إسلام ويب

شكر النعمةللشيخ : عبد الله الجلالي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد أسبغ الله جل وعلا علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وهي لكثرتها لا تعد ولا تحصى، وقد أمرنا الله سبحانه بالشكر، ووعدنا بالزيادة، فهو الكريم العظيم، وكلما شكر العبد ربه زاده من فضله، ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وشكر النعم هو القيام بما أوجبه الله تعالى تجاهها، وصرفها في مرضاته وطاعته سبحانه وتعالى، وكفر النعم هو ضد ذلك، وهو سبب لزوالها وانقلابها نقمة وعذاباً.

    1.   

    نعمة المال والأكل من رزق الله تعالى في الأرض

    الحمد لله، الحمد لله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وكل شيء عنده بمقدار، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.

    اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله، ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته وسلم تسليماً كثيراً.

    أما بعد:

    أيها الإخوة في الله! أيها الأحبة في العقيدة! افهموا فوائد المال وحقيقته، واسمعوا قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:168-169].

    في هذه الآية الكريمة يبين الله سبحانه وتعالى أن كل ما في أيدي الناس جميعاً من نعمته، فيأمر الناس عامة: برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، بأن يأكلوا من رزقه، فإن الله سبحانه وتعالى لطيف بعباده: يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [البقرة:212]، يعطي الدنيا المؤمنين وغير المؤمنين، ولكن هذه الدنيا إنما هي للمؤمنين، وما فيها من المتاع والنعيم إنما هو لهم، مع أنهم يشاركهم فيها غير المؤمنين، ولكنها خالصة لهم يوم القيامة، يقول سبحانه وتعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف:32].

    وفي آية أخرى يدعو الله المؤمنين إلى الأكل من رزقه، ويبين أنه خلقه من أجلهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172].

    والفرق بين هاتين الآيتين: أن الآية الأولى أمرت الناس عامة أن يأكلوا من رزق الله وما في الأرض.

    أما الآية الثانية فإنها أمرت المؤمنين وأباحت لهم أن يأكلوا من رزقهم الذي خلقه الله عز وجل من أجلهم.

    شروط الأكل من رزق الله

    حينما نعود إلى الآية الأولى نجد أن الأكل من رزق الله، والأكل مما في الأرض لا بد أن يتوافر فيه شرطان:

    الشرط الأول: أن يكون حلالاً طيباً، فعلى المؤمنين خاصة أن يجتنبوا الحرام، سواء في ذلك الحرام لذاته، وهو ما حرم من أجل ذاته؛ كالميتة والدم ولحم الخنزير، أو ما حرم من أجل غيره من أموال الناس، ومما يحصل عليه من الكسب الحرام.

    الشرط الثاني: ألا يتبعوا حينما يأكلون رزق الله في الأرض خطوات الشيطان، ولا يسيروا على آثاره ويتبعوا نهجه، سواء في ذلك شياطين الإنس أم شياطين الجن، ثم بين سبحانه وتعالى النهي عن اتباع خطوات الشيطان والأمر بالسير على أوامر الله فقال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [البقرة:170].

    1.   

    ابتلاء الله لعباده بالعطاء والحرمان من النعمة

    معشر المسلمين! إن سنة الله في هذه الحياة أن يذيق هذا الإنسان رحمته، والمراد بالرحمة هنا: نعمة المال ولذته، حتى إذا عض على هذه النعمة بالنواجذ نزعها الله من الكافر والباغي نزعاً، حتى إذا أبدله النعمة إثماً وأبدله المال فقراً، وأبدله الصحة مرضاً والأمن خوفاً؛ نسي ما كان بالأمس، وظن أن نعمة الله لن تعود إليه أبداً منذ تلك اللحظة التي يفارقها.

    يقول الله عز وجل عن هذا الأمر: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ [هود:9]، (نزعناها) أي: أخذناها بقوة وبشدة وبسرعة إذا لم يكن أهلاً لهذه النعمة: ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ * إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [هود:9-11] .

    معشر المسلمين! إن سنة الله في الحياة أن يرد الناس إليه طوعاً أو كرهاً، وحينما ينحرف الناس عن دين الله، وحينما يتنكبون عن طريقه المستقيم، يبتليهم في بادئ الأمر بالفقر والمسغبة والخوف والجوع والأمراض والأسقام، فإما أن يتراجعوا ويعودوا إلى الله عز وجل، وإما يتمادوا في غيهم، فإن الله يمتحنهم في المرحلة الثانية بالنعيم، يمتحنهم بالنعم والأمن والأرزاق تأتيهم رغداً، ثم بعد ذلك إذا لم يعرفوا قدر نعمة الله عليهم أخذهم سبحانه وتعالى أخذ عزيز مقتدر.

    تجدون هذه المعاني كلها في قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ * أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [الأعراف:94-100] .

    معشر المسلمين! وهكذا يمتحن الله عز وجل الناس عامة بالفقر والمسغبة، ثم يمتحنهم بعد ذلك بالمتاع والنعيم، فإذا لم يؤثر فيهم هذا وذاك فإن أخذه إليم شديد.

    استدراج الله تعالى للعاصي بالنعم

    معشر المسلمين! ولربما يغتر طائفة من الناس بهذا النعيم، ويظنون أنه مقياس السعادة، وأنه علامة من علامات الرضا، وإذا ناقشت هؤلاء قالوا: الناس في خير! الناس في نعمة! هؤلاء الكافرون منذ القدم يرفلون في نعم الله ولم يأخذهم، ونسوا عند طرحهم لهذه الشبهة أن الله سبحانه وتعالى يقول: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:44-45] .

    أما هؤلاء الكافرون الذين يرفلون منذ القدم في نعم الله فإن الله يقول عنهم: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16].

    معشر المسلمين! إياكم واستعمال المقاييس! وإياكم أن تخدعكم هذه النعمة! وأنا حينما أخاف لا أخاف على أولئك المخضرمين الذين عاشوا فترة الجوع والمسغبة والخوف والجوع؛ فإن هؤلاء يدركون نعمة الله عليهم اليوم في كثير من الأحيان -وإن كان كثير منهم قد غير وبدل- ولكني أخشى على هذه الناشئة الجديدة التي ولدت وكما يقول المثل: وفي أفواهها ملاعق من ذهب، لا تسمع إلا عن مئات المليارات من ميزانية الدولة، ثم يظنون أن هذا النعيم كان قديماً، وأنه سيبقى لهم إلى الأبد!

    معشر المسلمين! احذروا هذا الفهم الخاطئ، واعلموا أن الله يقول: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف:182]، أي: ندنيهم من العذاب درجة بعد درجة، بطريق لا يدركون أنه من العذاب، وأقرب ما يكون ذلك حينما تكون العقوبة نوعاً من النعيم في ظاهر الأمر.

    أيها المؤمنون! استجيبوا لأمر الله، واستقيموا على دينه، واعلموا أن النعمة قد تصيب القوم مع طاعة الله، وقد تكون علامة من علامات الرضا، أو نوعاً من الجزاء العاجل يعجله الله للمؤمنين، يقول سبحانه: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [الجن:16] ، ثم يقول بعد ذلك: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [الجن:17] ، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ [الأعراف:96] .

    1.   

    أخذ الله تعالى لمن كفر نعمته ولم يشكره عليها

    إن علينا أن نشكر هذه النعمة، فلا نستعملها في معصية الله، ولا نقابلها بكفر المنعم سبحانه وتعالى، فلسنا بحاجة إلى معاهد للموسيقى، أو ننفق أموال الله في مثل هذا السبيل؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق، لهم النار يوم القيامة).

    إن الجهاد في سبيل الله الذي يفتح اليوم ذراعيه للمؤمنين أفضل طريق يجب أن ننفق فيه أموالنا وأموال المسلمين.

    فاستقيموا واحذروا سخط الله، وإياكم أن تغركم هذه النعمة، فلقد قص الله علينا أخبار كثير من الأمم كانوا في نعيم أكبر من هذا النعيم، وكان هذا النعيم فتنة، كما في قصة عاد الذين تجبروا في الأرض، وآتاهم الله من النعيم أكثر مما آتى غيرهم من الأمم فقالوا: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [فصلت:15-16] .

    أما قارون فقد قال الله عنه: وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [القصص:76] ، وقد قال له قومه: لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:76-78]، فيقول الله له: أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص:78].

    وكان قد اغتر بهذا النعيم طائفة من قومه: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [القصص:79]، ولكن العقلاء والمؤمنين يقولون لهم: وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [القصص:80]، فكانت النتيجة: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ * َأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [القصص:81-82]، ثم قال تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83] .

    أما بعضهم فلقد يسر الله له كل وسائل المتاع فاغتر وانخدع وتكبر على الله وعلى عباده، فانتقم الله منه، كما قال تعالى: فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلآخِرِينَ [الزخرف:55-56].

    ولعلكم تقرءون قصة سبأ، أولئك الذين آتاهم الله من المتاع حتى كان يسير السائر من اليمن إلى الشام في قرى متواصلة تظله الأشجار، فلما كفروا نعمة الله عز وجل أوقع بهم العقوبة، قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ:15-17] .

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    شكر النعم سبب لدوامها

    الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحبه ربنا ويرضاه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون.

    أما بعد:

    أيها الإخوة المؤمنون! اتقوا الله تعالى وأطيعوه، وكلوا من فضله ونعمته، واشكروا له إن كنتم إياه تعبدون.

    لقد أمر الله عز وجل المؤمنين بأن يتمتعوا بما في الحياة الدنيا من المتاع، وبين أنه خلق ذلك من أجلهم، بل خلق الحياة الدنيا والآخرة كل ذلك من أجلهم، يقول سبحانه وتعالى: إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128].

    المؤمنون هم مطالبون بأن يقابلوا حق الله بالشكر: كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [البقرة:60]، كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى [طه:81]، كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:168].

    أما الذين يستغلون نعمة الله ويخونونها، ويستخدمونها في معصيته، فأولئك شر الخلق في الدنيا والآخرة، وقد أمر الله عز وجل بأن نقوم بالشكر شكراً عملياً لا قولياً: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13]، وإذا كانت هناك نماذج في الأرض كثيرة استغلت نعمة الله في معصيته فقد أخذها أخذ عزيز مقتدر، كما قص الله سبحانه وتعالى علينا قصة سليمان الذي آتاه الله الملك والحكمة، ولكنه أدرك نعمة الله عليه وقال: هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [النمل:40].

    معشر المسلمين! إن الذين يستغلون نعم الله في معصيته إنما يعذبون أنفسهم بعقوبة الله في الدنيا قبل الآخرة: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب:62].

    أما نحن اليوم فإننا نرفل في هذا المتاع العريض، والأمن قد أرخى سدوله في بلادنا؛ بسبب تحكيم شريعة الله عز وجل، ويتخطف الناس من حولنا، فلم نؤد في الحقيقة شكر هذه النعمة. حينما كنا فقراء كنا أطوع لله وأتقى له منا اليوم، أما اليوم فإن أقل ما نتحدث عنه بالنسبة لما حصل في بلادنا التي بليت بهذا النعيم -ولا أقول منحت هذا النعيم- أن اعتمدنا على غيرنا في تربية أولادنا.. اتخذنا الخادمات الكافرات أو المتمسلمات أو -على أحسن الفروض- المسلمات، واختلطن بنا واختلطنا بهن.. اتخذنا الصحافة في كثير من الأحيان وسيلة لهدم الأخلاق والفضائل.

    حينما كنا في فقر ومسغبة كنا أتقى وأطوع لله عز وجل، ونسينا أنه هو الذي يقول لنا: وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء:132-135] .

    إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56] .

    اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارض عنا معهم، اللهم ارض عنا معهم، وارزقنا حبهم، واجمعنا بهم في مستقر رحمتك.

    اللهم اجعلنا شاكرين لنعمك، مثنين بها عليك، وأتمها علينا بفضلك ورحمتك.

    اللهم إنا نشهدك ونشهد ملائكتك وعبادك الصالحين أننا ننكر على كل من استعمل نعمتك في معصيتك، فلا تؤاخذنا بما كسبت أيدينا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، (وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:286] .

    عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90] .

    اتْلُ مَاْ أُوْحِيَ إِلِيْكَ مِنَ الْكِتَاْبِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    757139509