وقد ذكرنا أن الآية الكريمة في سورة الفاتحة: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، جاءت بعد مقدمة تثبت ذلك وتستلزمه، فقوله: (الحمد لله) أي: الثناء بالجميل على الله سبحانه، (رب العالمين) فربوبية العالم ومصلحة العالم راجعة إلى الله، هو الذي خلق، ورزق، ودبر، وربى، فإذا كان هو رب العالمين، فأي شيء تسأله لا يخرج عن عالم من عوالم هذا الكون، فاسألها من رب العالمين، الذي ربوبيته، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]، وفي الآخرة هو مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، فأين تذهب ؟ وأين تتوجه ؟ إذا كانت الدنيا لله وحده، كما قال سبحانه: فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:83] ، وإذا كنت في الآخرة فمرجعك إلى الله، وله الملك، وله الأمر، كما قال الله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16] ، فلا ينبغي لك أن تصرف وجهك عنه سبحانه وتعالى.
ثم قال: (واعلم أن الأمة) . فقوله: (واعلم) أعاد ذكر العلم مرة أخرى؛ لزيادة التنبيه والتأكيد، (أن الأمة)، جميع الخلق، ويمكن أن نتوسّع في معنى الأمة، فالأمة الجماعة، والأمة الزمن، والأمة الشخص القدوة، ويمكن أن يقال: العالم كله؛ إنسه وجنه وملائكته، فالأمة لو أرادت أن تصيبك بخير أو بشر لن يصلوا إليك إلا بشيء من الخير كتبه الله لك أو من الشر كتبه الله عليك.
إذاً: المقادير بيد الله، والكائنات في قبضته، والأمر كله راجع إليه، فإذا كان الأمر كذلك فلمن تتوجه؟ لله؛ لأن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بخير لن ينفعوك بخير إلا كتبه الله لك، وما قُدر لك لن يخطئك، وإن أرادوك بسوء لن يصلوا بهذا السوء إليك إلا إذا قدّره الله عليك.
وقوله: (لن يضروك بشيء...) لن هذه أبدية، أي يضرونك بشيء إلا بشيء قد قدره الله عليك، وإذا كان مقدراً عليك فقدر الله ماضٍ، إلا إذا رفع بقضاء آخر، بدعاء أو فعل خير.
الخليل إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، اجتمع عليه أبوه وقومه ومعهم النمرود، على أن يجعلوه في النار ورموه بالمنجنيق، لأنهم عجزوا أن يدنوا من النار ويقتربوا منها لشدة حرها وعلو لهبها، فماذا كانت النتيجة؟
قال الله: فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ [الصافات:98]، فالمولى سبحانه الذي خلق النار، وسلطانها بيده، وهو الذي أعطاها خاصية الإحراق قال لها: (( كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ))، هل في العالم قوة تستطيع أن تسلب النار خاصيتها؟ لا يمكن، لكن قدرة الله فوق كل شيء.
فنشأ موسى وشب، وكان من أمره مع خصمه ما كان، فقضى عليه، وخرج خائفاً يترقب، ثم رجع إلى فرعون يدعوه إلى الله، وقال: َأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [الأعراف:105]، فقال: ألم تكن فينا وليداً، وربيناك؟ والآن جئتنا بدعوة، فماذا كانت النتيجة؟ خرج موسى عليه السلام -وهذا محل الشاهد- ببني إسرائيل، وأمره الله أن يسير حيث تسير السحابة في السماء، فإذا بالسحابة تسير به وتوقفه على شاطئ البحر، وإذا بفرعون من ورائه، فكان الموقف شديداً، وقال الذين مع موسى )إِنَّا لَمُدْرَكُونَ(، البحر أمامنا، والعدو وراءنا، فأين نذهب؟ هل نطير في السماء؟ لا يوجد طيران، هل ننزل في الأرض؟ لا يوجد مغارات ولا شيء، إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ، فأجابهم بسرعة بكلمة تزلزل الأرض: (كلا)، لو توجهت إلى جبل لزلزلته، انظر إلى نطقها، ما قال: (لا)، وما قال: (لا تخافوا)، بل قال: كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]، وهذه المعية الخاصة، (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)، (تعرف إلى الله تجده تجاهك)، قال: ((مَعِيَ رَبِّي ))، وهذه معية النصر والتأييد، فماذا فعل ربه؟ هل أرسل ملائكة لتصد فرعون؟ لا، انظر إلى المعجزة، قال: اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ [الشعراء:63]، ماذا تفعل هذه العصا؟! ما طولها؟ وما ثقلها؟ وما تأثيرها؟ ليس فيها تيار مغناطيسي، ولا فيها أدوات زائدة، عصا يتوكأ عليها، ويهشُ بها على غنمه، ولكن لا يعلم قدرها إلا الله، فضرب البحر، فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء:63] يا سبحان الله! ماء لجاج تتلاطم أمواجه، ينفلق ويصير كل فرق -أي: طريق- كالطود شامخاً، وبين كل طريق حاجز، وينقسم بنو إسرائيل في تلك الطرق، ويمشون على أرض يابسة ما فيها لجة، فأرضية البحر جفت، فيمشون في قعر البحر، وفتح الله لهم منافذ ليرى بعضهم بعضاً حتى لا يخاف بعضهم على بعض، ويعرفون أن جماعتهم يمشون في نفس الطريق مثلهم، حتى خرجوا كلهم، وبهذه المناسبة نقول: الطغيان يعمي، والظلم يلهي، ففرعون طاغية، قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، وقال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] فيأتي إلى البحر، وهو يعرف البحر وطبيعته، ويجد موسى الذي كان يطلبه قد انشق له البحر، لكنه دخل ليدركه، لو أنه نظر بعقله لما دخل، لكن الله طمس بصيرته ليقضي أمراً كان مفعولاً، يا فرعون! رأيت البحر قد انفلق وهل في حياتك رأيت البحر انفلق؟! هل سمعت في التاريخ قبل هذا أن البحر انفلق؟! إنك لما رأيت آية عظمى كهذه أفلا ترعوي؟ ألا تنزجر؟ ألا تقف وتفكر؟ موسى الذي تطلبه أراك في تلك العصا الآيات الكبرى، فقد بلعت الحبال والعصي وأنت تنظر.. موسى يدعوك إلى الله.. موسى آمنت به السحرة الذين يعرفون حقيقة السحر، وهذا البحر صار طريقاً له، فهل بقدرة موسى أن يفعل ذلك؟! ألا تعلم أن هذا من عند الله؟! ولكن مادام فرعون متلبساً بطغيانه، فعماه مستمر، فخاض البحر وراء موسى، وحينما كان موسى خارجاً من الشاطئ الثاني؛ كان فرعون وقومه في وسط البحر، فهل بقي البحر كل فرق كالطود أم رجع إلى ما كان عليه؟ رجع البحر وهم في وسط ذلك الطريق، فغرقوا، قال الله: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [يونس:92]، ماذا فعل فرعون وقومه بموسى؟ ما استطاعوا أن يضروه بشيء؛ لأن الله كتب لموسى النجاة.
وخرج صلى الله عليه وسلم من الغار ومشى في الطريق، وأدركهم سراقة في الصحراء، وهم مكشوفون للعيان، فماذا كان من أمره؟ ساخت قوائم فرسه تسيخ، وسقط عنها عدة مرات، وإذا به يطلب الأمان لنفسه، ويكتب له أبو بكر بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف بك يا
فنظروا في جميع الحاضرين فلم يجدوا أطول من سراقة ، فجاء سراقة ولبس الحلة والسوارين، فقال له عمر : انزعها؟ فقال: لا انزع هذا اللباس! قال: لماذا؟ قال: أعطانيها رسول الله عليه الصلاة والسلام حينما خرج مهاجراً ولحقت به، فقال لي: (كيف بك إذا أنت لبست سواري كسرى؟!)، فضحك عمر وقال: هل قال لك: امتلكت، أو قال: (لبست)؟ قال: (لبست)، قال: ها أنت لبستها، فانزعها، وهذا من فقه عمر .
ثم قال بعد ذلك: (واعلم أن النصر مع الصبر) ، يعلم الجميع أن الصبر هو أغلى خصلة يمنحها الله للعبد، ويقولون في الإحصائيات: الصبر ذكر في القرآن حوالي سبعين مرة، وجاء في السنة: (الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد)، وفي الحديث: (الصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء) ، يقول علماء المنطق: نور مع نور آخر النسبة بينهما التشكيك، كما لو أشعلت عود كبريت في صحراء، وجئت بلمبة ألف شمعة، فهذا نور، وهذا نور، ولكن إذا نظرت وجدت أحدهما ضعيفاً، والآخر قوياً، فالنسبة بينهما التشكيك.
قال: (الصلاة نور) وقال: (الصبر ضياء)، الله سبحانه وتعالى لما ذكر الشمس والقمر قال: جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا [يونس:5]، فأيهما أقوى؟ الشمس أقوى، فالحديث جعل الصبر ضياء، وجعل الصلاة نوراً، والصلاة هي عماد الدين، فكيف يكون الصبر أكثر إشعاعاً، وأكثر إضاءة، وأكثر فعالية في قلب المؤمن؟!
لأنك لو تأملت في التشريع كله من الأوامر والنواهي، لوجدت قوام ذلك كله على الصبر، قال الله: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45]، فقدم الصبر وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45]، لولا الصبر لما توضأ أحد بالماء البارد في الشتاء وخرج من بيته إلى المسجد، ولولا الصبر لما صبر أحد على الحر في القائلة وخرج في الظهيرة إلى المسجد، ولولا الصبر لما صبر أحد على المال والنفس شحيحة، فأخرج جزءًا من المال وهو صنو النفس، ولولا الصبر لما حمل أحد سيفه في يد، والروح في اليد الأخرى، وقاتل الأعداء، ولولا الصبر لما صبر أحد على فعل طاعة، ولا صبر على ترك معصية، (فالصبر من الإيمان كالرأس من الجسد) كما في الحديث، وإذا فصلنا الرأس عن الجسد صار جثة نواريها.
إذاً: النصر مع الصبر، وقيل لبعض شيوخ العرب: بما غلبتم كذا؟ قال: غلبناهم بالصبر، يقاتلوننا ونقاتلهم، ونفوز عليهم ونتميز بالصبر، وقالوا: (الشجاعة صبر ساعة)، قال الله: فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال:66]، الصبر معه النصر، ويقول ابن القيم في بعض ما كتبه على هذا الحديث: الصبر على قتال العدو يجلب النصر، والصبر على النفس، يكون بالصبر على هواها، والصبر على مطالبها، والعوام عندهم مثل عجيب يقولون فيه: صبري على نفسي، ولا صبر الناس عليّ، فإذا كنت في فاقة تصبر على نفسك خير من أن تقول: يا فلان! اعمل معروفاً، وأقرضني واصبر عليّ؟ لا، ما دمت تستطيع الصبر فاصبر.
لو تأملنا بعض القضايا لكشف لنا النقاب، فالمولى سبحانه قريب كما قال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186]، وقرب الله من عباده قرب خير وعطاء ونصر وعناية، ولكن (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) لو تساءلنا -وكل إنسان جرب في حياته- هل اتجاهك إلى الله في وقت سعتك وغناك وعافيتك كاتجاهك إلى الله في وقت الضيق والحرج والمرض أو هما سواء؟ لا، والله! حينما يكون الإنسان محتاجاً شديد الاحتياج، فليس عنده إعراض عن الله ولا حتى بمقدار شعرة، ولكن حينما يكون في غنى وفي سعة فيمكن أن يطغى كما قال الله: إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7].
فتعرفك إلى الله في الرخاء -وأنت لست في ضيق ولا كرب- سبب لأن يعرفك الله في شدتك، وأنت لا تغيب عنه في كلتا الحالتين، ولكن يتعرف إليك بالإجابة.
إذاً: عند شدة الكرب تكون قوة الإيمان، والإخلاص، وصدق التوجه إلى الله، وربك يحب منك هذا، وهو لا يريد منك شيئاً، فخزائنه ملأى، وعطاؤه كلام، لكن يريد من عبده صدق التوجه إليه، وثق بأنك إذا توجهت إلى الله بصدق فمهما كانت حاجتك فإنه يقضيها، فهو لا يخيب ظن عبده أبداً، وفي الحديث: (إن الله ليستحي من عبده أن يرفع إليه يديه ثم يردهما صفراً) لكن لابد أن يكون مطعمه حلالاً، ومشربه حلالاً.
وهكذا النفر الثلاثة الذين من بني إسرائيل، الذين آواهم المبيت إلى الغار، هل كان عندهم رجاء في الخلق؟ نزلت صخرة فسدت عليهم الغار، فهل كانوا يطمعون في أحد من الناس يأتيهم؟ هل كان يعلم بهم أحد؟ لا، أبداً، فهم يئسوا من الخلق من أول لحظة، فماذا قالوا؟ قالوا: ارجعوا إلى ربكم، ولينظر كل منكم ما كان بينه وبين الله من خبيئة سر، فيتوسل إلى الله بها، فحينما قام قائم منهم وقال: كان لي أجير... إلخ، وقام الثاني وقال: كان لي أبوان... إلخ، وقام الثالث وقال: كانت لي ابنة عم أحبها، إلى آخر الحديث، فهل كان قيام أحدهم يشوبه شائبة رياء مع أحد من الخلق؟ لا، والله! لأنهم أيقنوا بالموت، وعلموا يقيناً دون شك أنه لا ينجيهم مما هم فيه سوى الله، فلما حصل هذا اليقين منهم تحركت الصخرة شيئاً فشيئاً، ومن يقدر أن يزحزح الصخرة إلا بأمر الله.
ودائماً نقول لمن جاء للعمرة أو الحج: في كل نسك من أنساك العمرة والحج آية وعبرة ومنهج، فسعيك بين الصفا والمروة تجديد اليقين مع الله، فإذا ناب العبد شيء، توجه إلى الله خالصاً مخلصاً قلبه لله، والله أقرب إليه من حبل الوريد، فلا شيء أقرب من فَرَج الله؛ لأنه يقول للشيء: كن فيكون.
أسأل الله تعالى أن يرزقنا وإياكم الإيمان واليقين، وأن يفقهنا في الدين، وأن يرزقنا وإياكم حسن التوكل عليه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لو توكلتم على الله حق توكله؛ لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً، وتروح بطاناً)، ما عندها زراعة، ولا مستودع، ولا تجارة، ولا شيء، ولكن تتوكل على الله سبحانه وتعالى.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر