أما بعد:
فلعلنا تكلمنا عن بعض ما يتعلق باليوم الآخر، وشرحنا قول المؤلف رحمه الله حلاً لعبارته:
وأقر بالميزان والحوض الذي أرجو بأني منه رياً أنهل |
وتكلمنا عن بعض أحداث يوم القيامة إمراراً سريعاً دون تفصيل؛ نظراً لأن هذه الأحداث قد تطول بنا.
وبينا أن الله سبحانه وتعالى يبدل الأرض غير الأرض والسماوات، وأن هذه الأرض التي نعيش فيها ليست هي أرض المحشر، وإنما تكون بيضاء كالفضة ولم يعص الله فيها أبداً.
ويصبح الناس على أحوال، فالكفار لهم حال، والعصاة لهم حال، والمنافقون لهم حال، والمؤمنون لهم حال، فأما الكفار فالله قد بين حالهم يوم القيامة، وأن وجوههم مسودة، وما ذلك إلا لكفرهم وإشراكهم وإلحادهم بالله تعالى.
وهؤلاء الكفار قد توعدهم الله تعالى بوعيد، وأصبحوا يشاهدون ذلك الوعيد وينتظرون متى يحل بهم، ولهذا قال الله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [الأعراف:53] وهذا الكلام حين الحشر والعرض على الله سبحانه وتعالى.
- وطائفة من الناس وهم عصاة المؤمنين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فجمعوا بين أمرين: السيئات والحسنات، فهؤلاء تبقى مغبة الذنوب أمام أعينهم، وخاصة الذين لم يتوبوا من الذنوب والمعاصي، أما من تاب من الذنوب والمعاصي فنحن نعلم أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له أصلاً، وهذا من رحمة الله تعالى بالمؤمنين أنهم يذنبون فيتوبون فيتوب الله عليهم، وبين لنا أحوال هؤلاء الذين ماتوا، فممن بين الله لنا: أهل الزكاة، وما يكون من حالهم، وأن أموالهم التي كنزوها فإن كانت ذهباً وفضة فتكوى بها جنوبهم وجباههم وظهورهم، وكذلك بين لنا حال صاحب الربا الذي يتخبطه الشيطان من المس، وبين لنا كذلك حال المتكبرين، أولئك الذين تكبروا على الله وتكبروا على الخلق، وأنهم يحشرون يوم القيامة كأمثال الذر يطؤهم الناس بأقدامهم.. وغيرها من الذنوب.
وبين لنا كذلك حال المؤمنين الأتقياء، وأن منهم طائفة وهم أعلاهم سبعين ألفاً، هؤلاء يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، لا يصابون بشيء، وهذا من فضل الله تعالى ومن رحمته، ولا شك أن هؤلاء الذين هم أعلاهم لا يحصل لهم شيء منهم من هم أقل منهم رتبة، وكما بين أن الشمس تدنو من الخلائق ويخرج منهم العرق، ويصبح العرق في الناس على قدر أعمالهم في الدنيا، فمنهم من يصل العرق إلى كعبيه، ومنهم إلى أنصاف ساقيه، .. إلى ركبتيه، .. إلى حقويه، .. إلى ترقوته، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، أي: كاللجام في فمه، وهؤلاء على حسب ذنوبهم وتقصيرهم يحدث لهم مثل هذا الأمر.
ومن أحداث يوم القيامة: أن الناس يحاسبون على ما قدموا، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أول ما يحاسب عليه العباد الصلاة، فإذا صلحت صلح سائر العمل، وإذا فسدت -نعوذ بالله- فسد سائر عمل الإنسان.
ويصبح الناس في حال الحساب أقسام أربعة:
القسم الأول: يحاسبون حساباً شديداً، يدقق عليهم في كل شيء -حساباً عسيراً- وهؤلاء هم الكفار، والملاحدة والمشركون.
القسم الثاني: يحاسبون حساباً ولكنه ليس كحساب الكفار، ويدخل فيه عصاة المؤمنين، فإن هؤلاء يحاسبون على أعمالهم، من المعاصي والفجور الذي وقع منهم.
القسم الثالث: لا يحاسبون أبداً وهم السبعون ألفاً، ومن رحمة الله تعالى أن أعطى نبيه مع كل ألف سبعون ألفاً، وهذا من فضل الله تعالى ورحمته.
القسم الرابع: وهم الذين يحاسبون حساباً يسيراً، وهو ما يسمى بقضية العرض، وهو العرض على الله تعالى، تعرض الذنوب ثم بعد ذلك يقرر بها الإنسان، ويعترف بها، ثم يقول الله: (إني سترتها عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم) وهذه من رحمة الله تعالى بالمسلم أن يكون من هؤلاء القوم إذ أنه تقرر ذنوبه، وفي بعض الروايات: أن هؤلاء يحصل لهم أنها تبدل سيئاتهم حسنات، فالسيئات التي عملوها في الدنيا تنقلب إلى حسنات، وهذا من فضل الله تعالى ورحمته.
ذكر بعض أهل العلم أن بعد الحساب تتطاير الصحف، فمن الناس من يأخذ كتابه بيمينه، ويطير به فرحاً.. هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ [الحاقة:19] ومن الناس من يأخذ كتابه بشماله ووراء ظهره، وعند ذلك يحدث لهؤلاء القوم بسبب تطاير الصحف.. فليس للإنسان خيار، فالإنسان له حركة في الأخذ والعطاء، لكنه عند تطاير الصحف ليس له خيار، تتجه الكتب لأهل الإيمان والصلاح فيأخذونها بأيمانهم، وذاك لا يستطيع أن يمد يمينه، وإنما يأخذها بشماله، ولا شك أن هذه عقوبة لهم، بل هذا نوع وجزء من عقوبة الله تعالى لهؤلاء القوم.
القول الأول: أن الذي يوزن هو العمل ويستدلون لذلك بحديث ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلمتان خفيفتان على اللسان، حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله بحمده، سبحان الله العظيم) وهذا يدل على أن هذه الأعمال توزن.
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق) وهذا يدل على أن حسن الخلق عمل، وهو الذي يوزن يوم القيامة وهذا عمل.
القول الثاني: أن الذي يوزن هي الصحائف، ويستدلون على ذلك بحديث صاحب البطاقة، فإن صاحب البطاقة يؤتى به يوم القيامة وله تسع وتسعون سجلاً كلها مد البصر، ويقال له: أتنكر هذه؟ فلا ينكر شيئاً منها، ويقال له: هل لك حسنة؟ قال: لا، فيقول الرب: إنك لا تظلم اليوم، ثم بعد ذلك يؤتى ببطاقة فيها: لا إله إلا الله، فتوضع لا إله إلا الله في كفة، ثم توضع البطاقة في كفة، فتطيش بها بطاقة لا إله إلا الله، قالوا: فهذا وزن للصحف التي تكتب، ودل على أن الإنسان تكتب عليه الملائكة كل عمل يعمله في هذه الدنيا في صحف، ثم بعد ذلك توزن يوم القيامة.
القول الثالث: أن الذي يوزن هو الشخص نفسه، العامل نفسه، ويستدلون لذلك بحديث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالرجل السمين فيوضع في الميزان يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة) ويستدل له كذلك بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه كان يجني للنبي صلى الله عليه وسلم الأراك، وقد كان رضي الله عنه وأرضاه دقيق الساقين، وربما كشفت الريح عن ساقيه وفي بعضها أنها تكفأه الريح، فرأى الصحابة دقة ساقيه، فضحك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (مم تعجبون؟ قال الصحابة: يا رسول الله! نضحك من دقة ساقيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنهما لفي الميزان يوم القيامة أثقل من جبل أحد ).
وبعض الطوائف ذهبت إلى أن الأعمال لا توزن أصلاً، وقالوا: لأن الأعمال أعراض وليست أجساداً، ولكن هذا اعتراض عقلي، وقاعدتنا في الأمور الغيبية التسليم لما ورد في النصوص، فلا مجال للعقل فيها أصلاً، والله قادر على أن يجعل الشيء الذي يسمى عرضاً أن يجعله شيئاً محسوساً كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اقرءوا القرآن.. ثم قال: فإنه تقدمه الزهراون البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو غيايتان، أو كطير صواف تحاج عن صاحبها) فكيف يكون هذا. هو عرض -قراءة قرآن- ومع ذلك تحاج له، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن حجة لك أو عليك، أي: تستفيد منه يوم القيامة، مما يدل على أن قول الذين قالوا: إن الأعمال لا توزن قول غير صحيح، بل هو مخالف لما دلت عليه النصوص.
وجمع بعض أهل العلم رحمهم الله تعالى جمعاً لطيفاً هنا، وقالوا: إنه لا مانع من أن توزن الثلاثة كلها، يوزن العمل، ويوزن العامل، وتوزن الصحف؛ لأن كل واحد منها قد دل عليه النص، ولا مانع من أن يحدث هذا الأمر كله، وهذا هو الذي يرجحه شيخنا العلامة، وقد أومأ إليه الإمام حافظ الحكمي ، وجمع بعض العلماء رحمهم الله تعالى إيماءً إلى أن النصوص كلها ورادة، ولا تعارض بين هذه الأقوال.
الصحيح أن الميزان حسي وليس ميزاناً معنوياً، وقد وردت أحاديث تبين أن هذا الميزان له لسان وكفتان، فتوضع الحسنات في كفة والسيئات في كفة، ثم يوزن الإنسان أو عمله أو الصحف التي وردت، فأصبح هذا الميزان حسياً وليس معنوياً، وبعض الذين لا يقبلون هذه النصوص ولا يؤمنون بها كما سيأتي أن المعتزلة أنكرت قضية الوزن أصلاً، وقالوا: الله عالم بهذا الأمر فلا يحتاج إلى قضية الميزان، ولكن هذا الكلام باطل؛ نظراً لمخالفته لما دلت عليه النصوص، والله سبحانه وتعالى يقول: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً [الأنبياء:47].. فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ *فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [القارعة:6-7] ويأتي في المقابل: وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [القارعة:8-9] دل على أن الوزن للحسنات وللسيئات.
الميزان للإنس والجن سواء، وليس خاصاً بالإنس وحدهم، والسبب في ذلك إذا ذكرنا الحكمة من الوزن يتبين أن من الحكمة إظهار عدل الله تعالى، وأنه لا يظلم عنده أحد أبداً، والله قد قال: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة:7] مثاقيل الذر تعملها تجدها أمام عينيك، وعلى العكس أن مثاقيل الذر من الشر ستجدها أمام عينيك لن تظلم إطلاقاً، مما يدل على أن هذا الخطاب للإنس وللجن سواء، والله سبحانه وتعالى هو العدل الحكم سبحانه، وإن لم يحدث لكن بإقامة الحجة على الناس.
الجواب: اختلف العلماء فيها، فمن العلماء من قال: إنها لا توزن أصلاً، ولا حاجة لوزنها، قالوا: لأن الكفار ليس لهم أعمال توزن، والله يقول: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ [الفرقان:23] خاصة من الأعمال الصالحة.. فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23] لا يستفيدون منها شيئاً، فما دامت هباء منثوراً، فلا يستفيد الكافر منها شيئاً، فما الذي يوزن، كله سيئات فهو يقحم في النار مباشرة.
ومن العلماء من قال: إنها توزن وإن لم يكن له شيء من الحسنات إلا أن سيئات الكفار تختلف ويختلف الناس فيها، فمن الناس من سيئاته أعظم وأكبر من غيره، فهذا يجعل له عقوبة أشد، ومن الكفار من تكون عقوبته أقل كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في عم النبي صلى الله عليه وسلم أبي طالب ، حيث أنه عمل أعمالاً فخفف عنه العقوبة يوم القيامة، ولهذا ذكر الإمام ابن القيم تنبيهاً لطيفاً، وأظن أنه ذكره شيخ الإسلام رحمه الله، من التنبيه الذي ذكره قال: إن مشروعية جهاد الكفار حتى ولو أدى إلى قتلهم هذا من رحمة الله تعالى بهم، حيث أنهم لو عاشوا لازدادوا في السيئات والذنوب، فيقحمون في النار أكثر، وتزداد عقوبتهم حتى لو أدى إلى قتلهم، فدل على أن وجود الوزن أن هؤلاء وهؤلاء يوزنون ولكن شتان بين ميزان أهل الإيمان وميزان الكفار.
نقول: هذه من الأمور الغيبية، وقاعدتنا في الأمور الغيبية أننا لا نحكم الذهن فيها أبداً، ونسلم أن هناك ميزاناً توزن به أعمال العباد.
والقول الثاني: أن لكل أمة ميزاناً.
والقول الثالث: أن لكل واحد من المكلفين ميزاناً خاصاً به، وهذا القول نقل عن الحسن البصري رحمه الله تعالى.
وذكر بعض أهل العلم لما قال: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ [الأنبياء:47].. فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [المؤمنون:102] قال: هناك موازين للأعمال، وموازين للأقوال، وموازين للاعتقادات، وهذه تفاصيل تحتاج إلى نصوص تفصل تلك وتبينها، والأصل أننا نثبت الموازين ونثبت الميزان، والتدقيق والتفصيل فيه يحتاج إلى بينة.
قد لا نذكر إلا الجرائم العظام فقط، وما عداها من السيئات ننساها، فجيء بالميزان لأجل أن يرى الإنسان ما عمله من بداية تكليفه إلى أن توفي، يراه أمام عينيه، ولهذا جاء في قوله تعالى: مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49] سبحانه وتعالى، فيُعرِّف الله تعالى عباده بما عملوه من خير أو شر.
ومنهم من قال: لإظهار عدل الله سبحانه وتعالى, وأنه الحكم العدل، وأن الناس لن يظلموا عنده أبداً: وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47] أي: أن الله سبحانه وتعالى لن يضيع الإنسان.
ومن العلماء من قال: إن الناس لو دخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار، لقال صاحب الجنة: إني دخلت هذه بما قدمت من الأعمال والدرجات وغيرها، وأنا أستحق بعملي، ولقال العاصي عند ذلك: إني دخلت هذه النار بسبب أني قد أكون ظلمت، وقد أدخلت هذه النار بسبب أعمال لا تستحق، لكن إذا جعلت الموازين، والناس يشاهدون هذا الوزن، ويرون الصغير والكبير يعرض، يطمئن الإنسان بعدها، فمن دخل الجنة -ونسأل الله أن نكون من أهلها- فرح وسعد، ومن دخل النار -نعوذ بالله منها- يكون قد علم أنه إنما دخل ذلك بسبب ما قدمت يداه في هذه الحياة الدنيا.
قضية الحوض وإثباته نقول: الناس يردون على حوض النبي صلى الله عليه وسلم، وورود الناس على حوض النبي صلى الله عليه وسلم بسبب الظمأ الذي يصيبهم، ويقف النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (أنا فرطكم على الحوض) أي: مقدمكم، وينادي النبي صلى الله عليه وسلم أمته لأجل أن يأتوا إليه، ويصبح النبي صلى الله عليه وسلم كأنه يناول هؤلاء القوم، ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبداً، والنبي صلى الله عليه وسلم وهو عند الحوض يقف فيجد أناساً تفد إلى الحوض ومع ذلك الملائكة تجذبهم فلا يأتون إليه، فيقول: (أصحابي .. أصحابي) ينادي ربه: هؤلاء أصحابي، فيقال له: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) بمعنى: أنهم غيروا ما كنت عليه من المنهج، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (سحقاً سحقاً) أي: بعداً بعداً لهؤلاء القوم الذين غيروا ما جئت به، ونعوذ بالله أن نكون ممن يذاد عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم.
هل الحوض خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم أم أنه عام؟
الجواب: ورد أن لكل نبي حوضاً، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإني لأرجو أن أكون أكثرهم وارداً) أي: أن محمداً صلى الله عليه وسلم يكون أكثر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وارداً للحوض، ولا شك أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أكثر الأمم إسلاماً وصلاحاً واستقامة، وبهذا يكون نبينا صلى الله عليه وسلم هو أكثر الأنبياء وروداً لحوضه صلى الله عليه وسلم.
ويعتبر الحوض من أحداث يوم القيامة، والمراحل التي يمر بها الإنسان أربع مراحل:
المرحلة الأولى: الدنيا.
المرحلة الثانية: البرزخ.
المرحلة الثالثة: البعث.
المرحلة الرابعة: إما جنة أو نار.
وبذلك نعلم أن هذا من الأحداث المتعلقة بيوم القيامة، ويشرب الإنسان منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً.
فالذين قالوا: إن الحوض قبل الصراط، قالوا: إن الناس يخرجون من قبورهم، ويقفون في الموقف العظيم في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة، والله ذكر عن حالهم من نزول العرق والشدة التي تصيبهم، فيظمئون، فيحتاجون بعد هذا التعب إلى أن يشربوا من الحوض.
والقول الثاني: أن الحوض بعد الصراط؛ وذلك لأنهم بمرورهم على النار فيظمئون، ولاشك أن الإنسان إذا مر على مناطق حارة احتاج إلى ماء.
وبعض العلماء قال: إنه لا مانع من أن للنبي صلى الله عليه وسلم حوضين لا حوضاً واحداً، ويكون هذا الحوض قبل وبعد، وممن أومأ إليه الحافظ ابن حجر رحمه الله، ولكن قوله غير صحيح؛ لأنه يظهر أنه أجال عقله في أمرٍ غيبي، قال: ظاهر الحديث أن الحوض بجانب الجنة لينصب من ماء الجنة، أي: لا شك أن الحوض من أين يوجد الماء فيه؟
قالوا: إنه يصب فيه ميزابان من الكوثر الذي أعطاه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، والكوثر في الجنة والنتيجة لو كان قبل الصراط لأصبح الميزابان يمران على الصراط وعلى النار ثم يصب من هناك، قال: لا، هو يكون بعد الصراط، ولكن هذا الأمر إجالة للعقل في أمر غيبي، والله قادر على كل شيء، ولا حاجة لأن يستبعد أن الميزابين يمران على النار أو لا يمران، فالله قادر على كل شيء سبحانه وتعالى، وهذا يعتبر من إجالة العقل في أمرٍ لا يمكن إجالة العقل فيه.
نجد مكان الحوض يكون على وجه الأرض، ويكون في الأرض المبدلة: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ [إبراهيم:48] أي: أنه يكون في الأرض التي قلنا: إنها كالفضة، وهذه نثبتها بناءً على أنها من أحداث يوم القيامة.
ذكر شيخ الإسلام وغيره أن الذين يذادون عن الحوض هم المبدلون لدينهم، وذكروا منهم: الجهمية والخوارج والرافضة ، هؤلاء يذادون عن الحوض؛ لأنهم بدلوا دين محمد صلى الله عليه وسلم وما كان عليه، وهؤلاء قد يقال لهم: إنهم ممن يذاد، وقد يدخل فيه الذين ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم ممن أسلم، ثم ترك هذا الدين نعوذ بالله تعالى من هذا.
الجواب: بعض العلماء: ورد باعتبار المسير، فبعضه على أجاود الخيل، وبعضه على أقل.
وبعضهم يقول: ليس المقصود من ذكر هذه المدن حصر المسافة، وإنما لبيان اتساع الحوض، واتساع عرضه، وأنه حوض عظيم، ومسافته كبيرة، وهذا يدل على فضل الله الواسع في هذا الحوض العظيم.
وذكر العلماء رحمهم الله تعالى في أثرٍ رواه أبو داود يثبت الحوض في قصة لأحد الصحابة وهو أبو برزة رضي الله عنه وأرضاه، ذكروا أنه بُعِثَ إليه عبيد الله بن زياد يسأله عن سؤال، ولعله كان ساخراً في سؤاله، وما كان يريد قبول الحق، وجاء يسأله عن قضية الحوض، قال: إنما بعثت إليك لأسألك عن الحوض، هل سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر فيه شيئاً؟
فقال رضي الله عنه وأرضاه: لا مرة ولا مرتين ولا ثلاثاً ولا أربعاً ولا خمساً، أي: في سماعه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمن كذب به فلا سقاه الله منه، ثم خرج رضي الله عنه مغضباً؛ لأنه كان غير قابل للحق ولا مريداً له، ولا شك أن بعض المبتدعة ينكر قضية الحوض، وإنكار الحوض قول باطل لا نسلم به بوجه من الوجوه.
وكذا الصراط يمد فوق جهنم فموحد ناج وآخر مهمل |
نعوذ بالله أن نكون من المهملين.
مسألة: هل الصراط كلمة عربية أم أنها معربة؟
لسنا بصدد الكلام عليه، بعضهم يقول: الصراط هو باللغة الرومية، ويطلق على الطريق، ولكن الصحيح أنها كلمة عربية وليست كلمة معربة، وإن كنا قد نقول: قد تكون هذه كلمة تستعمل عند العرب وعند العجم.
(أل) التعريفية عندما قال المؤلف: (وكذا الصراط) للعهد الذهني، ويكون المقصود منها هو الطريق الذي يمشى عليه يوم القيامة، وذكر العلماء رحمهم الله تعالى في تعريف الصراط شرعاً: بأنه جسر ممدود على متن جهنم يرده الأولون والآخرون، فهو قنطرة، على جهنم وهو بين الجنة والنار، وخلق من حين خلقت جهنم، نعوذ بالله من النار.
الجواب: الصحيح أنه صراط واحد، وأن الناس يمرون عليه على قدر أعمالهم في هذه الحياة الدنيا، ويصبح الناس على قدر ما قدموا في هذه الحياة الدنيا يمرون عليه.
مسألة: هذا الصراط هل يمر فيه المؤمنون والكفار أم أنه خاص بالمؤمنين وحدهم؟
الصحيح أنه لا يمر عليه إلا أهل الإيمان.
لكن أين الكفار؟
الجواب: يردون إلى النار فيقحمون مباشرة، لا يحتاجون إلى شيء أصلاً يمرون عليه، ولا لأجل أن يتجاوزوا، أما أهل الإيمان فهم الذين يمرون، فمخدوش وناج، ومن يمشي مدة طويلة ومن يمشي سريعاً، ويصبح الناس يمرون على قدر أعمالهم في هذه الحياة الدنيا.
والأحاديث الواردة في هذا كثيرة، فقد أخرج مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: [بلغني أن الجسر أدق من الشعر، وأحد من السيف] وهذا هو أصح ما ورد في الصفة.
وقال العلماء: إن هذا لا يقال بمجرد الرأي، فإنه أمر غيـبي، ولعله لم يقله أبو سعيد رضي الله عنه إلا عن أثرٍ سمعه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ونحن نعلم أن النار سوداء مظلمة، وإذا كانت سوداء وعندنا كذلك دحض ومزلة.. وأدق من الشعر.. تحتاج إلى إضاءة كبيرة جداً حتى تمر، فكيف إذا كان الإنسان يمر بنور في إبهام قدمه، ويمشي هذا الرجل الذي هو آخر الناس يمشي على هذا الصراط، وسبحان الله! لا يمشي قليلاً إلا ويسقط، ويتعلق بيده، ثم بعد ذلك يصعد، ومع مشيه المتأخر يمشي قليلاً قليلاً والنار تلفحه يمنة ويسرة، وكلما مشى قليلاً سقط وتعلق باليد الثانية ثم برجله ثم بيده وهكذا، وهو يسأل ربه أن ينجيه من النار، قالوا: حتى إذا انتهى وأنجاه الله التفت إلى النار وقال: الحمد لله الذي نجاني منك، يحمد الله على هذه النعمة.
ونحن نعلم من وصلت إليه النار يحتاج إلى أمرين:
1- ظل وارف يبرد على جسده من الحرارة التي أثرت عليه.
2- ماء يشرب ليبرد جوفه، قالوا: فيخلق الله له شجرة وتحتها ماء، وهو قد قال: اللهم نجني من النار، فينظر إلى الشجرة وإلى الماء، فيسأل ربه: اللهم أوصلني إلى هذه الشجرة ويدعوه، فيقول الله: ألم أنجك من النار، ألم يكن مطلوبك من قبل مجرد النجاة فنجوت؟ ويلح على ربه، فيوصله الله إلى هذه الشجرة، فيشرب من الماء ويستظل، قالوا: فيخلق الله شجرة أحسن منها، وماء أطيب، فينظر إليها فيقول: يا رب! أريد أن تنقلني، فيقول الله: ألم آخذ عليك المواثيق ألا تطلب غيرها، ما أغدرك يا ابن آدم، فينقله الله ويأخذ عليه المواثيق، ثم يخلق الله شجرة أحسن منها، ولعلها عند باب الجنة، ثم يسأل ربه ويلح ويعرف أنه عند باب الجنة، يسمع كلامهم وينظر إلى ما هم فيه من النعيم، ويسأل ربه ملحاً فينقله الله إلى تلك، ثم إذا وصل إليها وجلس قال: رب أدخلني الجنة.
الآن يطلب أن يدخل، وكان مطلوبه من قبل النجاة من النار، ولكنه يعلم أن له رباً يرحم عباده ولا يضيعهم سبحانه وتعالى، فيقول الله له: أترضى أن أعطيك مثل الدنيا ومثل ملكها؟
فيقول هذا المسكين: يا رب! أتسخر مني وأنت رب العالمين! فيضحك الجبار سبحانه وتعالى، فيقول: لك مثل الدنيا وعشر أمثالها.
إذا كان هذا آخر أهل الجنة دخولاً فكيف بمن كان مع النبيين والصديقين والشهداء؟!! مما يدل على فضل الله الواسع.
نحن في واقعنا الآن نقتتل من أجل قطعة صغيرة، من أجل جمع مال صغير وغيره، ويحصل من المشقات والتعب، وأقل أهل الجنة دخولاً وآخرهم هو من يعطى مثل الدنيا عشر مرات، وهذا من فضل الله الواسع الذي يعطيه الله من يشاء سبحانه وتعالى، ولهذا وجب على المسلم أن يحرص أشد الحرص على الأعمال الصالحة؛ ليجوز هذا الصراط.
مسألة: اختلف الناس في المراد بالصراط؟
القول الأول: قول أهل السنة : وهو إثباته على ظاهره، وأنه جسر ممدود على جهنم يمر الناس منه.
القول الثاني وهو قول المعتزلة : وهو إنكار الصراط، وقالوا: لا يمكن عبوره أبداً، وجاءوا بعقولهم، قالوا: أدق من الشعر، وأحد من السيف، ودحض مزلة، كيف يعبر الناس هذا؟ ثم إن من يمر عليه، الله قال: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71] يصبح المؤمنون كلهم يمرون عليه، قالوا: وإذا كان المؤمنون سيمرون فهذا تعذيب لهم، والمؤمنون حقهم الجنة، فلماذا يعذبون؟ بمجرد إجالة العقل فقط، وهذا كلام باطل.
ومن العلماء من قال: المراد بالصراط هي الأدلة الواضحة، ولا شك أن هذا الكلام باطل غير صحيح، وذكر بعض أئمة أهل السنة كـالقرافي ونقل عن العز بن عبد السلام كذلك: أنه لا يمكن أن يكون أحد من السيف وأدق من الشعر وغيره، وإنما الصراط عريض يمر الناس منه، ولكن نقول: ما ورد من حديث أبي سعيد رضي الله عنه في صحيح مسلم يدلنا عليه، فوجب أن نثبته إثباتاً كاملاً.
وقوله: (جهنم) مأخوذة من الجِهنام، وهو القعر البعيد، قالوا: وبئر جهنم، بعيدة القعر وبه سميت جهنم لبعد قعرها، أي: أنها عميقة جداً، وجهنم تعتبر من أسماء النار التي يعذب الله بها عباده المستحقين لها، وسيأتي في قضية النار أنها طبقات، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع وجبة، فلما سئل عنها أجاب النبي صلى الله عليه وسلم بأن هذه الوجبة -أي: هذا الصوت- حجر ألقي من أعلى جهنم منذ سبعين عاماً والآن وصل إلى قعرها، أي: وصل إلى قعر هذه النار، نعوذ بالله أن نكون من أهل النار.
قوله: (ناج) قال في لسان العرب : ناج مأخوذ من النجاة وهي الخلوص من الشيء، وقول الله تعالى: إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ [العنكبوت:33] أي: نخلصك من العذاب وأهلك، أي: لا تصاب بشيء.
(وآخر) قال في اللسان : الآخر بمعنى الغير، هذا رجل جاء رجل وآخر، أي: غير الأول، وقالوا: معنى غير كقولك: رجل آخر وثوب آخر، ويشهد له قول الله تعالى: فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا [المائدة:107] والآخر: هو اسم من أسماء الله تعالى كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء) الآخر أي: هو اسم من أسماء الله.
قوله: (مهمل)
قال في اللسان : (المهمل) أي: أمر مهمل، متروك ولا ينظر إليه، والإهمال أي: تركه، بمعنى: أنه يترك في النار ويقحم فيها، ويقال: أهملت الشيء خليت بينه وبين نفسه، ولهذا يقال: هذا فلان مهمل، أي: لا يحرص على دروسه، ولا يقرأ، ولا يتابع، ولا يستفيد، ولا غير ذلك، ونسأل الله أن نكون ممن يرد حوض النبي صلى الله عليه وسلم، وممن يمر على الصراط فينجو منه.
ونصلي ونسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر