وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه أجمعين، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وعلى من استن بسنته، واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أيها الناس! يا من تطهرتم وتوضأتم وأتيتم إلى بيت الله ترجون رحمته، وتخشون عذابه، أقول لكم: السلام عليكم ورحمة الله، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأله سبحانه أن يجمعني وإياكم في دار كرامته إخواناً على سرر متقابلين:
يا من يرى ما في الضمير ويسمعُ
أنت المعد لكل ما يتوقعُ
يا من يرجَّى للشدائد كلها
يا من إليه المشتكى والمفزعُ!
يا من خزائن رزقه في قول كُنْ!
والخير كله عندك أجمعُ
مالي سوى فقري إليك وسيلة
فبالافتقار إليك فقري أدفعُ
مالي سوى قرعي لبابك حيلة
فلئن رُددتُ فأي باب أقرعُ
ومن الذي أدعو وأهتف باسمه
إن كان فضلك عن فقيرك يُمنعُ
حاشا لفضلك أن تقنط عاصياً
فالفضل أجزل والمواهب أوسعُ
لقد أُرسل إلينا خير الرسل، فشرع لنا أحسن الشرائع، وجعلنا خير أمة أخرجت للناس، ووعد من أطاعه بالنور التام يوم القيامة، وتوعد من عصاه بالعذاب والجحيم.
أيها الناس! نجد في كتاب الله بل في كل صفحة من صفحات الكتاب الكريم نجد مشهداً وصورة من صور ذلك اليوم العظيم، إنه اليوم الذي لا يوم بعده، إنه اليوم العظيم كما سماه رب العزة والجلال، وأمرنا سبحانه بالإيمان به، فإن الإيمان بما في ذلك اليوم من العذاب والنعيم هو الدافع إلى سلوك الطريق المستقيم، والضابط لسلوك الناس، فمن علم أنه لله عبد، وأنه بين يديه موقوف، وعلم أنه في ذلك الموقف مسئول، فماذا أعد للسؤال؟ وكيف يبدأ ذلك اليوم وكيف ينتهي؟ وما هو مصير الناس في ذلك اليوم، يقول تعالى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [المعارج:43-44]، وقال: وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:6-7] وقال تعالى: ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود:104-105].
وفي ذلك اليوم ينقسم العباد إلى قسمين لا ثالث لهما فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7]، يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106].
فإلى أين يكون المصير؟ وكم ذكر لنا رب العزة والجلال تلك المشاهد الرهيبة، وتلك المواقف العظيمة اسمع يا رعاك الله! وافتح قلبك قبل أن تفتح أذنيك لقول الله عز وجل: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:19-35]، فهذا تهديد ووعيد، وأمل لمن أطاع وأناب، أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37].
فالمصير إما إلى جنة وإما إلى نار، فالدنيا مهما عظمت فهي حقيرة، ومهما طالت فهي قصيرة.
يا عجباً للناس لو فكروا
وحاسبوا أنفسهم أبصروا
وعبروا الدنيا إلى غيرها
واتخذوا الدنيا لهم معبر
لا فخر إلا فخر أهل التقى
غداً إذا ضمهم المحشر
ليعلمن الناس أن التقى والبر
كانا خير ما يدخر
فالعمر فرصة، ولك أن تختار المصير، إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان:3]، فإما أن تختار مصير الشاكرين فإلى جنات النعيم، وإما مصير الكافرين فإلى جهنم والعذاب المقيم.
وقد صور لنا الله تبارك وتعالى صوراً من النار وصوراً من الجنة؛ حتى لا تغفل هذه القلوب عن الحقيقة التي لابد منها، فما ذكر الله النار إلا وأتبعها بصور من الجنة، وما ذكر الجنة إلا وأتبعها بصور من النار، فاسمع ماذا يقول الواحد القهار يوم ينادي عباده الصالحين إلى مرضاته وجنته، ويوم يقاد المجرمين إلى عذاب الله خالدين يقول: يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ * إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ * وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف:68-80].
وأبوابها سبعة كما قال ربها: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الحجر:43-44]، قال تعالى عن خزنتها: عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ [المدثر:26-28]، وقال: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:24].
فقعرها بعيد، وحرها شديد، مقامعها من حديد، وطعام أهلها من النار، ولباسهم من النار، وفرشهم من النار، ومساكنهم من النار، وشرابهم من النار، فقد أطبقت عليهم النار من فوقهم ومن تحت أرجلهم.
ويستغيثون فلا يستجاب لهم، ويصيحون فلا يسمع صياحهم: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون:107]، فيأتيهم الرد بعد آلاف من السنين: قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]، ويكون هذا آخر عهدهم بصوت الرحمن تبارك وتعالى.
وتغطي على أهل جهنم غيوم وسحب سود فيقال لهم: يا أهل النار! ماذا تتمنون؟ فيتذكرون الماء والمطر والشراب، فيقولون: ربنا أمطر علينا ماء وشراباً، فتمطر عليهم سلاسلاً تزيد في سلاسلهم، وأغلالاً تزيد في أغلالهم، ولهيباً يزيد في احتراقهم، فبئس من كانت هذه الدار داره، وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [الأعراف:50].
وطعامهم من ضريع لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ [الغاشية:7] .. إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا [المزمل:12-13]، فيغصون بطعامهم فلا هم يستطيعون إدخاله، ولا هم يستطيعون إخراجه، وطعامهم من شجرة الزقوم وما أدراك ما الزقوم! قال تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ * إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ [الدخان:43-50].
يقول صلى الله عليه وسلم مبيناً بشاعة شجرة الزقوم: (لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الأرض لغيرت على أهل الأرض معايشهم)، فكيف بمن تكون طعامه؟!
وفي النار تضخم الصور وتضخم الأشكال، حتى أن مجلس الكافر في جهنم مسيرة ثلاثة أيام، وغلظ جلد الكافر أربعين ذراعاً، وكلما نضجت هذه الجلود بُدِّلوا غيرها؛ ليذوقوا العذاب الشديد، فيرسل عليهم البكاء فيبكون ويستجيرون حتى تنقطع الدموع، فيبكون دماً حتى تخط في وجوههم مثل الأخاديد، ولو سيرت بها السفن لجرت، إنه العذاب الأليم الشديد.
فكم أنذر رب العزة وحذر: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم:39-40] .
فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ [الحج:20-21]، إنه الويل والثبور، إنه الحساب الذي لا حساب بعده، والوعيد الذي لا وعيد بعده.
إخواني! أما تحذرون من نار جهنم وما فيها من العذاب والنكال؟!
واعجباً لمن يقرع سمعه ذكر السعير وهو بالله من عذابها غير مستجير!!
أفيك جَلَد على الصديد والجحيم والزمهرير؟! أم بك جلد على نار وقودها الناس والحجارة؟! أم قد رضيت لنفسك هذه الخسارة؟!
الحقيقة: أن العذاب لا يوصف، بل هو أعظم مما تتصور.
فلها ثمانية أبواب، وليأتين عليها يوم وهي كضيض من الزحام، وما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر، وأول من يُفتح له حبيبنا صلى الله عليه وسلم عندما يقرع فيقال له: لك أمرنا أن نفتح، فتدخل هذه الأمة لكرامتها على الله تبارك وتعالى.
يقول علي رضي الله عنه وأرضاه: [فأول ما يدخل أهل الجنة الجنة إذا بشجرة قد نبع من أصلها عينان كأنهم أمروا أن يشربوا من العين الأولى فيذهب الله ما في بطونهم من أذى وبأس وقذى، ثم يشربون من العين الثانية فتظهر على وجوههم نظرة النعيم، ثم يستقبلهم الولدان المخلدون فيقولون لهم: أبشروا بما يسركم، ويكون هذا عندما يساق الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا [الزمر:73].
فيذهب الولدان المخلدون إلى أزواجهم من الحور العين يبشرونهن ويقولون لهن: أتى فلان ويناودنه باسمه الذي كان ينادى به في الدنيا، فتطير الحسناء فرحاً وطرباً؛ لقدوم الحبيب، فتنتظره على عتبة الباب، حتى إذا أقبل ولي الله على قصره إذا هو قائم أساسه على لؤلؤ ينظر إلى أعلاه، فلولا أن الله كتب ألا يذهب بصره لذهب، ألوان صفر، وحمر، وخضر، فيقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43]، فيطأطئ الرأس فإذا بأزواجه من الحور العين، وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ [الغاشية:14-16]، فيجلس على أريكته ما شاء الله أن يمكث فإذا بنور يسطع في الجنة فيظن أهل الجنة أن الله قد تجلى لهم، فإذا الحورية تناديه وتقول: ولي الله! أما لنا فيك نصيب؟ فيقول لها: من أنت يا أمة الله؟ فتقول: أنا من الذين قال الله فيهم: وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35]، فينتقل إليها فإذا فيها من الحسن والجمال ما ليس في الأولى فيمكث عندها ما شاء الله له أن يمكث فإذا بنور قد سطع فيظن أن الله قد تجلى لهم، فإذا بحورية تناديه فيقول لها: من أنت يا أمة الله؟ فتقول: أنا من الذين قال الله فيهم: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة:17]، فينادونه أزواجه إنك لا تُمل ولا تُمل ووالله! ما في الجنة شيء أحسن منك، وما في الجنة شيء أحب إلينا منك.
يا خاطب الحور الحسان وطالباً
لوصالهن بجنة الحيوانِ
لو كنت تدري من خطبت ومن طلبـ ت
بذلت ما تحوي من الأثمانِ
أسرع وحث السير جهدك إنما
مسراك هذا ساعة لزمانِ
فاسمع صفات عرائس الجنات ثـ م
اختر لنفسك يا أخا العرفانِ
حمر الخدود ثغورهن لآلئٌ
سود العيون فواتر الأجفان
والبرق يبدو حين يبسم ثغرها
فيضيء سقف القصر بالجدرانِ
ريانة الأعطاف من ماء الشبا ب
فغصنها بالماء ذو جريانِ
والقدّ منها كالقضيب اللدن في
حسن القوام كأوسط القضبانِ
والجيد ذو طول وحسن في
بيا ض واعتدال ليس ذا نكرانِ
والريح مسك والجسوم نواعم
واللون كالياقوت والمرجان
وكلامها يسبي العقول بنغمة
زادت على الأوتار والعيدانِ
أترى يليق بعاقل بيع الذي
يبقى وهذا وصفه بالفاني
يقول سفيان : بينما أهل الجنة في الجنة إذ سطع نور فقيل: ما هذا؟ قيل: حورية ضحكت في وجه زوجها، لنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها، لو بصقت في بحر لجي لأصبح عذباً فراتاً، ولو أطلت من السماء لغطى نور وجهها نور الشمس والقمر.
فحيا على جنات عدن فإنها
منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى
نعود إلى أوطاننا ونسلّم
يا سلعة الرحمن لست رخيصة
بل أنت غالية على الكسلانِ
فأين الثمن أحبتي؟ فاقرأ في سير القوم وما قدموا، وكم بذلوا وضحوا من أجلها؛ لأنها الأمنية التي عاشوا من أجلها، فيمر عليهم نبي الهدى والرحمة وهم يضطهدون ويعذبون فيقول لهم: (صبراً آل ياسر! إن موعدكم الجنة)، وقال: (إن لكم أن تحيوا فيها فلا تموتوا أبداً، وأن تصحوا فلا تمرضوا أبداً، وأن تشبوا فلا تهرموا أبداً).
وأنت الآن في زمن الإمكان والثمن: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الصف:10-11].
إن أحدهم يطعن برمح في ظهره حتى يخرج من صدره، فيتناثر الدم على وجهه، فيمسح وجهه ويقول: فزت ورب الكعبة! والآخر يقول: واهٍ لريح الجنة، إني لأشم ريح الجنة دون أُحد.
إنها الجنة وما أدراك ما الجنة، إنه الإيمان والتقوى والإحسان الذي قاد أولئك الرجال إلى نعيم الله والرضوان.
وهذا حارثة يصبح فيقول له النبي: (كيف أصبحت يا
فيا بائعاً هذا ببخسٍ معجل
كأنك لا تدري بلى سوف تعلم
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة
وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
وحتى قلوب النساء كانت معلقة بالجنة، فـنسيبة الأنصارية الداعية المجاهدة يقول عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (يوم أحد -يوم دارت الدوائر- ألتفت يمنة، فإذا بـ
إنها الجنة يا أحبتي! إنها الجنة التي تقطعت أكباد الصالحين من أجلها، فهذا سعد بن الربيع يسمع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الموقف وهو يقول: (من يرد عنا الرجال وهو رفيقي في الجنة)؟ فما إن يسمع اسم الجنة حتى يطير قلبه، وتتحرك أحاسيسه إنها الجنة التي بايعنا من أجلها، إنها الجنة التي وعدنا يوم العقبة يوم أن تواعد الرجال مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن نحن قدمنا الغالي والنفيس وأظهرك الله ماذا لنا يا رسول الله؟! قال: لكم الجنة، قالوا: مد يمينك نبايعك.
لما سمع سعد بن الربيع اسم الجنة رمى كل ما يثقله وانطلق في صفوف الكافرين يهزهم هزاً، فكان أسداً مقبلاً غير مدبر، فلما رأى القوم بسالته وشدته اجتمعوا عليه حتى أردوه قتيلاً، فكان أول ما انتهى القتال أن سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا صنع سعد بن الربيع ؟ من يبحث لنا ويأتي لنا بخبر سعد بن الربيع ، يقول أبو موسى الأشعري : فتحسسته وبحثت عنه بين القتلى فوجدته في آخر رمق من الحياة، فقلت له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤك السلام ويقول: كيف تجدك؟ فتهلل وجهه لما سمع اسم النبي صلى الله عليه وسلم وعلم أن القائد حي يرزق فقال: أقرؤه مني السلام، وقل له: جزاك الله عنا خير ما جُزي نبي عن أمته، وقل له: إني لأجد ريح الجنة، ثم اسمع الوصية فهو لم يوص بمال ولا بعيال وإنما قال: (أقرئ قومي الأنصار السلام، وقل لهم: لا عذر لكم أمام الله أن يخلص إلى رسول الله وفيكم عين تطرف).
إنه الثبات في المحيا وعند الممات، فلما رجع أبو موسى وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر تحركت مشاعر القائد صلى الله عليه وسلم فاستقبل القبلة وقال: (اللهم! القَ
أما الذين سوفوا وغرتهم الحياة الدنيا وغرهم بالله الغرور فكيف سيكون الحال إذا انقسم الناس إلى قسمين إما إلى جنة وإما إلى نار؟ إن الأمر جد، والخطب جلل، والأمر أعظم مما يتصور الإنسان، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [الرعد:8]، ليجازي المسيء بإساءته والمحسن بإحسانه، قال تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21].
والناس في هذه الدنيا صنفان لا ثالث لهما: منكم من يريد الدنيا، ومنكم من يريد الآخرة: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء:18]، والنتيجة هي في قوله: ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [الإسراء:18-21].
فالحقيقة التي لابد منها أن بعد هذه الحياة موتاً وقبراً وبرزخاً، وبعد البرزخ بعثاً وحشراً وحساباً وميزاناً وصراطاً وجنةً وناراً، وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ * إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ * إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:97-104].
أحبتي! عندما قصرنا في النظر إلى كتاب الله، وقصرنا في تدبر آياته، وفي اتباع المنهج الصحيح، وعندما غرتنا الحياة الدنيا وشغلتنا أموالنا وأهلونا أصبحت الحياة لا قيمة لها ولا معنى، فقيمة الحياة تكون بالهدف الذي يعيش الإنسان من أجله، وقيمة الحياة هي في الغاية التي يعيش الإنسان من أجلها: (يا ابن آدم! خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب، وعزتي وجلالي! ما اعتصم بي عبد من عبادي وكادته السموات والأرض إلا جعلت له من بينها مخرجاً، وعزتي وجلالي! ما اعتصم عبد من عبادي بغيري إلا أغلقت عليه أبواب السماء، وأزحت الأرض من تحته).
فلتكن الحياة لله وفي الله، وإذا أَنِسَ الناس بالدنيا فافرح أنت بالآخرة، وإذا فرح الناس بالدرهم والدينار فافرح أنت بالله: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الشورى:36] ، أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الرعد:19]، فأصحاب النهى والعقول هم الذين تدبروا وتفكروا واستعانوا على طاعة الله في عباد الله الصالحين، فهم من طاعة إلى طاعة، ومن قربة إلى قربة، والحياة ممر وطريق والعمر فرصة فاستغلوا الأوقات، واستغلوا الدقائق والثواني قبل أن يأتي وقت الندم والحسرة، فإنك لا تدري أين سيكون اسمك غداً، ولا تدري أنك إذا أصبحت هل تدرك المساء، وأنك إذا أمسيت هل تدرك الصباح.
أحبتي! هذه القصيدة لم تكن على البال، ولم تكن معدة لأقولها في هذا المكان، ولكن بطلب من أحد الإخوة الذين أحبهم في الله، وأشهد الله على حبكم أجمعين، وتلبية له والقصيدة هي للشيخ: سعيد بن مسفر حفظه الله ، وهو يبين فيها أحوال الناس وغفلة الناس وأنواع الناس، وكيف أن الأيام والليالي طريقهم إلى الله تبارك وتعالى، وكيف أن الحياة مضمار سباق يتسابق فيه الناس حتى يصلوا إلى نهاية السباق إما إلى جنة، وإما إلى نار.
والشيخ يقول: السباق يحتاج إلى مطية، والمطية يجب أن تكون قوية حتى تنهي السباق، فيقول إن المطية هي: الليل والنهار، وإذا نزلنا من مطية الليل ركبنا مطية النهار، ثم ننزل ونركب مطية الليل حتى نصل إلى نهاية السباق، يقول حفظه الله:
هذه الأيام مطايا.. فأين العدة قبل المنايا؟. أين الأنفة من دار الأذايا؟
أين العزائم؟ أرضيتم بالدنايا؟! إن بلية الهوى لا تشبه البلايا..
وإن قضية الزمان ذاك القضايا.. وإن خطيئة الأحرار لا كالخطايا
يا مستورين! ستفتح الخفايا.. إن ملك الموت لا يقبل الوساطة ولا يأخذ الهدايا
أيها الشاب! ستسأل عن شبابك.. أيها الشيخ! تأهب لعتابك.. أيها الكهل! تدبر أمرك قبل سد بابك..
يا مريض القلب! اطرق بباب الطبيب
يا منحوس الحظ! اشكُ فوات النصيب
لف بالجناب قليلاً.. وقف على الباب طويلاً .. واستدرك العمر قبل رحيله.. وأنت بداء التفريط عليلاً
يا من نُذر الموت عليه تدور!. يا من هو مستأنس في المنازل والدور!.
لو تفكرت في القبر المحفور.. وما فيه من الدواهي والأمور.. كانت عين العين منك تدور.. يا مظلم القلب! وما في القلب نور.. الباطن منك خراب والظاهر معمور.. إنما يُنظر للبواطن لا للظهور..
يا من كلما زاد عمره زاد إثمه! يا قليل العقل! وقد تيقن أن القبر عما قليل يضمه.. يا قليل العبر! وقد دق عظمه.. كيف نعظ من نام قلبه لا عقله وجسمه؟
فالحياة فرصة، والامتحان يكمن في أننا لا ندري متى تكون النهاية
اللهم، إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا يا ربنا من الراشدين!
اللهم لا تؤاخذنا بالتقصير، واعفو عنا الكثير، وتقبل منا اليسير، إنك يا مولانا! نعم المولى ونعم النصير
اغفر لنا ولوالدينا، ووالد والدينا، ولكل من له حق علينا
اللهم اجمع شمل المسلمين، ووحد صفهم، وأعلي شأنهم
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر