذلة هو بتركها هذه الفريضة العظيمة، ونحن نستبشر الآن بما نراه من مواطن الجهاد في فلسطين في أفغانستان في الشيشان في أندونيسيا في غيرها من المواطن التي رفع فيها إخواننا راية الجهاد، وأؤكد على ما قاله أخونا الفاضل، أنه من حقهم علينا أن ندعو لهم، أن نتبرع لهم، أن نعرف بقضيتهم، أن نقف معهم ولو بمشاعرنا إذا عجزنا أن نشاركهم في أبداننا، فلا أقل من أن نشاركهم بأموالنا، بدعائنا، بنصرتنا لهم، نعم قد يوجد بعض الشباب ممن يتصرف تصرفات تفسد أكثر مما تصلح، كما يحصل في بعض المجتمعات الإسلامية، يعني: بعض الشباب يرى واقعاً لا يصبر عليه، فيجر مجتمعات المسلمين إلى أعمال دافعه إليها خير ودافعه في ذلك الجهاد، لكن هذه الأعمال مفاسدها قد تكون أكثر من مصالحها، وتؤدي إلى مفاسد أكثر، والجهاد إنما شرع لإقامة دين الله عز وجل، وقد يكون بعضها إعاقة لإقامة دين الله، وقد يكون سبباً لتسلط المفسدين والأعداء على أهل الخير والصلاح، فينبغي أن ينظر في ذلك إلى المصلحة الشرعية والمفسدة، فالجهاد لم يشرع لمجرد أن يقاتل المسلمون الكفار، إنما شرع لإقامة دين الله عز وجل، فإذا كان في هذا إقامة لدين الله عز وجل ونصرة لدين الله فنعم، أما إذا كان فيه مفاسد أكثر من مصالحه؛ فالأولى أن تجنب بلاد المسلمين ومجتمعاتهم مثل هذه الفتن وهذه الأوضاع، أما القتال الواضح اليوم بين مسلمين وكفار -كما يحصل في فلسطين، أو يحصل في الشيشان أو أفغانستان أو غيرها من البلاد- فهذا لا شك أنه حق مهما قال عنه الأعداء: إنه إرهاب وعدوان، هذا حق، ومعظم المسلمين لا تجدهم يختلفون على مثل هذا النوع من العمل، فواجبنا أن نقف معه وندعمه، وإذا أخطأ أحد في تصرفاته لا ينبغي -كما قلت- أن نشكل موقفاً نحن من مثل هذا العمل، بل ينبغي أن نقف موقفاً معتدلاً ومتوازناً.

    والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756254356