فمنحهم بعد الظلم إنصافاً، وبعد العهر عفافاً، أتى بالخير للإنسان فأنقذه، وشرع الزواج وحبذه، فهو لداء الشهوة عند الشباب بلسم وعلاج، وكل عقبة توضع في طريق الزواج؛ فليست من الإسلام في شيء.
وإشكاليات الزواج في العصر الحديث هي محور هذه الخطبة، بالإضافة إلى بعض القضايا الأخرى.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
فيا أيها الناس! لقد أشرق الإسلام بآدابه وتعاليمه الخالدة، فأقر كل خير وجد في الأخلاق الأصيلة، وغسلها مما علق بها خلال القرون من الأوبار الدخيلة، ثم أكملها بما أوحى به رب السماوات والأرض إلى نبيه صلوات الله وسلامه عليه تحقيقاً لقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً [الأحزاب:45-46] فبعثه الله عز وجل لحفظ مصالح الخلق ومقاصدهم، وسد كل ذريعة تخدش دينهم، أو تهز كيانهم، ولذا فقد أجمع الأنبياء والرسل قاطبة على الديانة بالتوحيد في مللهم، وعلى حفظ المال والنفس والنسب، وحفظ العقل والعرض، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الستة، فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول، فهو مفسدة، ودفعها مصلحة، ولأجل هذا شرع الله الجهاد لحفظ الدين، والقصاص لحفظ النفس، وحد المسكر لحفظ العقل، وحد الزنا لحفظ العرض، وحد السرقة لحفظ المال، وعقد النكاح لحفظ النسب.
أيها الناس! إن في البلاد المسلمة اليوم مشكلةً من أعظم المشاكل، وأعمقها أثراً في حياة الأمة المسلمة؛ إنها مشكلة الزواج، والتي تتلخص في كلمات هي أن في المسلمين آلافاً مؤلفة من البنات في سن الزواج، لا يجدن الخاطب، وآلافاً مؤلفة من الشباب لا يجدون البنات، أو لا يريدون الزواج، وهذه المشكلة الظاهرة إن لم يتنبه إليها المسلمون، ويفتحوا لها طرق العلاج بالحلال؛ فإنه لن يجد الشباب للوصول إلى حاجاتهم الغريزية إلا سلوك طريق الحرام، في نحو ما ذكرت عائشة رضي الله عنها، أو يزيد؛ لأنه من النتائج الحتمية الظهور والتي لا ينكرها عاقلٌ مسلمٌ أن الفساد الخلقي سببٌ في قلة الزواج، وقلة الزواج سببٌ في الفساد الخلقي، وهذا ما يسمى بالدور كما قال القائل:
لولا مشيب ما جفـا لولا جفاه لم أشب |
إن الوقدة من ضرم الشهوة في أعصاب الشاب المسلم هي داء الشباب في كل حين، ولطالما أرقت الكثيرين صغاراً وكباراً، ولطالما نفت عن عيون الكثيرين لذيذ العيش، ولطالما صرفت التلميذ عن دروسه، والعامل عن عمله، والتاجر عن تجارته، وكل هذا طبعيٌ معقولٌ، ولكن الذي لا يكون أبداً طبعياً، ولا معقولاً أن يحس الفتى، أو الفتاة بهذا كله في سن الشباب، ثم يضطرهما المجتمع بأسلوبه على مختلف المحاور إلى البقاء على العزوبة، والصرف عن الزواج من حيث يشعر، أو لا يشعر، وهذه هي المشكلة، وهي مكمن الداء، ولربما كانت بعض المجتمعات تقول للشاب بلسان حالها: اختر إحدى ثلاث كلها شر، ولكن إياك إياك أن تفكر في الرابعة والتي هي وحدها الخير وهي الزواج، وهذه الثلاث:
الاختيار الأول: إما الانطواء على النفس، وعلى أوهام الشهوة، والتفكير فيها، وتغذيتها بالروايات الرخيصة، وأحلام اليقظة ورؤى المنام؛ حتى تنتهي به الحال إلى الهوس، أو انهيار أعصابه، ولسان حاله يقول للمجتمع:
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء |
الاختيار الثاني: وإما اللجوء إلى طرقٍ سريةٍ خفيةٍ؛ لإبراز غلة الشهوة، والتي حرمها جمهور أهل العلم عملاً بقوله تعالى: فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [المؤمنون:7].
الاختيار الثالث: وإما الاغتراف من حمأة اللذة المحرمة وسلوك سبل الضلال؛ لتبذل فيها الصحة والشباب في لذة عارضة ومتعة عابرة، ثم هو لا يشبع، بل كلما واصل واحدة؛ زاده الوصال هماً كشارب الماء المالح لا يزداد شرباً إلا ازداد عطشاً.
وهذا كله نتيجة ما نحسه اليوم من جمود في حركة الزواج؛ حتى أصبحت العزوبة الممقوتة أصلاً لدى عديد من الشباب ليس بالقليل، والتي أتبعها بعد ذلك اضطراب الأقيسة الاجتماعية في طريقة اختيار القرينة عندما يرغب الشباب بالحياة الزوجية، والزواج ينبغي ألا يكون قضاء وطر، وإدراك شهوةٍ فقط، ولكن ينبغي أن يكون امتداداً لأمة تحمل رسالة نبيها صلى الله عليه وسلم، وبناءً لأجيال تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور:21].
أولها: تلكم العادات الشنيعة التي تخرب بيت الأب وبيت الخاطب معاً، وليس فيها نفعٌ لأحد، وإنما هو التفاخر والتكاثر، والتسابق إلى التبذير والترف، ولو سئل كثير من العزاب اليوم ما منعكم من الزواج؟
لكان جواب الكثيرين منهم في صوت واحد: غلاء المهور، غلاء المهور، الذي أدى بالناس إلى الازدواجية بالحياة، وفئام من الناس كأنهم يعيشون في عصر مضى، وفئام من الناس كأنهم يعيشون في عصر لم يأت بعد، فكيف إذاً يلتقي الزوجان وبينهما عصرٌ مديدٌ، هو يعيش كفافاً، وأهل الزوجة يعيشون إسرافاً، هو يريد الزواج، وأهلها يريدون الفخر والمباهاة؟
{جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني تزوجت امرأة من الأنصار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: على كم تزوجتها؟ قال: على أربع أواق يعني: مائة وستين درهماً فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: على أربع أواق؟! كأنما تنحتون من عرض هذا الجبل ما عندنا ما نعطيك } .. الحديث رواه مسلم ، وعندما يصل المجتمع المسلم إلى حد الرشد، فإنه لا يستطيع بطبيعة الحال أن ينظر بعين الرضا إلى التنافس الصبياني في غلاء المهور، وعشق الأثاث، ومن أبى إلا ركوب رأسه في هذا المنحدر، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
وسبب ثانٍ من أسباب تلك المشكلة: يتمثل في قلة الدين، وتغيب العفاف الذي أدى ببعض المجتمعات في كثير من البقاع -إلا من رحم الله- إلى إقرار الاختلاط بين الجنسين، والذي أصبح وسيلة ناجحة لإطلاق عنان الغرائز، ليعيش الشباب نكوصاً على أعراض الناس، يكتفون باختلاس النظرة، واستراق اللحظة، وسلوك مسالك الغش والتضليل التي غفل عن خطرها كثيرٌ ممن حرم هداية الله.
والسبب الثالث: من أسباب تلك المشكلة هو ما يردده بعض أرباب الأفكار اللقيطة الذين ينفثون سمومهم عبر قنوات متعددة، يقررون من خلالها أن التبكير في الزواج عملٌ غير صالح، وضرب من التغرير بالمراهقين، وأنه لا ينبغي أن يغامر بعملية الزواج قبل التزود الكافي من التجارب، وفي ذلك قال قائلهم: لا قبل لي بهذا المعني الذي يسمونه الزواج، فما هو إلا بيت ثقله على شيئين: على الأرض، وعلى نفسي، وأطفال يلزمونني عمل الأيدي الكثيرة من حيث لا أمد إلا يدين اثنتين، وأتحمل منهم رهقاً شديداً، ومن ثم سيصبحون عالةً على المجتمع، ومن الذي تعرض عليه الحياة سلامها وأشواقها في مثل رسالة غرام، ثم يدع ذلك كله، ويتزوجها، فكأنه بذلك يسألها غضبها وخصامها في نحو قضية من قضايا المحاكم كل ورقة فيها تلد ورقة.
وطبعياً أن يكون لمثل هذا الصدى مريدون ومريدات، يضعون مثل هذه الترهات في مقام القداسة والتعظيم، حتى يقف بهم الأمر لأن يكون الواحد منهم خواراً جباناً، لا يستطيع أن يحمل أثقالاً مع أثقاله، ويستوطن العجز والخمول، فلا يكون إلا قاعد الهمة رخو العزيمة، وكل شاب تلك حاله، فهو حادثة ترتبط بالحوادث وتستلزمها، ولا يأتي السوء إلا بمثله، أو بأسوأ منه، فيشهد العزب بنفسه أنه يبتلى بالعافية، مستعبد بالحرية، مجنون بالعقل، مغلوب بالقوة، شقي بالسعادة، وما علم أولئك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ألجمهم بقوله: {يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة، فليتزوج؛ فإنه أحصن للفرج، وأغض للبصر، ومن لم يستطع، فعليه بالصوم، فإنه له وجاء } قال تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32].
قال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: [[أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح؛ ينجز لكم ما وعدكم به من الغنى ]].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد:
فيا أيها الناس! بالنكاح يلتئم الشعث، وتسكن النفس، ويطمئن القلب، ويستريح الضمير من تعب التفكير، ويحصل الولد، ويعمر البيت، وتتم به نعمة الله على الزوجين، ولن تكمل الرجولة حتى يتزوج الشاب، أما الذي لا زوجة له ولا ولد، فرحمته بالناس مفقودة، وشفقته عليهم غير موجودة، لا يهمه إلا بطنه وظهره، ولا يجمع من المال إلا ما يكفيه لحياته، هو عالةٌ على أهله في صغره غير مأمولٍ في كبره، إذا طال عمره؛ فغير ملتفت إليه، وإذا مات؛ فغير مبكي عليه، ومن رغب عن النكاح فقد ترهب، وعنده يقف بعض نسل ابن آدم، من جهته تنقطع الأبوة والبنوة، فلا يذكر إلا بعلم علمه، أو مال ترك منه صدقة جارية.
[[ دخل
هذا وصلوا رحمكم الله على خير البرية، وأزكى البشرية جمعاء محمد بن عبد الله بن عبد المطلب سيد المرسلين، وإمام الغر المحجلين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق إمامنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته إلى البر والتقوى، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم لا تدع لنا في مقامنا هذا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حاجةً من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضا، ولنا فيها صلاح إلا أعنتنا على قضائها ويسرتها برحمتك يا أرحم الراحمين!
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر