لقد أنشأ أهل الزيغ والضلال والإلحاد من العلمانيين والاشتراكيين وغيرهم معتقدات باطلة، ونظريات ملحدة كافرة، فأنكروا وجود الله، وأنكروا أنه خلقهم، وأنهم إذا ماتوا سيبعثون إليه؛ ولذا نشأ عن هذه النظريات حيرة في العقول عند بعضٍ فجعل يتساءل: من أنا؟ ومن أين جئت؟ ولماذا جئت؟ فهذه شكوك وأسئلة نتجت عن تلك العقائد والنظريات، ولكن القرآن قد وقف لتلك المعتقدات بالمرصاد، فنقضها وبين بطلانها، وأجاب عن هذه الأسئلة، فمن بعد عن القرآن حري به أن يتغير عقله وتفسد فطرته بملابسة هذه الأفكار.
-
بيان حقيقة الإنسان، وبيان الكمة التي من أجلها خلق
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء! وأيتها الأخوات الفاضلات! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الحليم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى، في جنته ودار مقامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أيها الأحبة!
من أنا؟!! ولأهمية الجواب على هذا السؤال أؤصله بمقدمة مهمة جداً بين يدي الجواب، وأستهل هذه المقدمة بهذه الكلمات، فأقول: إن كل جهل مهما عظمت نتائجه قد يغتفر ، إلا أن يجهل الإنسان خالقه سبحانه وتعالى، وسر وجوده، والغاية التي من أجلها خُلق، فالجهل في جانب العقيدة لا يغتفر، وهو أن يجهل الإنسان خالقه، وأن يجهل الإنسان الغاية التي من أجلها خُلق، فأكبر عار على هذا الإنسان الذي آتاه الله عز وجل العقل والإرادة وميزه على سائر المخلوقات في الكون أن يعيش غافلاً عن الله، فيأكل ويتمتع كما تأكل الأنعام، ولا يفكر في خالق، ولا يبحث عن الغاية، ولا عن الوظيفة التي من أجلها خُلق، ولها ابتعث، ولا يبحث عن طبيعة دوره في هذه الأرض، حتى يأتيه الأجل والموت دون أن يستعد لهذا اليوم، فيجني ثمرة الغفلة والجهل والانحراف في عمره الطويل أو القصير، وحينئذ يندم يوم لا ينفع الندم، وهو بين يدي الله تبارك وتعالى يرى نفسه أخس من البهائم والحيوانات، فإن البهائم والحيوانات كلها عرفت ربها وسجدت له، كما قال تعالى:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [الحج:18].
وقال تعالى في شأن هذا الصنف الذي هو أخس من البهائم، الذي يجهل خالقه، ويجهل غاية وجوده وسر ابتعاثه في هذه الأرض:
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179].
فهذا الصنف صنف خبيث، يقول قائله:
جئت لا أعلم من أين؟ ولكني أتيت!
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت!
وسأمضي في طريقي شئت هذا أم أبيت!
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري، لست أدري!!
إنه كالبهيمة! لأنه لا يعرف غاية وسر وجوده في هذه الأرض، كما قال الله عز وجل:
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [محمد:12] فأي جهل أبشع وأفظع من أن يجهل الإنسان -الذي يتعالى بعقله، ويتعالى بإبداعاته المادية- ربه عز وجل؟!
وأي جهل أجهل من أن يجهل هذا الإنسان المتعالي ربه وخالقه الذي خلقه وبعثه وأوجده سبحانه وتعالى؟! هذا هو الجهل المدقع الذي لا يغتفر.
ولهذا كان لزاماً على كل إنسان عاقل أن يبادر ليسأل نفسه هذا السؤال: لماذا خُلقت؟ وما هي الغاية من خلقي؟ وحتماً قبل طرح هذين السؤالين لابد وأن تطرح على نفسك سؤالين مهمين آخرين:
السؤال الأول هو: من أين أنا؟ ومن أنا؟ ومن أوجدني؟ ومن خلقني؟
السؤال الثاني: ما هو المصير؟ وإلى أين نسير؟
لابد من أن تطرح على نفسك هذين السؤالين لتتعرف على الغاية التي من أجلها خلقت، فإن عرفت من خالقك، وعرفت الغاية التي من أجلها خلقت، فحينئذ ستعرف من أنت، وستعرف مصيرك ومسيرك، فلابد من الإجابة على هذه الأسئلة: من أين؟ وإلى أين؟ ولماذ؟ أي: ولماذا خلقت؟
هذه الأسئلة الثلاثة هي التي صاحبت الإنسان في كل فترات حياته، وفي كل مكان وجد فيه، وهي تطلب من أي إنسان الجواب الشافي لها في كل مرحلة من مراحل العمر، وفي كل مكان على وجه البسيطة من يوم خلق الله عز وجل آدم عليه السلام.
والجواب: أقول: أما السؤال الأول: فهو عقدة العقد عند الماديين الملحدين في كل زمان ومكان؛ فعليهم أن يطرحوا على أنفسهم هذا السؤال: من أين أنا؟ ومن الذي خلقني؟ ومن الذي أوجدني؟ ولكن هؤلاء لا يؤمنون إلا بما تقع عليه الحواس، أي: إلا بما تراه الأعين، فأحدهم يؤمن بالمصباح؛ لأنه يراه بعينه منيراً مضيئاً، لكنه في الوقت ذاته يغض الطرف عن التيار الكهربائي الذي لا يراه بعينه والذي هو سر إضاءة هذا المصباح!! فهو مادي أعمى لا يؤمن إلا بما تراه عينه، حتى ولو كذبه عقله، لكنه لا يؤمن إلا بما تحسه الأيدي وبما تراه العيون، وهؤلاء يتخذون منطق العقل -زعموا- دليلاً على الوصول إلى الحق والحقيقة، ويصرون في عمى عجيب على أن هذا الكون بما فيه ومن فيه وُجِدَ وحده، وكل ما في هذا الكون من إحكام وترتيب إنما هو صنع المصادفة العمياء!!
-
نداء الفطرة يجيب عن أسئلة الماديين
وأما الذين يستجيبون لنداء الفطرة في كل زمان ومكان فهؤلاء يقرون حتماً بأن لهذا الكون إلهاً ورباً حكيماً عظيماً جل جلاله، تتجه قلوبهم إليه سبحانه وتعالى بالتعظيم، والرجاء، والخشية، والتفويض، والتوكل، والإنابة والعبادة بصفة عامة، ويشعرون بخالق هذا الكون، ويتجهون إليه سبحانه بفطرهم السليمة النقية التي لم تعكرها الماديات والشبهات والشهوات، قال تعالى:
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30].
لكن هذا الصوت - أعني: صوت الفطرة - قد يخفت في قلب وعقل إنسان، أو قد يكبت هذا الصوت صاحبُه عمداً عن كبر، فالمشركون لم ينكروا أن الله عز وجل هو الخالق، بل كفروا به سبحانه وتعالى كبراً وعناداً، كما قال عز وجل:
إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [الصافات:35].
وقال تعالى:
وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [النمل:14]
فهؤلاء يقرون بهذه الحقيقة، لكنهم قد يرفضونها كبراً وعناداً -وهذا كلام مهم جداً - فالفطرة قد تخفت في قلب وعقل إنسان عن قصد وعن عمد من صاحبه، فإذا نزلت بهذا الإنسان نفسه أزمة أو أحداث مريرة أو مشكلة، واهتز هذا الإنسان أمام هذه الأزمة وأمام هذه الشدة، وخاب أمله في كل الناس من حوله، تراه ينطلق مرة أخرى مستجيباً لهذا الصوت الذي يعلو في أعماقه، ألا وهو صوت الفطرة، فيتجه مرة أخرى -رغم أنفه- لله جل وعلا.
وتدبر معي هذا الحوار النفيس الجميل! بين رجل وبين الإمام
جعفر الصادق رضي الله عنه، وقد بينت من قبل أننا لا ننكر ما لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من مناقب بدعوى أن الروافض قد رفعوهم إلى مرتبة الألوهية، ونحن لا نسقط ما لهم من مناقب بهذه الدعوى، بل نثبت لهم ما ثبت من الحق بدليله، وقد بينت ذلك وأنا أرد على الشيعة، وقلت بأنهم يتمسحون بالإمام العالم العلم
جعفر الصادق وهو بريء من كل ما يؤصلونه مخالفاً لقرآن الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء من أعلم الناس ومن أكثر الناس اتباعاً لهدي رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلقد سأل هذا الرجل الإمام
جعفراً الصادق رضي الله عنه عن الله؟! فقال له
جعفر : ألم تركب البحر؟! -يعني: هل ركبت باخرة أو مركباً أو سفينة؟ قال: بلى، فقال
جعفر : فهل حدث لك مرة أن هاجت بكم الريح عاصفة؟!قال: نعم، قال
جعفر : وانقطع أملك من الملاحين ووسائل النجاة؟ قال: نعم، قال: فهل خطر في بالك وانقدح في نفسك أن هناك من يستطيع أن ينجيك إن شاء؟! قال: نعم، قال: هذا هو الله سبحانه وتعالى.
وهذه الحقيقة تثبتها آيات كثيرة جداً في القرآن، وتدبر معي قول الله تعالى:
وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ [الزمر:8]، بل وتدبر آية هي أوضح من السابقة، قال الله تعالى:
وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [لقمان:32]، وقال تعالى:
وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ [الإسراء:67] ولا حول ولا قوة إلا بالله! فهذه طبيعة الإنسان، كما قال الله تعالى:
يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ *
الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ *
فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:6-8].
فإذا كان منطق الفطرة يهدي إلى الله تعالى، والفطرة ليست وجداناً خالصاً، بل وليست عقلاً خالصاً، ولكنها مزيج بين الوجدان -وهو القلب- وبين العقل.
العقل السليم يؤمن بقانون السببية
أقول: إن العقل السوي فقط هو الذي يرى الإيمان بالله تبارك تعالى ضرورة لا يستطيع الإنسان على الإطلاق أن يعيش بدونها، وأقول: إذا كانت الفطرة مزيجاً بين الوجدان والعقل فإن العقل وحده فقط يرى الإيمان بالله تبارك وتعالى ضرورة يستحيل أن يعيش الإنسان السوي بدونها، فإن العقل بغير تعلم وبغير اكتساب يؤمن حتماً بقانون السببية، هذه الورقة في يدي الآن تهتز لسبب، وهذا هو قانون السببية؛ لأنني أحركها، فالعقل بدون تعلم وبدون اكتساب يؤمن بقانون السببية، ويؤمن بهذا القانون إيمانه بكل البدائيات والأولويات التي لا تحتاج إلى دليل، يعني: أنه لا يبنبغي لعاقل إذا رأى الشمس ساطعة فى أفق السماء أن يقول: ما هو الدليل على أن الشمس طالعة؟ فإذا كان كذلك فيجب أن يسأل: ما هو الدليل على وجود عقله في رأسه؟
دخل بعض الملاحدة يوماً على طلابه، وأراد بهذا القانون أن يثبت الضد، فقال لهم: يا أولاد! هل ترون أستاذكم؟ قالوا: نعم، فقال: هل ترون السبورة التي أكتب لكم عليها؟ قالوا: نعم، فقال: هل ترون الكرسي الذي أجلس عليه؟ قالوا: نعم، وتدرج بهذه الأسئلة إلى أن قال: هل ترون الله؟!! قالوا: لا، قال: إذاً: هو غير موجود!! وهؤلاء هم الماديون الأغبياء الذين لا يؤمنون إلا بالمحسوس المرئي، فقيض الله تلميذاً صغيراً من تلاميذه، فاستأذن أستاذه ووقف إلى جواره، واتجه التلميذ إلى زملائه وقال: يا أولاد! هل ترون عقل الأستاذ؟ قالوا: لا، قال: إذاً: هو غير موجود!! أي: أنه مجنون، والمجنون ليس له قيمة!
فالعقل بدون تعلم وبدون اكتساب يؤمن بقانون السببية إيمانه بالأمور الأولية الابتدائية التي لا تحتاج إلى دليل على وجودها، فلا يقبل العقل السوي فعلاً بغير فاعل أبداً، ولا يقبل العقل السوي صنعة بغير صانع، بل هذا مستحيل!
وهذا القانون هو الذي عبر عنه الأعرابي الأول ببساطة شديدة، حيث لم يتخرج في جامعة من الجامعات، ولا في كلية من الكليات، وإن شئت فقل: ما تخرج إلا من جامعة الفطرة، فحينما سئل عن الله عز وجل قال مستدلاً بعقله الذي آمن بقانون السببية البدائية: البعرة تدل على البعير، وأثر السير يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، أفلا يدل كل ذلك على اللطيف الخبير؟! هذا هو القانون ببساطة شديدة، هذا هو الذي عبر عنه إمام أهل السنة
أحمد بن حنبل طيب الله ثراه حينما أمسك البيضة يوماً وقال: هنا حصن حصين، أملس ليس له باب، وليس له منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء، وباطنه كالذهب الإبريز، وبينما هو كذلك إذ انصدع جداره، وخرج منه حيوان سميع بصير، ذو شكل حسن، وصوت مليح.
هذا هو القانون الذي عبر عنه
الشافعي عندما أمسك ورقة التوت يوماً فقال: ورقة التوت، تأكلها الغزالة فتعطينا مسكاً، وتأكلها الشاة فتعطينا لبناً، وتأكلها دودة القز فتعطينا حريراً، إن الطعام واحد ولو كانت الأمور بالمصادفة العمياء لكانت عصارة الطعام للطعام الواحد واحدة، ولكنها كانت في الشاة لبناً، وكانت في الغزالة مسكاً، وكانت في الدودة حريراً.
ولكن هؤلاء الملاحدة كما قال الله عز وجل:
فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46].
-
علماء الغرب واعترافهم بوجود الله
وهناك عالم الطبيعة المشهور
إسحاق نيوتن ، وأنا لا أستشهد بقول هؤلاء لأثبت الحق الذي نحن عليه، كلا! فإنه لا يجوز لمسلم ألبتة أن يستشهد بكلام مخلوق على وجه الأرض على صدق الله وصدق رسوله، وأنا لا أستشهد بأقوال أهل العلم -علماء الطبيعة والجيولوجيا والفلك والرياضيات- على صحة وصدق قول الله وقول الرسول، ولا أستشهد بالنظريات العلمية على صدق كلام رب البرية وكلام سيد البشرية، إنما أنا أثبت للناس ممن -وبكل أسف- يصدقون ما يأتي من علماء الغرب لا أقول: كتصديقهم لكتاب الله، بل أشد من تصديقهم لكلام الله ورسوله! وهذا صنف موجود، وأنا لا أبالغ ولا أغالي، ولا أجيش العواطف بكلام فارغ أجوف، كلا! بل هذا صنف موجود يصدق كلام علماء الغرب أكثر من تصديقه لرب السماء والأرض، وأكثر من تصديقه للنبي صلى الله عليه وسلم رسول رب السماء والأرض! وقد ضربت قبل ذلك مثالاً بحديث الذباب: (
إذا ولغ الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم لينزعه، فإن في أحد جناحيه داءً وفي الآخر دواءً) فكم ممن ينسبون إلى الإسلام قد ردوا هذا الحديث وأنكروه بدعوى أنه لا يعقل! ويقولون: كيف يعقل أن الذبابة إن سقطت في سائل كهذا أن يغمسها عاقل بدعوى أنها تحمل في أحد جناحيها الداء وفي الآخر الدواء؟ فلما قدم البحث من جامعة (هارفرد) وقام هذا العالم الشهير
برثيلد وبحث هذا الحديث، ووجد أن الذبابة بالفعل تحمل في جناح من جناحيها داءً خطيراً عن طريق فيروس معين في جناح الذبابة، فإذا سقطت تفرز هذا الفيروس، ثم اكتشف هذا العالم أن الذبابة في الوقت ذاته تحمل على الجناح الآخر وعلى باطن الذبابة من أسفل نوعاً من أنواع الفطريات سماها هو (أميوزا موسكي) هذا الفطر الذي يمثل نوعاً واحداً من أنواع المضادات الحيوية لهذا الفيروس قال: بأن جراماً واحداً من هذا الفطر الذي يشكل مضاداً حيوياً على جناح أو على جسم الذبابة كفيل بأن يحمي ألفي لتر من اللبن المبستر من الجراثيم، والعجيب أن هذا العالم اكتشف أن الذبابة لا تفرز هذا الفطر الذي يشكل مضاداً حيوياً للفيروس إلا إذا غمست كلها في السائل، فمن الذي علم المصطفى ذلك؟!
ولكن الذي يدمي القلب أن هذا البحث عندما قدم صدق كل من رد الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا خلل! فيجب عليك أن تصدق وإن لم يقتنع عقلك، بشرط أن تثبت صحة الرواية إلى رسول الله، يعني: إن ثبتت نسبة هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالقواعد التي وضعها الصيارفة النقاد، والجهابذة الأعلام من علماء الحديث فيجب عليك حينئذ أن تسلم، وأن تستسلم لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم يدركه عقلك؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، قال جل وعلا:
وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى *
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى *
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:3-5].
فأنا أستدل بهذه الأقوال لعلماء الغرب من علماء الطبيعة والفلك والجيولوجيا لا لأصدق بكلامهم كلام ربنا وكلام نبينا صلى الله عليه وسلم، وإنما لأثبت لأصحاب هذه العقول الضعيفة -لا أريد أقول المريضة-أن الحق ما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم من عند ربنا جل جلاله.
ومنهجنا أننا نقبل الحق على لسان أي أحد، ونرد الباطل على لسان أي أحد، هذا منهجنا الذي ندين لله به، ولو كان من شيوخنا الذين نتتلمذ ونتربى ونتلقى العلم على أيديهم، من هذا المنطلق أقول: يقول
إسحاق نيوتن عالم الطبيعة المشهور:
لا تَشُكّوا في الخالق -والكلام لما يأتي من عالم من هؤلاء العلماء يكون له طعم، وهذا ليس من رجل موحد مؤمن يقول هذه عقيدته، ولكن لما يقول هذا الكلام عالم من غير المسلمين يكون له مغزىً- فإنه مما لا يعقل أن تكون المصادفات وحدها هي قاعدة هذا الوجود!!
فليس بممكن أبداً أن تكون المصادفات وحدها هي قاعدة هذا الوجود، وليس بممكن أبداً أن تكون الصدفة هي التي خلقت هذا الوجود بهذا الإبداع والجمال والجلال، والله العظيم! الله العظيم! لو نظر عالم من هؤلاء العلماء الذين يؤمنون بالله إلى حبات الذرة لوحد الله وعبده؛ لو نظر إلى هذه الحبات اللؤلؤية البيضاء كيف رصت بهذا الجمال والإتقان والتناسق والإبداع -والله! لو أنصف- لوحد الله وعبده، ومستحيل أن ترص هذه الحبات بهذا الجمال والتناسق والإبداع على السنبلة صدفة!
ويقول
سبنسر نقلاً عن عالم آخر يقال له
هرشل : كلما اتسع نطاق العلم ازدادت البراهين الدامغة القوية على وجود خالق أزلي لا حد لقدرته ولا نهاية، فالجيولوجيون والرياضيون والفلكيون والطبيعيون قد تعاونوا على تشييد صرح العلم، وهو صرح عظمة الله وحده.. إلى آخر هذه الأقوال الخطيرة التي قد ذكرت كثيراً منها.
وأنا أتحدث عن قضية الاستنساخ التي بدأت تطفو على السطح مرة أخرى من جديد، لكننا نؤكد ونكرر أنهم لن يتمكنوا من أن يخلقوا ذبابة، والاستنساخ ليس خلقاً يضاهي خلق الله عز وجل، وإنما هم يعملون على خلق لله، ألا وهو الحيوان المنوي والبويضة، فإن أرادوا أن يزعموا الخلق فعلاً فليخلقوا حيواناً منوياً واحداً!
وصدق ربي حيث يقول:
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ *
أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ [الواقعة:58-59] سبحانه وتعالى.
ويقول
سبنسر: إن العالم الذي يرى قطرة الماء، فيعلم أنها تتركب من الأكسجين والهيدروجين بنسبة خاصة -كم ذرة أكسجين؟ وكم ذرة هيدروجين؟! نسب دقيقة جداً- بحيث لو اختلفت هذه النسبة لكانت شيئاً آخر. أي: لو اختلفت هذه النسبة لتحولت إلى نار مشتعلة متأججة، قال الله عز وجل:
وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ [الانفطار:3] فهذه البحار التي نراها تتحول إلى نار مشتعلة يوم القيامة؛ لأن النسب التي هي موجودة بين الأكسجين والهيدروجين تختل، فيبقى الماء في اشتعالات ونار متأججة، فالنسبة الآن موضوعة بدقة لكي تكون ماءً، يقول: إن العالم الذي يرى قطرة الماء فيعلم أنها تتركب من الأكسجين والهيدروجين بنسبة خاصة، بحيث لو اختلفت هذه النسبة لكانت شيئاً آخر غير الماء، يعتقد عظمة الخالق وقدرته وحكمته وعلمه الواسع بصورة هي أقوى وأعظم من هذا الذي لا يرى في قطرة الماء إلا أنها نقطة ماء فحسب. انظر إلى العالم الذي يدرك الحقائق، فالعالم عندما ينظر إلى نسب الأكسجين والهيدروجين في الماء يعرف لماذا نسبة الأكسجين زادت، ولماذا نسبة الهيدروجين قلَّت، فينظر إلى هذه الآية فيزداد إيماناً بالله سبحانه وتعالى، وهذا الإيمان يختلف عن إيمان العبد الذي ينظر إلى قطرة الماء على أنها قطرة ماء.
ويقول
فرنسيس بيكون : إن القليل من الفلسفة يميل بعقل الإنسان إلى الإلحاد.
فما هي هذه الفلسفة؟ هذه الفلسفة طريق للإلحاد، مثل ما كانوا يعلمونا في الثانوية العامة وما زال، أول قاعدة: (أنا أشك، إذاً: أنا موجود) ومثل ما قلت في خطبة (صفحات سود): لو صدقوا لقالوا: (أنا أشك، إذاً: أنا دبوس) لكن ما هي علاقة الشك بالوجود؟ أنه بدأ حياته بالشك ابتداءً، والشك لا يمكن أبداً أن يوصل إلى حقيقة مطلقة أبداً، بل إن عصفت رياح الشكوك بالإيمان في القلوب ضل الخلق، ولذلك رب العزة سبحانه وتعالى يصف المؤمنين بأن رياح الشك لا تهب ولا تعصف بقلوبهم أبداً، كما قال عز وجل:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات:15] أي: لم يتشككوا.
إن من يبدأ بالشك لكي يصل إلى الحقيقة قد يضل، ومثل هذا إضلال لعقول أبنائنا وأولادنا، وكم من الناس اقتنع بهذه النظريات الفلسفية الباهتة الفارغة، التي يغني بطلانها عن إبطالها.
لكننا بكل أسف كنا نسلم العقول والقلوب لهؤلاء على أنهم لا ينطقون عن الهوى، فإذا جاء القول من عالم غربي سلمنا العقل والقلب وكأن هذا لا يخطئ!!
ثم جاء بعد ذلك صنف خبيث ممن ينسبون إلى الإسلام في بلاد المسلمين فضخموا هؤلاء، ونفخوا فيهم؛ ليكونوا شيئاً مذكوراً، وهم في الحقيقة كالطبل الأجوف، يُسمَعُ من بعيد وباطنه من كل الخيرات خالٍ، فيقال مثلاً: عميد الأدب العربي والاجتماعي الأول للأزهر، والأستاذ الدكتور، ونحو ذلك، فنفخ في هذا الصنف الذي نسج على هذا الدرب المظلم -درب العلمانيين، ودرب علماء الغرب الملحدين- وقالوا كلمات خبيثة، وأنا لا أقول ذلك من باب الدعوى، كلا! وإنما هي حقائق.
وهل تتصور أن يقول رجل ينسب إلى العلم ويشار إليه بالبنان لطلابه في كلية الآداب: ارفعوا القداسة عن القرآن، واقرءوه كتاباً بين أيديكم كأي كتاب من الكتب التي تستحق النقد والثناء؟!! فأنا لا أقول ذلك من باب الدعاوى، أقول: هذه حقائق، ثم يقول: ليس للقرآن أن يحدثنا عن إبراهيم وعن إسماعيل فهذه أسطورة لا تستحق التصديق!! إلى آخر هذه الأقوال الكفرية.
يقول
فرنسيس بيكون : إن القليل من الفلسفة يميل بعقل الإنسان إلى الإلحاد. فالإنسان إذا تفلسف يصل إلى طريق مسدود مستحيل؛ لأن هناك حقائق لا يتوصل لها بالعقل أبداً، وهذا لأجل أن يختصر على نفسه الطريق، وهناك من الحقائق ما لا يستطيع بشر أن يصل إليها بعقل مجرد أبداً.
فرب العزة سبحانه وتعالى لا تصل بعقلك إلى صفات كماله وأسماء جلاله! ولابد من الوصول إلى هذه الحقيقة عن طريق الوحي، فهناك حقائق لا تستطيع التوصل إليها بالعقل، فأقول: إن القليل من الفلسفة يميل بعقل الإنسان إلى الإلحاد، ولكن التعمق فيها -أي: التعمق بالعقل في هذه الأشياء بإنصاف- ينتهي بالعقول إلى الإيمان، وذلك لأن عقل الإنسان قد يقف عندما يصادفه شيء من أسباب ثانوية مبعثرة، وهنا قد ينكر فلا يتابع السير إلى ما وراءها، ولكنه إذا أمعن النظر شهد سلسة الأسباب وكيف تتصل حلقاتها، ثم لا يجد بداً من التسليم بالله سبحانه وتعالى.
فهذه شهادة أولئك الذين رسخوا في علم الكون -الطبيعة والفيزياء- وأنا لا أريد أن أستطرد في أقوالهم، ورحم الله القائل:
لله فـي الأفـاق آيـات لعل أقلها هو م
-
الإيمان بالله تعالى ضرورة عقلية
-
الغاية التي من أجلها خلق الإنسان