أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى، فإن تقوى الله خير زاد يصحب المرء في حياته الدنيا، وفي سيره إلى الله والدار الآخرة.
أيها المسلمون! إن بلوغ الأهداف الكبرى في الحياة تستلزم تضحيات كبرى مكافأة لها، ولا ريب أن سمو الأهداف، ودرك المقاصد، ونبل الغايات، يقتضي سمو التضحيات وشرفها، ورقي منازلها، وإذا كانت أشرف التضحيات وأسماها هو ما كان ابتغاء رضوان الله تعالى، ورجاء الحظوة بالنعيم المقيم في جنات النعيم، فإن الذود عن حياض هذا الدين، والذب عن حوزته، والمنافحة عن كتابه وشرعه ومقدساته تتبوأ أرفع درجات هذا الرضوان.
ثم إن للتضحيات ألواناً كثيرة، ودروباً متعددة، لكن تأتي في الذروة منها التضحية بالنفس وبذل الروح رخيصة في سبيل الله؛ لدحر أعداء الله ونصر دين الله، وذلك هو المراد بمصطلح الشهادة والاستشهاد.
ولقد بذل رسول الله صلى الله عليه وسلم كل جهده، واستوفى غاية وسعه في ترسيخ جذور هذا المعنى العظيم، وتعميق مفهوم هذا المصطلح الجهادي في نفوس أصحابه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، ثم في نفوس أمته من بعدهم، سالكاً في ذلك مسلكين:
أحدهما: مفتاحهم بيِّن، وإيضاحهم جلي، لما يعتمل في ذات نفسه الشريفة من حب عميق للشهادة، حمله على التمني أن يرزق بها مرات متعددة.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وإنها لأمنية ويا لها من أمنية، كيف انبعثت من هذا القلب الطاهر! معبرة أبلغ التعبير عن هذا الحب العميق، والشوق الغامر، إلى هذا الباب العظيم من أبواب جنات النعيم.
والمسلك الثاني في تبسيط مفهوم الشهادة وإحيائها في القلوب وبعثها في النفوس: فقد ثبت عنه صلوات الله وسلامه عليه في صحيح السنة الشريفة، من بيان محكم، وإيضاح دقيق، لفضل الشهادة، ومنازل الشهداء في دار الكرامة عند مليك مقتدر، وفي الطليعة من ذلك بيان صفة حياة الشهداء عن ربهم.
فعن مروان أنه قال: سألنا عبد الله عن هذه الآية: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]، فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل) الحديث أخرجه مسلم في صحيحه .
ومنها: إن للشهيد عند ربه ست خصال جاءت مبينة في حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة -والدفعة بضم الدال المهملة هي الدفعة من الدم وغيره- ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه) وفي لفظ: (من أهل بيته) أخرجه الترمذي وابن ماجة في سننهما بإسناد صحيح.
ومنها: أنه يخفف عنه نصف الموت، حتى أنه لا يجد من ألمه إلا كما يجد أحدنا من مس القرصة، فقد أخرج الترمذي والنسائي وابن ماجة في سننهم، وابن حبان في صحيحه بإسناد صحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة).
ومنها: أن دار الشهداء في الجنة أحسن الدور وأفضلها، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت الليلة رجلين آتياني فصعدا بي الشجرة فأدخلاني داراً هي أحسن وأفضل، لم أر قط أحسن منها، قالا لي: أما هذه فدار الشهداء).
ومن ألوان الكرامة أيضاً: أن الملائكة تظله بأجنحتها، فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: (جيء بأبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم -أي: شهيداً يوم أحد - قد مثل به، فوضع بين يديه، فذهبت أكشف عن وجهه، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم صوت صائحة فقال: لِمَ تبكين؟! فلا تبكي ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها).
ولهذا كله كان الشهيد وحده من أهل الجنة هو الذي يحب أن يرجع إلى الدنيا، كما في حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا، وأن له ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة) وفي رواية: (لما يرى من فضل الشهادة) أخرجه البخاري ومسلم.
وفي صحيح السنة من أخبار هذا الشوق الظامئ، والحب الطهور، الذي أكرم الله به هذه الكوكبة المؤمنة، والطليعة الراشدة ما لا يحده حد ولا يستوعبه بيان.
فقال عمير بن الحمام: (يا رسول الله! إلى جنة عرضها السماوات والأرض؟! قال: نعم. قال: بخ بخ، قال: ما يحملك على قول: بخ بخ؟ قال: لا والله يا رسول الله! إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: فإنك من أهلها. فأخرج تمرات من قرنه -وهي جعبة النبال- وجعل يأكل منهن، ثم قال: إن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، ورمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل).
فانظروا رحمكم الله كيف استبطأ الشهادة لتأخرها عنه دقائق معدودة.
فهذا حرام يصيح عند استشهاده في وجه قاتله: فزت ورب الكعبة!
وأخبر قاتله من المشركين بعد إسلامه، أنه سأل عن معنى ذلك، فقيل له: إنه قصد الشهادة، فكانت سبباً في إسلام هذا القاتل، أخرج هذه القصة البخاري في صحيحه .
فهاهم شهداء المسلمين في البوسنة والهرسك وفي كوسوفا والشيشان ومن قبل في أفغانستان وفي غيرها من ديار الإسلام.
وها نحن اليوم نرى بأم أعيننا ويرى العالم كله معنا هذه الصور العظيمة المتجددة، من صور الانتفاضة والشهادة -إن شاء الله- على أرض بيت المقدس، وعلى كل أرض في فلسطين المسلمة الصابرة.
عباد الله: إننا في حاجة إلى مواقف وصور تحيي في ضمير الأمة معاني الشهادة، وتبعث في روحها حب الاستشهاد من جديد، سيراً على درب السلف رضوان الله عليهم، ذلك الدرب الذي سلكه من قبلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأنبياء من قبله نصراً لدين الله، ودحراً لأعداء الله.
فيا أيها المسلمون في كل أرجاء الدنيا! النصرة النصرة!! انصروا إخوانكم في بلاد الأقصى؛ فإن نصرهم فرض متعين عليكم فلا تخذلوهم، واسمعوا لقول نبيكم صلوات الله وسلامه عليه إذ يقول: (ما من مسلم يخذل مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته، وما من أحد ينصر مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ، وأبو داود في سننه بإسناد حسن.
ويا أهل العلم وقادة الفكر والرأي في الأمة! جردوا أقلامكم، وابسطوا ألسنتكم في إحياء معنى الشهادة والاستشهاد، وتعميق مفهومهما في النفوس، وترسيخهما في سويداء القلوب، بمختلف الوسائل المقروءة والمسموعة والمرئية.
وإن ما رأيناه في هذه البلاد المباركة، بلاد الحرمين الشريفين -حرسها الله- من صور البذل السخي، والعطاء المتدفق، المنبعث من مختلف المستويات، قادة وعلماء ومسؤولون، رجالاً ونساء، شباباً وشيوخاً وأطفالاً، كل ذلك مما يفرح به المؤمنون، ويشقى به الكافرون الحاقدون من اليهود الطاغين، ومن شايعهم وأيدهم وناصرهم ونازل دونهم من المستكبرين المتجبرين.
وهكذا ما يقع في بلاد المسلمين قاطبة، من صور النصرة والمساندة لإخوانهم في فلسطين، فجزى الله خيراً كل من بذل من نفسه أو ماله لله، ولنصرة إخوانه في الله، ونسأله سبحانه أن تواصل هذه المسيرة المباركة طريقها في البذل والعطاء والفداء.
فإلى المزيد إلى المزيد! والبدار البدار إلى جنة عرضها السماوات والأرض!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد:
فيا عباد الله! لقد دأبت بعض أجهزة الإعلام الأجنبية، على تسمية ما يصدر من إخواننا المسلمين الصابرين في بيت المقدس وفي كل فلسطين من تصدٍ لعدوان اليهود لعنهم الله، ومن تحد لطغيانهم، وبغي وتجبر، دأبت هذه الأجهزة الإعلامية الأجنبية على تسمية ذلك التحدي والإقدام والاستبسال على وصفه بأنه أعمال عنف، وابتنت عليه الدعوة إلى وقف أعمال العنف، وإلى الاستماتة في محاولة إيقافها.
وهذا -يا عباد الله- من تحريف الكلم عن مواضعه، وهؤلاء اليهود المجرمون هم أصحاب هذه الصفة المقبوحة التي سجلها عليهم كتاب الله، وهي أيضاً من تسمية الأشياء بغير أسمائها، خداعاً وتظليلاً منهم ومن أشياعهم من قوى الاستكبار والطغيان.
فإن ما يقوم به إخوانكم المسلمون في فلسطين لا يسمى أعمال عنف كما زعموا، بل انتفاضة مباركة لصد العدوان، وقمع الباطل، ودحر الطغيان، وهذا حق مشروع في جميع الشرائع الإلهية، وفي كل الأعراف والقوانين الدولية، لا يملك إنكاره ولا دفعه إلا جاهل مكابر، أو مغرض خبيث.
فكيف -أيها المسلمون- تسمى هذه الانتفاضة المباركة أعمال عنف؟ وإذا سلمنا جدلاً بأنها أعمال عنف فمن هو الذي أشعل نارها، وأذكى أوارها وألهب جذوتها المغلظة؟ ألم يكن هذا الزعيم المفسد، هو أحد زعمائهم حين اقتحم بجنوده حرمة المسجد الأقصى المبارك، وحين أطلق جنوده النار على الركع السجود؟
إن الحق بيِّن، وكيف يساوى بين الجلاد والضحية، وبين الظالم والمظلوم، وبين المعتدي والمعتدى عليه؟ إن الحق -يا عباد الله- بيِّن، والحقيقة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، لكنه الخداع والتظليل، والمغالطة والمكابرة: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:9].
ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله، محمد بن عبد الله، فقد أمرتم بذلك في كتاب الله، حيث قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وعن سائر الآل والصحابة والتابعين، ومن سار على نهجهم واتبع سبيلهم إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، ودمر أعداء الدين وسائر الطغاة والمفسدين.
اللهم أقم علم الجهاد، واقمع دول الكفر والشرك والفساد والعناد، وانشر رحمتك على البلاد، يا من إليه المرجع وإليه المعاد.
اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزم هؤلاء اليهود ودمرهم، اللهم اهزمهم وانصرنا عليهم، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تغادر ولا تبقي منهم أحداً.
اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في فلسطين، اللهم انصرهم وأيدهم وكن لهم بمنك وكرمك يا كريم يا عظيم، اللهم اجمع كلمتهم، ووحد صفوفهم، وسدد سهامهم، واحفظ أطفالهم ونساءهم وشيوخهم، وارحم شهداءهم، اللهم ارحم شهداءهم، اللهم ارحم شهداء المسلمين في كل مكان، اللهم آتهم ما وعدتهم، وارفع درجاتهم في جناتك جنات النعيم.
اللهم من أرادنا وأراد المسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميره يا رب العالمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا، وهيئ له البطانة الصالحة، ووفقه لما تحب وترضاه يا سميع الدعاء.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23].
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر