الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به، ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
الحمد لله شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير، اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين، ورازقهم، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3].
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71]. أما بعد:
فإن الأحاديث الثابتة عن نبينا صلى الله عليه وسلم في فضل قيام الليل والحث عليه كثيرة وفيرة.
والعجز عن درك الإدراك إدراك والبحث في كنه ذات الإله إشراك
وقد ألف الإمام ابن رجب كتاباً منظوماً حول هذا الحديث سماه: اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى، وغفر الله للمعلق عندما لوث الكتاب بتعليقه على هذه الجملة، فقال: (فوضع كفه بين كتفي) كناية عن إكرام النبي عليه الصلاة والسلام، نقول: ترفع الكناية وصاحب الكناية، هذا أمر بغيب ورد لا تحيله العقول، وورد به السمع، فيجب الإيمان به والمخالف لهذا ضال، قال: (فوضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أناملي بين ثديي، فتجلى لي كل شيء وعرفت، فقال: يا محمد صلى الله عليه وسلم! فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت: يا رب! في الكفارات والدرجات)، حديث الملائكة يدور حول هذا: ما الأعمال التي تكفر الذنوب؟ وما الأعمال التي إذا قمنا بها ترتفع درجاتنا عند علام الغيوب؟ ( فقال: وما الكفارات؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كثرة الخطا إلى الجمعات )، المشي إلى الجمعة والجماعة، ( والانتظار في المساجد بعد الصلوات )، بعد أن صلى جلس ينتظر ويذكر الله جل وعلا، وهذا هو الرباط، ( وإسباغ الوضوء على الكريهات )، أي: على المكاره في أيام البرد يتم الوضوء على أتم وجه، هذه هي الكفارات: يمشي إلى المساجد، وينتظر في المسجد بعد الصلاة، ويتم الوضوء أيام الشدائد في شدة البرد عندما يقوم للتهجد، ( فقال: وما الدرجات؟ قلت: إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة بالليل والناس نيام )، بهذا ترتفع الدرجات عند الله جل وعلا، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة:17].
ثم قال الله للنبي صلى الله عليه وسلم: (سل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام -في سجوده عندما التقى بربه جل وعلا-: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة بقوم فتوفني غير مفتون، وأسألك حبك وحب من يحبك، وحب عمل يقربني إلى حبك. ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: تعلموها وادرسوها فإنها حق )، هذه الرؤيا.
وورد في رواية في المسند: ( فمن واظب عليها عاش في خير ومات في خير، وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه )، (اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة بقوم فتوفني غير مفتون، وأسألك حبك وحب من يحبك، وحب عمل يقربني إلى حبك)، ولأجل ذلك تأخر النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة عندما كان في هذه الرؤيا الجليلة، أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن قيام الليل يرفع درجات العبد عند الله جل وعلا: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79].
إخوتي الكرام! حول كلام النبي عليه الصلاة والسلام أن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أي: ما فيها من النعيم يظهر، ولكن المؤمن أيضاً عندما يكون في تلك الحجرة يكون مستوراً بكيفية لا يعلمها إلا الله جل وعلا، مع أن ما في باطن هذه الأصول ظاهر، ولكن المؤمن يستر عندما يكون مع أهله بكيفية لا يعلمها إلا الله، وهذا مما ثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم، ففي مسند الإمام أحمد والصحيحين وغيرهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن للمؤمن خيمة في الجنة من لؤلؤة مجوفة، له فيها أهلون -من نسائه ومن الحور العين- يطوف عليهم فلا يرى بعضهم بعضاً )، والحديث في الصحيحين والمسند.
إذاً: هذه الدور بهذه المثابة، ولكن المؤمن يكون فيها مستوراً، وعند البحث عن هذا أحب أن أنبه إلى الشطط الذي اعتاده كثير من الناس في بيوتهم في هذه الأيام، حينما يضعون نوعاً من الزجاج في النهار يرى الإنسان من في الشارع إذا كان في البيت، وفي الليل إذا لم يكن هناك ستائر إذا نظر الإنسان يرى من في داخل البيت! سبحان الله العظيم، ما أعلم هل وصل هذا الانحطاط إلى اليهود أم لا؟ هل يقبل اليهودي أن يرى إلى داخل بيته عندما يجلس مع أهله؟!
وقد وقع نظري على كثير من البيوت وهم في الداخل ما بين نساء وغير ذلك بهذه الشاكلة، سبحان الله العظيم! نسأل الله جل وعلا أن يرزقنا الحياء فهو قرين الإيمان، وإذا نزع أحدهما نزع الآخر، فهذه البيوت في الجنة يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها؛ لما فيها من النعيم والبهجة، ولكن المؤمن يكون مستوراً بكيفية لا يعلمها إلا الله، فهو على كل شيءٍ قدير سبحانه وتعالى، فالجنة تكون لهؤلاء المتهجدين المتعبدين.
لو لم تكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تنبيك بالخبر
وكان نبينا صلى الله عليه وسلم يوصي الصحابة الكرام بهذا عندما يستفتونه ويسألونه، ففي صحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ( يا رسول الله! إذا رأيتك طابت نفسي، وقرت عيني، فأخبرني بعمل يدخلني الجنة؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أطب الكلام، وأطعم الطعام، وصل الأرحام، وصل بالليل والناس نيام ).
وكان نبينا صلى الله عليه وسلم يتعهد الصحابة الكرام كل ليلة بهذا الأمر، ويحثهم على القيام، ففي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي والمستدرك بسند صحيح عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلثا الليل قام فنادى بأعلى صوته -ليسمع الجيران حوله، ليستيقظوا لمناجاة الله جل وعلا- يا أيها الناس! اذكروا الله -يكرر هذا مرتين- يا أيها الناس! اذكروا الله، جاءت الرادفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه )، يفعل هذا كل ليلة عليه صلوات الله وسلامه.
فقال أبي بن كعب : ( يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: ما شئت، قلت: الربع؟ قال: ما شئت وإن زدت فهو خير لك. قلت: النصف؟ قال: ما شئت وإن زدت فهو خير لك. قلت: الثلثين؟ قال: ما شئت وإن زدت خير لك. قلت: أجعل صلاتي كلها لك )، أي: أورادي كلها أجعلها صلاة وسلاماً عليك، وأنصرف عن سؤال حوائجي من ربي جل وعلا، وأجعل عوضها صلاة وسلاماً على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذاً يكفيك الله همك، ويغفر لك ذنبك )، والحديث كما قلت إخوتي الكرام: في المسند وسنن الترمذي والمستدرك بسند صحيح كالشمس، وصححه الترمذي وقال: حسن صحيح، وصححه الحاكم وأقره عليه الذهبي وهو في المسند.
وأخبرني بعض إخواننا الكرام أنني قلت هذا الحديث في بعض المواعظ، فقال بعض الناس في بعض الأماكن هنا: إن هذا الحديث موضوع، ولا يعرف في كتب السنة، ولأن أخر من السماء إلى الأرض أحب إليّ من أن أكذب على النبي عليه الصلاة والسلام، الحديث في مسند الإمام أحمد ، وسنن الترمذي ، ومستدرك الحاكم ، ولكن وصل الجهل بنا ووصل حالنا إلى أننا لا ندرك كتب الأصول، الكتب الستة لا يعرفها طالب العلم فينا، حتى يقول بعد ذلك: إن هذا الحديث موضوع، يا أيها الرجل! اتق الله في نفسك، كما أنه لا يجوز أن نقول عن الحديث الموضوع: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز أن نقول عن الحديث الصحيح: إنه موضوع، اتق الله أيها الرجل في نفسك، فالحديث في كتب السنة، وهو حديث صحيح لا غبار عليه.
وهنا قال علي : (إنما أنفسنا بيد الله) ومن الذي يخالفك في هذا يا علي رضي الله عنه وأرضاه؟ وأنت من تخاطب بهذا؟ تخاطب خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه، وهو يعلم هذا قبل أن تعلمه أنت، وأنت علمت هذا من قِبله، فالمطلوب منك ومن كل مسلم عندما يسمع أن يستجيب وأن يقول: نسأل الله أن يعيننا على أنفسنا للقيام في الليل طاعة لربنا، وأما أن يقول: أنفسنا بيد الله فإن شاء أن يبعثنا بعثنا، ونحن إذاً ليس لنا في ذلك دخل، فهذا لا ينبغي، ولذلك ما أجابه النبي صلى الله عليه وسلم بشيء؛ ليعلم علي تأثر النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج وهو يضرب على فخذه ويقول: ( وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً ).
ومن طهارة علي رضي الله عنه وفضيلته وصدقه وأمانته أنه يروي هذا الحديث عن نفسه، وفيه معاتبة له من خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه.
إن أردت أن تكون زوجتك زوجة لك في الآخرة، فقل لها هذا وانضح في وجهها الماء، وأنتِ -يا أمة الله- إذا أردت أن تكون العشرة بينك وبين زوجك على شرع الله فانضحي في وجهه الماء إذا امتنع عن قيام الليل.
وقد قال لي بعض الأخوات الصالحات عندما ذكرت هذا الحديث في كلية البنات -وهي مزوجة-: إذا فعلت هذا مع زوجي يغضب وقد يضربني، فقلت: يا أمة الله! أنت فرطت في حق نفسك، وأسلمت القيادة لمن لا يخاف رب العالمين سبحانه وتعالى، فماذا أعمل لك بعد ذلك؟ إنما تداركي الأمر على حسب الاستطاعة، وهذا مما رخص النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة أن تفعله مع زوجها، إذا لم يقم فلتأخذ الماء ولتنضح به وجهه، ولترشه بشيء من الماء ليستيقظ وليصحو، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم لها بالرحمة إن فعلت هذا، كما دعا للرجل إذا فعل هذا، وورد في الكتب المشار إليها وغيرها بسند صحيح أيضاً، عن الصحابي المتقدم أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أيقظ الرجل امرأته من الليل فصليا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات )، وإذا لم تكن البيوت على هذا المعنى فلا خير فيها، كان نبينا صلى الله عليه وسلم يغرس هذا المعنى في قلوب الصحابة، في قلوب أهله، ثم أرشدنا بعد ذلك إلى يوم الدين لنفعل هذا.
إخوتي الكرام! ثبت في مسند الإمام أحمد، ومسند أبي يعلى بسند رجاله ثقات، عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا ضحك الله من العبد فلا حساب عليه)، فالعبد إذا فعل فعلاً أضحك به الرب فلا حساب عليه، وصفة الضحك -أخي المسلم- تواتر عن نبينا صلى الله عليه وسلم وصف ربنا بهذه الصفة، وهي صفة نثبتها لله جل وعلا على غير ما نعرف فينا، وكل ما خطر ببالنا فالله بخلاف ذلك، ليس كمثله شيء في ذاته وصفاته وأفعاله سبحانه وتعالى وهو السميع البصير، فإذا ضحك الله من العبد فلا حساب عليه.
ولذلك روى الإمام ابن حجر في الإصابة وابن الأثير في أسد الغاية، والقصة موجودة في البداية والنهاية، قصة عوف بن عفراء رضي الله عنه، وهو من الصحابة الأبرار عندما كان في موقعة بدر، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ( يا رسول الله! ما الفعل الذي إذا فعلته يضحك الله مني؟ ) ما الذي يضحك الرب في هذه الساعة العظيمة؟ أريد أن أفعل فعلاً أنال به هذا الأجر العظيم فلا حساب عليّ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن يغمس يده في العدو حاسراً )، أي: أن يذهب ويقاتل في الأعداء وهو حاسر ليس عليه درع ولا مغفر، يجود بنفسه لربه جل وعلا، فألقى درعاً كان عليه، ونزع المغفر، ثم ذهب يقاتل في صفوف المشركين حتى قتل، ليضحك منه الله، فمن ضحك الله منه فلا حساب عليه.
اثنان من هؤلاء يضحك الله إليهما: الرجل يقوم في وسط الليل يتهجد فيضحك الله إليه، ويقول للملائكة: انظروا آثرني عبدي على شهوته، والثاني: يكون مع أصحابه فينامون فيقوم ويصف قدميه لمناجاة ربه جل وعلا، فيضحك الله إليه سبحانه وتعالى، وأحاديث الضحك التي وصف بها نبينا صلى الله عليه وسلم ربه بهذه الصفة أنه يضحك أحاديث متواترة تواتراً معنوياً، ثابتة في الصحيحين وغيرهما، ولعل الله جل وعلا يأذن بإلقاء محاضرة حول صفات الله جل وعلا، وما لها من أثر في نفوس العباد، وما الطريق للإيمان بها إنه على كل شيء قدير.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإذا هو استيقظ وذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كلها، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان )، ولذلك استحب علماؤنا -كما هو وارد عن نبينا صلى الله عليه وسلم- إذا أراد الإنسان أن يتهجد، أن يفتتح تهجده بركعتين خفيفتين يوجز فيهما ما أمكن لتزال عنه هذه العقد بسرعة، كما قرر هذا الإمام زين الدين عبد الرحيم الأثري عليه رحمة الله، وهو المعروف بالشيخ العراقي عليه رحمة الله، نص على هذا، وهذا ثابت عن نبينا صلى الله عليه وسلم، كان إذا تهجد يفتتح تهجده بركعتين خفيفتين لتزال هذه العقد بسرعة وبسهولة، فإذا صلى انحلت عقده كلها فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان.
وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وآله وسلم أن الإنسان إذا نام حتى أصبح، أي: حتى أذن الفجر، يبول الشيطان في أذنيه، والحديث بذلك ثابت في الصحيحين والنسائي عن ابن مسعود ، ورواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة بسند صحيح: ( أنه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم رجل نام حتى أصبح، فقال: ذاك إنسان بال الشيطان في أذنيه )، والبول حقيقي كما قال الإمام القرطبي، فهو يبول وينكح ويتناسل بكيفية لا يعلمها إلا الله، يبول الشيطان في أذنيه، وإن أردت أن تتحقق من هذا فانظر إلى وجوه الذين يأتون للأعمال ولم يشهدوا قيام الليل، ولم يصلوا الفجر في جماعة، انظر إلى وجوههم في أول الدوام تجد عليها غبرة، هذا حالهم في الدنيا، وما لهم عند الله أعظم وأشنع، وإنما خصت أذناه دون العينين مع أنهما الآلة في الإبصار واليقظة؛ لأنه عندما نام يدل هذا على غفلته واستيلاء الشيطان عليه، فالشيطان يبول بعد ذلك إذا لم يستيقظ لقيام الليل، ليزيد في عدم انتباه هذا الإنسان ليشد عليه المسامع التي عن طريقها يستيقظ، فإذا أراد أن يستيقظ للفجر يثبطه أكثر، وهكذا حتى تطلع الشمس.
سبحان الله العظيم! كيف فرطنا في خيرات عظيمة، لو قيل لنا: إن غنياً من الأغنياء وأميراً من الأمراء سيأتي قبل الفجر بساعة إلى أبها، وسيعطي كل من يتصل به مائة ألف ريـال، والله لما نام أحد منا في تلك الليلة! سبحان الله العظيم! جعلنا الريالات أعظم من مناجاة رب الأرض والسماوات! ينادينا يطلب أن نلتقي به في تلك الساعة المباركة، وأن نخلو به في ذلك الوقت العظيم: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ من ينادي رب العالمين؟ إنه ينادي عباده، يا عباد الله! اتقوا الله في أنفسكم، وأحيوا هذه السنة فيكم وفي أهليكم وفي جيرانكم، وتواصوا بها فلها فوائد عظيمة، سيأتي الإشارة إليها والكلام عليها إن شاء الله عما قريب.
وعلى هذا فإذا أراد الإنسان أن ينام، ولنفرض أنه نام في الساعة التاسعة بعد العشاء، ويستحب التبكير بالنوم إذا لم يكن الإنسان في موسم طاعة، وهذا في ليال معدودة، وما عدا ذلك فليبكر، كما تقدم معنا بيان هذا في هدي الإسلام في النوم، فإذا نام الساعة التاسعة فمن الساعة التاسعة إلى الخامسة قرابة ثمان ساعات، فلينم نصفها أربع ساعات، ثم ليستيقظ بعد ذلك قرابة ثلاث ساعات أو ساعتين أو ساعتين ونصف لمناجاة الله، ثم لينم ساعة وليستيقظ بعد ذلك قبل الفجر بدقائق؛ لئلا يدركه أذان طلوع الفجر وهو نائم، وهذا مطلوب من الإنسان، وهو أحسن كيفيات القيام؛ لأنه إذا قام الجزء الأخير من الليل فقط قد يعتريه شيء من الملل بعد ذلك لصلاة الفجر، يضاف إلى هذا أنه يصبح في وجهه شيء من الصفرة، فلو نام في ذلك الوقت لكان أنسب، فلينم إذاً شيئاً يسيراً، ينادي الله جل وعلا عند نزوله بما تيسر ثم ينام، ليخلو بالرحمن جل وعلا أيضاً عن طريق النوم، بعد أن تهجد وطهر نفسه ونام على أكمل حالة، فينام إذاً ما تيسر له مقدار ساعة متوجهاً للقبلة على هيئة الميت، ولير بعد ذلك ولينظر ماذا سيراه في تلك الساعة، وفي ذلك الوقت من رؤى يسر بها ويبتهج، كما حصل لنبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم، وكما يحصل للصالحين في كل حين، هذه أكمل الحالات، وإذا لم يتيسر له ذلك فليقم من الليل ولو قدر حلبة شاة، ولو بمقدار صلاة ركعتين، ينبغي أن لا يطلع عليه الفجر ولم يأخذ بحظه من الليل ولو مقداراً يسيراً؛ لأنه لو لم يقم حتى يطلع الفجر فقد بال الشيطان في أذنيه، وكتب عند الله من الغافلين.
ولذلك ثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم، والحديث في سنن أبي داود وصحيح ابن خزيمة بسند صحيح، عن عبد الله بن عمرو أيضاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية -بقرابة سدس القرآن خمسة أجزاء في الليلة- كتب من المقنطرين )، أي: الذين يوفون أجورهم بالقناطير يوم القيامة بغير حساب. فلا بد من القيام على أقل تقدير، كما تقدم معنا عن الحسن وابن سيرين أنهما يريان أن القيام واجب ولو بمقدار حلبة شاة، بمقدار عشر آيات، حتى يتعرض الإنسان لنفحة رب الأرض والسماوات في ظلام الليل، ولا يكون في جميع الليل كأنه جيفة، إن قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، وإن قام بمائة كتب من القانتين، وإن قام بألف كتب من المقنطرين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر