الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فإني أهنئ طلبة العلم بنيتهم التي رفعتهم إلى هذه المساجد لتلقي العلوم، فإنها خصلة حميدة، وفائدة عظيمة، وحسنة كبيرة اختص بها من اهتم بطلب العلم والفائدة، فما أعظمها من فائدة وما أعظمها من حسنة! أولئك الذين فارقوا بيوتهم وأهليهم وأوطانهم، نهنئهم بأنها خصلة حميدة، وبأن الله تعالى أراد بهم خيراً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)، ولم يفرق بين الطريق البعيد والطريق القريب، ولا شك أن الطريق البعيد الذي يسلكه ويقطع فيه مئات الأميال أو ألوفها أنه أعظم أجراً ؛ حيث إنه عمل على مشقة وصعوبات، والأجر على قدر النصب، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر فضل العلم أنه قال : (إن العالم ليستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر)، وليس المقصود العالم الرباني، بل كل من علم علماً ولو قليلاً يصدق عليه أنه عالم، ولو بآية أو بآيات أو بأحاديث أو بنوع من العلوم، فالحاملون قليل العلم يصدق عليهم أنهم علماء، فتستغفر لهم الملائكة والدواب وحيتان البحر، وكذلك تتواضع لهم الملائكة، كما في الحديث: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع) يعني: تتواضع لطالب العلم رضاً بالذي يصنعه.
وأيضاً: (فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب)، فالذي يشتغل بالعبادة وبالصلوات وبالتهجد وبالصيام وبالركوع والسجود وبالذكر والدعاء ونحو ذلك، والذي يشتغل بطلب العلم وبتعلمه وبالتفقه في الدين بينهما فرق كبير، وقد أخبر في هذا الحديث بالفرق بينهما، وأن فضل هذا على هذا كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، ولا شك أن هذه خصال حميدة يشجع عليها من تجشم الصعاب وصبر على هذه المشقات وواصل التعلم.
وأهنئ طلبة العلم بأنهم -والحمد لله- قد حصلوا على علم كثير وكبير، حتى ولو تعلم الواحد آية أو معرفة يحفظها أو يعقل معناها أو يعرف ما تدل عليه، فإن هذا علم كبير لا يقاس بغيره، ويفوق غيره ممن فاتته هذه الكلمة أو الآية.
ولا شك أن اعتقاد أهل السنة والجماعة هو اعتقاد الرسل جميعاً، فرسل الله تعالى من أولهم إلى آخرهم على عقيدة واحدة، ولم يختلف واحد منهم عن الآخر في أمر العقيدة، بل كلهم عقيدتهم واحدة، وما ذاك إلا أن هذه العقيدة التي يدعون إليها ويؤصلونها هي مما يتعلق بالأمور الغيبية وما ينتج عنها من الآثار الحسنة، والأصل فيها أنها علوم مستوحاة من كتب الله تعالى ومما بلغته رسله، ومأخوذة من الكتاب والسنة ومما جاءت به الرسل، والرسل كلهم على عقيدة واحدة ليس بينهم اختلاف، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نحن -معاشر الأنبياء- أولاد علات، ديننا واحد)، وأولاد العلات هم الذين أبوهم واحد وأمهاتهم شتى، بمعنى أن أصل الدين الذي هو العقيدة متفق عليه بين أنبياء الله كلهم متقدمهم ومتأخرهم، وأما الشرائع والفروع فيحصل بينها اختلاف بحسب المناسبات: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً [المائدة:48]، ولكن أمر العقيدة مما هم متفقون فيه.
وهكذا جاءت الرسل بأمر هذه العقيدة، وإذا كان كذلك فمن المهم تعلم هذه العقيدة، وأن يتعلمها كل مسلم حتى يكون مصدقاً لما جاءت به الرسل ومؤمناً به إيماناً كاملاً، ويكون متبعاً لهم حقيقة الاتباع، مقتفياً لآثارهم ليحشر في زمرتهم، هذه هي فائدة العقيدة.
ولا شك أن عقيدة أهل السنة وأئمة الحديث مأخوذة من الوحيين: من كتاب الله ومن سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ومعلوم أن الأدلة التي تؤخذ من الوحيين أدلة قطعية الثبوت، والدلالة لا يتطرق إليها شك ولا توقف، ومن توقف فيها وشك فيها فهو ضال مضل، من شك في آية من كتاب الله وقال : هذه لم تثبت. أو أنكر ثبوت آية من القرآن اعتبر مكذباً للرسل ؛ لأن من كذب رسولاً فقد كذب الرسل كلهم، ومن كذب خصلة يقينية جاء بها الرسول فقد كذب الرسالة كلها.
إذاً هذه العقائد مأخوذة من أدلة قطعية، وذلك ليطمئن المسلم على صحة معتقده، ويعرف أنه حقاً على عقيدة ثابتة راسخة، وأنها هي التي تبعث على الأعمال، وتنبع عنها الأعمال الصالحة، ولأجل ذلك نأخذ أمثلة:
فالرسل لما تيقنوا أن ما جاءهم وحي من الله تعالى، وأنه حق وصدق حملهم ذلك اليقين على أن صدعوا بالحق، وقابلوا الأمم بما يكرهون، وكلموا أممهم بكلام قوي، وذلك أنهم واثقون بأن ما يدعون إليه كله حق، فنبينا صلى الله عليه وسلم لما تيقن أن الوحي الذي جاءه من الله تعالى، وأنه شرع الله ودينه، وأنه مرسل به ليبلغه صدع بالحق وأظهره وأعلنه، ولقي من ذلك ما لقي، ولكنه صبر وصابر، فلقي الأذى والسفه والمقاطعة، وآذاه من آذاه بأنواع من الأذى كما هو معروف في سيرته، ولكن ذلك لم يزده إلا تصلباً إلى أن أظهر الله دينه، واشتهر عنه صلى الله عليه وسلم قوله : (والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك ما جئت به لن أتركه حتى يظهره الله أو أهلك دونه) ولا شك أن الذي حمله على ذلك هو يقينه بأنه على حق.
كذلك أيضاً صحابته رضي الله عنهم لما تلقوا منه العقيدة ورسخت في قلوبهم أرسى من الجبال كان من آثارها أنهم صمدوا بها على هذا الإيمان، وثبتوا ثبوتاً يقينياً، وصبروا على فراق الأهل والمال، وصبروا على الأذى الذي لاقوه -كما هو مشهور في تراجمهم- من تعذيب وضرب، ووضع الصخور على صدورهم، وإلقائهم في الشمس مكتفين، وفي النهاية طردهم وإخراجهم من بلادهم أموالهم، فما الذي حملهم على تجشم هذه المشقات؟ إنها العقيدة الراسخة في قلوبهم .
ومن آثارها أنهم اندفعوا يدعون إليها بكل ما يستطيعونه، اندفعوا يدعون إلى هذه العقيدة وهذا الدين حتى وصلوا البلاد البعيدة، وصبروا على الجهاد، وقاتلوا المشركين، وقتلوا من قتلوا وقتل منهم من قتل، فما الذي حملهم على أن قطعوا المسافات البعيدة للغزو؟ وما الذي حملهم على أن قابلوا جيوش الروم والفرس والترك والصقالبة والزنوج وغيرهم من المشركين الذين هم على أهبة القتال ومعهم القوة والكثرة والصحابة في قلة ضعف؟ إن معهم قوة الإيمان والعقيدة، فهذا دفعهم إلى أن أفنوا ما يملكونه من الأموال وأنفقوه، وتعرضوا للقتل ولسفك الدماء، ولا شك أن الذي حملهم على ذلك هو العقيدة التي رسخت ورست في جلودهم وقلوبهم، في الجلود والقلوب والدماء والعروق، فكانت مشربة بلحومهم ودمائهم، فهذا أثر هذه العقيدة في أولئك الصحابة .
ويقال مثل ذلك أيضاً فيمن كان على هذه العقيدة في قديم الزمان وحديثه.
وقد ذكر الله تعالى بعض الذين لم ترسخ العقيدة في قلوبهم، وذكر أنهم يتزعزعون وينحرفون، قال الله تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ [الحج:11]، هكذا حال بعض الذين لم ترسخ العقيدة في قلوبهم، دخلوا في الإيمان ولكن دخولهم كان كتجربة، ينظرون في هذا الدين فإن جاء بما يوافق أهواءهم وما يحبونه ساروا مع أهله وإلا رجعوا إلى ما كانوا عليه، فإن أصابهم خير من نصر ورزق وفتح ومال وإقبال الدنيا عليهم وما يسرهم من زهرة الدنيا وزينتها اطمأنوا وساروا على ما هم عليه من معتقدهم ولو كان ضعيفاً .
أما إذا ابتلوا وأصيبوا في أموالهم وأبدانهم بشيء من المصائب فما أسرع رجوعهم وما أسرع انقلابهم على أعقابهم، فأحدهم إذا أصابته فتنة أو أوذي أو اضطهد أو نحو ذلك انقلب على عقبيه.
فمثلاً: بعض الناس يدخل في الإسلام من غير المسلمين، ويجعل ذلك كتجربة، ويقول : ننظر في هذا الإسلام الذي يدعو إليه هؤلاء، فإن جاء بما يوافقنا وإلا رجعنا إلى بلادنا وعشنا فيها على الدين الذي كان عليه أسلافنا. فهؤلاء قد يسلط الله عليهم ابتلاء وامتحاناً من الفقر والمرض والأذى، فإذا جاءتهم هذه المصائب سبوا الدين وسبوا هذا المعتقد، وقالوا : ليس في هذا الدين خير، بل منذ أسلمنا ونحن في هذه المصائب، فإذا شفينا من مرض أتى بدله، وإذا سلط علينا إنسان وتخلصنا منه تسلط علينا آخر.
نقول لهم: اصبروا وصابروا، وتحملوا ما تلقونه من الأذى، فإذا كنتم على العقيدة الصحيحة فتحملوا ذلك ولا تتزعزعوا، ولا ترجعوا عما كنتم عليه فتخسروا دينكم وحياتكم؛ فإن البلاء يسلط على الأنبياء وأتباع الأنبياء، كما جاء في الحديث: (لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الدنيا وليس عليه خطيئة)، وقال: (إن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة شدد عليه وإلا خفف عنه)، فالله تعالى ابتلى صحابة نبيه صلى الله عليه وسلم عندما أسلموا وأخبرهم بهذا الابتلاء، ولكن أمرهم بالصبر، واقرأ قول الله تعالى : لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران:186]، فالذين صبروا واتقوا وتحملوا ما حملهم على ذلك إلا بشاشة الإيمان التي باشرت قلوبهم، والعقيدة الصحيحة ملأت أفئدتهم، والإيمان بالله وبدينه وبشريعته باشر أفئدتهم وأشربته لحومهم ودماؤهم، فعند ذلك صبروا وقالوا : هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً [الأحزاب:22]، ونقول: إن هذه آثار العقيدة .
فإذاً أنت تعرف صادق العقيدة وقوي العقيدة، وتعرف الكاذب وضعيف العقيدة، ولكن لا يعرف ذلك ولا يظهر جلياً إلا عند الامتحان، فعند الامتحان يكرم المرء أو يهان، والامتحان هنا معروف أنه من الله تعالى، وذلك بأن يسلط الله الأذى المؤمن كامل الإيمان وعلى راسخ الإيمان، ويكون هذا التسليط وهذه المصائب التي تصيبه رفعاً لدرجاته وتكريماً له وزيادة في حسناته، كما حصل للأنبياء، وقد تكون في حق المؤمن أيضاً رفعاً لدرجاته ولكنها في الحقيقة اختبار وامتحان لكثير من الناس في أمر إيمانهم هل هم صادقون أم لا؟ ولذلك قال الله تعالى : وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ [العنكبوت:11]، وقال تعالى : أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2-3] أي: أتحسبون أن تقولوا: آمنا وتسلمون من الفتنة؟! لابد من الفتنة، ولابد من الابتلاء، فالله تعالى يبتلي من يبتليه لما ذكر من الحكمة في قوله تعالى: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ [العنكبوت:11]، والعلم هنا هو علم الظهور، أن يظهر معلوم الله تعالى في حينه، فيظهر علم الله في هذا الرجل أنه منافق وأنه يعبد الله على حرف، فلما جاءه هذه الابتلاء رجع القهقرى، وأن هذا قوي الإيمان، فما زادته الفتنة إلا ثباتاً ورسوخاً وتقدماً فيما هو عليه وصبراًواحتساباً.
وبالتتبع لم يوجد أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دخل في بدعة ولا خالف السنة ولا جماعة المسلمين، ولا خرج على أئمة الدين، ولا انتحل نحلة مخالفة لطريقة أهل السنة والجماعة، بل الصحابة زكاهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولأجل ذلك عدلهم أئمة الحديث، فكلهم عدول، وما ذاك إلا لأنهم تلقوا هذا الوحي من نبيهم صلى الله عليه وسلم، وتعلموا القرآن وفيه أمور العقيدة والشريعة، وتعلموا السنة، وكان تعلمهم من السنة إيضاح لما في القرآن من أمور المعتقد والغيب، ولا شك أن هذا التعلم الذي تلقوه مباشرة دليل واضح على أن الإيمان وصل إلى قلوبهم؛ حيث لم يكن إيمانهم عن تقليد بل عن اتباع، سواء تعلموه من النبي صلى الله عليه وسلم في زمن قليل أو كثير، ومعلوم أن بعضهم منذ أسلم بمكة -كالخلفاء الأربعة- إلى أن توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهم يتعلمون منه العلم والعمل، فكلما نزلت آية أو آيات علمهم، فإما أن يكتبوها وإما أن يحفظوها، ويشرحها لهم ويبين لهم ما تدل عليه، وهكذا الذين أسلموا بمكة من الصحابة الذين هاجروا معه إلى المدينة، والذين هاجروا قبل ذلك إلى الحبشة ثم إلى المدينة كلهم تلقوا علماً جماً في مكة والمدينة.
كذلك أيضاً الذين أسلموا من أهل المدينة لا شك أنهم تلقوا عن النبي صلى الله عليه وسلم علوماً جمة فيما يتعلق بالشريعة والعقيدة، ولم يكن ذلك عن واسطة بل مباشرة، وقد يكون بعضهم عن واسطة، وذلك لأن بعضهم قد ينشغل، ولحرصهم على العلم يسألون عنه غيرهم، ذكر ذلك عمر رضي الله عنه لما كان نازلاً في العوالي، فقد كان هو وجار له من الأنصار يتناوبون الدخول، فيدخل أحدهما يوماً فيأتي بما حصل وما حدث، ويأتي الثاني في اليوم الثاني بما حدث وما حصل، ومن حرصهم على تلقي العلم أن أحدهم يكون في تجارته أو بيعه وشرائه يوماً فاليوم الثاني يتفرغ حتى يلازم النبي صلى الله عليه وسلم ويتعلم منه .
كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا كان في المدينة يجلس في المسجد ويكون له حلقة أو حلقات ليعلمهم وينبههم ويشرح لهم، ويلقنهم ويقص عليهم، وهم مصغون إليه ويستمعون ما يقول لهم ويعقلونه، وإذا أشكل عليهم شيء استفصلوا واستفسروا عنه، فحياتهم زمن النبي صلى الله عليه وسلم كلها علم، وهكذا إذا سافروا معه لغزو أو لحج أو لعمرة لازموه ملازمة الظل ولم يتخلفوا عنه، وكل ذلك حرصاً على طاعته وتحمل شريعته ليكونوا من أهلها.
ولا شك أن هذه الملازمة القوية أثرت في قلوبهم وعقائدهم، فلذلك صارت عقائدهم ثابتة لم تتغير، إلا ما كان من المنافقين الذين ذمهم الله تبارك وتعالى وذكر نفاقهم، فجل هؤلاء المنافقين لم يكونوا من المؤمنين؛ لقول الله تعالى : يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:9]، ومن صفة المنافقين ما وصفهم الله تعالى به في قوله: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]، لكن الراسخون في العلم -خاصة المهاجرين والأنصار الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه- هؤلاء ثبتهم الله تعالى ولم يتزعزعوا ولم ينقل عنهم مخالفة في أمر هذه العقيدة.
ومعلوم أن الخوارج الذين خرجوا في سنة ست وثلاثين من التابعين ؛ لأنهم من جيش علي رضي الله عنه، وأغلبهم من أهل العراق وكان فيها مجموعة كبيرة من الصحابة، ومع ذلك فإنهم خوارج، ولكن ليس فيهم مشهور بالعلم، وليس فيهم من تتلمذ تتلمذاً صحيحاً على الصحابة، وإنما قرؤوا القرآن، ولما قرؤوه ولم يقرؤوا تفسيره ولا معانيه أخذوا الآيات التي فيها عذاب فطبقوها على أهل زمانهم، فكان من عقيدتهم -كما سيأتي- أنهم يجعلون الذنب كفراً والعفو ذنباً، ولن نشتغل بهم، بل نقول: ولو كانوا من التابعين فإنهم ما قرؤوا العلم، ولا قرؤوا العقيدة الصحيحة حتى يكتبوا من حملة العلم، وإنما أخذوها من نظرياتهم ومن أفكارهم.
وكذلك أيضاً القدرية الذين حدثوا في آخر عهد الصحابة وأدركهم ابن عمر رضي الله عنه لم يكونوا مشهورين بالتتلمذ على الصحابة، ولكن اعتقادهم إنما هو عن أفكار سيئة، وأغلبها بسبب سوء معرفتهم وسوء نظرهم في الآيات وحملها على محامل بعيدة، فإن من عقيدتهم إنكار علم الله السابق، وأن الله لا يعلم الأشياء حتى تحدث، مثل غيلان القدري ، ومعبد الجهني ، وعمرو بن عبيد ، فما عرف أنهم تتلمذوا على صحابي وأخذوا عنه العلم الصحيح، فعرف بذلك أن تلامذة الصحابة الذين تلقوا عنهم العلم الصحيح أصبحوا ورثة لهم، والعلماء ورثة الأنبياء، فأصبحوا مثالاً لهم، وأن الذين أخذوا العلوم من أفكارهم حصل في قلوبهم زيغ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]، نعوذ بالله من زيغ القلوب، فهذا بغير شك دليل على أن العلم الصحيح الذي يؤخذ من معدنه يثبت في القلب، ويكون له آثار حسنة.
ولكن معلوم أنه في القرن الثاني بعد انقراض عهد الصحابة دخل في الإسلام بعض من لم يكونوا راغبين فيه، فكان من آثار دخولهم في الإسلام من غير صدق ويقين أن أثاروا كثيراً من الشبه، وأوقعوا كثيراً من الناس في الحيرة وشككوهم في عقائدهم ومبدأ أمرهم ومنتهاه، ونشروا بينهم شبهات الفلاسفة والمنجمين والزنادقة والملاحدة ونحوهم، فكلما أثاروا تلك الشبهات فيما بينهم انخدع بها الكثير، فلما رأى السلف رحمهم الله من تلامذة الصحابة وتلامذة التابعين هذه الآثار في هؤلاء المنحرفين لم يجدوا بداً من أن يصدعوا بالسنة ويظهروا أمر العقيدة ويصرحوا للناس بما هم عليه حتى يعرف جماهير الناس العقيدة السليمة فيتمسكوا بها، ويعلموا أن ما خالفها بدعة ونحلة سيئة.
فما الذي حمله على أن يصدع بهذا، ويذكر الإيمان بأن الله فوق عرشه والإيمان بما جاءت به النصوص والآيات ؟ حمله على ذلك ما فشا في زمانه من هذه البدع التي خشي منها على تلامذته وعلى زملائه أن يقعوا فيها فيكونوا منحرفين مخالفين للمعتقد السليم، والأوزاعي توفي سنة سبع وخمسين ومائة، أي: في وسط القرن الثاني. وهو من كبار تابعي التابعين، ومثله أيضاً الإمام مالك بن أنس عالم المدينة، فإنه اشتهر عنه من الإيمان بالصفات الشيء الكثير، مثل تفسيره للاستواء بقوله : الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. ومثلما صرح به من قوله : إن الله تعالى على عرشه، إن الله في السماء فوق عباده، وعلمه مع جميع العباد. فإنه ما صرح بذلك إلا لما اشتهرت البدع في ذلك الزمان وكثر الذين يتحدثون بها، فكان ذلك سبباً في أن السلف رحمهم الله أوضحوا ما يعتقدونه ليكون تلامذتهم على بصيرة، وذلك لأن المبتدعة ما سكتوا بل أخذوا ينشرون عقيدتهم، فالجهمية -مثلاً- صرحوا بأن القرآن مخلوق، وأن الله تعالى لا يتكلم، ولا يحب ولا يبغض، وأن الله ليس على عرشه، وليس فوق السماء ولا فوق العرش إله يعبد، إلى غير ذلك من تصريحاتهم التي تقشعر منها الجلود، فلما سمع السلف رحمهم الله ذلك أفصحوا بما أفصحوا به .
وذكروا بأن بعض السلف رحمهم الله حبس جهمياً أو زنديقاً على هذه الزندقة، وبقي أياماً في السجن يمتحنه، فقيل له : إنه قد تاب. فقال: ائتونا به لنسأله ونعلم هل صحت توبته أم لا. فاختبره فقال : أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه؟ فقال: أشهد أن الله على عرشه، ولا أدري أبائن من خلقه أم لا؟ فقال : ردوه إلى السجن فإنه لم يتب. وذلك لأنه لابد من الإيمان بهذا الاعتقاد كله، وهو أن الله تعالى على عرشه وأنه بائن من خلقه، أي: أنه ليس مختلطاً بهم كما يقوله كثير من الجهمية والحلولية ونحوهم، تعالى الله عما يقولون، لذلك اهتم السلف رحمهم الله بأمر العقيدة .
وقد نقل شيخ الإسلام في الحموية قصة في ثلاث أو أربع صفحات عن عالم من علماء المدينة في زمن الإمام مالك ، وهو عبد العزيز بن الماجشون ، وإذا قرأت هذه الرسالة عرفت بذلك أن السلف رحمهم الله كانوا أولاً وقبل كل شيء يحبون العمل بالدليل ويتقيدون به، وأنهم يصرحون بما يعتقدونه ويذكرون ذلك ذكراً صريحاً، وأنهم ينكرون على المبتدعة ويضللونهم ويسفهون أحلامهم، وينكرون إنكاراً بليغاً على من رد شيئاً من أمر الله تعالى أو أمر رسوله أو خالف المعتقد السليم، ففي القرن الثاني عاش ابن الماجشون في زمن الإمام مالك ، وفي ذلك دليل على أن البدع بدأت تظهر أعناقها، وبدأ أهلها يتمكنون، ولكن الحق حق، والحق وأهله أقوى وأكثر وأقوى حجة، وهذا في ذلك الزمان.
أما في آخر القرن الثاني فقد قويت بدعة الجهمية، وذلك لأنهم صاروا يقتنصون الجهلة فيلقون عليهم تلك الشبهات، فيشبهون بها على طوائف كثيرة من الجهلة وضعفاء الإيمان فيشككونهم في أمور المعتقد، فظهر في ذلك الزمان كثير من الزنادقة الذين هم منافقون وإيمانهم متزعزع، ولكن انتبه لهم الولاة والأئمة وصاروا يحذرون منهم فيقولون: فلان متهم. فلان زنديق.
ذكروا في التاريخ أن الخليفة المهدي أحضر واحداً من أولئك الزنادقة، ولما استفصل منه وجدت قرائن ونقول كثيرة تدل على أنه منافق وليس بمؤمن، ويقول بلسانه ما ليس في قلبه، وشاك في أمر الله تعالى وأمر البعث، فعند ذلك أمر بقتله، فلما تحقق أنه مقتول قال: أيها الخليفة! كيف تفعل بأربعة آلاف حديث كذبتها ونسبتها إلى نبيكم وبثثتها في الناس؟ أي: أنا قد أفسدت عليكم دينكم وعقائدكم بهذه الأحاديث التي بثثتها. فماذا قال الخليفة رحمه الله؟ قال: تعيش لها نقادها. أي : إن الله تعالى وفق هذه الأمة أن جعل فيها علماء يميزون الأحاديث ويعرفون الصحيح من السقيم، ويميزون المكذوب من الصادق، وذلك لمعرفتهم بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ولمعرفتهم بما كان يدعو إليه وبما تهدف إليه شريعته.
فهذا دليل على أن هناك من استفحل منه الشر وشكك الناس في أمر العقيدة، وبالأخص في الإيمان بالله، حيث كثر في ذلك الزمان الزنادقة الذين ينكرون وجود الله تعالى أو ينكرون البعث أو ينكرون حشر الأجساد، كالفلاسفة الذين ينكرون البعث الحقيقي، ولما كثروا اهتم بهم السلف رحمهم الله تعالى وبالغوا في الرد عليهم إلى أن قمعوا وظهر أمر الله.
فهذا يستدل به على أن العقيدة ما كان عليه السلف رحمهم الله، وهم في الحقيقة أئمة الحديث، كما هو عنوان هذه الرسالة: (اعتقاد أئمة الحديث)، وذلك لأن الصحابة تلقوها أحاديث، والتابعون أيضاً تلقوها عن الصحابة ونقلوها أحاديث، وكذلك تابعوهم تلقوها ونقلوها وحدثوا بها، فكانوا ينقلونها أحاديث، فيقول أحدهم -مثلاً-: حدثنا محمد بن رافع قال: حدثنا عبد الرزاق قال: حدثنا معمر قال: حدثنا ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة . ويذكر حديثاً كحديث النزول أو الرؤية، فإذاً هي أحاديث ثم أصبحت عقيدة أهل الحديث.
فأصبح أهل الحديث هم القدوة الذين يقتدى بهم، وذلك لأن المبتدعة لم يكونوا من أهل الحديث، وإذا نظرنا في سيرة عمرو بن عبيد وبشر بن غياث المريسي والجهم بن صفوان وابن أبي دؤاد ونحوهم من الجهمية أو المعتزلة لم نجدهم ممن رووا الأحاديث، بل لا يروون إلا ما يوافق أهواءهم أو يناسب بدعتهم، ولأجل ذلك لا تقبل أحاديثهم، والغالب أن الأحاديث التي يروونها لم تثبت، بل إنها مكذوبة أو موضوعة أو ضعيفة لأجل من فيها من المبتدعة، فأصبح أهل الحديث هم أهل العقيدة السلفية والفرقة الناجية المنصورة، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة، أو حتى يأتي أمر الله).
سئل الإمام أحمد : من هم هذه الطائفة ؟ قال : إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم .
وهذا صحيح، فإلم يكن أهل الحديث هم الفرقة الناجية فمن هم ؟
أهل الحديث هم صحب النبي وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا
فكأنهم صحابة؛ لأنهم صحبوا أنفاسه، والكلام الذي يروونه ويتناقلونه هو الكلام الذي نطق به، وبين كلماته أنفاسه التي تنفس بها وهو يتكلم، فيعتبرون كأنهم الصحابة على حد كلام هذا الشاعر .
ولذلك يعرف أهل الحديث حقاً بأنهم هم الذين انتحلوا هذه النحلة واعتقدوا هذه العقيدة.
الجواب: صاحب هذا القول جاهل، والذين اتخذوا المسجد على أهل الكهف ليسوا من الرسل، وليسوا من أتباع الرسل، بل هم مشركون، كما صرح الله بذلك عنهم في سورة الكهف، يقول الله تعالى عنهم: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً [الكهف:10].. نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً * هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ [الكهف:13-15]، ثم يقول: وَإِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ ، أي: اعتزلتموهم واعتزلتوا معبوداتهم إلا الله وَإِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً [الكهف:16]، ثم يقول عنهم : إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ [الكهف:20] إذاً فهم كفار، ولا غرابة أن هؤلاء بنوا مسجداً على هؤلاء الذين اعتقدوا أنهم أولياء، فبناء المساجد على القبور ليس من شرائع الأنبياء، وإنما فعل ذلك هؤلاء المشركون.
أما سجود إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام فيظهر أنه سجود تحية، وليس هو السجود الذي يكون بوضع الوجه على الأرض، ويمكن أن هذا كان جائزاً، وأنه ليس سجود تعظيم وإنما هو احترام.
الجواب: لا أذكر أن لـأبي معيط ابناً اسمه عبد الله ، إنما له ولد اسمه عقبة بن أبي معيط، وعتبة ولد عقبة بن أبي معيط، فـعقبة قتل في غزوة بدر، أما ولده فلم يكن من الصحابة فيما يظهر، ويظهر أنه كان صغيراً، ولم يذكر أنه من قريش، لكن لكونه من قريش تولى الإمارة في خلافة عثمان على بعض بلاد العراق، وذكر عنه أنه شرب الخمر، ثم إن عثمان رضي الله عنه أقام عليه الحد، فأمر علياً فجلده أربعين جلدة لشربه الخمر ولثبوت ذلك عليه، ولم يذكر عنه أنه من الخوارج، ولعله من الأئمة أو غير ذلك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر