الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى : [ والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبداً ولا تبيدان، وأن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلق، وخلق لهما أهلاً، فمن شاء منهم إلى الجنة فضلاً منه، ومن شاء منهم إلى النار عدلاً منه ].
قول المؤلف رحمه الله في بيان عقد أهل السنة والجماعة: (والجنة والنار مخلوقتان)، الجنة هي دار النعيم الكامل التي أعدها الله جل وعلا لعباده المتقين التي فيها (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) ، والنار هي دار العذاب التي أعدها الله جل وعلا للكفار والمشركين، والعصاة من أهل التوحيد. الجنة والنار مخلوقتان أي: أنهما مخلوقتان الآن، وهذا ما عليه أهل السنة والجماعة، ولا خلاف بينهم في ذلك كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، كما أنه يدل على ذلك العقل، فإن في خلقهما وإعدادهما من الحكم ما تقتضيه العقول، وقد جرى على هذا أهل السنة والجماعة وأهل هذه الملة، حتى تكلم في ذلك أهل الاعتزال والقدرية الذين قالوا: إنه ليس من الحكمة خلق الجنة والنار؛ لأنه يجب على الله جل وعلا فعل الأصلح، وليس في خلقهما الآن -قبل الدخول وقبل مجيء الوقت الذي يصير فيه أهل كل دار إليها- حكمة بل هو عبث، تعالى الله عما يقولون، فأوجبوا عدم خلق الجنة والنار، ونفوا أنهما مخلوقتان، وخلق الجنة والنار أمر مستقر وظاهر لكل من قرأ الكتاب أو سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم، فالله سبحانه وتعالى أعد الجنة للمتقين كما قال سبحانه وتعالى: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، وأعد النار للكافرين كما قال جل وعلا: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:24]، والإعداد يقتضي التهيئة والوجود، أما الأحاديث في السنة فهي مستفيضة ولا إشكال فيها، وإذا كان الأمر واضحاً ظاهراً لا يحتاج الإنسان إلى الإسهاب أو التطويل في ذكر الدليل لظهور ذلك، ومما يدل في السنة على وجودهما أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الجنة، ورأى النار صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ورأى الجنة والنار وهو في صلاة الكسوف مع أصحابه رضي الله عنهم، ولا يمكن أن يرى ما لا وجود له، وما قيل: إنه رأى خيالاً ومثالاً ليس بصحيح؛ لأن الأصل فيما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه حق على حقيقته لا مجاز فيه، المهم أن الجنة والنار مخلوقتان معدتان، ولا يلزم من كونهما مخلوقتين أنه قد تم خلقهما من كل وجه، فإن الله يحدث فيهما ما يشاء؛ ولذلك كان قول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، غرس الجنة، فدل ذلك على أنها تهيأ وينشئ فيها الله جل وعلا ما يشاء، لكن من حيث الوجود هما موجودتان، ويكمل الله جل وعلا خلقهما على وجه الاستمرار إلى أن يقضي الله جل وعلا بدخول أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار، لكنهما موجودتان قبل أن يخلق الله جل وعلا الإنس والجن، ويدل لذلك حديث عائشة في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم)، فدل ذلك على تقدم خلق الجنة والنار، ثم إن قول المعتزلة: إنه لا فائدة من خلق الجنة والنار، كذب؛ لأنه وإن كان دخول الأبدان وتنعم الأرواح على وجه الكمال لا يكون إلا في الدار الآخرة، وكذلك النار، إلا أن الأرواح تدخل الجنة، فإن أرواح المؤمنين في الجنة تسرح وتتنعم، وكذلك أرواح الكافرين في سجين، فقولهم لا معنى له، وهو من التحكم، والله جل وعلا هو الحكيم الخبير فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:107]، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].
قال الله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، يقول رحمه الله: (والخير والشر مقدران على العباد)، لاشك في هذا، وقد مرت الآيات الدالة على ذلك كقوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، فكل شيء في الكون مخلوق لله جل وعلا من خير أو شر، لا يخرج عن تقدير الله جل وعلا شيء من شئون الخلق، بل الجميع تحت قهره وقدرته وخلقه سبحانه وتعالى، وهذا الذي ذكره من تمام الإيمان بالقضاء والقدر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الإيمان قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره)، والقدر لاشك أن فيه خيراً وفيه شراً، لكن اعلم أن الشر الذي في القدر ليس هو فعل الرب جل وعلا، بل فعل الله جل وعلا خير لا شر فيه، إنما هو في المقدور المقضي المخلوق، ثم إن الشر في المقدور المقضي المخلوق شر نسبي ليس شراً محضاً.
استطاعة سابقة للفعل، واستطاعة مقارنة للفعل، الاستطاعة السابقة للفعل هي التي أناط الله جل وعلا بها التكليف، وتعريفها: هي ما يحصل به القدرة على الفعل دون ضرر راجح، هذا تعريف الاستطاعة: ما يحصل به القدرة على الفعل دون ضرر راجح كالقيام في الصلاة، والصيام الواجب، والاستطاعة هنا أن يقدر الإنسان على فعل هذا دون أن يلحقه ضرر راجح، فإن لحقه ضرر راجح فهو غير مستطيع، هذه الاستطاعة هل هي سابقة للفعل أو ليست سابقة له؟
سابقة للفعل بلا إشكال؛ ولذلك هذا النوع من الاستطاعة لولاه لما حصل التكليف، فهو مناط التكليف، وهو الذي أشار إليه المؤلف رحمه الله في قوله: (وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع والتمكن وسلامة الآلات فهي قبل الفعل وبها يتعلق الخطاب)، يعني: بها يتعلق الأمر والنهي، والخطاب خطاب الشارع في الأمر والنهي، فهذا النوع به يتعلق أمر الله ونهيه، وهو المذكور في قول الله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، ومنه قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب)، فهذا النوع من الاستطاعة سابق للفعل، وبه يصح الأمر والنهي، وهو الذي يقر به القدرية، وينكره الجبريون، لماذا؟ لأنهم يقولون: لا قدرة للعبد على فعل شيء إلا ما أقدره الله عليه، فهم ينفون الاستطاعة؛ ولذلك فالجبرية وقعوا في الخلل في باب الأمر والنهي، فعطلوا الأمر والنهي، فعندهم لا قدرة للعبد ولا استطاعة، إنما الفعل كله لله، والعبد حركاته إنما هي كحركات المرتعش وكحركات الشجر وكنبض العروق لا اختيار له فيها ولا أثر، فهم أنكروا الاستطاعة السابقة للفعل.
والذي أقر به القدرية الذين يقولون: إن العبد يخلق فعل نفسه، هو النوع الثاني من الاستطاعة، وهي الاستطاعة المقارنة للفعل، وهي بمعنى القدرة عليه، وهذا النوع يثبته الجبرية وتنفيه القدرية، فعندهم أن العبد لا يقدر، وعندهم أن هذه القدرة لا تدخل في تقدير الله جل وعلا، ولم يعلق الله بها شيء، أما الجبرية فإنهم يثبتون هذا النوع من الاستطاعة، والذي عليه جمهور السلف والخلف ممن تبع الكتاب والسنة إثبات النوعين من القدرة، إثبات القدرة السابقة للفعل، وهي المصححة للأمر والنهي، وهي التي يتعلق بها الخطاب أمراً ونهياً؛ والاستطاعة المقارنة للفعل، وبهذا تجتمع النصوص، ويبطل قول القدرية نفاة خلق الله لأفعال العباد، وقول الجبرية الذين قالوا: لا فعل للعبد ولا قدرة ولا مشيئة، وإنما هو كالشعرة والريشة في مهب الريح، لا اختيار له ولا قدرة، قال الله تعالى: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ [هود:20]، وقال تعالى: الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً [الكهف:101].
فهذه الآية والتي قبلها نفى الله جل وعلا الاستطاعة، فما هي الاستطاعة المنفية؟ هل الاستطاعة المنفية هي التي بمعنى القدرة على الفعل السابقة لوجوده؟
الجواب: لا، وعلى قول من فسر القدرة بالسابقة، والقدرة المقارنة فتكون الاستطاعة المنفية هنا هي القدرة المقارنة للفعل وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً [الكهف:101]، والآية الأخرى مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ [هود:20]، فالاستطاعة المنفية هي القدرة، يعني: ما كانوا يقدرون سمعاً وقت الاستماع، وما كانوا يستطيعون سمعاً وقت الاستماع، فنفى القدرة المقارنة لا القدرة التي يحصل بها التثبيت، هذا على قول من فصل في القدرة، وقول جمهور السلف وهو التفسير المشهور عند الأئمة: إن النفي في الآيتين ليس هو نفي القدرة التي يحصل بها التثبيت، ولا القدرة المقارنة، إنما فيه إثبات مشقة ذلك عليهم؛ لفساد قصودهم وإراداتهم وانحراف قلوبهم، فأصبحوا لما في نفوسهم من الفساد ولما في إراداتهم من الانحراف؛ لا يستطيعون سماع الحق، ولا إبصاره، ولا الأخذ به، وأما على قول من يقول بالقدرة المقارنة فإنه يفسرها بقوله تعالى: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ [هود:20].
ثم اعلم -بارك الله فيك- أن الأدلة دلت على هذين النوعين من الاستطاعة، وأن الاستطاعة التي تسبق الفعل هي التي يقترن بها التثبيت.
يقول المؤلف: (والاستطاعة التي يتعلق بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به) يعني: أنها ليست منه، إنما هي من الله عز وجل، فهو الذي وفقه إليه (فهي مع الفعل) يعني: مقارنة له، وهي المنفية في قوله: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ [هود:20]،(وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع )، يعني: القدرة، (والتمكن وسلامة الآلات فهي قبل الفعل، وبها يتعلق الخطاب)، وأهل السنة والجماعة يثبتون هذا وهذا، ثم قال: [ وهو كما قال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] ] أي: إلا ما تسعه وتقدره وتطيقه، فالتكليف المنفي هنا هو التكليف السابق للفعل وليس المقارن له.
وقوله رحمه الله: (وكسب من العباد) رد على الأشاعرة وعلى الجبرية، الأشاعرة يقولون قولاً عجيباً في هذا الأمر! يقولون: الأفعال خلق للرب، كسب للعبد، وما معنى الكسب؟
قالوا: معنى الكسب أنها تضاف إليه مجازاً، وإلا فإن العبد لا قدرة له على فعله، فهم أثبتوا أنها كسب للعبد، ونفوا قدرة العبد على فعل نفسه، فأتوا بقول من أعجب الأقوال؛ ولذلك عد هذا القول من محالات الأقوال التي تحيلها العقول وهي ثلاثة: كسب الأشعري، وطفرة النظار ، وأحوال أبي هاشم .
ثم قال رحمه الله: (ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون)، أي: لم يكلف الله جل وعلا الخلق إلا ما يطيقون ويستطيعون، كما قال الله جل وعلا: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، وكما قال: لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [الأنعام:152]، فأخبر الله جل وعلا بأنه لا يكلف الناس ما لا يطيقون، كما قال سبحانه وتعالى: رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ [البقرة:286]، قال الله جل وعلا: (قد فعلت)، كما في صحيح مسلم ، فإن الله فعل ما دعا به المؤمنون: رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ [البقرة:286]، فدل ذلك أن الله جل وعلا لم يكلف عباده إلا ما يستطيعونه، ويطيقون حمله.
ثم قال: (ولا يطيقون إلا ما كلفهم) هذه الجملة فيها إشكال؛ لأن مفهومها أنهم لا يطيقون إلا ما جرى به التكليف، فالتكليف مساوي وموازي وقد بلغ المنتهى في الطاقة، وهذا ليس بصحيح، بل التكليف دون الطاقة، ويدل لذلك قول الله تعالى: : لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، انظر في قوله تعالى: إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، فهو يفيد معنى السعة، وأنه ليس في التكليف ما يحصل به على الإنسان ضيق أو حرج، بل التكليف فيه سعة وانشراح، ولا يلحق المكلف به ضيق أو حرج؛ ولذلك نفى الله تعالى الحرج على المكلف في الدين فقال سبحانه وتعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، فنفى الله جل وعلا الحرج، بل أنفذ التخفيف كما في قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ [النساء:28]، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، والأدلة في هذا كثيرة، بل من أصول الدين نفي الحرج، ولا يمكن مع هذا أن نقول: ولا يطيقون إلا ما كلفهم، بمعنى: لو زاد قليلاً لخرج عن الطاقة، ثم إنه في الواقع أن الإنسان قد يكلف ما يطيقه، لكن يلحقه به مشقة، وهذا ليس في الشريعة منه شيء، فمثلاً لو قيل لك: احمل هذا الدولاب، وأنت تطيق أن تحمله، لكن فيه عليك مشقة وحرج، فهذا لا يخرج عن الطاقة، وتكاليف الشريعة في الجملة ليست من هذا، إنما تكاليف الشريعة في الجملة هي مما يطيقه الإنسان، ولا يلحقه بفعله حرج أو ضيق، وانتبه لقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، والوسع يقتضي السعة والراحة والانشراح، فهذه الجملة لعل المؤلف رحمه الله أراد تأكيد معنى: ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون، لكنه لم يحرر العبارة، فالعبارة فيها إشكال، على أن بعضهم فسر قوله: (ولا يطيقون إلا ما كلفهم) فسر الطاقة هنا بالقدرة المقارنة للفعل، لكن هذا فيه تكلف، وقد علق شيخنا الشيخ/ عبد العزيز رحمه الله على هذه العبارة بأن فيها نظراً، والنظر ما بيناه آنفاً.
هذا فيه تقرير ما تقدم من الإيمان بالقدر، قال رحمه الله تعالى: (وكل شيء في الكون يجري بمشيئة الله تعالى وقضائه وقدره)، ولا يؤمن أحد بالقدر حتى يؤمن أن كل شيء بعلم الله وكتابته وخلقه ومشيئته، فلا شيء خارج عن هذا، (غلبت مشيئته المشيئات كلها)، قال جل وعلا: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29]، فمشيئة الله محيطة بمشيئة الخلق، (وغلب قضاؤه الحيل كلها)، فإذا لم يقض الله جل وعلا الأمر فمهما احتال عليه المرء فإنه لا يحصله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى، تقدست أسماؤه، وهو غير ظالم أبداً إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا [يونس:44]، (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً)، [تقدس] أي: تنزه وتطهر وتعالى جل وعلا عن كل سوء، أي: عن كل عيب وعن كل شر وحين، وهو بمعنى السوء والشر والعيب والظلم، فلا شيء مثله تقدست أسماؤه سبحانه وبحمده لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]، بل من سأل الله: لم فعلت كذا؟ فقد اعترض على الرب جل وعلا لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]، وإذا اجتمع في قلب العبد هذه المعاني سلم من كل ما يمكن أن يعرض له في باب القدر. وأحسن المؤلف رحمه الله حيث ختم ما يتعلق بمسائل القدر في هذا المقطع بنفي الظن عن الرب جل وعلا، ونفي لحوق العيب والسوء والشين والحين له سبحانه وتعالى، ثم قال: (لا يسأل)، حتى يقطع اعتراض المعترضين لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]، وقد جاء رجل إلى أبي بن كعب رضي الله عنه فقال: (في نفسي شيء من القدر فحدثني حديثاً يذهب به الله عني ذلك)، فقال رضي الله عنه مقولة عظيمة تبين عظيم فقه الصحابة رضي الله عنهم قال له: (إن الله لو عذب أهل سماواته وأرضه عذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، واعلم أنه لو كان لك مثل أحد ذهباً فأنفقته في سبيل الله؛ لم ينفعك حتى تؤمن بالقدر، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك)، قال الديلمي -وهو الذي سأل أبي بن كعب -: فسألت عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت عن ذلك، وكلهم أجابني بمثل ما أجابني أبي ، وهذا الأثر حسن كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، وهو يدل على عظيم فقه الصحابة، وأنه لا سلامة للعبد مما يعلق في قلبه من وساوس الشيطان مما يتعلق بالقدر إلا باعتقاد كمال الله جل وعلا، وأنه سبحانه وتعالى لا يظلم الناس شيئاً، ومع هذا يؤمن بالقدر، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأنه جل وعلا لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]، ويكفي في هذا ما قاله رحمه الله في أول كلامه في القدر: (القدر سر الله في خلقه، لم يطلع عليه ملك مقرب، ولا نبي مرسل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر