قال الله عز وجل: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [النمل:48-53].
ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات وما قبلها قصة صالح النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مع قومه ثمود، وكيف أن الله سبحانه وتعالى أرسل صالحاً إلى ثمود ليدعوهم إلى عبادة الله سبحانه، وكانوا قوماً كفاراً يفعلون المعاصي ويخربون ويفسدون، فلما أرسل الله سبحانه وتعالى صالحاً إليهم ليدعوهم لعبادة الله سبحانه وطاعته قال لهم: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ [النمل:45]، يعني: فريق المؤمنين الذين مع صالح وكانوا الأقلية والضعفاء من القوم، وفريق الأكثرية والأغلبية وهم الكفار: (فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ)، كما عبر الله عز وجل في موضع آخر: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا [الأعراف:75]، أي: الذين كفروا هم المستكبرون، والذين آمنوا هم المستضعفون، فقال الكفار الذين استكبروا للمؤمنين المستضعفين: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ [الأعراف:75] أي: أتستيقنون من ذلك أم أتظنون ذلك؟ فقال المؤمنون: إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ [الأعراف:75]، فقال الكافرون: إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [الأعراف:76]، فَعَقَرُوا النَّاقَةَ [الأعراف:77]، وكانوا قد طلبوا من صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أن يأتيهم بآية يشاهدونها، وبمعجزة يستيقنون منها أنه نبي، فلما أتاهم بهذه الآية من عند الله سبحانه كادوا أن يؤمنوا بصالح النبي عليه الصلاة والسلام، فلم يزل المستكبرون وكبار القوم يصدونهم عن الإيمان حتى كان الأقل هم المؤمنين، والأكثرية هم الكافرين.
فيقول الله سبحانه وتعالى: فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ [النمل:45]، يعني: يتجادلون في أمر صالح، الفريق الضعيف وهم المؤمنون والفريق القوي الغالب وهم الكافرون، فقال صالح لقومه يحذرهم من كفرهم وطغيانهم وعصيانهم، وقد أعطاهم الله عز وجل جنات، وأعطاهم عيوناً وزروعاً وثماراً، وأعطاهم نخيلاً طلعها هضيم، وأشياء عظيمة من الله عز وجل بها عليهم، فإذا بهم يصرون على كفرهم، فقال: يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ [النمل:46]، أي: لِمَ تستعجلون بفعل المعاصي نقمة الله وعذاب الله، بدلاً من أن توحدوا الله فتستعجلون بالحسنة جنته والنعم التي تنزل عليكم؟ لم تستعجلون عذاب الله سبحانه ولا تستعجلون رحمته؟
ثم قال لهم: لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ [النمل:46]، فدعاهم للتوبة والاستغفار، لعل الله أن يرحمهم، فإذا بهم يتشاءمون منه، ويعلنون له ذلك: ( قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ [النمل:47]، قال: شؤمكم عند ربكم، يعني: ما تظنونه شؤماً في الدنيا وهو توحيد الله والدعوة إلى الله عز وجل، فشؤمكم الحقيقي ما يكون بعذابكم يوم القيامة من أعمالكم السيئة؛ لأنكم تستحقون أن توصفوا بذلك فأنتم أهل شؤم وأهل فساد، فتستحقون العقوبة من الله سبحانه وتعالى، فطائركم نتيجة كلامكم ومعصيتكم وإفسادكم العذاب عند الله، هذا هو الطائر وهذا هو الشؤم الحقيقي لكم، قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ [النمل:47]، أي: أن الله يمتحنكم بأن أعطاكم القوة والغنى، وجعل المؤمنين هم الضعفاء.
فقوله: يفسدون في الأرض أي: يأمرون بالفساد، (ولا يصلحون) أي: ليس عندهم إصلاح، ولكن يفعلون الفساد ويأمرون به أيضاً، فأخبر الله سبحانه وتعالى عن هؤلاء أنهم عملوا خطة مع بعضهم، فقال بعضهم لبعض: اكتموا وأسروا ذلك حتى لا يعلم أحد بالذي اتفقنا عليه، واحلفوا على ذلك، واقسموا بالله ألا يقوم أحد منكم فيخبر القوم بما اتفقنا عليه، قال تعالى: قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [النمل:49]، يعني: لنقتله بالليل في الظلماء هو ومن معه في الدار، بحيث لا يدري أحد أننا فعلنا هذا الشيء: لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ يعني: نذهب نحن التسعة فنقتله، مثل ما قام قدار وعقر الناقة قبل ذلك، فنبيكم هذا قال: إننا سنعذب بعد ثلاثة أيام فقبل أن يأتينا العذاب نقتله هو وأهله ثم نقول: ما رأينا ولا عرفنا شيئاً، وإذا كان صادقاً وجاء العذاب فيكون قد استرحنا منه في البداية وتشفينا منه، وإذا لم يأتنا العذاب يكون قد انتهينا من أمر هذا النبي، ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ أي: لولي دمه ولأقربائه الذين سيطالبون بدمه: مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ .
وقوله: لَنُبَيِّتَنَّهُ هذه قراءة الجمهور، وقراءة حمزة والكسائي وخلف : (لَتُـبَيِّـتُـنَّهُ) يعني: قال بعضهم للبعض الآخر: (لَتُـبَيِّـتُـنَّهُ)، كأنهم يقسمون على ذلك: والله لتفعلن ذلك: (لَتُـبَيِّـتُـنَّهُ وأهله ثم لتقولُّن لوليه ما شهدنا مهلك أهله).
وقوله: مَهْلِكَ هذه قراءة حفص عن عاصم فقط، ويقرأ شعبة عن عاصم: ما شهدنا مَهلَكَ أهله وباقي القراء يقرءونها: ما شهدنا مُهلك أهله، وكأن قراءة عاصم من الفعل الثلاثي من هلك، وقراءة الجمهور من الفعل الرباعي: أهلك، يأتي منها: مُهلك أهله .
وعلى قراءة حفص عن عاصم : مَهْلِكَ أَهْلِهِ يكون بمعنى المكان الذي هلك فيه الأهل، وعلى القراءة الأخرى: كأنه موضع، يعني: لا نظرنا مكاناً، ولا حضرنا طريقة هلاكهم.
قوله: وَإِنَّا لَصَادِقُونَ يعني: سيحلفون لهم أنهم صادقون في دعواهم عدم رؤية شيء، مع أنهم هم القتلة لو فعلوا.
إذاً: فالإنسان يتذكر وهو في وقت غضبه وفي وقت تهوره، أنه إذا فعل شيئاً فإنه سيفعل به يوماً من الأيام، إن لم يكن في الدنيا فعذاب الآخرة أشد وأبقى.
فقوله: أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ [النمل:51]: هذه قراءة الكوفيين: عاصم وحمزة والكسائي وخلف ، وكذلك يعقوب ، وقراءة باقي القراء: نافع وأبي جعفر وقراءة أبي عمرو وقراءة ابن عامر وابن كثير : إنا دمرناهم وقومهم أجمعين .
وباقي القراء يقرءونها بكسر الباء (بِيوتِهم)، وهذا يتكرر فيها وفي غيرها من أمثالها، كبيوت، وشيوخ، وعيون، وجيوب، وأشياء من هذا القبيل ففيها الوجهان: الضم والكسر، وإن كان لفظ جيوب ليس في القرآن.
يقول: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا ، (خاوية) منصوبة على الحال، أي: حالها أن تلك البيوت صارت خاوية؛ بسبب ظلمهم.
ثم قال: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ، أي: كل من عنده فهم يفهم، وكل من يمر على الديار فيرى آثار ثمود، فقد كانوا موجودين بين الشام وبين الحجاز، فعلوا كذا وكذا فجاءهم العذاب وأهلك الأقوام وبقيت البيوت شاهدة على من كان فيها في زمن من الأزمان، فكل من يعلم ذلك ليس عليه أن يؤمن فقط، بل لابد أن يعقل ويتفكر، ويعلم وعنده عقل يتفكر، يعلم أن هنا كانت ديار ثمود فأهلكهم الله بكفرهم.
قال الله تعالى: وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [النمل:53] أي: أهلك الله الكافرين وأنجى المؤمنين الأتقياء، وهذه سنة الله عز وجل في خلقه، فمهما تمكن الكفار أياماً وشهوراً ودهوراً فإنه في النهاية يمكن الله عز وجل للمؤمنين، حتى ولو كانوا مستضعفين، قال تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ [القصص:5].
نسأل الله عز وجل أن يمكن للإسلام والمسلمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر